١٠‏/٠٩‏/٢٠٠٦

إلى أفروديت
.. قبل أن يكتمل المساء ـــ
عمر عنّاز




من فكرة الغيم كنّا نغزل المطرا


وننفض الدمع عن أحداقنا لنرى
كنا نفتش عن ظل لضحكتنا


خلف النهار وكان الوقت منكسرا
مبعثراً كان، مخموراً بأغنية


تلعثم الشوق في أوتارها فسرى
كانت لنا قرية أنفاسها ورق


في دفتر الماء تطفو حولهن قرى
ومثلما أدمع الفيروز كان لنا


حلم إذا الشمس ناغت ظله اعتذرا
فأين يا قارب النسيان سرت بنا


وكيف جرّحت صدر البحر فانهمرا
لولا تمهلت فالكأس التي بيدي


ماوشّلت خمرها أو لونها اعتكرا
والشاهدان شحوبي وارتعاش دمي


فلا تلم مدنفا بالعشق إن هذرا
فربما أنكر الإنسان أجمعه


ووحد الله في نهدين قد كفرا
أرجوك لا تبتعد.. قرّب خطاك ففي


قلبي غزال من الأشواق قد نفرا
وخل بيني وبيني كي أنازلني


وأصبح العمر قرباناً لمن هجرا
من عرّش الآس في ميناء أعينه


ومن لعشب التشهي في دماه عرى
فهو الذي بذر النعناع في شفتي


وحين ساءلته عن غرسه نكرا
عتباك.. من يجتني العناب إن كبرا


ومن سيلجم موج الروح إن هدرا؟
ومن سيبتكر الشطآن في نهر


تعثر الماء في جرفيه فانكسرا
بالله يا قارب النسيان كيف بمن


قد حشّدوا في سماه الدمع والكدرا
من أين يهرب؟ من أي الدروب وقد


تشعب الموت في عينيه وانشطرا
وأنكرته غصون طالما افترعت


من را حتيه وصاغت ظلها صورا
فياله موجعاً حتى أنامله


خانته حين رمى سنّارة الشعرا
فما تصيد إلا لهفة عبثت


بها الهواجس حين اشابكت زمرا
وحين دارت به الأفلاك دورتها


وأنبت الغيم في أعتابه المطرا
تأبط الحلم المخضر جانبه


وسار من خلفه العشاق والفقرا
 Posted by Picasa
الذاكرة المائية
وأسطرة المكان
د.محمد صابر عبيد
تحظى الذاكرة بأهمية قصوى في المتن الشعري إذ هي تمظهر جدلي نوعي وخاص، وتؤسس الذاكرة لعلاقتها بالزمن أرضية فريدة تتحايل فيها على آليات الترتيب وتقانات السياق وتتمخض عن مستقبل خاص بها .‏
وإذا ما أدركنا بأن الزمن في حقيقته عاطفي، فإن تقلبات الوجدان تقود على فهم جديد للذاكرة الشعرية يعاينها بوصفها بنية منزاحة، يستجيب تشكلها للضغوطات الإجرائية القادمة من فعل الكتابة.‏
إن تنصيص الذاكرة وتحويلها إلى فعل كتابي نصي يتم عبر استخدام فضاء الذاكرة بوصفها جسرا للوصول إلى الحساسية النصية للكلمة، اعتمادا على طاقة التماهي النصي فيها وبفضل زخم مرجعيتها الوجودية التي تمول إشكالية التنصيص باحتمالات المعنى .‏
إن التذكر الاستعادي للشئ المعزز بقصدية حالية –فنية وجمالية- يعني بالضرورة تجسيمه على النحو الذي يمكن فيه معاينته بصريا، وتشكيله علاميا، من خلال إشكالية التحول اللاشعوري من ذاكرة النص إلى تنصيص الذاكرة، واستثمار الأبعاد الزمنية المركبة للذاكرة انطلاقاً من قاعدة الماضي مرورا بالراهن الملتبس واتصالا بالمستقبل‏
ولعل هذه الخاصية المركبة لفاعلية الذاكرة في الزمن أو الزمن في الذاكرة تضعها في أكثر مناطق العقل الإبداعي توترا وخصبا ، لذا فإن الذاكرة المنصصة شعريا هي أداة الشعر (( لأن الخيال نفسه إنما هو تمرين للذاكرة وبالتالي ثمرة من ثمراتها، إذ لا يمكن أن نتخيل شيئا لم يسبق لنا معرفته، فقدرتنا على التخيل هي القدرة على تذكر تجاربنا السابقة وتطبيقها على حالات جديدة ))- حسب ستيفن سبندر – ولاشك في أن التفاعل بين القدرة والتخيل والقدرة على التذكر والاستعادة، تخضع في إنجاز فعالياتها لطبيعة وكيفية المساحة النصية التي ستشغلها المادة المستعادة، وحجم التحويل الذي سيحصل لها جراء الفعل الكتابي وهو يصل أقصى مدياته وأكثرها كثافة وتوترا وتركيزا في الشعر‏
بدر شاكر السياب شاعر ذاكرة بامتياز، فهو يعيش حياته الشعرية المزحومة بألوان التجربة الروحية في منزل الذاكرة، لايغادر أبدا إلا إلى الضفاف والتخوم والحواشي التي تغذي المنزل بالذكريات وتمونه بمزيد من صور الماضي وحالاته، في السبيل إلى مضاعفة الحساسية الذاكراتية وإحلالها بديلا لحساسية الراهن وحلم المستقبل .‏
سعى السياب عبر معظم قصائده الذاكراتية إلى ترهين الذاكرة وتعميدها بألم الراهن وانكساراته وهزائمه وخيباته، وركز عميقا على عاطفية الزمن وحولها إلى آلة شحن الأمكنة بطاقة تزمين وجدانية هائلة قرّبتها كثيرا من الأسطرة، إذ إن المنطلقات المركزية التي تنبثق منها أعمال الذاكرة غالبا ماتكون مكانية، بحيث تكونت لديه ذاكرة شعرية مكانية مزمنّة ومؤسطرة وماثلة تماما في حضرة الشعر .‏
الماء يرتبط جوهريا وجدليا بالمكان-وعلى نحو ما بالزمن أيضاً-، وهو عنصر حيوي وفعّال في ذاكرة السياب يمتد إلى أبعد نقطة عفوية في الجذور الأسطورية والدينية والشعبية والجمالية، وينهل منها قوى شعرية تثري ذاكرته النصية بالطاقة والحيوية والتجربة، فيكتظ نصّه الذاكراتي بلغة وحشية جارحة مخضلة بالماء وموحية به أبداً.‏
إذن الذاكرة الشعرية السيابية ذاكرة مائية في المقام الأول، وحيوية هذه الذاكرة تتأتى من حيوية عنصر الماء في الوجود فهو قرين الحياة وسببها ومبرر استمرارها، وإذا كان شعر كل الشعراء في العالم لابدّ وأن يحفل –على نحو أو آخر-بصور الماء ومراياه وحساسياته، فإن ذاكرة السياب ذاكرة مائية حافلة بصور الماء، ومبتهجة بمراياه، وغارقة في انعكاساته، ومتماهية مع عمق تاريخيته في الذاكرة البشرية وتجلياتها الإبداعية.‏
تكتسب قصيدته ((أنشودة المطر)) الحضور الأوسع والأكثر قوّة في تجلي الذاكرة المائية وتفعيلها شعرياً، إذ هي –ومنذ عتبة عنوانها- تشتغل على تحويل الأنموذج المائي الأثير لدى السياب ((المطر)) الهابط من الأعلى إلى الأسفل، والمقترن عنده بالغسل والتطهير، إلى ((أنشودة)) حاضرة في صداها الإيقاعي وماكثة في الضمير والوجدان واللسان.‏
تحفر ((أنشودة المطر)) في بئر الذاكرة المعلّقة في سماء المخيلة فتتدفق أشكالاً مائية متعددة:‏
في كل قطرة من المطر‏
حمراء أو صفراء من أجنّة الزهر‏
وكل دمعة من الجياع والعراة‏
وكل قطرة تراق من دم العبيد‏
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد‏
أو حلمة تورّدت على فم الوليد‏
في عالم الغد الفتيّ واهب الحياة‏
مطر‏
مطر‏
مطر‏
سيعشب العراق بالمطر‏
تبدأ بالأنموذج المائي المطري في أصغر وحداته ((قطرة من المطر))، وتستمر كذلك بالأنموذح المائي الدمعي في أصغر وحداته ((كل دمعة/ (صفراء)/))، وتنتهي في سياق عنفي وتوتري تصاعدي بالأنموذج المائي الدموي في أصغر وحداته ((كل قطرة/ من دم/ (حمراء)/))، لتشكل بدلالة مصادرها الممولة ((أجنة الزهر/ الجياع والعراة/ العبيد)) فاتحة لأفق حيوي آخر تتفاعل فيه النماذج المائية ((الماء/الدمع/ الدم)) تفاعلاً أسطورياً، لاستيلاد رمز جديد تبدأ به الحياة بداية جديدة ((ابتسام /في انتظار/ مبسم جديد)) تختصر وتختزل وتكثّف وتحوّل ((الماء/ الدمع/ الدم) إلى ((حليب)) في ((حلمة توردت على فم الوليد))، حيث تنجح الذاكرة المائية في تشكيلها المائي الجدلي والمؤسطر بتموين حلم المستقبل ((عالم الغد الفتيّ)) بالرمز المكتظ بصورة الماء وإيحائه ((واهب الحياة))، الذي مايلبث أن يتقاطر عمودياً بغزارة إيقاعية- صوتية وبصرية لافتة((مطر/مطر/مطر))، منتشراً على مساحة تجربة المكان الحيوية ((العراق)) الذي ((سيعشب)) بالماء المنهمر من بئر الذاكرة المائية بأقصى حلم التدفق ((المطر)).‏
وفي قصيدة ((رؤيا في عام 1956)) حيث تتمظهر عتبة العنوان تمظهراً موازياً ومقابلاً لصورة الذاكرة المائية، فإن الدلالات العميقة للنماذج المائية تترمز على النحو الذي يستجيب لفضاء العنونة ((رؤيا)) وتجلياته:‏
ولفّني الظلام في المساء‏
فامتصت الدماء‏
صحراء نومي تنبت الزهر‏
فإنما الدماء‏
توائم المطر‏
فالدالان الفعليان الموحيان بالماء ((امتصت/ تنبت))، والدال الاسمي الموحي بالماء ((الزهر))/ والدال الاسمي المضاد للماء ((صحراء))، والأنموذج المائي-الدموي-الغزير في شعر السياب ((الدماء))، تتفاعل في المرحلة الأولى من مراحل صيرورة التشكّل الشعري للـ((رؤيا)) في السبيل إلى إنتاج المضمون الريوي القائم على هذه المعادلة المائية:‏
الدماء=(توائم)=المطر‏
وهو ما يبرر انفتاح الذاكرة المائية السيابية على نماذج يتلوّن فيها شكل الماء، المائي/ الماء، والأصفر/ الدمعي، والأحمر/ الدم، كما تمّت الإشارة المباشرة إلى ذلك في قصيدة ((أنشودة المطر)).‏
وغالباً مايكون الماء الأحمر ((الدم)) ذو الحضور الوحشي في ذاكرته المائية إشارة للمخاض العسير الذي يحقق الولادة المنتظرة كما في قصيدة ((سروبوس في بابل))‏
سيولد الضياء‏
من رحم ينزّ بالدماء‏
إذ يتمخض فعل الألم ((ينزّ))-بحساسيته الإيقاعية الموجعة من إشكالية المكان المنغلق على سرّه الداخلي، والمفتوح على مشهد الحياة في حضور تشكيلي واحد ((رحم))-عن شكل الماء الأحمر ((الدماء))، الذي يرتفع إلى أعلى –إلى السماء- ((سيولد الضياء)) في الاتجاه المعاكس والمضاد لهطول المطر.‏
وتظل ذاكرة السياب الشعرية((المائية)) تغذّي التشكلات الشعرية بألوان الماء المتعددة، إلا أن اللون الأصفر الذي صرحت به ((أنشودة المطر)) للدلالة على ((الدمع)) يتمظهر تمظهراً آخر في قصيدة ((حفار القبور))، لينتج إشارة أخرى إلى أنموذج مائي له حضوره الحلمي والمخلّص الكثيف في الكثير من قصائده:‏
ويظل حفار القبور ينأى عن القبر الجديد‏
متعثر الخطوات يحلم باللقاء وبالخمور‏
حيث يتكشف (حلم) حفار القبور المعادل عن صورة ((اللقاء+الماء الأصفر/الخمور)) بوصفه معادلاً نفسياً وشكلياً ووجودياً عن (واقع) نأيه ((عن القبر الجديد)).‏
ففاعلية((الماء الأصفر/ الخمور)) تشتغل في منطقة الحياة المقابلة لمنطقة الموت ((الموت الجديد))، وفي حركة ((حفار القبور))-من صورة الخمود والهدوء في التراب ((القبر)) إلى الاشتعال والانطلاق والتماهي والنسيان في الماء ((الخمور)).‏
وفي قصيدته الإشكالية الجدلية((النهر والموت)) تنهض ذاكرة السياب المائية بعبء الموازنة الأسطورية بين الدال المائي ((النهر))- وهو يفترض نقيضاً وجودياً يمكن أن يتمثل بدال ((الحياة))-على النحو الذي يتمظهر فيه الدال ونقيضه في طرفي معادلة عتبة العنوان.‏
تتعلق الذاكرة المائية في هذه القصيدة في بؤرة حركة الأنا الشاعرة:‏
أودّ لو غرقت فيك،‏
ألقط المحار‏
أشيد منه دار‏
يضيء فيها خضرة المياه والشجر‏
ما تنضج النجوم والقمر‏
وأغتدي فيك مع الجزر‏
إلى البحر‏
وتدفع بآلتها الفعلية والحلمية ((أودّ)) إلى فضاء فعلي متّجه إلى الآخر المحاور ((النهر)) مغمور حتى الموت بالماء ((لو/ غرقت، لتعوّض تحت سطحه –داخل الماء- حياة جديدة بالحياة التي هي قرين ((الموت)) خارج الماء، تأخذ منها منظومة الأفعال حريتها وحيويتها وانطلاقها وحياتها ((ألقط/ أشيد/ يضيء/ تنضح/ أغتدي))، وهي تتفاعل وتتضافر وتمتزج وتتماهى مع دوال الطبيعة المشبعة بصور الماء وتجلياته ((المحار/ دار/خضرة/المياه/ الشجر/ النجوم/ القمر/ الجزر/البحر))، لتحقق للمعادلة الشعرية المنفتحة على طول الحياة وعرضها ((النهر /الموت)) موازنتها المطلوبة من طرف الذاكرة المائية في تشكيلها الشعري الإشكالي والجدلي المؤسطر.‏
إلا أن الذاكرة السيابية المائية واستناداً إلى معطياتها الإشكالية والجدلية والمؤسطرة تحفظ للمتن السيابي خلوده، بفعل حساسية الجدل الأسطوري العميق في الطبقات الداخلية القصوى لهذه الذاكرة، إذ إنها ذاكرة مائية تنضح بأنواع المياه وألوانها وتجلياتها وإيحاءاتها وعلاماتها، لكنها ما تلبث أن ترتد إلى حقيقة جافة مفرغة تماماً من الماء:‏
لم أقرأ الكتب الضخام‏
وشافعي ظمأ وجوع‏
في تمثيل إشكالي سيميائي لتجربة شعرية ثرة توازن موازنة رمزية هائلة في تداخلها وتخارجها، وضوحها وإبهامها، علنها وسرها، صوتها وصداها، بين الماء واليباس، الخصب والجدب، الارتواء والظمأ، الحياة والموت.‏
 Posted by Picasa
كلمة نجيب محفوظ أمام لجنة نوبل


سيداتي، سادتي‏
في البدء أشكر الأكاديمية السويدية ولجنة نوبل التابعة لها على التفاتها ا لكريم لاجتهادي المثابر الطويل وأرجو أن تتقبلوا بسعة صدر حديثي إليكم بلغة غير معروفة لدى الكثيرين منكم، ولكنها هي الفائز الحقيقي بالجائزة فمن الواجب أن تسبح أنغامها في واحتكم الحضارية لأول مرة، وإني كبير الأمل ألا تكون المرة الأخيرة وأن يسعد الأدباء من قومي بالجلوس بكل جدارة بين أدبائكم العالميين الذين نشروا أريج البهجة والحكمة في دنيانا المليئة بالشجن.‏
سادتي:‏
أخبرني مندوب جريدة أجنبية في القاهرة بأن لحظة إعلان اسمي مقروناً بالجائزة ساد الصمت وتساءل كثيرون عمن أكون –فاسمحوا لي أن أقدم لكم نفسي بالموضوعية التي تتيحها الطبيعة البشرية. أنا ابن حضارتين تزوجتا في عصر من عصور التاريخ زواجاً موفقاً، أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة وهي الحضارة الفرعونية، وثانيتهما عمرها ألف وأربعمائة سنة وهي الحضارة الإسلامية ولعلي لست في حاجة إلى تعريف بأي من الحضارتين لأحد منكم، وأنتم من أهل الصفوة والعلم، ولكن لا بأس من التذكير ونحن في مقام النجوى والتعارف.‏
وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات وبناء الإمبراطوريات فقد أصبح ذلك من المفاخر البالية التي لا ترتاح لذكرها الضمائر الحديثة والحمد لله. ولن أتحدث عن اهتدائها لأول مرة إلى الله سبحانه وتعالى وكشفها عن فجر الضمير البشري. فلذلك مجال طويل فضلاً عن أنه لا يوجد بينكم من لم يلم بسيرة الملك النبي أخناتون. بل لن أتحدث عن إنجازاتها في الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة الأهرام وأبو الهول والكرنك، فمن لم يسعده الحظ بمشاهدة تلك الآثار فقد قرأ عنها وتأمل صورها. دعوني أقدمها –الحضارة الفرعونية- بما يشبه القصة طالما أن الظروف الخاصة بي قضت بأن أكون قصاصاً، فتفضلوا بسماع هذه الواقعة التاريخية المسجلة. تقول أوراق البردى أن أحد الفراعنة قد نما إليه أن علاقة آثمة نشأت بين بعض نساء الحريم وبعض رجال الحاشية. وكان المتوقع أن يجهز على الجميع فلا يشذ في تصرفه عن مناخ زمانه. ولكنه دعا إلى حضرته نخبة من رجال القانون.‏
وطالبهم بالتحقيق فيما نما على علمه، وقال لهم أنه يريد الحقيقة ليحكم بالعدل. ذلك السلوك في رأيي أعظم من بناء امبراطورية وتشييد الأهرامات وأدل على تفوق الحضارة من أي أبهة أو ثراء. وقد زالت الامبراطورية وأمست خبراً من أخبار الماضي. وسوف تتلاشى الأهرام ذات يوم ولكن الحقيقة والعدل سيبقيان مادام في البشرية عقل يتطلع أو ضمير ينبض. وعن الحضارة الإسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية في رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة والتسامح، ولا عن عظمة رسولها. فمن مفكريكم من كرمه كأعظم رجل في تاريخ البشرية. ولا عن فتوحاتها التي غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية مابين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا. ولا عن المآخاة التي تحققت في حضنها بين الأديان والعناصر في تسامح لم تعرفه الإنسانية من قبل ولا من بعد. ولكني سأقدمها في موقف درامي –مؤثر- يلخص سمة من أبرز سماتها. ففي إحدى معاركها الظافرة مع الدولة البيزنطية ردت الأسرى في مقابل عدد من كتب الفلسفة والطب والرياضة من التراث الإغريقي العتيد. وهي شهادة قيمة للروح الإنساني في طموحه إلى العلم والمعرفة. رغم أن الطالب يعتنق ديناً سماوياً والمطلوب ثمرة حضارة وثنية.‏
قدر لي يا سادة أن أولد في حضن هاتين الحضارتين وأن أرضع لبنيهما وأتغذى على أدبهما وفنونهما. ثم ارتويت من رحيق ثقافتكم الثرية الفاتنة. ومن وحي ذلك كله بالإضافة إلى شجوني الخاصة –ندت عني كلمات. أسعدها الحظ باستحقاق تقدير أكاديميتكم الموقرة فتوجت اجتهادي بجائزة نوبل الكبرى. فالشكر أقدمه لها باسمى وباسم البناة العظام الراحلين من مؤسسي الحضارتين.‏
.. سادتي.‏
لعلكم تتساءلون : هذا الرجل القادم من العالم الثالث كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص.‏
وهو تساؤل في محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام في آسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون في أفريقيا من المجاعة. وهناك في جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قضى عليهم بالنبذ والحرمان من أي من حقوق الإنسان في عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر. وفي الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم. هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به. فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة –رجالاً ونساء وشباباً وأطفالاً –تكسيراً للعظام وقتلاً بالرصاص وهدماً للمنازل وتعذيباً في السجون والمعتقلات. ومن حولهم مائة وخمسون مليوناً من العرب. يتابعون ما يحدث بغضب وأسى مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين في السلام الشامل العادل. أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصاً؟.. ولكن من حسن الحظ إن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء فإنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره.‏
وفي هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتلاشى أنات البشر في الفراغ لاشك أن الإنسانية قد بلغت على الأقل سن الرشد. وزماننا يبشر بالوفاق بين العمالقة ويتصدى العقل للقضاء على جميع عوامل الفناء والخراب وكما ينشط العلماء لتطهير البيئة من التلوث الصناعي فعلى المثقفين أن ينشطوا لتطهير البشرية من التلوث الأخلاقي. فمن حقنا وواجبنا أن نطالب القادة الكبار في دول الحضارة كما نطالب رجال اقتصادها بوثبة حقيقية تضعهم في بؤرة العصر. قديماً كان كل قائد يعمل لخير أمته. وحدها معتبراً بقية الأمم خصوماً أو مواقع للاستغلال. دونما أي اكتراث لقيمة غير قيمة التفوق والمجد الذاتي. وفي سبيل ذلك أهدرت أخلاق ومبادئ وقيم. وبرزت وسائل غير لائقة. وأزهقت أرواح لا تحصى. فكان الكذب والمكر والغدر والقسوة من آيات الفطنة، ودلائل العظمة، اليوم يجب أن تتغير الرؤية من جذورها. اليوم يجب أن تقاس عظمة القائد المتحضر بمقدار شمول نظرته وشعوره لمسؤولية نحو البشرية جميعاً. وما العالم المتقدم والثالث إلا أسرة واحدة، يتحمل كل إنسان مسؤوليته نحوها بنسبة ما حصل من علم وحكمة وحضارة. ولعلي لا أتجاوز واجبي إذا قلت لهم باسم العالم الثالث: لا تكونوا متفرجين على مآسينا ولكن عليكم أن تلعبوا فيها دوراً نبيلاً يناسب أقداركم. إنكم من موقع تفوقكم مسؤولون عن أي انحراف يصيب أي نبات أو حيوان فضلاً عن الإنسان في أي ركن من أركان المعمورة. وقد ضقنا بالكلام وآن أوان العمل، آن الأوان لإلغاء عصر قطاع الطرق والمرابين. نحن في عصر القادة المسؤولين عن الكرة الأرضية. أنقذوا المستبعدين في الجنوب الأفريقي. أنقذوا الجائعين في أفريقيا. أنقذوا الفلسطينيين من الرصاص والعذاب بل أنقذوا الإسرائيليين من تلويث تراثهم الروحي العظيم. أنقذوا المديونين من قوانين الاقتصاد الجامدة. والفتوا أنظارهم إلى أن مسؤوليتهم عن البشر يجب أن تقدم عن التزامهم بقواعد علم لعل الزمن قد تجاوزه.‏
.. سادتي.‏
معذرة أشعر بأني كدرت شيئاً من صفوكم ولكن ماذا تتوقعون من قادم من العالم الثالث. أليس أن كل إناء بما فيه ينضح؟..‏
ثم أين تجد أنات البشر مكاناً تتردد فيه إذا لم تجده في واحتكم الحضارية التي غرسها مؤسسها العظيم لخدمة العلم والأدب. والقيم الإنسانية الرفيعة؟ وكما فعل ذات يوم برصد ثروته للخير والعلم طلباً للمغفرة فنحن –أبناء العالم الثالث-نطالب القادرين المتحضرين باحتذاء مثاله واستيعاب سلوكه ورؤيته.‏
.. سادتي:‏
رغم كل ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية لا أقول مع الفيلسوف كانت إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصراً كل يوم، بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير: وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال:‏
إن حزنا ساعة الموت أضعاف سرور ساعة الميلاد‏
سادتي..‏
أكرر الشكر وأسألكم العفو.‏
 Posted by Picasa