٣٠‏/٠٩‏/٢٠٠٦


شارع المتنبي
.. من جورج أورويل إلى الاعتراف بالفشل
محمد عبد العزيز


عبد الستار ناصر كاتب وروائى عراقى مقيم فى عمان، أحد الكتاب البارزين فى الثقافة العراقية، حافظ على صموده ونجاحه، لأكثر من ربع قرن ينطوى على جرأة وشجاعة فى كتابة القصة القصيرة، وهو يشاغب داخل مسروده القصص. سطع نجمه رغم تعرضه للسلطة الحاكمة، وهو الأديب العراقى الوحيد الذى ظهر على شاشة التليفزيون وصافح صدام حسين الرئيس العراقى السابق، ثم سرعان ما سافر إلى عمان ليعلن قطيعته مع نظام صدام، ويكتب عن مكبوتاته. فى قصص عبد الستار ناصر، تجد لذة عراقية تشابه طعم القيمر العراقى المخلوط بدبس التمر، وتشعر أنه فعلاً يقدم لك خبز التنور، أو صمون المخابز الحار. تتميز القصص التى يسردها بلغته الجميلة والحميمة، والتى تقوم على تنوع الحدث والانتقال فى الأمكنة والغوص بعيدًا فى تلافيف الروح، واقتناص حكاياتها من العمق، ونستطيع أن نتلمس حالة القمع والكبت الإنسانى الذى يغمر شخوص قصصه ورواياته، وأكثر ما يوظفه القاص عبد الستار هو التجارب الحقيقية الإنسانية، التى يوظفها لصالح النص القصصي، فهو لا يقف عند مشارف النص، أو مدخل القصة، بل يكون دليلاً أمينـًا، وقائدًا متميزًا فى الرسم القصصى المشترك. بدأ ناصر مشواره القصصى عام 1968 مع "الرغبة فى وقت متأخر" ثم "تلك الشمس كنت أحبها" عام 1971 و"طائرة الحقيقة" عام 1974، و"موجز حياة شريف نادر" و"لا تسرق الوردة رجاء" عام 1978 ثم "الحب رميـًا بالرصاص" عام 1985، و"مطر تحت الشمس" 1986، و"الشمس عراقية" 1986، "الكواشي" 2000، و"نصف الأحزان" عام 2000 و"بعد خراب البصرة" عام 2000. يقول ناصر فى مقدمة كتابه "شارع المتنبي" " إنه على الرغم من أن كتابة النقد ليست مهنته، فإنه أنجز ثلاثة كتب فى هذا المضمار الصعب.. ويقول: " والحكاية كما أراها الآن، هى أننى بعد قراءة أى كتاب ممتع أو مفيد يستهويني، أجد أصابعي، وهى تكتب الهوامش حول مستطيل الكلمات المطبوعة فى ذاك الكتاب الممتع المفيد، وإذا ما انتهيت من قراءته أعود إلى جمع هوامشى وأعمل على ترتيب مفرداتها، وإعادة كتابتها، فإذا بها كما العروس وهى تزف إلى مبدعها فى ليلة ماطرة لذيذة. شارع المتنبى هو الجزء الثالث بعد "سوق السراي" و"باب القشلة" الذى يتناول فيه ناصر خروج المبدع العراقى عبد الرحمن مجيد الربيعى من بيت الطاعة، وحكاية الكاتب المصرى خالد محمد غازى مع "نساء نوبل" وعن معاناة القاص الأردنى خليل قنديل وهو يكتب القصص القصيرة تحت حرارة يوليه .. كما أبحر فى صهيل أسئلة المبدعة التونسية رشيدة الشارني. يتناول ناصر فى القسم الأول من كتابه نقدًا لعدد من الإبداعات، فيبدأ بأول أعمال جورج أورويل "أيام بورمية" التى صدرت طبعتها الأولى عام 1934 وهى سيرة حياة أقرب ما تكون شبهـًا بحياة مؤلفها، وشخصية "فلوري" أيام كانت السيادة البريطانية طاغية بقوة على مساحات شاسعة من شرق آسيا بل تراه يعمد إلى أن حياة "فلوري" هى نفسها المحطات التى مر بها أورويل منذ عمل ضابط شرطة فى بورما قبل أن يصل إلى الشيخوخة، دون أن يدرى أنه سيموت أيضـًا قبل أن يكمل الخمسين من عمره. ويلفت ناصر إلى أن كل شيء فى "أيام بورمية" مزحوم بالسواد والغبار والحرارة، والبيوت، والشوارع الفرعية، والأسواق، والسجون، وثلاثة أرباع زمانها صيف لاهب يشوى النفوس ويزهق الأرواح حتى تشعر - أنت القارئ - بكثير من التعب. ومن أورويل يطوف بنا ناصر إلى القاص والروائى العراقى عبد الرحمن مجيد الربيعي، لا سيما مع كتابه "الخروج من بيت الطاعة" وما له من نكهة مختلفة ومتميزة عن بقية نتاجاته، إذ يحكى فيه عن تجربته فى كتابة القصة والرواية، كما يتطرق إلى المحظور والمسموح فى الابداع العربي، مع أفكار يناقشها حول العالمية والمحلية فى القصة والرواية، زائدًا بعض إشاراته فى طريق سيرته الشخصية، دون أن يغفل الحديث عن الحرية فى الإبداع والحياة. المحطة الثالثة فى معالجات ناصر النقدية، مع المؤلف خالد غازى فى كتابه "نساء نوبل" واصفـًا إياه بأنه من الكتب التى نحتاجها لتسخين الذاكرة، فهو يحكى عن كوكبة من النساء دخلن التاريخ من أجمل أبوابه، وكان حضورهن فى العالم خدمة حقيقية للقيم العظيمة، وخدمة أصيلة للعدل والمساواة والسلام. ومن غازى إلى لنا عبد الرحمن مع أوهامها الشرقية يعترف ناصر أن ما روته لنا قد أوجعه وأرغمه على التساؤل: ترى هل تعلم الدنيا بما يعانيه البشر فى هذه الرقعة من الأرض، والتى يسمونها الوطن العربي؟ ذلك أن ما تكتبه عن الروح يكشف ما يعانيه الجسد من خسائر وحروب يومية وتركات ورثناها من سالف العصر والزمان، ونطوق بها أعناقنا حتى نوشك أن نموت خنقـًا دون شفيع نستجير به. إن قصص لنا عبد الرحمن - بحسب ناصر - هذا شأنها الأول، والتالى أنها توقظ الدم ثانية فى الجسد المصلوب الذى امتدت إليه المسامير، عساها، وربما ترجو - هى - ذلك، لو أنها تتمكن من رفع مسمار واحد عن أصابع قتلاها، لكنها تكتشف بعد كل قصة تكتبها أن الوهم لا يزال أكبر منها، وأنها لن تحصد فى نهاية المطاف غير البقاء على أطلال قصر كان شامخـًا ذات يوم فى تأريخ النقاء، ونكران الذات والمروءة. وتحت عنوان: "جريمة قتل كتاب" يحدثنا أننا قد نسمع بالتطورات العلمية، ونزداد سعادة بما وصل إليه الإنسان من علو فى مضمار الفضاء، بينما الفوائد فى عالم الأدب والكتابة عمومـًا لا سلبيات ولا حروب فيها، إنه فى خدمة الإنسان، وزيادة وعيه ومعلوماته وثقافته، وهو البناء التحتى لهذا الكائن الذى لا يزال بحاجة إلى الأمان والسلام والطمأنينة والفرح، وهو ما لا تحققه العلوم عادة، إذا ما تذكرنا حالة الفوضى فى عالمنا المعاصر، حتى يبدو الناس فى الشوارع كما المجانين مع هواتفهم النقالة، وهو كذلك أيضـًا أمام شاشات الإنترنت التى يطول المقام أمامها أكثر من عشر ساعات فى اليوم الواحد أحيانـًا. وفى اعتراف جريء - لا نتفق معه - يقول ناصر: بعد أربعين عامـًا من زمن الكتابة، وأربعين كتابـًا حملت اسمي، رأيت فى ساعة صحو أن المسافة بينى وبين القصة القصيرة والرواية لم تزل بعيدة. أنا كاتب فاشل تجاوز الخمسين. ولم أحقق نصف ما حققه ماركيز، أو سارتر. مخيف جدًا أن يكون المبدع أصغر شأنـًا من بقية المبدعين. ويضيف: لن أتردد وأنا أعترف بالفشل الذى أحس به، أين مكانى فى هذا العالم فى موازاة هنرى ترويا الذى كتب "الميت الحي" والتى لن أتمكن من إبداعها حتى لو وصلت الستين من عمري؟ لم أسكت عن الكتابة، ولم أشعر بالعيب مما قرأت عنى وعن قصصي. وأكبر دليل على فشلى أننى أمضيت من عمرى أربعين عامـًا وأنا أقرأ وأكتب واقرأ وأكتب، وعلى الرغم من ذلك لا أعرف ما يدور حولى من أسئلة وتناقضات وألغاز وأسرار ومقومات وأساليب الكتابة، ولم أحقق نصف ما حققه سارتر وماركيز وبونزاتي، وما زلت أشعر بالخجل وأنا أقرأ استيفان تسفايج، وديرك والكوت، وأرى أنه قد أزف الوقت حتى أقول: كفى. وأخيرًا .. أقول يكفى أن تقرأ أعمال عبد الستار ناصر.. وكفى.
 Posted by Picasa

٢٧‏/٠٩‏/٢٠٠٦

أدونيس
خمسة وعشرون يوماً
علي احمد سعيد


- 1 –
بتباريحه، بأشلائه
يتموَّج في غزةٍ،
وتؤاخيه صورٌ، كما صُوِّرت
في أساطيرها.
وتُؤاخيه بيروت – معجونة بالشّررْ،
يتموَّج، يعلو
ويُبقِّع أرض البشر.
- 2 –
تتساءل عن طفلها. أين؟ ماذا؟
الرمادُ جوابٌ.
أخذت حفنة من تراب المكان، انحنت، قبَّلتها
وبكت فوقها.
بين هذا التراب وأهدابها
عهد حبٍّ، ووعدٌ.
- 3 –
إرفعوا هذه القماشة عنها، أزيحوا
عن تقاسيمها الغطاء:
إنها أسلمت وجهها للسماء.
- 4 –
أتُرانا نعود الى أرضنا الخراب،
والدليل الكتاب؟
- 5 –
يرسمون الغسق
نفقاً موغلاً في نفق:
بُهت الضوء –
للضوء عينان من حيرةٍ.
- 6 –
كيف؟ (لا فرق، مهما هبطت، ومهما صعدت)، -
كيف نمشي معاً، ولماذا نكون صديقين؟
لا الدرب درب،
ولا أنت أنت.
- 7 –
إنها الشمس حيرانةٌ، تجلس القُرفصاء:
ما الذي سيقول الربيع
لأطفالها في الشتاء؟
- 8 –
يكتبون الحديد، وأكتب أنشودة
للطفولة. يا مَيُّ،
لا تُشعلي الضوء في البيت،
هذا المساء.
الحديد يُفتش عنّا،
يُغيرُ علينا،
يُفجِّر بُركانه، ويُغطي الفضاء.
- 9 –
لا سريرٌ، فخذني كما شئت
في هذه الكرة الحائرة.
أين نمضي، إذاً؟ لا طريقٌ، ولكن...
ها هو القصفُ. هذي جهنم –
مجنونةً، دائره.
- 10 –
للسماء، لما كتبته السماء:
الأساطير تنزف،
والربُّ يضربُ قُطعانه
بمهاميزه –
سفناً جاريات على متن هذا الهواء.
- 11 –
أُفقٌ مُغلقٌ، ضيّقٌ
أُفقٌ للرحيل،
لا أريد رفيقاً سوى نخلة.
آه ما أكرم النخيل.
- 12 –
إنه الماء يبكي
والهواء يرقُّ، ويمسح أهدابهُ.
- 13 –
جسدٌ ذائبٌ في اللهيب. لهيبٌ
يتصيَّدُ ربَّ الأبد
في رماد الجسد.
- 14 –
أتريدون أن أقرأ السلام
في مدى هذه الجثث الآدمية،
في هول هذا الحطام؟
- 15 –
لا أفكّر إلا في السلام، ولكن
لا أرى غير حربٍ.
- 16 –
لن أُصلّي لحرب،
لن أقدس قتلاً،
لن أبارك جُنداً يرقصون ابتهاجاً
فوق أشلاء شعبٍ.
- 17 –
لا أُريدُ لبيتي
أن يكون غراباً.
لا أريد له أن يكون صديقاً لدبابــة.
لا أريد له أن يمُدَّ يديه لجنٍّ.
لا أُريدُ له أن يُشرِّع أبوابه لحــرب.
لا أُريد له أن يكون لواءً لفرعون أو يهوه.
- اهدموه، إذاً،
واكتبوا فوق أنقاضه:
من هنا مرَّ جُندُ الإله.
لا أُريد لبيتي إلاّ
أن يكون ضياء وحباً، فيـا ويلتــاه!
- 18 –
أيّها المُتشرِّد، لا وقت في الأرض،
إلا لكي تجعل الأرض حباً.
- 19 –
قال: «رحماكم!
عند موتي خذوني – خذوا
كتبي، وافرشوها
تحت رأسي وساداً،
وادفنونا معاً».
- 20 –
أرض – ممحاةٌ للريح،
فكيف سأكتب؟ ماذا؟
هل أكتب ما يمحوني؟
- 21 –
بعدَ هذا الشتات
سأُفوض جسمي الى جُرحه،
وأُحيّي العُصاة.
- 22 –
سأقول لوقتي
أن يكون فضاء – جراحي قناديله.
سأحاول:
أخلقُ عينين داخل عينيَّ،
حتى أرى.
- 23 –
وطنٌ يُوشك أن ينسى اسمهُ،
ولماذا
علّمتني وردةٌ جوريةٌ كيف أنام
بين أحضان الشآم؟
- 24 –
إنه القاتل يسترسل في قتلك،
يجتث جذور الأغنية،
لا تسل، يا أيها الشاعرُ،
لـن يوقظ هذي الأرض غير المعصية.
- 25 –
بعد هذا الشتات
ما سأفعل؟ أسقي
وردة لم تزل حية؟
غيــر أن رمــاد القنابل يغمر أوراقها.
سأزيح الرماد وأجلو
وجهها، والأصيص الذي انكسرت كتفاه.
سأُعمّــــر من أول بيتنا. أُحبُّ، وأحيا
لا سلامٌ سوى الحب، لا حبَّ إلا الحياة.
(باريس، آب/ أغسطس 2006)
 Posted by Picasa
بعقوبة الثقافية
مجلة مستقلة عراقية تنبذ الطائفية والدم والطامع الغاشم
 Posted by Picasa
سرطان البروستاتة الغامض

د.بهجت عباس



يُعَرّف السّرطان بصورة عامّة ومختصرة بأنّه نوع من الأمراض أو الخلل المُتميّز بانقسام الخلايا غير المُسَيطَر عليه نتيجة ( التَّدخّـُلِ ) في المواد الجينيّـة للخلية. هذه الخلايا لها القدرة على غزو الأنسجة الأخرى، إمّا بالنمـوّ المباشر إلى النّسيج المُجاور أو بزرعها إلى الأماكن البعيدة عن موقع الإصابة عن طريق الانتشار بواسطة مجرى الدّم أو اللمف. يحدث السرطان في أيِّ خلية من الجسم ويتميّز عادة بنتوء أو ورم في ذلك النسيج أو العضو. على أنَّه ليس كل ورم خبيثاً، فإذا بقي في مكانه ولم يغزُ الأنسجة المجاورة أو البعيدة، فهو ليس ذا خطراً ويسمّى ورماً (حميداً). وطريقة تشخيص السّرطان تعتمد على نوعه. ومعالجته، وخصوصاً في بدايته، تتمّ بالجراحة (استئصاله)، بالمواد الكيميائية أو بالإشعاع أو بمزيج من كلّها. والعلاج في بدايته قبل انتشاره قد ينقذ المريض من الموت. أما أسبابه فهي (تشوّه) الدنا DNA – المادة الجينيّة – في الخلية نتيجة مواد كيميائية معيَّـنة، تعرّض لإشعاعات أو إصابة ببعض أنواع الفيروسات أو وراثة خلل جيني. تستطيع التقنية المتطورة الحديثة تشخيصه ومن ثمّ اتخاذ الإجراء اللازم للعلاج. ولكنَّ ثمّة سرطاناً حيّـر الأطبّاء والباحثين عن تشخيصه فكان علاجه، سواء أكان سرطاناً ذا خطر أو لم يكنْ، الدّواءَ بالكيّ. وهذا باهض الثّمن للمريض صحيّاً ومادياً وفي كثير من الحالات لا يحتاج إليه أبداً، وهو سرطان البروستاتة.

فما هو هذا السّرطان ؟

البروستاتة غدة جهاز التناسل في الذَكر تشبه الجوزة شكلاً وحجماً وتقع تحت المثانة وأمام الشّرج محيطة بالجزء الأول من مجرى البول Urethra. ولذا فهي في موقع معقّد حسّاس جدّاً. تنتج البروستاتة سائلاً ثخيناً يكون جزءً من المني وتحتاج في عملها إلى هورمون التستوستيرون الذي يُنتَج أغلبه في الخصى.
السوائل التي تفرزها هذه الغدة ضرورية للحيامن (خلايا الذكر الجنسية)، فهي (السوائل) تغـذّي هذه الحيامن وتنشِّـطها، كما أنَّ الحيامن تمـرّ ُمن خلال قناة البروستاتة إلى مجرى البول.
تتكاثر خلايا البروستاتة مع تقدم العمر فيتضخّم حجمها. ومن هنا تبدأ المشكلة، إذ قد يكون هذا التضخم (حميداً) أو (خبيثاً). وهذا الأخير يعتمد على عوامل عدّة: فهو عادة يكون في الرجال المتقدّمين في العمر، حيث وُجِد أن 70% من سرطان البروستاتة يقع في رجال بلغوا الخامسة والستين من العمر أو تجاوزوه. ثمّ إنَّ العِرقَ يلعب دوراً، فحسب تقرير جمعية السّرطان الأمريكية أنَّ الأمريكان السّود لهم احتمال 50% للإصابة به أكثرَ من الهنود الحمر والأسيويين. ولتأريخ العائلة دور أيضاً، فمن كان له أخ أو أب مصابٌ به، فهناك احتمال كبير أن سيكون نصيبه الإصابة أيضاً. أما الغذاء فمهمّ، حيث الغذاء الغنيّ بدهن حيوانيّ يكون الأخطر. أما عدد المصابين به حسب تقرير الجمعية المذكورة فهو حواليْ 180 ألف رجل أمريكي يصاب به سنوياً 29% من كلِّ أنواع السَّرطان. أما في بريطانيا فالمصابون به سنوياً يتجاوزون 30 ألف رجل. وإنَّ حواليْ 16% من الرجال (1 من كل 6 رجال في أميركا) يصيبهم السّرطان في حياتهم. أما النوع (الحميد) والذي هو تضخم بروستاتة دون سرطان، فإنّ 50% من الرجال في أميركا بين 60 و 70 عاماً لديهم هذا التضخم وتزداد النسبة هذه فتصل إلى 90% لمن هم بين 70 و 90 عاماً.
سرطان البروستاتة قد يبقى في البروستاتة فبهذا يكون بطيء النمو، وقد ينتشر إلى العقد اللمفاوية المجاورة والعظام والمثانة والشرج وبقية الأعضاء ويبقى فيها كسرطان (بروستاتة) وليس كسرطان (عظام) مثلاً. أما علاماته فهي:
- التبوّل في أوقات مستمرة وخصوصاً في الليل.
- صعوبة البَدء في التبوّل وضبط التبول.
- عدم القدرة على التبوّل.
- جريان ضعيف أو متقطّع للبول.
- ألم وحرقة في التبوّل.
- دم في التبوّل أو منيّ.
- تصلّب ( تخشّب) أو ألم في أسفل الظهر، الحوض أو أعلى الفخذين.

ولكن بعض هذه العلامات قد يكون لأمراض أخرى، كإصابة جرثومية أو تضخّم بروستاتة (حميد) والطبيب هو الذي يشخصها، فعلى المريض مراجعة طبيبه عند شعوره بمثل هذه الأعراض.
و سرطان البروستاتة لا يُسبب أيَّ ألم في أوله.

ولكنَّ هناك بروتيناً تنتجه خلايا البروستاتة فقط يُـعتَمـد ُعليه لتشخيص سرطان البروستاتة في الوقت الحاضر، ولكنّه خادع في كثير من الحالات وهو:

بروتين البروستاتة الخاص Prostate Specific Antigen (PSA)

تنتجه خلايا البروستاتة بصورة طبيعية ويكون فيها، ولكنْ تظهر كمية صغيرة منه في مجرى الدّم تتباين حسب عمر المريض وحسب تضخمّ البروستاتة (حميدها وخبيثها) وحسب إصابتها جرثومياً. وقد يكون الرجل بهذه الحالات الثلاث أيضاً.
أيّدتْ منظمة الغذاء والدواء الأمريكية استعمال تركيز هذا البروتين في الدم مع اختبار حجم البروستاتة بالإصبع لتشخيص سرطان البروستاتة في الرجال الذين تجاوزوا الخمسين عاماً. ولكنْ هل وقف الأمر عند هذا الحد؟ لم يقفْ. لأنَّ هذه الفحوص لا تثبت أو تنفي عدم وجود السّرطان، ولكنَّ الطبيب يأخذ هذه المعلومات ليواصل تشخيصه لهذا السّرطان.
يُدخل الطبيب إصبعه المُزيّت في مؤخّرة المريض ليرى فيما إذا كان ثمّة نتوء/ورم في البروستاتة. ولكنَّ هذا يُعطي إشارة أو علامة فقط على أنَّ شيئاً ما موجود. ثمّ يُرسل دم الشخص لمعرفة تركيز البروتين PSA.
يُحسَب هذا التركيز بنانوغرام (نغ) في كل ّ مليلتر دم. ( الغرام الواحد يساوي مليار نانوغرام، أو بليون بالحساب الأمريكي ). هذا الجزء الصّغير جداً يكون قياسه غير دقيق في أكثر الأحيان.
اختلف العلماء عن كمية هذا البروتين الطبيعية الموجودة في الدم، فمنهم من وضع الحد الأعلى بما لا يتجاوز 4 نغ/مل. وهم هنا يشكلون الغالبية. هذه النسبة هي المأخوذ بها حالياً في التحليل المختبري. ولكنَّ البعض منهم وضع النسب التالية لهذا البروتين لمعرفة درجة الخطأ في البروستاتة:
1. من 0 – 2.5 واطئ.
2. من 2.5 – 10 مرتفع قليلاً أو متوسطاً.
3. من 10 – 19.9 مرتفع نوعاً ما.
4. 20 أو أكثر مرتفع جداً.
وآخرون وضعوا الرقم 4 كحد أعلى للتركيز الطبيعي وما بعده حتى 9.9 ما يدعو إلى الإنذار والحذر والرقم 10 فما فوق ما يجب اتخاذ الإجراء الفوري.

والحقيقة أنْ لا مستوى طبيعياً أو غير طبيعي يمكن الاعتماد عليه، ولكن الأكثر ارتفاعاً هو أكثر احتمالاً للسّرطان. فهناك ما يُسمّى بالموجب الكاذب False Positive عندما يكون مستوى PSA عالياً ولكنْ ليس ثمّة سرطان. فقد وُجِد أنَّ 25-30 في المائة من الرجال الذين هم بتركيز عال ليس لديهم سرطان. أو ما يكون السّالب الكاذب False Negative عندما يكون هناك تركيز طبيعي ولكنَّ السّرطان موجود. أكثر هذه السّرطانات بطيئة النمـوّ، فقد توجد في البروستاتة لمدة عشرات السّنين، دون خطر أو أذى، قبل أن تتطور إلى عنيفة وسريعة. ولكنَّ ثمّة معاييرَ تؤخذ بنظر الاعتبار. فمثلاً:
سرعة تزايد الـ PSA في فترة زمنية معينة، ستّة أشهر مثلاً، يعطي إنذاراً إذا كانت الزيادة درجتين أو أكثر. والزيادة السنوية التي لا تزيد عن 0.75 درجة قد تكون مقبولة ولكن المريض يوضع تحت الإشراف والمراقبة.
وبعض العلماء من وضع عامل العمر أيضاً في نسبة تركيز البروتين في الدم. فمثلاً
الرجال الذين تقل أعمارهم عن الخمسين يجب ألاّ يتجاوز التركيز عندهم عن 2.4، بينما يكون تركيز 6.5 مقبولاً لمن تخطّى السبعين. ولكنَّ كثيراً من الأطباء لا يوافقون على هذا الأمر.
بقيت هناك نسبة مستوى البروتين إلى حجم البروستاتة، وتسمى بكثافة الـ PSA
وهذا أيضاً لا يؤخذ به كثيراً. إذ قد يكون سرطان مع تضخم البروستاتة أو بدونه.
ولكنَّ بعض العلماء استنبط نسبة أخرى، هي نسبة الـ PSA الحرّ Free PSA (غير المرتبط ببروتين) إلى المجموع الكلي للمرتبط وغير المرتبط. (حيث يوجد PSA طليقاً ومرتبطاً ببروتين في الدم). فإذا كانت هذه النسبة أكثر من 25% ( أيْ أن الطليق موجود بكية كبيرة) فهو دليل على وجود تضخم ( حميد )، وإذا كانت النسبة أقل من 15% فهناك احتمال لوجود السّرطان. أما إذا كانت النسبة أقلَّ من 7% فالاحتمال كبير، وهذا ليس مؤكَّداً أيضاً. ولم يبق إلا أخذ نسيج حيٍّ من البروستاتة للفحص. وفي بعض الحالات قد تُخطئ الإبرة من التقاط العينة من ورم موجود فعلاً في البروستاتة، ولذا ليس مؤكّداً أن ليس ثمّة سرطان إذا كانت النتيجة سلباً، فتعاد العملية مرة أخرى أو أكثر تباعاً للحال، خصوصاً إذا كان الـ f PSA ( الطليق ) واطئاً. أما إذا كانت النتيجة إيجاباً فيكون لازماً اتّخاذ العلاج المناسب للتخلص منه وخصوصاً إذا كانت درجة Gleason (وجود خلايا شاذة بترتيب غير طبيعي) مرتفعة.
وهنا يتّضح أن المريض قد يعاني من نتائج عملية التخلص من (سرطان) البروستاتة (غير الموجود) وهو ليس بحاجة إلى ذلك، إذا كان السرطان بطيئاً لا خطر منه.
وقد تبيّن أنَّ 20% من الرجال الذين لهم PSA بين 2.5-4 وُجِد سرطان لديهم،
وانَّ 55-65 في المائة ممّن لهم PSA بين 4-10 لا سرطان لديهم. وعلى العموم إذا كان الـ PSA أكثر من 10 فالاحتمال قويّ جدّاً إن لمْ يكنْ مؤكّداً بأنَّ ثمة سرطاناً.
وهنا يمكن القول إنَّ سرطان البروستاتة سرطان غامض صعب تشخيصه، فبالشكّ واليقين يُمكن أن يصل مرحلة الخطر، فيفوت الأوان. وقد تكون تضحية التخلص منه، سواء أكان سريعاً أو بطيئاً، أمراً لازماً في الوقت الحاضر.
على أن هناك أملاً يجعل المصاب بتضخم البروستاتة يعرف فيما إذا كان ثمة سرطان، وإنْ كان، أ سريعاً مما يجب إزالته مع عواقب ومساوئ جانبية، أو بطيئاً يهمل فلا عواقب يتحملّها، إذا وُضع الجين المُكتَشف حديثاً في حيّز التنفيذ بعد نجاح التجارب عليه حالياً. هذا الجين المسمّى E2F3 أ ُكتشِفَ في 14 حزيران سنة 2004 في الأبحاث التي أجراها البروفيسور كولِن كوبر في معهد أبحاث السّرطان في لندن بالاشتراك مع البروفيسور كْـرِيسْ فوستر من جامعة ليفربول ، فوُجِدَ أنه يقع على الكروموسوم 6. وينتج بروتيناً من عائلة E2F، هذه العائلة تلعب دوراً حاسماً في السيطرة على دورة الخلية وتؤثر على فعل البروتينات مُثبِّطات السرطان. وفي نشرة منظمة الجينوم البشري HOGO في 26 أكتوبر 2005 وُجِدَ أنَّ هذا الجين يتضاعف كثيراً ويُفصِح ( ينتج بروتيناً) في سرطان المثانة المتنامي وهذا ما يُعطي خلايا الورم تعزيزاً للتكاثر بتنشيطه تشعّـباً للأورام السرطانية. وفي هذا الصّدد يُشبِّه د. كوبر السّرطان البطيء بالقطّة والعنيف (السّريع) بالنِّمر. أما كيف يُستخدَم هذا الجين لمعرفة السرطان بطيء النمو الذي لا يحتاج إلى اتخاذ إجراء لإزالته ( حيث يستطيع المُصاب به العيش معه بسلام طيلة حياته)، والسرطان سريع النمو الذي يجب أن تُتَّـخذَ إجراءات فوريّة لاستئصاله، فتتلخص بعمل ترتيبات (تصفيف) دقيق للنسيج الحيّ Tissue Microarrays (TMAs) المأخوذ من البروستاتة بواسطة الإبرة عبر مجرى البول، وعمل مقاطع من هذا النسيج تشبه رقعة الدّاما Checkerboard لمعرفة البروتينات المتعددة التي تصنعها الجينات المشاركة في سرطان البروستاتة، وتبيان العلامات الفارقة. وهو كما جاء في رسالة من معهد أبحاث السرطان في 6 أيلول 2006 إلى كاتب هذه السطور جواباً على سؤاله ( في عام 2005 طوّر الفريق " فريق البحث – الكاتب" هذه التقنية لكشف ضراوة علامات سرطان البروستاتة. يعمل العلماء في المعهد بدون كلل لاستحداث اختبار دقيق لسرطان البروستاتة و حصلوا على تقدم هام خلال السنين القلائل الماضية، ولكنْ استحداث اختبار لا يزال يستغرق بضع سنين.) هل سيستطيع هذا الفريق أو غيره النجاح في هذه المهمة التي ستكون ولا ريب اختراقاً كبيراً لخلاص من يشكون من قلق تعقيدات تضخم البروستاتة وعواقبها النفسية والجسمية في السّنين القلائل القادمة ؟ هذا ما سنراه في المستقبل القريب الآتي.
 Posted by Picasa
نصر حامد أبو زيد
: ثمة ظلاميون يتربصون بروح النص
منذر الشوفي


التحدي أو الصعوبة التي لا تقتلك تزيدك قوة بهذه العبارة بدأ المفكر العربي المصري نصر حامد أو زيد حديثه معنا، ويكاد يسرقنا الوقت ونحن نستمع إليه، وهو يكشف لنا حقولاً معرفية وفكرية شائكة تضعك أمام تحد كبير وتشعر بأنك أمام رجل بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني.هل من الحملة الظلامية التي أضرمت ضده وكفرته، وحاولت تفريقه عن زوجته؟ أم من الطروحات والأفكار الفلسفية والفكرية المتنورة والمعاصرة التي يتناولها أبو زيد في مؤلفاته اعتقد بأنه الأمر صعب، لذلك يري أبو زيد أن قضية تحرير المرأة هي بوابة مهمة في تحرير المجتمع، وليس كما ينظر إليها البعض علي انها حامل للأطفال فقط. ويؤكد أبو زيد أن الحرية هي الضمانة الأساسية التي تضع حداً للذين يقومون بالتكفير
التقت الدكتور حامد أبو زيد واجرت معه هذا الحوار
: تعرضت منذ فترة من الوقت، الكل يعرف إلي مشكلة مع بعض التيارات الاصولية في مصر، وأخذت أصداء كبيرة في العالمين العربي والاسلامي، ماذا شكلت لك هذه الأزمة؟ وهل دفعتك إلي البحث والكتابة أم انها احبطت طموحات نصر حامد أبو زيد؟ــ الانسان يقول دائماً التحدي أو الصعوبة التي لا تقتلك تزيدك قوة ، وهذه المشكلة هي مشكلة سياسية ومشكلة عامة في الوقت نفسه، ولاشك بأنها لها نتائج سلبية، ومنها أهمها بأنني لا أعيش في وطني، ولكن يحاول الانسان أن يجد نتائج ايجابية بأن يعمل المزيد من الأعمال ويعمل المزيد من الاختبار في الأفكار وأن هذه الاعتراضات علي الأقل الجادة منها، التي كتبت ازاء كتاباتي أن يأخذها مأخذ التحدي، ويحاول أن يختبر مشروعية هذه الاعتراضات، وبالتالي يطور أفكاره بطريقة أكثر دقة، وهذا الجانب الايجابي أنا الذي حاولت أن استثمره.. وبالتالي المشكلة حملت في طياتها جوانب سلبية واخري ايجابية.وأنا حاولت أن اركز علي الجانبين، لأن ما حدث بكل المقاييس شيء تدميري بالنسبة لثقافتنا، وفكرنا ومستقبلنا، وكان يمكن أن يكون تدميرياً بالنسبة لي، لكن أنا وزوجتي نجحنا في أن نتفادي هذه القوي التدميرية الهائلة التي كان يمكن أن تسببها لنا هذه التيارات الاصولية، وبالتالي لم تحبط طموحاتي بل دفعتني إلي المواجهة والتصدي لهذه الهجمة والتيارات الظلامية.û عندما هوجم طه حسين، وقفت الجامعة إلي جانبه، والشارع المصري هو الذي وقف ضده، ولكن ما حدث معكم العكس تماماً، تري ما الذي تغير في تركيبة الشارع المصري خلال هذه المدة؟ــ هناك أشياء عدة تغيرت، في أيام طه حسين كان في مصر إلي حد كبير مناخ ديمقراطي، ويوجد أحزاب وقوي سياسية أخري يمكن أن تتصارع، والذي حمي طه حسين ليس الجامعة فقط كونها مؤسسة، وانما كمؤسسة ضمن سياق مؤسسات أخري سياسية واجتماعية، ولا اعتقد بان الشارع كله كان ضد طه حسين. وهذا القياس ليس صحيحاً، ومن وقف ضد طه حسين هي المؤسسات الدينية، الذي كان ينتمي إليها أصلاً، والذي حدث هو غياب الديمقراطية وغياب المؤسسات وسيادة التيار الاسلامي السياسي بمعناه السلفي والتقليدي حتي تحولت الجامعة نفسها إلي مؤسسة فقدت علمانيتها، وفقدت طابعها المدني الذي كان يميز جامعة القاهرة عن جامعة الأزهر، والاتهام جاء من الجامعة في سياق خوف وفزع والنظام السياسي كله كان خائفاً، وهناك مفاوضات مع مادة الارهاب في السجون، في مثل هذا السياق وقعت علي قرار أو بيان ادانة أو تكفير، ولكن أنا أري بأن القضية كلها قضية سياسية، صحيح هناك غياب للحريات ولكن هناك وعي لدي الجماهير.والمشكلة عند طه حسين كان يكفي أن يسحب الجملة من الكتاب التي أثارت الضجيج، لكن لا تغير سحب الجملة من الكتاب ولا من منهجية الكتاب، وبالنسبة لي حتي هذا الحل لم يكن ممكناً، لأن هذا يستدعي مني أن اسحب كتبي وأحرقها، لأنني اتعامل بشكل مباشر مع قضايا واسئلة من شأن الاجابات الصحيحة عنها أن تهده سلطة المؤسسة الدينية، والسلطة هنا بمعناها السياسي والاقتصادي.. أنا دون أن أقصد وضعت يدي علي منظومة مصالح اقتصادية تتخفي باسم الدين، وهذا في النهاية يمثل تهديد، وهذا الشيء يتطلب اسكات هذا الصوت، واستخدمت ضدي كل الوسائل والأدوات وهذه الأدوات والوسائل لم تكن شريفة، حتي بعد الحكم وبعد أن رفضت زوجتي تقبل هذا الحكم اتهمت بالزني، واصبحت أنا متهماً بالردة، وبكل ما يمثله هذا من انعدام للضمير الاخلاقي عند الذين يكتبون، وانعدام بأي حس اجتماعي حقيقي، وهذا يعني لنا بأن القاتل الذي يريد أن يقتل مجرماً من أي حساسية انسانية، وأنا أتكلم عن الخطاب وليس عن القانون.ومع ذلك فمشكلة طه حسين مرت مع الشعر الجاهلي ولكن أعداءه كثير خارج الجامعة وظلوا موجودين، ولكن معي، أولاً كان رئيس الجامعة ينتمي إلي السلطة السياسية وهو فاسد الذمة والضمير.. ومشكلة نصر حامد أبو زيد كانت في مجتمع فاسد بالمعني الديني والأخلاقي والسياسي.. والفساد يسند بعضه، وحتي هذه اللحظة ما زال الفساد قائماً، والدكتور عبد الصبور شاهين نجم تلفزيوني.û في رأيك إلي أي مدي تقع محاولة تفريقك عن زوجتك ضمن هذا الاطار؟ــ أنا اعقد أن الذين عملوا ذلك لم يكونوا علي ذكاء عالٍ ليدركوا ذلك وأنا إلي حد كبير أوافق علي هذه المقولة، لأن المرأة عامل مهم في المجتمع حتي لو حضرناها وقهرناها وألزمناها البيت، ولكنها في النهاية هي الحاضنة للأجيال الجديدة.ولكن الذين فعلوا ذلك لم يفهموا معني ذلك، فعاقبوا امرأة لان زوجها في نظرهم أخطأ، وبالتالي وقعوا في تناقض منطقي، واعتقد بأن التيارات الاسلامية بمصر غير ناضجة في استقطاب المرأة، واعتقد بأن هذا أحد المعوقات في هذه المسألة، لأن الاسرة المصرية والمرأة لا يمكن أن تقبل بذلك، وربما بعض الناس الذين وقفوا معنا ربما غير مقتنعين بأفكارنا، ولكن أن تدمر أسرة ويفرق زوج عن زوجها هذا أمر غير مقبول.والمرأة استخدمت وللأسف الشديد بأشكال مختلفة، علي انها مجرد حامل للأطفال، وقضية المرأة قضية مهمة جداً جداً في مجتمعنا، وتحريرها بوابة مهمة جداً في تحرير المجتمع.û قلتَ بأن الأفكار لها اجنحة، مستشهداً بافكار ابن رشد بأن أفكار ابن رشد لم تمت، انما انتقلت إلي اوروبا، إلي أي حد لاقت أفكار نصر حامد أبو زيد قبولاً في العالمين العربي والاسلامي والعالمي؟ــ دعك من العالم الغربي، لأنه يمكن أن يقبل أي نقد، ولكن لنتكلم عن العالمين العربي والاسلامي، ولنأخذ كتاب مفهوم النص مثلاً طبع لحد الآن عشرات المرات حتي الآن، وأنا غير موجود في العالم العربي، معني ذلك أن تزايد الاقبال وتزايد القراء، وهذه الكتب يعاد طبعها بشكل سنوي، وهذا يعني أن جيلاً من القراء وجيل من الشباب يقبل علي قراءة هذه الكتب، وهذه مؤشرات ايجابية، والمؤشر الثاني الايجابي ترجمة كتبي إلي كل اللغات السلافية إلي الفارسية إلي الانكليزية إلي اللغة الكردية والتركية، وهذا يعني أن الأفكار تلقي قبولاً ليس في العالم العربي فقط وانما في العالم الاسلامي بشكل أوسع.وحتي هذا الذي حدث معي خلق اهتماماً متزايداً مع هذه الأفكار، لأن حينما يتم منع فكرة أو تضطهد فكرة لا يدري بأن يخلق هذا اهتماماً متزايداً بهذه الأفكار، وربما يكون اهتمام غير صحي، لكن علي كل حال هذا الاهتمام المتزايد معناه أن هذه الأفكار لم تمت ولا يمكن لها أن تموت.ومسألة الأفكار لها أجنحة وأنها لا تموت، واذا تنبعث التاريخ منذ حرق الكتب إلي قتل الحلاج واحراق كتبه، حقاً الحلاج مات، لكن أفكاره لم تقتل، وهناك شواهد كثيرة علي ذلك، والانسان في طبيعته فان، لكن الأفكار الحقيقية لا يمكن أن تموت لأن حياتها في ما يسمي العقل الانساني.û لقد تعاطف المجتمع العربي معك خلال الازمة التي تعرضت لها، ولكن ألا تجد معي بأن التيارات الاصولية تكفر المبدعين العرب والاسلاميين، في رأيك كيف يمكن أن نضع حداً لهذه التيارات الاصولية، ونقلل من تأثيرها علي حركة الابداع؟ــ أنا أعتقد انه لا يحد من هذه إلا ضمانة الحرية للجميع، ولنكن واضحين التكفير هو أداة أو وسيلة أو تكتيك اسبق من الجماعات الاسلامية واسبق من التيارات الظلامية التي نتكلم عنها الآن، فالقوميون يكفرون غير القوميين، الشيوعيون يتهمون بعضهم بعضاً بالانحراف، والانحراف معناه عدم الايمان بالقضية، وعدم الايمان بالحقيقية، وبالتالي مجتمع عرقي طائفي ومتحزب وايديولوجي مجتمع لا يؤمن بالحرية، العلامة الوحيدة فيها للسيطرة هو التكفير، التكفير بمعناه السياسي والايديولوجي والديني، وأنا اعتقد بأن الحرية إذا تم زرعها في المجتمع في جميع مستويات الحياة الاجتماعية، فهي كفيلة بأن تنزع هذا السلاح وتقتل فعاليته، كيف يمكن أن نؤسس لبناء مجتمع مدني وهذه القضية يجب أن تأخذ أولوية، بما في ذلك حرية هؤلاء الجماعات الاسلامية بعدم استبدادهم سياسياً، لأن مناخ الحوار هو الذي يحد من سلطة هؤلاء الظلامين.وفي فترات القلق والتوتر يكون التكفير هو السلاح، وفي فترات الانفتاح لا يوجد تكفير، كل الخطابات متاحة، ومتميزة بالتفاعل في ما بينها، والتيارات الظلامية هذا التعبير لا أحبذ أن استعمله، لأنه سيرد في ما بعد ليقول لي بالتيارات المنحرفة عن العقيدة، يعني هناك تبادل تهم، السلطة هي تخلقه، وكذلك السلطة تكفر، ومشكلتنا في المجتمعات العربية لا نستمع إلي الرأي الآخر ولا نتسع له، وكل فرد في الجماعة يعتبر نفسه مالكاً للحقيقة وبالتالي نحن نختلف حول المعاني ولا نختلف حول الحقيقة، لا نختلف حول وجود الله وحتي لو اختلفنا حول وجود الله فهو اختلاف بالمعني، ان الاختلاف هو أمر طبيعي، وهو ليس جريمة، ان هذا قدرنا الانساني أن نختلف حول المعني.û في الوقت الذي وقفت الدولة إلي جانبك، كانت الدولة او الحكومات تفتح الجوامع، ما هو رأيك؟ــ هذا الأمر أنا ضده تماماً، ودور الحكومة هو تنظيم المجتمع، فاذا كانت الحكومة تضع حراسة كي تحمي نصر حامد أبو زيد لكي تمنع قتله، أنا اعتقد انها لو منعت كل خصوم نصر أبو زيد من الكلام، لكانت تقوم بدور قمعي، وأنا أري بان المجتمع المصري يحتوي علي بذور المجتمع المدني، لأن الناس يلجأون إلي القانون، ربما هناك فساد في القانون، لكن الكارثة الحقيقية أن تلجأ الدولة للدفاع عنا، وفي هذه الحالة نكون تابعين للدولة وخداماً لها، وبالتالي دور الدولة هو تنظيم المرور لضمان سلامة المواطنين، وهذا يتم من خلال وضع اشارات حمراء وأخري خضراء وهذا التعبير الرمزي يجب أن يكفل عدم طغيان سلطة علي سلطة أخري، وللأسف فالحكومات عندنا تمارس دور العسكر المرتشي.û هناك خطوط حمراء، ينبغي علي المفكر أو المثقف ألا يتجاوزها، وعمليه اختراقها تسبب مشكلة، في رأيك ما الحل؟ــ اذا تصورنا امكانية تنظيم المجتمع بهذا الشكل، فهناك خطوط حمراء، أو ما يسمي الحد الأدني من الاتفاق الاجتماعي، وهذه الخطوط ليست فاصلة، وانما هي خطوط مرنة لأنه باستمرار يجب تحديد الحد الأدني والأعلي والأسفل، ولا يوجد حد أدني ثابت في أي مجتمع مغمي عليه.والخطوط الحمراء توضع في مجتمع قمعي عن طريق سلطة سياسية أو سلطة دينية، وكلتاهما تسند الأخري، أو توحد السلطتين فتضع خطوط حمراء، المتمثلة بالحرام والحلال. وأنا اعتقد بان مهمة المبدع أو المثقف أن يخترق هذه الخطوط الحمراء، ويجب أن نلغيها، هناك خطوط مثل قضايا التحرر الوطني، قضية نضال ضد الاحتلال وهنا ليس خلاف، ولكن الخلاف يعود حول المعني، بمعني كيف نناضل ضد الاستعمار.المسألة حساسة جداً، ومسألة الخطوط الحمراء تمثل خطراً علي قضايا عدة، وأعيد وأكرر أن مهمة المثقف اختراقها وتجاوزها، وبالتالي هذا الاختراق يجب أن يكون مقبولاً، وفي اطار القبول والتكفير هناك خطوط غير مرئية تختلف من كاتب إلي آخر، وقد يصل إلي مرحلة الجنون جنون فني حتي هذا الجنون يجب أن نتقبله بالسماع. وينبغي أن نسمح بالجنون، لأن بالجنون أحياناً يتأسس العقل، وهذه المسألة صعبة جداً جداً، ولو تأملنا ما قاله المشركون عن محمد في آيات القرآن، نجد بأنهم تجاوزوا خطوطاً حمراء كثيرة..!û أنتَ اعتمدت علي تأويل الآيات القرآنية، وما أخذ عليك أن القرآن نص ميثولوجي وانه ليس نصاً أدبياً يماثل النصوص الشعرية باعتبار أن الشعر هو ديوان العرب، وانه أكثر من نص، نعم ان القرآن ينتمي إلي الكلام، ومن الخطأ الذي مارسه أبو زيد في تأكيد أن القرآن نص لغوي، وما ينطبق علي اللغة ينطبق علي القرآن؟ــ نعم.. قل لي القرآن أليس نصاً؟ وهل هو نص موسيقي؟ ام ماذا، واعتقد بان هناك امكانية للتأويل، وعندما نقول نصاً لغوياً، معني ذلك أن بنية اللغة في ثرائها وفي تعددها علي مستوياتها العديدة، والنص اللغوي لا يعني كلمة هكذا، ولكن القرآن تحت أي نوع من أنواع النصوص ينطوي؟ وهل يستطيع أحد أن يقول لي بأنه نص غير لغوي؟!أنا أقول بانه مكون من كلمات، وهذه الكلمات في ما بينها علاقات علاقات بالجمل وبالتالي فهو يرتل ويغني وينشد وله ايقاع وله بنية دلالية، وهذه هي اللغة..، وقد يقول قائل بانه نص إلهي.. نعم هذا صحيح نص لغوي إلهي، والكون كله نص إلهي، ولكن غير لغوي، وهذه اشياء بديهية، ولكن الناس ــ وللأسف الشديد ــ الذين يعترضون علي ذلك كثر، وأنا أقول بأن القرآن نص لغوي أدبي بامتياز.û يري الباحث والمفكر السوري أحمد برقاوي بأن الحضارة العربية الآن حضارة راكدة وهي غير قادرة علي التأثير والحوار في الحضارات الأخري، في رأيك هل هذا صحيح، وإلي أي حد توافق علي ذلك؟ــ هناك خلاف بيني وبين البرقاوي حول هذه الحضارة هي ثقافة، أم الحضارة مختلفة عن الثقافة، أنا أوافق علي هذا الكلام، ولكن استثني كلمة حضارة واضع مكانها كلمة ثقافة، وأنا بالنسبة لي كلمة الحضارة العربية ما زالت ملتبسة، والحضارات التي نشأت عندنا هل هي حضارة عربية؟ أم عربية اسلامية؟ أم اسلامية غربية؟ والحضارة التي نسميها عربية أو اسلامية لا تنتمي إلي العرب، وانما العرب ساهم في صنع بعضها، ونحن نعيش في ظل حضارة انسانية توجد فيها ثقافات مختلفة، والثقافة العربية ينطبق عليها ما يقوله الدكتور برقاوي، وليس هي عاجزة عن الحوار مع الآخر، وانما هي عاجزة علي الحوار مع نفسها، وهذا هو الشيء الأخطر، وبالتالي لا يمكن أن تقيم حواراً مع ثقافة اخري، وأنت عاجز عن الحوار مع نفسك، وجميع المحاولات التي يقوم بها المثقفون والمبدعون علي تفاوتهم محاولة منهم لإزالة هذا الجليد عن الثقافة العربية من أجل أن تنهض ويكون لها دور في الحضارة الانسانية.û الآن وبعد أن كثر الحديث عن حوار الحضارات وصدام الحضارات، هل هناك حوار أم صدام وكيف ينظر المفكر أبو زيد إلي ذلك؟ــ في الاثنين معاً، هناك حوار وصدام عسكري وسياسي، وفي صدام مصالح ولا نستطيع أن ننكر، فالصدام موجود، ولكن في وسط هذا الصدام ينشأ حوار، فالغرب يكتب عنا، ونحن نرد علي كتابات فوكوياما وهنتنغتون، وهذا ماذا يمسي؟! انه حوار والحوار اعتقد بانه يتم عن طريق الصدام، والحروب الصليبية أكبر نموذج للصراع واستمر قروناً، داخل هذا الصدام حدث حوار، وإذا نظرنا إلي نتائج الحروب الصليبية سنجد انتصاراً عربياً اسلامياً وهزيمة غربية، لكن نتائجها علي المستوي الحضاري نهضة غربية وركود اسلامي، واذا تأملنا القرون التاريخية نجد أن عبر الصدام كان هناك حوار وتعدد للحوارات.فنحن نضع المسألة في ثنائيات، وبالتالي نحن نعيش حالة صدام سياسي واجتماعي واقتصادي ولكن هذا يتم من خلال آليات حوار، وقد يأخذ أشكالاً متعددة أم علي شكل ردود أو بيانات أو مظاهرة.. والحوار بين الثقافات يتم من دون ارادة المشاركين فيه، واذا وضعنا الحوار في معني التفاعل فسيكون الصدام تفاعلاً، وبالتالي يتضمن معني الحوار.
 Posted by Picasa
الوطــــــــــن - أنـــــــا = امـــــرأة
علي فرحان


اخافُ عليّ من الحبِّومن غرفةٍ في دميتنهار جدرانها كلّ حينْ.خيط حنينْ،يشدُّ بداياتنا المتعبة للسماء التي اهرقتها ، اصابعنا.وشوتها سفائن احلامنانبحر للمستحيل علي غيمةٍرصاصية / وطنٌفلنسمي القلائد درباً علي عنقٍضجّ فيه الصهيل . وباع الدليل خطي نجمتي نصعدُياليتنا لم نغامر بما في المسدس من ذكريات ولم نطلق النار ابعد من حبل ايامناليتنا لم نضيع شمالَ طفولتنا خلف شرقٍ به اخريات مدينتنا وجراح مساء تبيض عليه الهزائمالوانها الباهتة. قلنا سنبحر خلف البداية -فيها الذي ظلّ منهم، وماتركت امُّ اشعارنا من حليب الفصولِنشرب منه الذي لم يجف، ولم يشتريه السنونو وقوداً لرحلته الفائتة.تخرُّ علي عتبات النهاية اسماؤُنا ونتابع مجري التنصل من اوليات النهار نبكي علي وطنٍ في عيون حبيباتنا ضاع او هجرته مفاتيحنا لتفتح وقتاً نشيدُّهُ بالاغاني لهنَّ.علي حائط البحر : نحن مواسم للذكرياتْ نباعدُ مابيننا كي تمرّ السفائن منا الي وطنٍ في دخان السجائر / اجمل ما قد يجيُْمن البحر غرقي نشيدُّ بحراً ونغرق في رمله بحرنا = دمنا . ومايتساقط من ساحرٍ يحملُالبحر في قبعةنوافذ مشرعة للمجيء ، سنتبع شهوة ايامنا كنا علي البحر خاتم حُبٍ . صرنا علي الحبِّ خاتم حربٍتعبنامن الاغنيات الغبية ،منــا ياليتنا ماتعبنا . وياليتها لم تصلي لتقحم اعمارنا في جيوب قصائدها ثم تمضي أرضي وما يتبقي من الرغبات . صليباً عليه نشدُّ دماً ودمي كلما سقطَّ الحبُّراءُ النهاية تسرقهُقبلنامابينناوطنٌ : سمِّهِ ان شئت اجملنا بل سماءًعليها شعائرُ اسلافنا . ان نموت وتكبر اوطاننا
 Posted by Picasa

٢٦‏/٠٩‏/٢٠٠٦

الشعر في حياة
حسين علي محفوظ
ذاكرة انسكلوبيدية
تورد عن كل حادث حديث
علي العكيدي



ثمانون عاماً ودع العلامة الدكتور حسين علي محفوظ من عمرٍِ كان والقلم صنوان، فالقلم لم يفارق محفوظ كما لم تفارقه نظرته العميقة والدقيقة للحياة وحبه الجنوني للعراق ولبغداد خاصة.
حتى أن لإهتمامه بها وتأثره بتراثها وكتاباته العديدة عنها وتغنيه بأمجادها وخصوصيتها في نفسه شعراً ونثراً وأدباً بشكل عام ، لقب بشيخ بغداد ، ومن شعره في حق بغداد ما قاله هدية لها في يوم تأسيسها:
بغداد برج الأوليا
ء تعانقت فيه الكواكب
غنى الزمان بمجدها
وحدت بمدحتها الركائب
دامت جبيناً للفخار
ومفرقاً لذرى الذوائب
والعلامة محفوظ، الكاتب والأديب والمؤرخ والفلكي والنسابة، الموسوعي بكل ما تعنيه هذه التسمية من أبعاد نقدية وفكرية، قد بدأ حياته الفكرية شاعراً، لذلك أضحى محفوظ مرهف الحس، نقي الوجدان، صادق المشاعر، بكاء تدمع له عينان صادقتان لمجرد أن يذكر أمامه اسم يعشقه محفوظ دون تحفظ، فاسم العراق، أو الوطن، زوجته أو أي اسم له موقع مميز في وجدان محفوظ يكفي بأن تتزامن معه دموع صادقة تملأ مآقي عيون لم تألف إلا رؤية الجمال ولم تنسجم إلا معه.
يتوقف حميد المطبعي وهو يتحدث عن العلامة حسين علي محفوظ في سلسلته موسوعة المفكرين والأدباء العراقيين عند شعر محفوظ أو عند محفوظ الشاعر ، فيقول: (وبدأ في الرابعة عشرة يغني شعراً في النفس وقصيدة في الأرواح ... وقصيدة في الأصيل والشمس والشهور ... وقصيدة لأمه، فكانت قصائده في بذرة الطفولة، سمّاها (عبث الصبا) .. ثم جاوزها فسمّى أشعاره (روائح الشباب) .. ولما أوشك أن يعانق السادسة عشرة جمع قصائده في ديوان سماه (يواقيت الوشاح).. ثم دخل دار المعلمين العالية فرتّب أشعاره وقصائده وسماه (شقاشق) وأحصى ذكريات أعوامها الأربعة في ديوان (الدرعميات) نسبة إلى دار المعلمين العالية.. وأدركه من الحيف من بعد فسمى شعره بعد التخرج ((ديوان المحنة)).. وخاض (غمرات الحياة) في الوظيفة فكانت ديواناً رابعاً .. وفارق العراق واشتاق للأهل والوطن والدار .. فنظم (كربة الغربة)، وسمى شعره بعد الأربعين (ثمالة كأس) .. وجمع نخباً من أشعاره في الديوان الأخير ، وقد سماه (رشفات) ... وهو في كل شعره ، يعد نفسه ظل الشريف الرضي، لا سيما وأن الأخير من قدامى أخواله، يواصل المطبعي حديثه عن بدايات محفوظ الشعرية فيقول: يبتدئ ديوان (الدرعميات) الذي يحتوي على مجموع شعره وهو طالب في دار المعلمين العالية بقصيدة يحيي المعهد وأساتذته ألقاها في حفلة التعارف الأولى التي حضرها الأساتذة والطلاب في 15 تشرين الثاني 1944 وقد عرفته تلك القصيدة للوسط التعليمي كشاعر وأديب وقد تألفت من اثني عشر بيتاً جاء في مطلعها:
أورق العود وازدهى النوار
وطوى معصم الرياض سوار
لقد مثلت السنوات الأربع التي قضاها محفوظ في دار المعلمين طالباً للعلم، فترة زمنية حافلة بالشعر كنشاط ثقافي وفكري بدأ به محفوظ حياته العلمية حيث كانت مناسبة مولد الرسول الكريم محمد بن عبد الله (ص) هي المناسبة المركزية التي يحتفل بها الدار يحضرها الملك والوصي ووزير المعارف وكبار رجال العلم والمعرفة، أما محفوظ فهو حاضر مع زملائه الشعراء حيث كان يعد واحداً من أهم شعرائها، وله في كل عام قصيدة، ففي عام 1945 كانت قصيدته بعنوان (مولد النور) وهي في اربعة وعشرين بيتاً ، جاء في مطلعها:
يا غمام الندى إذا الغيث أكدى
وسراجاً إذا عبأ الليل جندا
وفي عام 1946 كانت قصيدته بعنوان (نور محمد) وهي في (23) بيتاً وقد جاء في مطلعها:
ربة الشعر الهميني البيانا
فلعمر والهدى خرست لسانا
لم يقتصر شعر محفوظ على المناسبات فقط فشعر التهاني والمدح هو جزء من شعره الذي امتد ليشمل الرثاء والفخر والحماسة باستثناء الهجاء.
فمن شعره في الرثاء ما قاله بحق المرحوم طه الراوي، ومطلعه:
تجهّم أفق الفضل بعد وأغبرّا
لأنك كنت الشمس للفضل والبدرا
ومن شعره في الفخر والحماسة وقد نازعه بعض الأعاجم، حيث يقول:
يا منكراً فضلي وقد
سابقت فرسان المعاني
من ذا يطاول مقولي
وهو الحسام الهندواني
كابرت أرباب الفصا
حة والبلاغة والبيان
كانت أطروحة الدكتوراه التي قدمها العلامة محفوظ في نهاية عام 1955م في الأدب المقارن انتقالة نوعية في حياة محفوظ الفكرية وعلى الرغم من أن الموضوع كان في الأدب بشكل عام إلا أن المقارنة التي أجراها محفوظ بين عملاقي الشعر في كل من العراق وإيران وهما أبو الطيب المتنبي وسعدي الشيرازي بوصفهما علمين من أعلام الشعر والأدب كان له تأثير كبير جداً على مجرى حياة محفوظ الفكرية بشكل عام، وما يتعلق منها بالشعر بشكل خاص حيث مر الرجل وهو يصول ويجول بين أكثر من ست مئة مصدر أغلبها كان على شكل دوواين شعرية، كما جاء في مقدمة أطروحته التي طبعها عام 1957، (المتنبي وسعدي ، أثر الثقافة العربية في سعدي الشيرازي) والتي ساعدت وزارة المعارف العراقية على طبعها.
كان محفوظ يقارن بين الرجلين والمقارنة هنا ليست المفاضلة إذ (ربما يفهمها البعض كذلك) وإنما هي حالة من التوغل في الفكر على مستوى المنابع والوسائل والنتائج على حد سواء مما أعطى لعلامتنا الفاضل فرصة لأن يعوم بالفكر الفارسي على مستوى الأدب والنثر والشعر متمثلاً بنتاج سعدي الشيرازي الأدبي وممن أخذ من الشعراء العرب حيث يحصي محفوظ عدد الشعراء العرب الذين راجع دوواينهم لغرض إتمام أطروحته وهم أكثر من سبعين شاعراً عدا الشعراء الفرس وعددهم أكثر من خمسة وعشرين شاعراً.
يقول العلامة محفوظ في مقدمة كتابه أعلاه: وقد أمعنت النظر في ديوان سعدي وهو مجلد ضخم الحجم قوامه أربعة كتب في زهاء 1300 صفحة عدة أشعارها نحو من 17000 بيت، بله النثر وتتبعت مآخذه من الثقافة العربية وتوسعت في الكشف من أصول أفكاره ومعانيه في القرآن ، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكلام الصحابة وآثار السلف، والأمثال القديمة، والأخبار والقصص، وكتب الأدب ودواوين الشعر مستمداً ذلك من مراجع كثيرة أنافت على (500) كتاب، عدا عما لم أشر إليه من كتب يصعب استقصاؤها، وأسفار تعذرت على الإحصاء، وانتهيت في البيان إلى ديوان المتنبي الذي هو عمدة الكتاب، وأصل الغرض ومغزى الكلام وذات الموضوع والمعاني المتنبية التي اقتبسها سعدي من ديوان المتنبي وترجمها بالفارسية نيف ومئة في ثلاث مئة موطن تقريباً من شعره ونثره.
 Posted by Picasa
Muhammad Argun
 Posted by Picasa
الجوهر الساكن والاداء الحي
المعرفة بين الخيال
والتجريب والحقائق الواقعية

عقيل مهدي يوسف


قد نختلف عند تقويمنا للجهود العلمية لهذا الباحث او ذاك في جدواها لخدمة واقعنا الفكري والاجتماعي او نميز الاضافة من الاجترار، والعقيم من المنتج النافع، على وفق تصورات محددة، لتلك الجهود ولو بعد حين من تتالي الحوادث والايام عليها. يبرز اسم زكي نجيب محمود من بين أبرز العقول المهمة التي خدمت الحقيقة من طريق خاص مميز هو (الوضعية المنطقية) التي حمل لواءها في اواخر القرن الماضي هذا الفيلسوف الرائد. وفي كتابه (نافذة على فلسفة العصر) اختزل لنا تاريخا من الافكار وتراه راغبا في تنمية التفكير الناقد، نابذاً القواعد الشائهة، والزائفة، التي تذهب بالجهود كلها الى آفاق مسدودة، بشرط الا نفهم من دعوته بانها نفعية مبتذلة ترى في الكلمة قوة (براكماتية) ذرائعية، تحجب عنها تلك القيمة الروحية المثلى، والملهمة.
وعلى طريقته يميز زكي نجيب الكائنات البشرية الكادحة من المستهلكة او كما يسميها، النملية، التي تكدس الاوراق لا النحلية التي تنتج عسلاً من رحيق الطبيعة، والمجتمع وقف (فرانسيس بيكون) (1561- 1626) ضد المعالجة اللفظية للعالم، في كتابه (أطلنطس الجديدة) وخلص الى ان العلم قوة، واداة لتغيير البيئة وتحقيق اغراضنا فيها . كان العلماء في الغالب مثل العناكب ينسجون النسج من اجوافهم، يثرثرون وهم لايقدمون ولايأخرون وكان العلم الطبيعي خيالاً يتخيلونه لا واقعا يعيشونه وحين جاء العلم التجريبي صار الخيال علما وعملا . هنا انبثق الاشتغال على استنباط القواعد، التي تثبت لنا ان بمقدور الماء ان يرويك من ظمأ او يقضي عليك بالغرق فيه، النار تنضج لك الطعام والنار تدلع الحريق المدمر. وفق هذه النظرة التجريبية الجديدة، انتقلت صورة الدنيا من رؤيتها اشياء وكائنات لها جواهرها الثابتة الى رؤيتها على انها علاقات. اختفى مايمكن تسميته بالنفاق الثقافي، عند الانسان في طريقة التعبير عن انتمائه الى العصر، ولم يعد مقبولاً، ان تعاصر زمانك (بظاهر) اللفظ، وتعارضه (بباطن) الايمان . جاليلو وازن ، بين الاذهان والاعيان، او بين الصفات الاولية، وهي في الاشياء ذاتها وبين الصفات الثانوية التي تخص آراءنا نحن ، هذه المقابلة بين الصفات قادت (ديكارت) ليميز بين الذات من جهة، والطبيعة من جهة اخرى، فالذات فكر خالص، والطبيعة امتداد خالص. وليحسم العلم الحديث هذا الاشكال، فيرى ان ليست هناك طبيعة وهنا عقل!! بل اصبحت الطبيعة والعقل كلاهما من نمط واحد، هو الاحداث او قل الحركة التي تتبدى بها الذرات المكونة للطبيعة والعقل معا لذلك تدرسها تخصصات علمية مختلفة: فيزياء ، فسيولوجيا، سايكولوجيا. وانتهى هوسرل الى ان ليس هناك بعثرة بين ماهو داخلي وخارجي اخذا على ديكارت، قوله (انا افكر) من دون ان يذكر لنا في اي شيء يفكر؟ لان التفكير بغير شيء يتعلق فيه ضرب من المحال فادراكي (لوردة حمراء) وامتزاجي بها في كيان واحد ساعة (الوعي) بها، ليس فيه ماهو (اولي) و (ثانوي) ليس فيه (موضوعي) و (ذاتي) لانه لحظة حية لاتقبل التحليل ليس في العالم الخارجي (وردة) تبعث موجات ضوئية يقابلها في الذهن صورة لها ترجمت الموجات الضوئية الى لون احمر، ليس الامر هكذا بل ان وعيي بهذا الجزء من العالم الخارجي حقيقة متصلة، فالاشياء حقائقها هي ظواهرنا في وعينا وليست هي بكومات من الصفات يتكوم بعضها فوق بعض في صندوق اسمه (عقل). الانسان يواجه الطبيعة على وفق علاقة اساسية، تقوم بين العارف بموضوع معرفته، علاقة العقل بالمعقول . ان تسلسل الاحداث تصنع تاريخ الظاهرة، لا جوهرها المزعوم. فباتت الذرة كهارب دوارة في افلاكها حول نواة، وليست كتلة صماء ويمكن تطبيق النظرة العلمية على الفن نفسه، ولو اخذنا المسرحية او العرض لوجدناه انماطاً من حركة ، وأنساقاً من علاقات وأطراً من بناء. انك لاتنتظر لترى موضوع المسرحية المعينة ومضمونها الفعلي لتقول انها مسرحية. بل يكفيك انها قد صبت في الاطار المعلوم الذي هو، شكل ، المسرحية، كما نعرفه او كما نريده.
اي ان طريقة البناء هي التي تحدد حقيقة واقعية او فكرية. والبنية تقع في صميم المنهج العلمي وعلى هيكلها يقوم الجبل، والانسان والقطعة الموسيقية، التي قد تتعدد ظروف عزفها، بل قد تتفاوت اجادة العزف في كل مرة، لكننا نظل نقول عنها انها قطعة موسيقية بعينها في جميع الحالات، لان البنية الصوتية واحدة. مسرحية (هاملت) تكون هي نفسها مكتوبة في كتاب ويشاهدها جمهور مختلف تبقى هويتها بالرغم من هذا التعدد. حدث المنعطف الجديد في طريقة معرفتنا للعالم، فانتقلنا من ادراكنا لجواهر الاشياء، الى طرائق بنائها وادائها لوظائفها، وفق ذلك البناء.
النهج التجريدي
كنا نستخرج صوراً شكلية للمنطق الذي نظن ان تفكيرنا العلمي، يسير على نهجه ونعتقده الواقع! ويأتي (برتراند رسل) ليرى في منطقه الجديد، ان العلاقات لا الحقائق المتعلقة بالاشياء، هي التي ان تم احكامها تملأ اطار تلك العلاقات بأي شيء تريد، لانها تخص منطقا رياضيا ويسير (هوايتهد) في النهج التجريدي، الرياضي نفسه، حين يرى ثباتا وتغيراً في اطار الانسان العام، وفي الحوادث العارضة وان قيام الاطار الرياضي النظري المنطقي امر لامندوحة عنه، لتضع فيه كل حادثة ترد في مجرى الخبرة المباشرة ويراد فهمها والا كيف تفهم حادثة، منتزعة من محيطها؟!
الفلسفة تمنحنا ذلك الاطار الفكري العام، الذي نضع فيه احداثا متناثرة لنفهمها حق الفهم. افلاطون بحث في العالم القديم (اليونان) عن مثل ثابتة، خالدة، حصل هذا في القرن الرابع ق.م. ويأتينا (سانتيانا) في القرن العشرين، ليذهب الى وجود عالم (للماهيات) فيه افكار عما يمكن حدوثه، وعالم (للوقائع الفعلية) فيه ماحدث حقاً. و(هوايتهد) يسبق لديه القانون الرياضي، وجود الشيء، الذي يسير بمقتضاه، اي ان الصور في عالم الممكنات ان هي الا صيغ رياضية مجهولة الدلالة، حتى اذا صب فيها هذا (الشيء) المادي او ذاك اكتسبت به دلالة معينة محددة. وخلافه عن افلاطون انه لايفصل بين عالمين مثالي وواقعي بل يشتق صورة الرياضية من كائنات واقعية فعلية . اذ ليس الا هذا العالم بكائناته ثم يجيء عقل الفيلسوف فيستنبط من كل كائن (صورته الرياضية) ويظل يضم الصور الرياضية بعضها الى بعض، حتى يتكون له المبدأ الاول، الذي يصاغ عالم الاشياء بمقتضاه. ويفرق (كاسيرر) بين المدركات العقلية في فروع العلم المختلفة، للرياضيات مدركات العدد للطبيعة مدركات المكان والزمان والطاقة ويخلص في كتابه (الجوهر والاداء) الى ان حقيقة الانسان ليست في جوهر ساكن، بل في اداء حي فعال. العقل، قدرة تعرف كيف تختار الاشياء فتوازن بينها لان العقل حقيقة فاعلة قبل ان يكون جوهراً قائما بذاته. تستوعب الصور الرمزية عند كاسيرر ليس العقل فقط بل الاسطورة والفن والدين. قال كانط لقد ايقظني (ديفيد هيوم) من سباتي الفكري لانه يقول ان سقوط الحجر للاسفل هو ما دلتنا عليه مشاهداتنا الحسية ولاعلاقة له بالعقل، اي يمكن افتراضا ان يرتفع الحجر الى الاعلى لا الى الاسفل، لو كانت (الحواس) بمشاهداتها هي وحدها ابواب (العلم الطبيعي) لوجب ان تنتهي الى النتائج التي خلص اليها (ديفيد هيوم) لكن الامر خلاف ذلك، فالحواس تأتينا بالمادة الخام من أحاسيس تصل الينا خليطا من طريق العين والاذن والجلد وغيرها، ولو وقف الامر عند هذا الحد لما كانت (معرفة) لكن وراء الحواس عقلا مجهزا بمقولات وقوالب تنصب فيها مادة الاصابات فتكون بذلك علما كما تنسق حروف المطبعة فوق صفحات الكتاب على نسق معلوم، فتصبح معاني، وليست حروفاً مفككة ويخلص كانط ان للمعرفة، احساسات تأتي من خارج، ومقولات عقلية تنظم تلك الاحساسات وهي من داخلنا لولا الاحساسات لظلت المقولات، فارغة من المضمون، ولولا المقولات لظلت الاحساسات، بلا معنى معقول.
ويحدد (البراكماتيون) حقيقة الفكرة لا في مقوماتها، بل ماتستطيع ان تفعله في دنيا الاشياء. فالفكرة (اداة) تطلب لما تؤديه، وليست هي كالصورة الفنية ننظر اليها في ذاتها. وفي ختام رحلته المعرفية يتأمل (زكي نجيب) واقعنا العربي، فيرى ان طائفة من رجال الفكر فينا، ملأوا شرايينهم بثقافة غربية خالصة، فكان وجودهم بيننا وجوداً (جغرافيا) وجوارا مكانيا فقط، واما ان يشاركونا في الوجود الزماني الذي يصل يومنا بأمسنا فهذا يستحيل عليهم ودعوته لاتخلو من مرارة يكابدها المثقف العربي الجاد وربما يجاري د. زكي نجيب آراء عصره في انسلاخ (الانتليجنسيا) المثقفة العربية عن واقعها وكأن السدود هي التي تحجز الفكرة الغربية عن الفكرة الشرقية، وهذه اشكالية خاضت في مظانها عقول عربية مرموقة لمعرفة الحد الفاصل بين الاصالة والمعاصرة او بين العربي والآخر. والقضية برمتها تتعلق في معرفة الكيف الذي تؤدي فيه الامانة الفكرية الخاصة بالنخبة المثقفة للناس أجمعين حسب قنوات تواصل حقيقية ترفد ظمأنا الى الحرية والتحضير والمعرفة ومغادرة البداوة، والسلوكيات المريضة التي لاتتناغم مع تطلعات مجتمعاتنا نفسها يقول زكي نجيب محمود ان في الوطن العربي : (افكاراً مبعثرة لكنها هوامل لاتجد الشوامل التي تجمعها وتصهرها وعذرا من ابي العلاء في كتابه (الهوامل والشوامل)!!
 Posted by Picasa
الشكل الالكتروني للموسيقي
المبدع وذاته الشخصانية
عقيل مهدي يوسف

انبثت الروح الصادمة في الموسيقي الالكترونية لتقوض من نسيجها وبنائها المنسجم المعهود وتحشوه بالضجيج والمفرقعات والمؤثرات الغرائبية وكذلك دهمته بمنجزاتها، العروض المسرحية، والروايات، والقصائد وافلام السينما باعاجيبها الخارقة، ومعالجاتها الخرافية و»الفنطازيا« التي ستتبدل تجلياتها في فنون الحداثة تبعا لكل جديد تبتكره في عالم الالحان والاغاني وسماع اصوات عجزت عن التقاطها الاذن البشرية في عهودها السابقة.السمات الفنية المعاصرةيحصر الناقد والباحث الانكليزي »هربرت ريد« سمات الفن المعاصر علي وفق تقسيمات محددة، منها »التفكيرية« ويقصد بها الفن الواقعي والانطباعي ، لان هذا الفن يتميز باقترابه من مظاهر الواقع، الذي نتعرف عليه في حياتنا اليومية، فهو يشخص تلك العلامات الواقعية او تراه يقدم »انطباعا« مباطنا للواقع، ولكنه نابع من مصدر »ذاتي« غير منشق عن طبقات الواقع نفسه، ويقترب من الطريقة التقليدية في الرؤية والنظر الذي نالفه في الحياة نفسها. والنزعة الثانية هي »الوجدانية« ويراها هربرت ريد، متمثلة بالفن: »السريالي« و»المستقبلي« ونجد في هذا النمط غلوا تخيليا يرفض مظاهر الواقع وقيمه، ويطمس الرؤية التقليدية، ويتحمس للاندفاع في اجواء الجنون، بحثا عن صور فائقة التخيل، فيسجل حركتها الخيالية هذه النابعة من اللاشعور الانساني والمحولة للطبيعة في هذه النتاجات والمحرفة لاشكالها وطبائعها وماهياتها.نزعات تعبيريةوهنا- ايضا- النزعة »التعبيرية« وهو ما يميز الفنون التعبيرية التي تعبر عن فردية المبدع وذاتيته الشخصانية، وتعكس رؤيته الخاصة عن الحياة، بحيث تبدو هذه الاشكال والتكوينات المتفردة وهي مشوهة، حافلة بالانكسارات الضوئية والظلال المبالغ بها، وكذلك تتحرك فيها وجوه واقنعة وستائر وتتخاطفها الاضواءوالمؤثرات الاصطناعية والميزانسينات المخفية والمنبعجة والمنحرفة والمشوهة، والمنزاحة عن القاعدة العادية للنظر الواقعي. واخيرا ما يسمي بالاتجاه »الحدسي« الذي يميز الفنون »التكعيبية« وهو ما عرف به »بابلوبيكاسو« و»براك« حيث نري اوجها مختلفة ومن زوايا مغايرة للشكل الواحد الذي يطمس المنظور التقليدي الذي ارست اسسه فنون ونظريات عصر النهضة الاوربية. الخامة والحدسوتعمق »الحدس« كثيرا في الفنون التي تظهر »خاماتها« وتتصدر النتاج الفني، فيتحرك من المساحة التخيلية الواقعة فوق معطيات الحواس الخمسة، وبذلك تتحرك هذه المواد مثل الحديد والبلاستك والاشرطة والاسلاك والزجاج والجلود والبرونز، وقطع الغيار مثل المواسير والاحواض في نطاق ما فوق الحسي، لتؤدي دورا خاصا يتعلق بما يقدمه الفنان من امكانيات في عمله الفني، قابلة لكي يجعل منها المشاهد التجربة »حدسية« متميزة جماليا. حتي ان اللوحة في »اوب - ارت« واخر التوصلات البصرية التموجية الغامضة، التي يشكلها الوعي لدي المتلقي ويؤطرها بطريقته الخاصة ليكون لها هيئة »Shaape« وشكلا »Form« ودوال حسية لونية وضوئية معنية، حتي هذه التجارب مازالت عرضة للنسف والاقصاء امام رعشات الفن ورغائبه السرية التي تتوسل العلم، والتقدم التقني الهائل لخدمة مآربها فتضم عناصر جديدة من خارج الاطار المحكم للوحة او للصنيع الفني التشكيلي التقليدي وتخلط بقصيدة واضحة، وبتشويش متعمد ما بين البنية السطحية للوحة بالبنية الحجومية والملمسية للتمثال بالبعد الهندسي والمعماري والتصميمي الرقمي في النتاج الفني الواحد.
 Posted by Picasa

أسئلة العراق الثقافية
خالد سليمان



لوصف الواقع الثقافي العراقي الراهن قد لا نحتاج سوى إلى الواقع ذاته، ذلك ان أي وصف أو سرد تاريخي، رغم القبول به كمنطق خلفي للأحداث، ينقصه شكل أداء اللاعبين الجدد في رسم العراق اليوم. ولإيجاد صورة واضحة عن العراق بين تاريخيته المزدوجة في رحم الكولونيالية والعروبة ومكوناته الطبيعية، وبين حاضره المشدود بثقافة الأقوام والطوائف والمذاهب الخارجة المتحررة ضمناً من دهاليز <البعث السوداء>، يجدر بنا البحث عن آليات إنتاج الثقافة. فأية صورة عن العراق الراهن ثقافياً، ترتهن على فعالية القوى الإجتماعية الجديدة في شكل ظهورها على الأقل. يمكننا القول ان الأسئلة التي تضع الثقافة في أُفق تأجيل دائم، هي ذات الأسئلة التي تضع المستقبل على فكرة إستقدام ملزم على الشروط الإجتماعية الجديدة المتمثلة في قيم إعادة تجميع الطائفة أو المذهب في دائرتي السياسة والدين. ولايمكننا بالتالي الحديث عن اية فعالية مفترضة للثقافة العراقية من دون ربطها بالسياسة <الترميزية> الحالية التي تعتمد بالدرجة الأُولى على واقع أُبتذل فيه شرّ الماضي والحاضر لدرجة الإستقواء بجميع الوسائل المتاحة. هذا لا يعني بالطبع ألقاء اللوم على <لعراق الإجتماعي> بقدر ما هو سؤال عما يحتويه هذا الجسم التاريخي في تناقضاته من ملامح تحرير آخر من حقبة الظلم. فالعراق لم يتحرر من الظلم برأي، ذلك انه تعرض لأشنع مباغتة يومية من القتل والتنكيل بعد تحريره من حكم البعث. بين هذا وذاك نحتاج إلى رؤى جديدة لتفسير العلاقة بين العنف الذي يلف العراقيين اليوم وبين ثقافتهم أو ثقافاتهم بالأحرى. هناك من يلجأ إلى كلاسيكيات عراقية في وصف العنف والوطنية ويقدم تعريفات مدرسية لحال الثقافة العراقية وصورها العكسية والتابعة للمجموعات الإجتماعية. في ذات السياق والحاجة الملحة للبحث عن أسباب غياب ثقافة فعالة في حياة العراقيين، يحاول الكثير من الكتاب العراقيين حصر الثقافة في الحقول الأدبية والفنية والفكرية ولا يبقى السجال الثقافي بالتالي سوى ظاهرة كلامية في المقاهي أو على الصفحات الثقافية. أما الثقافة الفعالة فهي تلك التي تنظم المجتمع وتحرضه وتنزله إلى الشارع. اليوم وفي العراق، يتحكم رجل الدين بملايين من الناس ويحرّك فيهم مشاعر الغضب والفرح والإنفعال من خلال دمج الشعار الديني المتمثل في <القدسي> مع الشعار السياسي المكشوف للموافقة والطعن معاً. ويحتكم رجل الدين إلى سيكولوجية الناس من خلال احتكامه بالرموز الثقافية وحيويتها وديناميكيتها. إذاً هناك ثقافة عراقية تتجسد في الحياة اليومية للناس وفي معتقداتهم وآرائهم ورؤاهم المختلفة للأشياء، وللثقافة هذه جذور تاريخية ودينية وإجتماعية وسياسية وجغرافية أيضاً . ولكن هل بإمكان المثقف، والسياسي أيضاً تأثيث الشارع بالقدر ذاته من القوة؟ أية ثقافة تشكل نواة الفعالية المطلوبة لإرتقاء المسؤولية من <الكلام> إلى التداخل والمشاركة في الشأن اليومي ، ولا نتكلم هنا عن ثورة ثقافية ولا مفاهيم راديكالية كما يريدها <الثوريون المبتذلون>. ما نريده هو التحرر من ثقافة <الأتيكيت> والبحث عن ثقافة عضوية تشمل المفردة اليومية في حياة المواطن ومحاولة جعل الكلمة واقعاً مرئياً ومحكياُ وفق تناقضاته وإشكالياته ومعوقاته ومتطلباته المتمثلة بالخبز والأمن والكرامة. أية ثقافة عراقية الآن؟ وأية ثقافة عراقية غداً؟ الثقافة العراقية اليوم، هي ثقافة التصادم مع الماضي والراهن، ذلك ان تحرير البلد من عصر البعث لم يؤد إلى تحريره من مفردات العنف والتنكيل. وللسبب ذاته نرى ان هناك شرخاً واسعاً بين القوى الإجتماعية الجديدة إذ تستقوي كل واحدة منها بقوتها ونفوذها ورموزها، وبين الواقع المسمى بال<الإنتقالي>. ولئن تواجه الثقافة العراقية اليوم سلطات موقعية دينية ومذهبية وقومية، تترتب عليها إحتمالات المقايضة والترويض ايضا، ذلك ان جميع الحقول الإعلامية والصحافية والأكاديمية تخضع للسلطات ذاتها، يجدر بنا قراءة مشهدنا الثقافي وفقاً لآليات <الوقع الجديد> وتداعياته النكوصية إن صح التعبير. لنتذكر هنا اعتراف <غونتر غراس> بعد مرور ستة عقود على مشاركته في <قوات الحماية> النازية التي لم يعرف حينها حتى معنى هذه المنظمة السرية الألمانية التي ارتكبت أخطر جرائم أثناء الحرب العالمية الثانية. انه إعتراف خطير ويأتي من رجل مهم ليس في الثقافة الألمانية فحسب بل في الثقافة الأوروبية، ذلك انه يعيد إلى الأذهان أعتم مرحلة في تاريخ أوروبا والعالم. ويشارك غراس في إعترافه هذا، في بناء ثقة متأخرة بين ذاكرة ضحايا <الهولوكوست> وذاكرة <الجلادين. ويرجع الفضل في كسر هذا الصمت وإعلان المشاركة في أخطر منظمة نازية إلى المراحل التي تلت الحرب الكونية الثانية في أوروبا إذ تميزت بالمصالحة الإجتماعية والثقافية والسياسية. فلولا تلك المراجعة النقدية في حياة الأوروبيين بعد الحرب على مستوى الفكر والسياسة والثقافة، لما تمخض عن جميع تلك الجرائم إعتراف كهذا برغم إخفائه ستون عاما. في العراق، لاتزال المنظمات السرية البعثية <شغّالة> في جعلها للقتل روتيناً ولازال هناك مثقفون وكتاب يخططون لعودة البعث من المقاهي العربية. تزامناً مع هذا دخلت القوى الإجتماعية الجديدة التي تخوض الصراع على السلطات الموقعية قبل الحلم ب<بغداد>، دخلت في صراع لا تخلو ملامحه من عناصر التنكيل بالذات. بين هذا وذاك، نفتقد لمصالحة وهدوء قد يصبحان مخاضاً لإعتراف طويل، إعتراف نكتب فيه كتاب <الوصمة> العراقي
 Posted by Picasa

الشعر الآن في أبهى أزمنته
هاشم شفيق


هل الشعر في أزمة، كما يتردد بين حين وآخر؟ هل الشعر في حال يرثى لها؟ أصحيح ليس لدى الشعر جمهور؟ وهل الكتاب الشعري في كساد والشعر نفسه آيل الى موات؟ كما قال المفكر اليوناني كوستاس أكسيلوس بموت الشعر، جريا على قول، موت المؤلف وموت التاريخ وموت الذات الإلهية؟ من جهتي، لقد راقبت الشعر أكثر من ثلاثين عاما، متجولا في أنسقته الجمالية وحقوله التعبيرية، مستكشفا من خلال هذه المسيرة عماراته الفنية وطرزه النفيسة المطروحة في الأشكال والمحتويات، محدقا في الصنيع والتجارب، في النماذج والأساليب، متتبعا الرؤى والأحلام والخيالات التي تتشظى من نسيجه الداخلي، وسرتُ في طرقه الصعبة والوعرة وتوغلت في البعيد، في الأغوار والمجاهل، لأرى وألمس وأحس بما يخلفه الشعر من صبوات وحرائق وأفكار، فلم ألمس من وراء هذه الرحلة، رغم مشاقها وخطورتها وتعبها، لم أحس سوى أن الشعر هو حياة ثانية للمبدع، ولم ألحظ من مظاهر للشعر منذ أمرئ قيس حتى أصغر شاعر من عام الفين سوى أنه في تطور متواتر، وأنه يعيش أبهى مراحله الزمنية، وأفاد على نحو جمالي من كل تحولات عصره. جمهور الشعر كان مزيجا متنوعا، ومن مختلف المستويات العلمية والثقافية، ومن شتى الشرائح والطبقات الاجتماعية، وبقيت صلة الشعر بالجمهور مستمرة حتى مطلع الثمانينيات، حيث أخذت تتراجع إبان ظهور الانفجار الكبيرفي الثورة العلمية، وخصوصا على صعيد الاتصالات وما حصل من تطور تقني في الوسائل المسموعة والمرئية وما لحق وسائط وشبكات الاتصال الالكترونية من ابتكار وكشف وابتداع. داخل هذا الصخب الآلي، اكتشف الشعر أيضا نفسه، فعاد الى داخله، الى عالم الأحلام واليوتوبيات والتأملات، ليكون فن القلة الذي يشتغل على عالم الجوانيات والدواخل، هدفه المجاهل والأباعد والماورائيات، فضلا عن مهمته الأساسية في اكتشاف الحياة والعالم، أي ان مهمته أصبحت جمالية بحتة، ترنو الى صقل اللغة عبر الإيجاز والكثافة والصفاء، ثم الاشتغال على فض الرؤى واختراع الحكايا الرؤيوية، وإضاءة الزمان الجديد والمتخيل من خلال لغة نبوئية، قادرة على الاختراق والتخطي، مؤثرة في الوقت عينه نقل الأحاسيس والمشاعر الإنسانية وفضح الباطن لدى الكائن وغزو أعماقه من أجل تعريضها للأشعة والإشراق الشعري، ابتغاءً في الوصول الى المشاركة والتفاعل واقتسام ما تنطوي عليه روح الآخر من مشكلات وجودية. وفق هذا المساق يمكن القول ان وظيفة الشعر قد تغيرت كثيرا، وطرأت عليها تحولات دلالية مست الجوهر فيها، أي ان الشعر غدا إشاريا، ميالا الى الانزياح نحو فن الصمت والإيحاء والإيماءة، وابتعد ان يكون وسيلة وغاية، نأى عن الهتاف ليتبصر في جوهره كونه فنا موحى به، يخضع للرؤى ونداء الداخل، وكف أنْ يكون داعية سياسية وواسطة يملى عليها لتغدو حمالة للطارئ والعابر والآني. تحت هذا المظور نجد ان القارئ أيضا تطور، وحصلت نقلة في سيرورة ذائقته نحو مناخ متقدم فيه تطلع الى الجديد والخاص والفاتن في الشعر العربي، أضحت لدى القارئ الجديد معرفة ورؤية لمواكبة جديد الشعر العربي ومتابعة الأساليب والتغييرات التي مست أدوات ولغة الشاعر العربي الجديد الباحث عن أفق مغاير للمعهود والمقرر والمكتوب تحت وطأة التكرار، والحماسة لقضية ما، بغية إرضاء الذائقة السطحية، إذاً القارئ أيضا مسته عدوى التجديد والنفور من الزعيق والنظم والحشو التعبيري والمطولات والملاحم الباكية على الماضي النضير، وإلا لما لاقينا من يقتني ويحب ويشير الى <شناشيل ابنة الجلبي> للسياب و<قصائد حب على بوابات العالم السبع> للبياتي و<الفرح ليس مهنتي> للماغوط و<ورد أقل> لمحمود درويش و<الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع> لأنسي الحاج و<جنة المنسيات> لسعدي يوسف و<زيارة السيدة السومرية> لحسب الشيخ جعفر و<كائنات مملكة الليل> لحجازي و<أغاني مهيار الدمشقي> لأدونيس. حركة الكتاب الشعري لو عدنا الى خواتيم الأربعينيات، ونظرنا الى حركة الكتاب الشعري، إبان تفجر حركة الشعر الحديث، لوجدنا حركة الكتاب لا تتعدى القطر العربي المطبوع فيه، وإذا طبع في العاصمة، نجد من الصعب وصوله الى المحافظات والنواحي والقرى، فيظل أسير الموضع الذي طبع فيه، فديوان نزار قباني الأول <قالت لي السمراء> طبع منه ثلاثمئة نسخة، وتكاليف الطبع كانت على نفقة الشاعر، وكذلك هو حال السياب في البدايات والبياتي، وكان رواد الشعر العراقي يطبعون في مطابع بغدادية مغمورة ومحدودة الانتشار، بحيث انسحب هذا الوضع على مرحلتي الخمسينيات والستينيات، فعلى سبيل المثال مطبعة <شفيق> ورافئيل بطي الصحافي والناقد في بغداد وغيرها كانت تطبع على نفقة الشاعر أو الكاتب نفسه، وكذلك هوالأمر مع مطابع البصرة والموصل، والديوان المطبوع لا يتعدى الخمسمئة نسخة في كل الأحوال وهكذا كان حال <حفار القبور> للسياب و<خفقة الطين> لبلند الحيدري و<ملائكة وشياطين> للبياتي، والحال ينطبق على <القرصان> لسعدي يوسف في البصرة، والديوان المشترك ليوسف الصائغ وهاشم الطعان في الموصل، وهنا يظل تداول الكتاب مرهونا بنسبة المتعلمين وعدد النخبة. بينما الكتاب الشعري الآن يسافر الى جميع أنحاء العالم، يقطع مسافات ويعبر قارات وينفذ عبر الحدود والأسلاك بألف وسيلة ووسيلة، فالمعارض التي تقام حاليا في العالم العربي، عددها بات لا يحصى، فبلدان الخليج العربي كمثال، باتت لها معارضها الخاصة بالكتاب، وهي دول صغيرة، ولكنهت أصبحت تنافس المعارض العالمية، لما تقدمه من خدمات ومستلزمات فنية وتعبوية، لإعلاء شأن معارضها ولفت النظر وجلب الزوار، أي المهمة غدت حضارية، مقرونة بعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، زائدا انها اكتسبت خبرات ومهارات السوق العالمية للكتاب، حتى غدت على هذه الدرجة من المستوى والتنفيذ والتنويع في المحتوي والمطروح، من التشكيلات الطباعية، هذا فضلا عن اشتمال المعرض على ندوات أدبية وفكرية وفنية، وحفلات توقيع تدعم وتساند المعروض، فالشاعر الحديث، مثلا، لم يعد معزولا، مثل السابق ومهمشا ومقصيا في أقصى قرية من بلاده، مثل السياب وجيكور والبريكان والزبير، بل رأينا الشاعر المعاصر، يوقع في مصر ودمشق وبيروت وعمان والرباط وتونس، ثم يستقل الطائرة، ليحضر حفل توقيع ترجماته في دور فرنسية وألمانية وانكليزية وأسبانية وإيطالية، كما حصل مع أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف، أي رأيناه حاضرا في مكان مختلف ولغة مختلفة وجمهور مختلف، ومهما كانت الدواعي والوسائط والأساليب لهذا الحضور، يبقى انه يشكل إضافة هامة لثقافتنا العربية، ويؤدي الى انتشار الصوت الثقافي اللامع والمتنور والمغاير لصوت ثقافة العنف والتخلف والتكفير والإرهاب الذي لطالما اتهمنا به، فالشاعر هنا هو بمثابة السفير الحقيقي للامة، هو الصوت المتجول الذي يحمل الرؤى والصور والنبوءات. أما بخصوص مبيع المجاميع والدواوين الشعرية، فهنا الكل يبيع، خذ على سبيل المثال لا الحصر، دار <صادر> و<المعرفة> وهما داران بيروتيتان عريقتان، تطبعان للشعراء الكلاسيكيين القدامى، هاتان الداران تتفننان بالرونق والشكل ونوعية الورق والغلاف، رغم انهم قد غادروا الى مثواهم منذ أكثر من الف عام. إذاً الكل يطبع ويبيع، فالشعراء الرواد المحدثون والمعاصرون، أغلبهم صدرت أعمالهم الشعرية في أكثر من طبعة، محمود درويش، طبعتْ أعماله الشعرية في البدء دار <العودة> في أكثر من طبعة، ثم <المؤسسة العربية> وأخيرا وليس آخرا دار <رياض الريس> أدونيس، طبعتان دار <العودة> ثم <المدى> في دمشق، سعدي يوسف، طبعة الأعمال الشعرية الأولى كانت في دار <الأديب> البغدادية، ثم <العودة> ومؤخرا صدرت طبعته الثالثة في <المدى> البياتي والماغوط وامل دنقل وممدوح عدوان، صدرت طبعتان من أعمالهم الشعرية، بذا يكون الشعر معمرا ومقروءا على مدى طويل، وهو سيبقى سيد الفنون وديوان العرب بامتياز وحتى في الغرب هو ايضا ينظر له كونه أعلى مرتبة من بقية ما يكتب بصفته فن الكثافة والإيحاء والتقطير، ففي زمن الشاعر الفرنسي جاك بريفير، اختفى روائيون كثيرون وبقي هو الأكثر مبيعا منذ نصف قرن، الشاعر الأميركي والت ويتمان، لا يزال يتصدر قوائم المبيعات بديوان وحيد هو <أوراق العشب> وما بقي مطلوبا من بين روائيين عديدين كانوا يكتبون في زمنه هو الروائي هرمن ملفيل كاتب رائعة <موبي ديك> لأنه كاتب استثنائي، والأمر ذاته ينطبق على ت س إليوت الذي يتصدر الواجهات دائما ومعه ييتس وكيتس ومكنيس وأودن وآر س توماس وتيد هيوز وسيلفيا بلاث وأميلي ديكينسن، عراقيا هناك السياب هو الأبرز وربما هو الأبقى قياسا الى أقرانه من الروائيين والقصاصين، سوريا نجد أدونيس، فهو العلم الأشهر قياسا بالذين بدأوا معه من القصاصين والروائيين، وإذا قيل ان هؤلاء رواد ومطلوبون ومن هنا تكررت طبعاتهم، لكن الواقع الشعري العربي يقول عكس هذا، فثمة شعراء عرب من أجيال لاحقة طبعت مجاميعهم أكثر من طبعة كشوقي بزيع، عز الدين المناصرة، محمد علي شمس الدين، فاضل العزاوي، جودت فخر الدين، محمد بنيس، حسن طلب، قاسم حداد، بول شاؤول، ويحيى جابر، والأخير هو من جيل احدث، ونصف هذه الدزينة تكتب قصيدة النثر، لا بل هناك شعراء من جيل أجد، يطلق عليهم <جيل الفين> في بيروت، نشروا قصائد نثر، ودعوا الى توقيع مجاميعهم وباع كل شاعر في حفل التوقيع قرابة الثلاثمئة نسخة، كناظم السيد وغسان جواد، وكانت كلفة طباعة هذه المجاميع على دار <مختارات> التي رأت في نتاجهم ما يستحق المغامرة، ومثل هذا يحدث في دمشق وفي القاهرة. هذا عدا أن هناك شبيبة شعرية تسعى الى المخرج ذاته في كل من المغرب العربي والخليج العربي . أما شكوى بعض دور النشر من قلة مبيعات الشعر، فهي شكوى دائمة، لأن أصحاب دور النشر العربية يريدون من الكتاب الشعري أن يكون <البيست سيلير> أي الكتاب الأكثر مبيعا، والشعر بالطبع لا يرتضي أن ينزل من مرتبته الجمالية والفنية، ليبيع مثل كتب الطبخ والريجيم والرياضة وكتب الأحزاب الدينية المتطرفة، أو مثل كتب الروايات الإيروتيكية التي تنقل في متونها عوالم فضائحية، أو كتب المذكرات ذات اللمسة الآنية، صفوة القول هو ان الشعر ليس آنيا، لأنه نتاج الرؤية، وزمانه يكمن في البعيد، لذا نراه قليل التداول، بطيء البيع، ويباع على مديات، تمتد لسنوات، ولكنه، وهنا يكمن بيت القصيد كما يقولون، سيبقى متداولا ومطلوبا ويعاد طبعه لقرون، وإلا ما الذي يدفع داراً مثل دار <العودة> أن تلجأ لطبع شاعر مثل الياس ابي شبكة، سوى انه مطلوب وباق بقوة ما كتبه وقدمه من أشعار مبدعة، لتقدمه في حلة جديدة وفي أعمال شعرية كاملة، بعد أن كانت أعماله متناثرة بين دار <المكشوف> وغيرها، لقد قضى أبو شبكة وهو في مطلع الخمسين من عمره، منعزلا، وبعيدا في قريته بسكنتا، تاركا وراءه إرثا خلاقا ولافتا، بحيث جاء من يجمع ما أبدعه من صنيع ليعيد اليه ألق الاستمرارية من إبداع شعري كامن فيه قادر أن يتحول عبر ضوء الديمومة باتجاه السرمدية. حال الشاعر الآن قضى السياب في أواخر الستينيات من القرن الماضي، بعيدا ومنعزلا وعليلا، كان يقايض ديوان شعر بقنينة دواء، ويستجدي حبات منه بمكافأة لقصيدة، فشاعر مثل السياب، لم يسافر طيلة حياته من أجل الشعر، سوى مرتين، وكانت هاتان السفرتان من تدبير يوسف الخال، الأولى دعاه ليقرأ قصائده في بيروت، ضمن خميس مجلة شعر، والثانية كانت الى روما، يوم انعقاد مهرجان الشعر العالمي، والمرة الأولى التي حصل فيها على جائزة كانت أيضا بدافع من يوسف الخال، حين منح ديوانه <أنشودة المطر> جائزة مجلة شعر، كاستحقاق أولا على صنيعه، وثانيا كمساعدة له في تخفيف أعباء محنته الشخصية. بينما ظرف الشعراء العرب اليوم، على صعيد المهرجانات والجوائز، فإنه لا يمكن مقارنته بالسابق، فالشاعر اليوم، نجم يلمع هنا وهناك، يدعى الى مهرجانات أدبية وثقافية لا تحصى، محلية وعربية وعالمية، يوطد من خلالها صلته بالآخرين، وينقل لهم ثقافة بلده أولا، عبر ما يصلهم من نتاجه الإبداعي، ثم يترك انطباعا معرفيا ووهجا كارزميا في المحل الذي يحل فيه، فهنا ثمة اتصال بالآخر، ثمة علاقة جمالية، تربطه به، فهو ليس معزولا في قريته، يكتب الشعر ويعاني أمراض الجسد والسياسة والمجتمع، بل هو على تماس مع الواقع والوقائع، يتنقل في كل مكان، ويرى كل شيء، ويتحدث ويساجل ويدلي برأيه عبر الوسائل الإعلامية، في بلده أو هذا البلد أو ذاك، ينتقد ويشير ويصرح ويكتب عن زياراته في الصحف والمجلات التي يعمل أو يتصل بها، كما يرشح الشاعر نفسه، أو ترشحه نقابة معينة لنيل إحدى الجوائز العربية الكثيرة، وقد يفوز بأكثر من واحدة، وربما يكون من بينها جوائز عالمية، ناهيك عن المنح التي تمنح للشاعر والتي تكلل دائما بالانتجاع والاستجمام والإقامة لغرض الكتابة، كل هذه الإمكانات هي الآن معروضة أمام الشعر، ثم يأتي من يقول لك: ان الشعر يموت، ويعيش في غرفة الإنعاش ، وإنه زمن الرواية! التلقي مسؤولية الشاعر أزعم من زاويتي الخاصة وأظن، أن مسألة الإيصال والتلقي، تقع بالدرجة الأساسية على الشاعر نفسه، بالتأكيد نحن باستطاعتنا التقييم والاحتكام الى الذائقة في التفضيل، كون هذا القميص جيداً وتلك السيارة رديئة وسيئة الصنع، الشاعر مثل هؤلاء الصانعين ينتج ولا أحد يشاركه صناعته سوى مقدرته وتمكنه ومدى طاقة الخلق الكامنة فيه، أي كم هو موهوب ومثقف وعارف بأسرار صناعته، فالشعر <صناعة وضرب من النسج> كما قال الجاحظ، يوما، وهو المسؤول الأوحد أمام هذه المهمة الجمالية التي أنيطت به، والشاعر المبدع هو من يفرض صوته وصنيعه وهو من يتجشم عناء هذه المسيرة عبر الإخلاص لها والتفرغ روحيا وعمليا لكل ما يحيط بهذا الفن من معارف وأسرار وخبرات وصولا الى حسن أداء الرسالة. لو عدنا قليلا الى ستينيات القرن المنصرم، وتابعنا سيرة النشر ونشاط الشعراء البارزين آنذاك عبر المجلات التي كانت تتبنى نشر نتاج المبدعين من الشعراء الرواد في تلك الأيام مثل مجلة <شعر> و<الآداب> و<حوار> و<الأديب> يوم كان السياب ينشر الى جانب توفيق صايغ في <حوار> وهو صاحب المجلة، سنجد قصيدة السياب، كانت تصل الى القارئ أكثر، وتنتشر وتحفظ، وفي الوقت ذاته، تحمل نواة ديمومتها، وكانت مجلة <شعر> تنشر لجبرا إبراهيم جبرا وأنسي الحاج، فكانت قصائد جبرا تظل طريقها الى القارئ، وقصائد أنسي تلقى قبولا وتعطى مكانة من لدن القارئ، وتنشر المجلة أيضا قصائد ليوسف الخال وهو صاحب المجلة الى جانب قصائد لأدونيس، فنجد قصائد الأخير تجد صدى مختلفا ولافتا، غير الصدى الذي توفرت عليه قصائد الخال، وتنشر <الآداب> قصائد للويس عوض وعبد الصبور، فنلقى الأخير قصيدته قد أثارت لغطا، والأول تداركه الصمت وربما الإهمال، وتنشر المجلة ذاتها قصائد للشعراء محمود درويش وتوفيق زياد، فتحصد قصيدة محمود درويش إعجابا ودويا لدى النخبة والعامة، بينما قصيدة توفيق زياد رغم مباشرتها ووضوح مضامينها تؤول الى حالة أخرى، وتنشر المجلة كذلك لخليل حاوي وفؤاد الخشن، فنجد الشعر يستبقي الأول ويلفظ الثاني، و<الأديب> تنشر للبياتي وكاظم جواد مشاكسه ومنافسه، فترينا الأيام بقاء البياتي وغياب تام لكاظم جواد ليس عن الساحة الشعرية العربية، بل حتى العراقية.
 Posted by Picasa

٢٣‏/٠٩‏/٢٠٠٦


يوخنا دانيال
الدخول الى عالم الـ "ماتريكس"!

تطرح سلسلة أفلام The Matrix ( المصفوفة او الرحم )، مسألة الآفاق البعيدة في علوم وتقنيات الاتصالات والمعلوماتية ونظم السيطرة والمحاكاة، وصولا إلى موضوع الذكاء الاصطناعي بأوسع معانيه وتطبيقاته، وإمكانية خلق نظم محاكاة متقدمة جدا وواسعة، تماثل وتتضمن كل أجزاء وتفاصيل حياتنا اليومية او الاعتيادية .... أي إمكانية إقامة أو خلق عالم افتراضي متكامل ومترابط بواسطة برامج المحاكاة، بحيث لا يختلف عن العالم الواقعي بل يكون بديلا عنه، في سبيل السيطرة على البشر. وعندما يخسر البشر المعركة النهائية مع مكائن وآلات الذكاء الاصطناعي - ( التي اخترعوها أصلا لخدمة الإنسان، او بالأحرى لشن الحروب على بعضهم البعض ) .... فانهم يلجأون إلى الحل "النهائي"، وهو حل شمشوني بامتياز : إذ يدمرون البيئة والمناخ ويعزلون الكوكب عن الشمس لكي يحرموا الآلات الذكية من مصادر الطاقة اللازمة لها، مسببين بذلك دمارا كبيرا للمدنية والحضارة ومظاهر العمران والتقدم في الكوكب الأرضي؛ مما يؤدي إلى انحسار الوجود البشري على سطح الكوكب، واقتصاره على مدينة واحدة في باطن الأرض، هي الملجأ الأخير للإنسانية. كل هذه الأحداث تجري تقريباً في النصف الأول من القرن الثاني والعشرين او في نهايته ... هنا نهاية التاريخ (الحقيقي) الذي يصنعه البشر. وبالنسبة لأي "مراقب" مستقل في الفضاء، فانه سوف يلاحظ ان الأرض قد تبدل مناخها وغلافها الجوي تماما بحيث لا تصلح لسكنى البشر، وان مظاهر الحياة والفعاليات الانسانية قد اختفت منها كلياً. لكن كل هذه الحقائق والتفاصيل سنعرفها لاحقا في الفلم، فعلى الشاشة نرى العالم يعيش قريبا جدا من نهاية القرن العشرين، إلا أن تفاصيل الحياة تختلف عن حياتنا الى حد بعيد. كل شيء يبدو أكثر تنظيما ودقة، أكثر انضباطا، بلا مشاكل كبيرة أو حتى من دون صعوبات للوصول إلى ما نريد أو نحلم به. أنها تشبه الحلم المستمر أحيانا، نريد الاستيقاظ منه لكن من دون جدوى. وكل من تساوره الشكوك في حقيقة حياته ومسيرتها الهادئة، يصبح خطرا على النظام العام، وأية فعاليات أو حتى تساؤلات بسيطة عن حقيقة الحياة تجعله تحت المراقبة والمتابعة الدقيقة من قبل حراس النظام. في هذا الفلم ، تختلف الأحداث عن فلم1984 ) ) ، ففي الأخير يدرك البطل ويفهم كل ما يجري من قمع واضطهاد وتزييف مستمر للحقائق والوقائع والتاريخ، ويحاول أن يثور على ذلك. أما في الماتريكس، فان كل شيء منظم، لا صراعات، لا كفاح من أجل أي شيء، كل شيء في متناول اليد .... عصر ذهبي للإنسانية، تستطيع أن تحقق كل ما تطمح إليه وتحلم به. الخطر الوحيد أن تحارب هذا التنظيم، أن تتمرد على مسيرة هذه الحياة، أن تتحول إلى البدائية أو الوحشية، أن ترفض الامتثال لشروط الحياة المثالية التي يوفرها النظام العام والمجتمع. وكالعادة في مثل هذه الأفلام، فان هناك حفنة من الثوار - أصلهم من مدينة في باطن الأرض - يكشفون لنا وللبطل؛ أن العالم الواقعي هو فعلا غير موجود، بل أنه يعمينا تماما أو يقتلع عيوننا لكي لا نرى العالم الحقيقي، عالم العبودية والخراب. أن ما نعيشه فعلاً : هو برنامج ضخم جدا للمحاكاة الحياتية في مدن مختلفة، وبطريقة الواقع الافتراضي، لذلك فان كل شيء ممكن ومنظم وهادئ 100%. أما حقيقة العالم الفعلية، فان البشر يعيشون منذ الولادة وحتى الموت، في حاضنات عملاقة، أشبه بالموتى او الأجنّة.... عقولهم فقط أو بالأحرى أدمغتهم هي التي تعمل، لأنها مربوطة ببرامج المحاكاة الضخمة. وعندما نتساءل.... لماذا ؟ لأن الدماغ الإنساني، والجهاز العصبي المرتبط به، يولّدان كميات من التيار الكهربائي والسعرات الحرارية. وفي غياب الطاقة الشمسية وغيرها من أشكال الطاقة، فان الآلات الذكية التي تحكم الأرض، تزرع وتكاثر البشر ( بتقنيات الاستنساخ وغيرها) وتحفظهم كمصادر للطاقة، أي (بطاريات) ذكية، حية او عضوية. وكي يحيا النوع الإنساني فعلا ويولّد الطاقة باستمرار، فان الدماغ يجب أن يعمل باستمرار أيضا، إذ يتم خداع العقل الانساني وايهامه بأنه يحيا حياة طبيعية واجتماعية، وذلك بواسطة البرنامج الجبار المسمى الـ MATRIX ، الذي يظهر على شاشة المراقبة عند الثوار : بشكل صفوف مستمرة لا تتوقف من الأرقام او المصفوفات الرقمية التي تسيطر وتنظم كل أمور "المجتمع السيبري" الذي ترتبط به عقول أو أدمغة جميع البشر.
إذن، ما نراه على الشاشة البيضاء أشبه ما يكون بلعبة فيديو "عضوية" هائلة، والثوار هم الوحيدون الذين يعيشون حياة حقيقية او فعلية، خارج هذه اللعبة. انهم يتصلون بالبطل ( نيو - الممثل كيانو ريفز) عن طريق إرسال الأحلام أولا في ساعات النوم – او تحت تأثير المخدرات - عندما لا يكون تحت سيطرة برنامج الـ Matrix ، ثم يتعاملون معه - ويكسبونه إلى صفوفهم - داخل برنامج الـ Matrix في ساعات اليقظة بفضل جرأتهم وتقنياتهم المتقدمة. والمرحلة الثالثة تتمثل بإخراج عقل البطل من سيطرة او هيمنة برنامج الـ Matrix. وأخيرا، يحررونه جسدياً من الحاضنات ويخرجوه من السبات الاصطناعي الطويل المفروض على جميع البشر .... ونعيش مع البطل نيو "صدمة" الاستيقاظ على العالم الحقيقي .... الظلام واضطرابات المناخ تسود جميع أركان الأرض، لا عمران ولا مدن مستقبلية "زاهية" كما في افلام الخيال العلمي عادة ... بل سلسلة أبراج كئيبة، ضخمة جدا، تتألف من طوابق كثيرة ممتلئة بالحاضنات "البشرية" المرعبة، تنتج الطاقة الكهربائية اللازمة لاستمرار أنظمة وآلات الذكاء الاصطناعي. يصحو البطل - الذي تختلف ملامحه الحقيقية وقابلياته الجسدية عن ما شاهدناه فيما مضى من الفلم، وتبدأ بالانفصال عن جسده جميع الأسلاك والأنابيب الكثيرة التي تربطه في قوقعته، لتنتشله لاحقاً أجهزة الثوار وتجلبه إلى عالمهم الحقيقي، حيث يعيشون في سفينة هوائية. وربما يكون مشهد استيقاظ البطل، وإدراكه – او إدراكنا - للعالم الحقيقي والشروط التي يعيش ويحيا فيها النوع الإنساني، من المشاهد التي لن تنسى في تاريخ السينما؛ مشهد سريالي بمعنى الكلمة، مشتق من أكثر الكوابيس رعبا، الإنسان المخلوق على صورة الله، الكائن الاجتماعي العاقل ، ما هو إلا خلية لتفاعلات كيمياوية تولّد الطاقة للعالم المشوّه الخرب .... لقد انتهى الزمان وكذلك المكان والاجتماع الانساني.
معارك "ذهنية" مميتة!
هذه هي جرأة التصور والخيال الجامح لمن صنعوا هذه الأفلام : ( الأخوين أندي ولاري واتشوفسكي ). أما المغامرات البطولية والمعارك الخارقة في الفلم، فانها تحدث في معظمها ضمن الكون "السيبري"، وهي تتبع نفس الشروط التي نعرفها في ألعاب الفديو، إذ تتطور قدرات الأبطال بسرعة فائقة، ويتسارع منحنى تعلم القابليات بمرور الوقت وازدياد التجربة. ولأن المعارك تحدث في الواقع الافتراضي أو على الصعيد العقلي فقط ... فان كل شيء يصبح ممكنا تماماً. لكن هناك ثمن باهظ يجب أن يُدفع في هذه المعارك ... عندما نموت في المعركة، لاتوجد هناك فرصة ثانية او حياة اضافية كما في ألعاب الفديو. ان الموت "السيبري" يعني بالضرورة الموت الجسدي والواقعي أيضاً، لذا فان هذه المعارك مهمة جدا وحاسمة، ولا يمكن الاستخفاف بها في السياق السردي والفني ... وهذا يذكرنا بالهند القديمة، عندما كان يخسر أحد المتناظرين في موضوع ما او مسألة جدلية، كان عليه ان يصبح عبدا للمتناظر الفائز او يُقتل ... وربما نحتاج لمثل هذه "العقوبات" في وقتنا الحاضر، لكبح جماح المتناظرين والمتحدثين المجانيين في كل مجال وحقل. وبالطبع، فانه من الناحية الفنية البحتة، لا يمكن تجاهل مشاهد المعارك والفنون القتالية الفذّة في هذه السلسلة من الافلام، وتصويرها الرائع والمتفوّق، او النظر اليها باستخفاف وعرضية. انها إحدى المعالم البارزة في الفن السينمائي المعاصر عامة، والملايين من المشاهدين في العالم أسرى لهذه المشاهد المذهلة، ولا يريدون البحث او الخوض في باقي عناصر ومكونات الفلم. ان ما يسمى بـ "التأثير او المؤثر الآسيوي" في هوليوود، ويقصد به تسلل الفنون القتالية الشرقية والممثلين والمخرجين الآسيويين، يتجلّى في أبهى صوره في سلسلة أفلام الـ ماتريكس، إذ تمكن صنّاع الفلم من دمج الفنون القتالية الشرقية، وعناصر عديدة من سينما الأكشن من هونغ كونغ، بسلاسة وجمالية عالية في فلم ذي طابع غربي تماما، بفضل الاستعانة بأفضل المواهب والخبرات الآسيوية في هذا المجال.
رموز واشارات أسطورية و"دينية"!
في الفلم ايضا، هناك إسقاطات وأبعاد روحية وأسطورية من مصادر متعددة؛ إذ ان الثوار يؤمنون بوجود "مخلِّص" يبحثون عنه باستمرار، بالأحرى يبحثون عن عقله داخل برنامج الـ Matrix ، وهم مؤمنون بأن عقله المتفوّق وبمساعدة تقنياتهم المتقدمة وتضامنهم، سيكون أقوى من أنظمة وآلات الذكاء الاصطناعي، وانهم سوف ينتصرون في المواجهة الأخيرة مع حراس وجنود الـ Matrix ، لتبدأ عملية التحرير العقلي والجسدي للمحتجزين في خلايا توليد الطاقة. وإذا كان البطل في رواية 1984 ينهار ويفشل في النهاية، ويستسلم إلى الدكتاتورية الممثلة بالأخ الأكبر، فان المنطلقات "الإيمانية" بحتمية انتصار العقل الإنساني على أي شكل من أشكال الذكاء الاصطناعي في سلسلة افلام الـ ماتريكس، تؤدي إلى إمكانية الانتصار فعلا برغم كل التضحيات الكبيرة وذات الطابع الشخصي أيضا بالنسبة لأبطال السلسلة. كما يجب ان لا ننسى الرموز الواضحة جدا في الفلم : فالبطل أسمه (نيو)، هو الإنسان الجديد، وهو رمز مسيحاني واضح. كما ان الفتاة التي تحبه اسمها ( ترينيتي او الثالوث الأقدس)، وهي رمز للحب الإلهي الذي يقيم البطل من الموت في ساحة المعركة. أما زعيم الثوار الذي لعب دوره الممثل المبدع "لورنس فيشبورن"، فانه يحمل اسم شخصية أسطورية هي "مورفيوس"، إله الأحلام عند الإغريق، الذي يبحث عن العقول ويتحرش بها أثناء النوم، ليزرع فيها بذرة الشك والتمرد والوعي. ولا يكتفي صنّاع الفلم بهذه المجموعة من الرموز والاسقاطات المشتقة من الكتاب المقدس والحضارة الاغريقية، إذ يطلقون اسم الملك البابلي الشهير "نبوخذ نصّر" على سفينة الأبطال الهوائية، ربما لمعادلة التأثير الناتج عن إطلاق اسم "صهيون" – وهو رمز ديني يهودي/مسيحي واضح – على المدينة الأخيرة التي يسكنها البشر، من كافة الأعراق، في باطن الأرض. ان الاسم الأخير أثار الكثير من المشاكل أمام إمكانية عرض هذه الأفلام في بعض البلدان العربية وخصوصاً في مصر، لكن الفلم اخترق كل الرقابات ونجح بشكل خيالي في كل مكان، وفي مختلف الوسائط ومنصات العرض. وفي الترجمة العربية تحوّل اسم صهيون الى "زيون" كما يلفظ بالانكليزية، للتخلص من اعتراضات الرقابة الضيقة النظر ... وقد نجحت هذه "الحيلة" حتى في تلفزيون الشباب (العراقي) – الذي كان يملكه عدي صدام حسين في أيام النظام العراقي السابق. ونقدياً، ربما يمكن اعتبار لجوء صنّاع الفلم الى هذه الرموز "المباشرة" و"التقليدية" كنوع من ضيق الأفق وضيق الخيال أيضا، بينما هم يبحثون في موضوع مستقبلي وثوري، هو "الصراع" الأزلي بين الانسان والآلة. كما ان الاستخدام المتكرر والمكثف لهذه الرموز والاشارات، ربما يبعث رسالة "تقليدية" خاطئة للمشاهدين، وخصوصا في الفلم الأول من السلسلة. لكنهم يعالجون مشكلة "الشطح" الرمزي والروحي هذه في الافلام اللاحقة، كي تستعيد الفكرة الآساسية الوحدة والتماسك والانسجام في إطارها الحداثوي والعلمي والانساني المحض.
لكنْ ... منْ هو "نيو"؟
وهنا لا بد من بعض التفسير الضروري للوصول الى فهم أكثر دقة ومعقولية لفكرة الفلم وأحداثه : ان الشذوذ Anomaly في أي نظام دقيق ومتقن هو إحصائي بطبيعته، بمعنى ان واحد زائد واحد يساوي اثنان في معظم الحالات، أي انها حقيقة إحصائية وليست حقيقة مطلقة – لا نتحدث هنا عن نسبية الحقيقة. لكن الشذوذ غير ظاهر او غير محسوس تقريبا على هذا المستوى. لكن لنفكر بالعمليات التي تحدث على مستوى الذرة ونواتها ... هناك أشياء تبدو مستحيلة الحدوث، مثل : هروب بعض الجسيمات الأساسية الدقيقة من النواة، مرور الالكترونات (السالبة الشحنة) عبر النواة (الموجبة الشحنة) في مدارات شبه مستحيلة طاقياً. ان مثل هذه الحالات قد تحصل مرة واحدة في عشرات الملايين من المرات ... لكن في هذه المستويات الدقيقة جدا، فان مثل هذه الاحتمالات الضئيلة تصبح مهمة جدا Significant .إذن ... "نيو" ليس المسيح او المهدي المنتظر، او البطل الشعري او الرومانسي، او البطل الاسطوري او الشعبي.... بالأحرى، انه "الشذوذ" الملازم لأي نظام دقيق، محكم، ومتقن. انه الشذوذ الاحصائي الذي يخرق النظام العام، وربما يؤدي الى القضاء عليه، وبهذا المعنى فان "نيو" هو الوحيد او الواحد في أي نظام، لكنه ليس الأول او الأخير. إذ ان كل نظام يحاول التخلّص من هذا الشذوذ المصاحب - او استيعابه على الأقل، وبالتالي فهو يبحث عنه بجدية واخلاص. ان "العرّافة" و"المعماري" و"صانع المفاتيح" والآخرين، هم برامج من صنع النظام – وقد يبدو انهم يتخذون مواقف قد تبدو متعارضة او متصارعة – من أجل الوصول الى "الشذوذ" المهدد لكمال النظام. وبالطبع، فان "المعماري" ... هو البرنامج الأكبر، والأساسي، الذي يبحث عن الشذوذ الذي نعرفه باسم "نيو"، وهو الذي يبني الطبعات المختلفة من برنامج الماتريكس الضخم، انه بمثابة "الخالق" هنا.
وعندما ينجح أي نظام في تدمير الشذوذ الملازم له، أي ينجح في ترقية نفسه، فانه يفتح الفرصة لولادة شذوذ جديد Neo Anomaly . وفي سلسلة أفلام الماتريكس، يقتنع النظام "الآلاتي" والشذوذ "الانساني" في النهاية بعقد هدنة، للقضاء على برنامج التدمير "العدمي" الشامل المسمى "سميث" : الذي يستنسخ نفسه الى ما لا نهاية ويسيطر على كل البرامج والعقول الأخرى، سميث ... الذي يبغي تدمير كل شيء، البشر والآلات أيضا. "سميث" ... الذي هو إرادة صافية وفاعلة للتدمير الشامل والعام. وفي النهاية، بعد المعارك الدموية الملحمية، نحصل على حلّ توافقي او تصالحي، ولا بد من تعايش البشر والآلات الذكية ... إذ لا أحد يتصوّر امكانات أخرى او نهايات اخرى لهذا الصراع او لهذه العلاقة "المعقدة" بين البشر والآلات. مخرجون مبدعون آخرون بحثوا في هذا الموضوع، ستانلي كوبريك في "أوذيسة الفضاء"، ستيفن سبيلبرغ في فلمه "المشترك" مع كوبريك، "الذكاء الاصطناعي"، ريدلي سكوت في فلمه "الراكض على حدّ النصل" ... وآخرون تافهون أيضاً. لكن ثلاثية الـ ماتريكس، كانت أكثر مباشرة واقترابا من عقلية وأذواق الجماهير في تناولها لهذا الموضوع، بالاستفادة من التراث والانجاز السينمائي السابق والراهن برمته، للوصول الى تحفة فنية، ممتعة معرفياً.
 Posted by Picasa

٢٢‏/٠٩‏/٢٠٠٦

;كليزار أنور:
القصة الناجحة لا يعرف فيها الواقع من الخيال


محمد القذافي
ليبيا


ولدت الكاتبة العراقية كليزار أنور عزيز عام 1965، وهي كردية الأصل .. موصلية النشأة. بدأت الكتابة والنشر عام 1995، وقد صدر لها "بئر البنفسج " مجموعة قصصية/ 1999 عن دار الشؤون الثقافية/ بغداد، و" عجلة النار " رواية/ 2003 عن دار الشؤون الثقافية/ بغداد، و "عنقود الكهرمان" مجموعة قصصية/2006 عن دار الشؤون الثقافية العامة/بغداد. ولها عدة مخطوطات قصصية وروائية تنتظر من يخرجها الى النور ....

تأخر مفيد

* يبدو لي ان بدايتك جاءت متأخرة بعض الشيء..لهذا تدفق نهر السرد لديك بقوة كي يصل إلى الأراضي الجافة ويرويها فبدت أعمالك شجيرات مزهرة متوزعة مكانيا وإنسانيا... يستطيع المتلقي تلمس وجودها أينما وجدت.

- نعم .. لأني لم أُفكر ذات يوم أن أكون قاصة.. كنتُ قارئة جيدة .. ومتابعة للحركة الثقافية.. هذه القراءة والمتابعة الجادة خدمتني في تراكم بعض هذا الخزين المعرفي في داخلي.. وعندما كتبت اتخذ هذا الحزين شكل القصة وتدفق علي الورق سرداً هادئاً، فنمت قصصاً أخذت لها حيزاً في الوجود وُُثبت اسمي بمسمار قوي على جدار السرد القصصي العراقي.

* هذا التأخر ان صحت تسميته هكذا.. هل جعلك تكتفين بقراءاتك الإبداعية والنقدية ..؟

- ولكوني قارئة جيدة، فقد قرأت عناوين ممتازة ولأني أُعجبت بها .. لا إرادياً وجدتُ نفسي أكتب عنها بكل حب وإعجاب، وأنا لا أعتبرها دراسات نقدية، وإنما هي نقد انطباعي، إنها - مجرد - قراءات .. هدفي منها خدمة القارئ لتكون بين يديه. وأكثر من مرة وصلتني ايميلات من القراء يقولون لي فيها .. كتابتي عن هذه الرواية أو تلك المجموعة جعلهم يبحثون عنها لقراءتها.

دور التراث

* ماذا أخذت من التراث ؟

- التراث.. هو الأرض التي مددنا جذورنا في أعماقها، وبدون أرض وبدون جذور لن تصمد أشجارنا علي الورق.
* هل استطعت الإفصاح عما تريدين قوله أيام النظام السابق دون الاصطدام بالرقابة وقمع أجهزة السلطة ...؟

- الكاتب الذكي يستطيع أن يقول كل شيء بمجرد اللجوء إلى "الرمز" .. ولستُ وحدي مَن فعل هذا .. أغلبنا لجأ إلي الرمز لإيصال ما يريد أن يقوله.

* المرأة في العالم العربي ... أليست مساهمة فيما تعيش من حالة تهميش وقهر....؟

- بالتأكيد لها بعض الدور في التهميش.. وإن لم تنقذ نفسها من هذا الغرق الذي وجدت نفسها ــ وأوجدها مجتمعها ــ فيه.

الواقع والنص

* بأي درجة من المفترض ان يكون الواقع منعكسا في النص؟

- لا يوجد قاص ذكي وحقيقي لا يعكس الواقع في أغلب نصوصه.. هو يوجد الصورة ويؤطّرها بالخيال لتكون قصة فنية متميزة.. أما الدرجة الافتراضية - برأيي - أن لا يعرف القارئ أين الواقع فيها من الخيال .. عندها سيكتب قصة ناجحة .. لن تموت !

ثورة ثقافية

* يقول عبدالله العروي إذا أردنا ان نعطي فعالية لعملنا الجماعي وإبداعية حقيقية لممارستنا السياسية والثقافية. فلا بد من ثورة ثقافية تعم المجتمع بجميع فئاته وتغلب المنهج الحديث في الصورة التي ظهر بها في بقعة معينة من العالم، لا في ثوب مستعار من الماضي ما رأيك أنت ؟

- يا أخي العزيز .. ما أن فتحنا عيوننا علي هذه الأرض حتي وجدنا الثورة تلو الثورة تعصف بطبيعة مجتمعنا العربي "القبلي" المتخلف. والإبداع.. عمل فردي بحت إن جازت التسمية .. وهذا يبدو بشكل واضح لكل متابع للحركة الثقافية .. وكل مبدع حقيقي يأخذ من تجربة الماضي دروساً تجعله يتجاوز كل الأخطاء نحو ما يراه مناسباً، فمَن يحلم بمستقبل ناجح عليه أن يأخذ بتجربة الماضي والحاضر أيضاً.

* ما الذي يدفعك للتحدي ؟

- سأرد عليك بحكمةٍ تقول: لا مجد بلا تحدي !

* كونك أنثى ...ماذا يعني لك ...او يضيف ...؟

- لم أتضايق يوماً من كوني أنثى .. لا أدري أنا راضية أن خلقني الله هكذا .. ودائماً أحاول جاهدة أن أكون أنثى حقيقية تعرف ما لها وما عليها. وأنا - بالأساس - أُؤمن بالإنسان "ذكراً كان أم أنثى" وما يترسخ في داخله من مبادئ وقيم وأخلاق .. وحتى إبداع !

[1] نشر في جريدة العرب العالمية بتاريخ 31/07/2006
 Posted by Picasa
مسارات الإبداع
محمد الأحمد
تُغلبني الفكرة دائماً، وتنثرني تعباً على موج المعنى، إذ تتلبسني تماما في كل خطوة، وكل شهقة او تنهدة. تطاردني عبر الاثير حيثما احل، اجدها امامي شاخصة، فارضة نفسها علي عنوة، كانها تتسلط علي أكثر من احتياجاتي الفسلجية. تتلبسني وكاني اريد ان اتحدث بها مع اي كان، وغالبا ما تجعلني متعبا بين كمٍّ من الكلمات التي انتظمت في الذهن، وتزاحمت مكتظة تريد النزول الى السطر، فثمة خيط واحد يجمعها؛ ما ان امسك برأسه واسحبه مرة واحدة، فكأن الافكار تريد الاندلاق مرة واحدة، فاعرف بانها اوشكت ان تنطلق على معان تحتويها، احسها تتفرع من باكثر من فرع، ككائن حي بعروق تنبض، وغالبا ما يجعلني أشعر بلذة نشية، خفية، تجتاحني. فاتمنى ساعتها ان احررها من مكمنها. تلك الكتابة بعد حين اعهدها متناثرة من فضاء الذهن، حيث تعند، تحرن، تريد ان تهطل دفق مطرها على يباب الورقة مسطرة على فضائها الأبيض، غيثها المسود لذلك المتناه؛ كغيمة ملبدة. ولكنها تشبه فرسا تعافر الارض بيمينها الرشيقة، قبل الانطلاق. تبغي التباهي برشاقتها، وسحرها. فأي ارض سوف تغير فوقها واي فراغ هذا الذي يتشعب كثيراً قبل أن امسكه، أو أفكر به بشكل نهائي لأجل أن اسطره من ذهني وخيالي وأخطه على الورقة، فما أن امسكه حتى أجدني قد أمسكت غيره و شبيهه إن لم يك قرينه. فالافكار متوالدة من الافكار ورحم الذهن يتسع أبدا للاحتضان حتى الولادة. لكنني أحس بنشوة من اقترب مناه. كلما وصلت إلى فكرة اقتربت من الفكرة التي فكرت، ولكني بعد أن اقرأ ما خططته يدي بقلمها، أحسني مرة أخرى قد تهت عما أريد قوله. تغلبني لأني أردت القول الفصل فيما يؤرقني، ورغم كل ذلك التلظي المهيب؛ أجدني باني ما استطعت أن أقول ما أردت أن أقوله، أحسني قد ابتعدت هنا في هذا المقطع المتعجل، و قد اسرفت الجهد والوقت في ذلك المقطع المبطئ. ولكني امشي حيث المعنى، الذي سيصل بي إلى تحقيق ذاتي. فكل خلاياي مستفزة، ومستنفرة؛ ولكن القول قد مسَّ وجيباً آخرا من غير ان يقول كل قوله، فقد فتح لي افقاً جديدا أخذني كموج بحر عات، أفقا فيه لذة نشيه تهطل بتتابع مكتسية لحما ودما، وقد وجدت فيه حلاوة اكتشاف آخر لم اك قد خططت به أو حلمت به. ترى هل لي ان أصل إلى ما بإمكاني الوصول إليه، بمثل ما وصل إليه الكتاب اللذين علموني كيفية الإعجاب بجملهم الذهبية التي ما زالت تبدو لي عصية على أن أجد فيها ثغرة أو أن أضف إليها إضافة ما.. كلما قرأتها وجدتها تأخذني إلى المعنى الآخر، وكأني اكتشف بأنها تشير إلى معان اشمل مما استطعت أن احصل عليه من قراءتي الأولى. أية أسرار يحملها النتاج العظيم، الذي قطع كل تلك المساحات، وعبر الأزمنة المتراكبة. دائما الاعمل الابداعي تتناقله اللغات، لايفرق بين لغة حية او لغة متية، بين لهجة محكية، اوعمومية، ولايعترف بجغرافيا محددة، يصل من الشرق او الغرب، وكانه مكتوب بلغة المكان الذي وصل اليه، وربما يحمل هويته، وعطره.. اي سحر يمتلك، واي خلود يلفه، كونه في كل مرة يتخذ معنى جديدا، ويكون حاضرا إلى أي عصر يقرأ فيه. انظر إليه بجلال مهيب، وهو يمسك بيدي قبل أن يمسك بخزيني الذهني، يصبح مسيطرا مدة طويلة لا يعبر عليها النسيان. يأخذني العمل الابداعي إلى الارتجاف من سطوته العفية، لا استطيع ان اتنكر له، ولأني قرأته احسسته جزء مني وكانه صوتي الذي لم يخرج بعد. يغمرني شعور من يدخل مكانا لم يسبق ان دخله، وعلى الرغم من ذلك يكون المكان ليس غريبا، ومعرفا بكل حيثياته على الرغم من كل الظروف. كمن أعطاني أفكارا جدية في الكتابة الناضجة، أعطاني كيفية التذوق، والاستدلال إلى خارطة الإبداع الحق. أكون قد وعيت أنني في زمن يجب أن تكون الإضافة فيه شاخصة، ويشار إليها لأننا في عام ازدحم فيه المبدعون، وتعددت فيه القنوات والمواقع، فلكل مثلي هاجس حقيقي يدفعه إلى ان يكون بصوت فريد جهور، فلكل الم صرخة، ولكل قلم فسحة فضية تجعله أن يأخذ بالقارئ الذي تزدحم أمامه الأصوات وتختلط الحروف بالمصالح والمطالح، فهو أما أن يبقى يقرا المعروض أمامه إلى النهاية، أو يبحث عن شيء يمسه في صميمه، فما عاد قراء اليوم يلتهمون المنشور من الفه الى يائه، فكل منهم في عالم التعددية الثقافية صار يبحث عمن يغني عن ليلياه. أو يكون ذلك الصوت جزء من صوته، بذلك المكتوب فيستدر التأيد، وتلك القضية شبيهة قضيته، وتغرز فيه؛ يكون الصوت مُعَبِرا أو مُعَبراً (تارة بكسر الباء، واخرى بفتحها) حسب غايات المخاطب والمخطوب، المعبر اليه، او المعبر عليه.. حيث ما من خطاب يحمل وجها واحدا، او معنى واحدا ينتهي عند الحالة المقصودة، فالأفكار النيرة تتوالد من قرائنها، او نقائضها، ويكون عطائها وفيرا بلا انتهاء.. فالبصمة هي البصمة، لانها تترك اثرها، فلن يهملها احد لانها قرينةُ واقعة، والصوت هو الصوت، لانه قرينةُ احتياج، فتتشكل قرائن الانسان المدونة مدلة عليه ومنها تشع الأفكار المتوالية، فالفاعل بفعله، والمعمول بعامله، والخالق بخلقه. فكم فكرة ولدت من فكرة، وكم إبداعا خلف إبداع، وغالبا ما يبقى مثلي غير راض عن نفسه لأنه متعامل مع إبداع حي متوالد، لا ينته.. فيرى نفسه قاصرا امام المبدعين، يرى نفسه معترفا بابداعهم، معترفا بصنعهم الراق، معترفا في مثابرتهم في اكتسابهم المعرفة، والتعبير عن وجوههم، ووجودهم، ورؤياهم. فلم يرض عن إبداعه لأنه يعطي حق الإبداع كاملا، ويرى بانه كان من الممكن ان يقدم الاداء الافضل، والافضل مبغياً في كل زمان ومكان.

‏10‏ أيلول‏، 2006
 Posted by Picasa