١١‏/٠٤‏/٢٠٠٦



mu29@hotmail.com

مجلة ثقافية

هوية ادباء ديالى


عبدالله الغذامي
بدأت المشكلة الأساس حين صاغ جمال الدين الافغاني مصطلح «المستبد العادل» علينا أن نكتفي بمجابهة ثقافتنا الماضية لأننا لا نزال نفتقر الى ثقافة حاضرة تطل على المستقبل
ابراهيم العريس




الدكتور عبدالله الغذامي واحد من أبرز المثقفين السعوديين والنقاد العرب. ارتبط اسمه في السعودية بالحداثة، حين كانت الحداثة محط هجوم العديد من الفئات والأطراف التي رأت فيها رجساً من عمل الشيطان. كان ذلك في الثمانينات حين ثارت معارك وخصومات أُهدرت فيها دماء وخُوّن مثقفون. بعد ذلك هدأ كل شيء. وبالتالي تحوّل عبدالله الغذامي من هدف للمتطرفين الى «مؤسسة» ثقافية. فإلى كتبه العديدة والبحوث التي نشرها في عدد كبير من الصحف والدوريات والشهريات العربية، والى عضويته في العديد من النوادي... وتدريسه النقد في كليات عديدة، يشارك الغذامي في معظم الندوات الفكرية والادبية التي تعقد في البلدان العربية، كما نال العديد من الجوائز وكُرّم غير مرة. ومع هذا يقول الغذامي، ان معركته لم تهدأ. وهي في الأساس معركة ضد التخلف والجهل. ولكن – بخاصة – معركة ضد ممارسات المثقفين العرب ولا سيما منهم أهل الحداثة الذين، اذ تنطحوا الى نقد كل شيء، سها عن بالهم الأمر الاساس وهو التساؤل: لصالح من يفعلون هذا؟ وما هو التقدم على الطريقة العربية؟ وما هو النقد الثقافي؟ وهل حقاً ان النخب على حق اكثر مما هي الجماهير على حق؟

انطلاقاً من مثل هذه الاسئلة، ومن رصد غاضب للراهن والماضي العربيين، بدأ الغذامي منذ سنوات يصوغ جملة من تعبيرات ثقافية تقوم اساساً على نقد فكر النخبة، انطلاقاً من أن هذه النخبة لم تكن – في نهاية الأمر – اكثر وعياً وارتباطاً بالضمير الواعي من الشعب نفسه. وفي سياق هذه الممارسة وضع الغذامي كتباً حول «الثقافة التلفزيونية»، كما كتب حكاية الحداثة في السعودية، وفصّل مفهومه للنقد الثقافي، وكل ذلك في ارتباط وثيق بمسائل مثل السلطة وعلاقة المثقف بذاته، وعلاقة الثقافة العربية بالشعر.

وحول هذه المواضيع حاورت «الحياة» عبدالله الغذامي في الرياض قبل أيام، ضمن سلسلة حواراتها التي تطرح اسئلتها الشائكة والراهنة على الواقع العربي من خلال محاورة بعض أبرز المفكرين العرب حيث سبق الغذامي على صفحات حوارات «الحياة» هذه كل من المفكرين: سمير أمين وجورج طرابيشي وبرهان غليون والظاهر لبيب وعلي اومليل ومحمد الرميحي ووجيه كوثراني وعبدالمنعم سعيد وابراهيم البلبهي وسعدالدين ابراهيم.

عبدالله الغذامي هو حالياً استاذ النقد والنظرية في قسم اللغة الادبية – كلية الآداب – جامعة الملك سعود. وهو من مواليد العام 1946 في عنيزة السعودية، حائز على الدكتوراه من جامعة اكستر البريطانية وهو من أسس بعد عودته قسم اللغة العربية ومجلة كلية الآداب في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة.

> على رغم أن اهتماماتك الأساسية تتناول نقد الثقافة والأدب في شكل عام، فإننا نعرف ان هذه الممارسة الفكرية لديك لا تنفصل عن النظرة الى أوضاع المجتمع العربي وتاريخه الفكري والسياسي في آن معاً. فهل لك ان تشخص لنا واقع المجتمع العربي وواقع الفكر في عالمنا العربي هذا، ولو من وجهة نظر الناقد الادبي وناقد الثقافة؟

- أنا لا أرى، طبعاً، أي انفصام بين الفكر والمجتمع ولا بين الابداع الثقافي والفكر الاجتماعي. لكنني لا أعتقد انني في اجابتي عن السؤال الاول هذا، سأخصّ بالحديث الفترة التي نعيشها. فأنا اعتقد ان الوضع العربي لا يزال على حاله من دون ان تطاله أية تغييرات نوعية جذرية منذ اكثر من مئة عام، أي طوال القرن العشرين. وأتحدث هنا عن سيرورته العامة، سواء كانت ثقافية او سياسية او اقتصادية. صحيح ان التجارب والمحن التي مررنا بها، بدءاً من مجيء الاستعمار وذهابه، وصولاً الى نشوء الدول الوطنية وانبعاث المد القومي في الستينات ثم الانتكاسة وحرب الخليج، أتت كلها أحداثاً ضخمة، ولكننا في كل مرة بدا وكأننا نعود الى الحال نفسها التي كنا عليها قبل حدوث ما حدث. المشكلة الاساس هي ان كل هذه الصدمات لم تعلمنا او تدفعنا الى السير في مسار مختلف. يبدو اننا قادرون دائماً على امتصاص الحدث بطريقة سلبية، ما يجعلنا عاجزين عن السير الى الأمام. وفي خلفية هذا كله ثمة مشكلة عويصة أنسبها الى النسق الثقافي. فالنسق الثقافي العربي لا يزال نسقاً واحداً أحادياً، بمعنى انه اذا كانت مرحلة الستينات قد تكلمت بلغة واحدة، فإن الامور استقرت لاحقاً، وعلى الشاكلة نفسها، على لغة اخرى لكنها بقيت واحدة أحادية... حتى وان بدت نقيضة للتي سبقتها. وبما ان ليس ثمة لدينا أي تجاوز للنقائض، ليس هناك أي امكانية لتعدد الاصوات مع ان التعدد موجود. فنحن نعيش في بيئة ثقافية هي بالضرورة متعددة كتركيبات عرقية ومذهبية وقطرية واقتصادية. التعدد موجود، أصلاً، لكن الإشكال الأساس يكمن في ان هذا التعدد لا يعبر عن نفسه على مستوى السطح السياسي او الاقتصادي. ولسنا نحن من ألغى هذا التعدد، ولسنا نحن بالطبع من يعبر عنه. ومن هنا نجدنا داخل إشكال عويص. فمثلاً لو نظرنا الى الهند أو بريطانيا او الى اوروبا عموماً، أي الى المناطق ذات انماط الحكم الديموقراطي، سنجدها بدورها متعددة، لكن لديها اساليب حضارية للتعبير عن تعددها، عثرت على صيغ ملائمة لهذا التعبير. اما نحن فإننا نعيش تعددية واقعية يعجز الواقع الثقافي او حتى السياسي عن التعبير عنها. وربما تكمن المعضلة الاولى في مفهومنا الثقافي الذي به نتصور قضية الوحدة...


وحدة ضد الاختلاف

> أي وحدة تقصد، الوحدة السياسية «المنشودة»، او الوحدة الثقافية أو الاجتماعية...؟

- انني اتحدث هنا عن الوحدة المطروحة سياسياً في شكل عام. فأنت حين تنظر الى الوحدة الثقافية الوطنية السياسية، والى وحدة الموقف من العدو، والى الموقف من الآخر، تجدها في اساسها نبيلة المقصد والمنبع. ومع هذا جرّت علينا الويلات، وذلك لأن الطريقة التي فهمنا بها هذه الوحدة كانت الغاء لكل اختلاف. من المحال في النظام الكوني الأزلي ان يكون الكل كتلة واحدة... الكون كتلة تقوم على التعدد. والتعدد يقوم على مجموعة من التناقضات والمتضادات والمتغيرات التي تدور في فلك يفضي بها الى حال من الدوران الفعال والبنّاء. أما نحن فإننا لو أخذنا، مثلاً، الوحدة النهضوية الناصرية التي «تحققت» في ستينات القرن العشرين، سنلاحظ ان اول خطوة خطاها الوحدويون كانت الغاء الاحزاب. ما يعني ان الوحدة في المنظور القومي هي في إلغاء كل حال تعدد وتنوع. وفي رأيي ان هذا ما ضرب الوحدة في صميمها ومنذ بدايتها، لأنها انما كانت وحدة تقوم على الغاء الآخر وازالة المختلف. صحيح ان في امكاننا ان نوافق الذين يقولون ان شخصية عبدالناصر كانت شخصية عملاقة. ولكن ليس من المنطقي ان يكون هو، وحده، من يعبر عنا. من هنا حين حاولت ان تكون كذلك حدث الانفصال، أولاً، ثم هزيمة 1967 بعد ذلك. وهذا ينطبق على وضع يتكرر هكذا على الدوام ولا يخص تجربة عبدالناصر وحده. انه أمر يرتبط عضوياً بالنسق الثقافي العربي الذي يجنح جنوحاً عاطفياً ووجدانياً الى فكرة ان لا حل لمشاكل الأمة الا بأن تتوحد. من هنا اهملت الاحتمالات الاخرى ما جر انتكاسات تلو أخرى. وأين الحال الآن: ثمة دول عربية عدة مشتتة، وداخل كل دولة ثمة انقسامات وانقسامات. فنحن لم نحقق الوحدة التي تجمع في بوتقة واحدة، ولا خلقنا تنوعاً ايجابياً، ما وضعنا في النهاية امام أكثر أنواع التنوع سلبية: التنوع المضاد لبعضه بعضاً. وحال العراق ماثلة أمامنا كنموذج مثالي. العراق انتقل من الوحدة الوطنية الى التفكك التام. نحتاج اليوم الى صياغة جديدة لمفهوم الوطن الواحد الذي يقوم على تنوع الأديان والمذاهب والأعراق والألوان. وهذا هو – في رأيي – المشكل الثقافي العربي الذي لا يخفى على المثقف العربي بالتأكيد. لكنه لا يخفى، كذلك، على السياسي العربي. وهنا مكمن الغرابة: ففي التجربة العربية دائماً ما يحدث ان نناقش سياسيين سابقين كانوا في مواقع المسؤولية وتركوها. ان لديهم الآن وعياً بالمعضلة يشبه كلياً الوعي الذي يسود نقاشنا، أنت وأنا، الآن. فما الذي منعهم من التصرف في شكل جيد وفاعل حين كانوا في المسؤولية؟ هنا يتدخل ما اسميه بـ «معضل النسق الثقافي». النسق الذي لا يزال فحولياً مستفحلاً، يعيد تجربة الفحل الشعري ولكن في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على طريقة «سي السيد» من ثلاثية نجيب محفوظ. وشخصية الأنا الشاعرة الفحولية عند المتنبي كما عند غيره... انها الشخصية التي تصر على ان تبقى مسيطرة. طبعاً أنا لا أدعو الى إلغائها، فهي حقيقة ثقافية واجتماعية، لكنني أدعو الى ان يكون لدينا «أنا»وات اخرى يكون لها وجودها الخاص. وما لم يتحقق هذا سنظل في كل مرة نعود الى حال تشبه الحال السابقة، في دوامة متواصلة.


نهضة ولكن...

> ومع هذا نعرف انه مرات عدة وخلال حقب متفرقة خلال القرن ونصف القرن الفائتين، وحتى زمن الانقلابات أواسط القرن العشرين، ظهرت ثقافة عربية دنت من السياسة وحاولت، على الاقل، عقلنة الثقافة العربية... فهل ترى انها ظلت محصورة في الحيز الثقافي النخبوي ولم تصل الى المجتمع لتحدث تبديلاً في أنساقه؟

- هي اولاً، وكما تقول، بقيت محصورة في الثقافة ولم تصل حقاً الى المجتمع، هي التي في الأساس وقعت في مأزق مصطلح لغوي خطير، انطلاقاً من الصيغة التي رسمها جمال الدين الافغاني لفكرة «المستبد العادل». انه مفهوم أحدث تخريباً عميقاً في افكار المثقفين الذين قبلوه حتى من دون جدال حوله. فكرة «المستبد العادل» ظلت سائدة ولا تزال، ووجد كل زعيم نفسه مجسداً لها، سواء كان من زعامات ما قبل الانقلابات او بعدها. المنطلق هنا هو ان الحاكم عادل. والعدل في الأساس قيمة فردية يمثلها هذا الحاكم وبالتالي فإنه يمثل العدل، أي انه مستبد عادل. وبالتالي هو الأمة والوطن (نموذج صدام حسين). في بعض الاحيان كنا نرى ان نياته ممتازة (نموذج عبدالناصر) وتظاهر كثر تأييداً له. بل إن كثراً ايضاً تظاهروا، حتى لصدام حسين. فهو، بعد كل شيء، كانت لديه شعارات اجتماعية صحيحة... لكن المشكلة ان هذه الشعارات ترجمت انطلاقاً من ارادة هذا المستبد. وحتى قبل الانقلابات كانت هناك صيغ ديموقراطية ما. لكن هذه الصيغ ظلت بدورها تأخذ بنمط المستبد العادل بمعنى ان الزعامات داخل تلك القوقعات الديموقراطية، كانت بدورها زعامات مخلّدة لا تخطئ... وغالباً زعامات وراثية، الأب يورث ابنه او أخاه او زوجته زعامة الحزب وملكية الفكرة والمبدأ. واستمر هذا الوضع الى أن وصلنا أخيراً الى الجمهوريات – الملكية. وأنا أشرت مرة في سياق هذا الوضع الى ما سميته «ذاكرة المكان»... فإذا راجعنا التاريخ الاسلامي سنجد ان المرة الأولى التي تحولت فيها الخلافة الاسلامية الى ملكية وراثية حدث ذلك في دمشق، أي نفس المكان الذي ورث فيه الابن الحكم عن أبيه بعد ذلك بنحو 15 قرناً. ان المكان، وليس الانسان فقط، يمتلك ذاكرة. وحتى الآن لم نستطع تحرير المكان من ذاكرته فكيف نحرر الانسان؟ اننا حين نقرأ اليوم خطابات وكتابات المثقفين الذين رحبوا، في حينه، بالانقلابات وسموها ثورة، نكتشف ما في خطابهم من لغة ديكتاتورية، وان من رحب بالأحزاب الطاغية كان مثقفاً أيضاً. المثقف هو الذي نظّر لها وللسلطات التي ارتبطت بها، وقبلها مستنداً الى مفهوم المستبد العادل على نسق جمال الدين الأفغاني. المصيبة ان الناس، حتى في أيامنا هذه، لا يتوقفون عن القول بأننا في حاجة الى زعيم – فرد – مثل عبدالناصر. وهناك من رأى تجلي هذا في صدام حسين، من دون أن يتنبهوا الى ان الثقافات الإنسانية اليوم تجاوزت، ومن بعيد، مرحلة الرمز. لقد سقطت الرموز، حتى الثقافية منها (من أم كلثوم وفيروز الى عبدالناصر كمستبد عادل). انتهت رمزية الفرد لتتوزع هذه الرمزية على مجموعات كبيرة من الأفراد. بيد أن هذا ينجح في بيئات مفتوحة وديموقراطية. أما في البيئات المغلقة فإن المشروع الانفتاحي لم يجد تجليه بعد، ما أسفر أخيراً عن بعثرة وتشتت. من ناحية أخرى أرى أن واحدة من أخطر المشكلات التي تواجهنا اليوم غياب مسألة نقد الذات...

> وما علاقة هذا بالفكرة السابقة المتعلقة بمسألة الفرد – الرمز...؟

- سترى بعد قليل. أما هنا فدعني أذكرك بأن النقد الذاتي، الذي هو حال إيجابية غالباً، يعتبر في أدبياتنا جلداً للذات بالمعنى السلبي المشوِّه، ما يدفع بالتالي الى فكرة «الخيانة» التي تتناقض مع شعارات مثل «كل شيء للمعركة» و «مرحلة الأشياء». الحقيقة اننا اذا مرحلنا الأشياء حقاً نكون قد قضينا عليها. ولا سيما منها الأفكار فالأفكار لا تُمرحل. الأفكار على طول تاريخها لها لغة واحدة وزمن واحد وضربة واحدة. اذا لم تستثمر في حينها لن تستثمر أبداً. انني أتحدث هنا طبعاً عما يسمى روح العصر. الأفكار هي روح العصر ولكل عصر تطور أفكاره ومصطلحاتها. ان لم ينضج المصطلح في زمنه سنظل متعلقين به حتى بعد انتهاء صلاحيته تعلق الإنسان بالوهم. ومن هنا أرى أننا يجب أن نجابه ثقافتتا – وأعني بالطبع ثقافتنا الماضية لأن ليست لدينا ثقافة حاضرة تطل على المستقبل – بالنقد، بدلاً من مواصلة تكرارها وتبجيلها. في المقابل علينا أن نتذكر أن الثقافة الغربية أول ما بدأت بدأت بنقد النسق الثقافي الفكري والصيغة الحضارية السائدة. نحن ما زلنا عاجزين عن هذا النقد الى درجة مرعبة. بل انك غالباً ما تجد مثقفين راديكاليين نقديين ما ان يتقدم بهم العمر – وربما المنصب أيضاً – حتى يتراجعوا. انهم، على مدى عقود يمشون في مسار، ثم في «النهاية» يخافون ويتراجعون. والأمر واحد من اثنين: إما ان حداثتهم وليبراليتهم وتقدميتهم السابقة كانت نفاقاً وكذباً وتغطي رجعية عميقة. وإما أنهم اكتشفوا «الحقيقة» لاحقاً فرأوا انهم كانوا على خطأ وان ما كانوا يحملون من أفكار لا يصلح لمجتمعاتهم. وفي الحالين نحن أمام معضل اجتماعي حقيقي. فإما أن نكون صادقين ونقول اننا محافظون ونبني فكراً محافظاً يرى أن الحداثة ليست حلاً، وإما أن نكون حداثيين فننظر الى الحداثة، ودخول العصر على انهما الحل. كما ان ليس من المستحيل علينا، بعد كل شيء أن نصنع حداثتنا الخاصة «غير المستوردة». وهذا ما فعلته اليابان وكوريا وماليزيا. لماذا نحن عاجزون عن صنع ما صنعوا هناك؟ جوابي: السبب هو خوفنا وترددنا في مجال نقد النسق الثقافي واعلان عجزه والتشهير به. حالنا حال المريض: ان هو لم يقبل الاعتراف بمرضه لن يأتي الطبيب ليشخص المرض ويداويه. لكي يشفى المريض يجب، أولاً، أن يعترف بمرضه، أو يستعد للتعايش معه. الاعتراف بأمراضنا لا يزال محظوراً عاطفياً... لا دينياً على الأرجح. هناك علاقة عاطفية – أكثر منها دينية – مع ماضينا. فالدين لا يمنعنا من أن نتغير. المسألة مسألة عشق لذاتنا... لماضينا وما لم نكسر هذا العشق ونجعل العلاقة مع الذات علاقة عقلانية، لن نصل الى أي مكان. وهذا هو، في رأيي مأزق الثقافة العربية الأساسي.


وأين هو المجتمع؟

> خلف كلامك هذا كله هناك شبح يلوح بين لحظة وأخرى. شبح حاضر وغير حاضر... انه المجتمع. لقد تحدثت عن الدولة والسلطة والمثقفين والماضي والحاضر، لكنك لم تقترب حتى الآن من المجتمع نفسه. أليست للمجتمع علاقة بهذا كله؟ أليس المجتمع هو من يغير أو يسمح بالتغيير؟ أليس هو من يقبل النقد أو يمنعه؟

- أجل سأتحدث عن المجتمع ولكن بلغة عامة... فأنا أعتقد ان المجتمع هو هو نفسه في معظم أرجاء العالم العربي، هو واحد في أبعاده الرئيسة، ولندع التفاصيل جانباً. وان نتحدث عن المجتمع معناه أن نتحدث عن الشعب... عن الجماهير. فإذا تحدثنا عن هؤلاء أقول أنني اعتقد – في رأيي الشخصي طبعاً – انهم هو الأرقى والأنقى. غير اننا، نحن معشر المثقفين والكتّاب، لم نبادر أبداً الى الاستماع الى ضمائرهم ومخاطبة وعيهم. باستمرار يزعم المثقف العربي (كما السياسي العربي) أنه هو من يمثل الجمهور ويريد تطويره وتنويره وتعليمه. وهذا كله غير صحيح، حيث أن الأيام أثبتت دائماً ان المثقف بعيد من الناس. فالشعب الحقيقي هو في أعماقه شعب ديموقراطي هو الذي يصوّت – في الديموقراطيات – لممثليه وهو الذي يأتي بالزعماء وبغيرهم. عندنا لم نسأل الشعب أبداً أن يغير. التغيير يأتي قسرياً بالقوة أو بالخداع. أما اذا رجعنا الى الشعب فإننا نكون رجعنا الى ضمير الأمة الحي وهو ما لم نفعله أبداً. راجع تجربتك وتجربتي وتذكر اننا ان عدنا الى العامل البسيط سنجد لديه وعياً وإدراكاً للأمور يزيدان عمقاً عما لدى المثقف. ليس لأنه أذكى أو أعلم. بل ببساطة لأن المثقف ملتزم ايديولوجياً مستعبد للنسق الثقافي سائداً كان أو غير سائد. أما الشعب فإنه غير ملتزم بل يعبر عن نفسه بصدق وبراءة. مشكلة المثقف انه ما ان يدخل في معمعة الفكر السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي حتى يبدأ بالتصرف بناء على ميادين ومفاهيم محددة سلفاً، لا بناء على استشارة ضمير أخلاقي عفوي متحرك. المجتمع البسيط يتصرف انطلاقاً من ضمير اخلاقي وعملي. انطلاقاً مما يعنيه مباشرة: أرضه، بيته، بيئته أطفاله، مستقبله. وهذا كله مغيّب تماماً لدى المثقف، لو حضر ستتبدل أمور كثيرة. لقد رأينا كيف يكون الفائزون غير من نتوقع أو نريد حين تتسم انتخابات ما بالنزاهة (راجع تجربة فوز «حماس» في فلسطين و «الاخوان» في مصر). وذلك لأن ثمة علاقة وثيقة بين الناس العاديين وقوى تتطلع حقاً الى ان تعبر عنهم – مهما كان رأينا فيها، فكرياً -. نحن لا نزال من أبناء الستينات وما زلنا في الستينات نحوم من حول افكار وشعارات لا تدخل، حقاً، مناطق اجتماعية وتزعم مع هذا انها تعبر عنها. انا لا اقول ان المثقف لا يزال متعالياً، لكنه لا يزال بعيداً بالتأكيد من «الخلطة الضمائرية». خذ غاندي في الهند، مثلاً. لقد عرف كيف يؤسس الديموقراطية الحقيقية في بلده لأنه طرح نواة أخلاقية اجتماعية. وهو فعل هذا لأنه اكتشف خصائص شديدة البساطة في سلوك الشعب الهندي وشخصيته. وهو ما لم نستطع، نحن، ان نفعله. سعد زغلول، مثلاً، كان محاولة ضخمة لاستنهاض ضمير ما لدى العالم المصري، وربما العالم العربي ايضاً، لكنه مشروع جرى اغتياله بسرعة، وحتى من داخل بيت وبيئة سعد زغلول. فهو بدوره كان يصر على الزعامة المطلقة. صحيح انه كان عملاقاً بكل المقاييس وله انجازات ضخمة... بيد انه لم يعزز مبادئه ولا القيم حتى يورثها لخلفائه من بعده. لاحقاً حين جاء المثقف الحداثي وقع في المأزق نفسه. خذ أدونيس، مثلاً، ستجده يطرح في مفهومه للحداثة صيغة شعرية يصفها هو نفسه بأنها لاعقلانية ولامنطقية. فإذا كان مشروع الحداثة يقوم على أبعاد شعرية لا عقلانية ولا منطقية فأي حداثة ستكون... وكيف تراها ستحرر العقول؟ للمناسبة: لقد ادركنا، متأخرين، ان حداثتنا العربية كانت – على أي حال – حداثة شعرية فقط ولم تكن فكرية او فلسفية او اقتصادية. هذه الحقول لم تلامسها الحداثة. ظلت الحداثة عند الشعر ما يعني اننا واصلنا انتاج الفحولة الشعرية وإن بنسق شكلي جديد، انما بالانطواء الداخلي نفسه الذي يقوم على مجاز الذكورة والأنا واللاعقل.

> بين زمن الانقلابات وزمن هزيمة 1967، مر المثقفون بمطهر حملوا خلاله لواء المشروع القومي، مالأوا السلطات والانقلابات وسموها تقدمية، اعتلوا المنابر. ثم كانت الهزيمة فظهرت نهضة ثانية حملت نقداً استبشرنا به خيراً وربطناه بالنهضة الاولى... فإلام أدت هذه النهضة الثانية، أعني نهضة العروي والعظم والعظمة والجابري...؟

- المشكلة انك هنا تشير الى نقد يكاد يكون أكاديمياً. طبعاً حين ننظر الى العروي نجده عملاقاً... بيد أن المسألة هي: هل لامس فكره النقدي المؤسسات؟ هل وصل الى جماهير يمكن ان تستوعبه؟ ان الفكر وحده لا يستطيع انجاز أي تغيير. انا حين اتحدث عن الثقافة العربية لا اعني ان ليس فيها عباقرة. بيد انهم هم في مكان والسياسة في مكان ثان والجماهير في مكان ثالث. وبالتالي ظلت النهضة الفكرية مشروعاً معزولاً. اما الحاجة فهي الى مشروع مبدع يحرك الناس. لنعد هنا الى غاندي... فهو حين قُتل وقبل ان يسلم الروح نظر الى قاتله وقال له: انني اغفر لك يا بني. ان هذه العبارة تمثل قيمة اجتماعية ضخمة، قيمة تعكس التسامح والمحبة والبناء. قيمة هي عبارة عن مشروع اجتماعي – اخلاقي مدهش. ذلك ان اكثر ما يعوق المجتمعات المتخلفة – والعراق اليوم خير نموذج على ما أقول – هو مفهوم الثأر. انه نسق ثقافي متخلف يجعلك، وباستمرار، تعالج اموراً حدثت في الماضي ما يعوق وصولك الى المستقبل. ان الثأر يولد من داخله ويحيل دائماً الى الماضي. أما غاندي فإنه عندما يسامح يقتل مفهوم الثأر مجتثاً اياه من قلب الثقافة الهندية. اما نحن فإن الثأر لدينا واحد من مفاهيم لم نتخلص منها بعد...

> في هذا الاطار هل ترى ان المثقف العربي لم يلعب دوراً، كان يمكنه ان يلعبه؟

- لقد أشرت أنا الى غاندي، وذكرنا مانديلا خلال حديثنا. وهذان مثقفان... لكن المسألة لم تكن بالنسبة اليهما مسألة ثقافة فقط. كانت لديهما المسألة الاخلاقية ومسألة الوعي الاجتماعي ايضاً. مانديلا امضى 20 سنة في السجن وحيداً في ظلام زنزانته وكان يحفر الارض بأظافره وأصابه الحفر بالربو. ومع هذا كان كل فكره منصباً على كيفية مسامحة أعدائه. ليس من أجلهم، انما من اجل شعبه ومستقبل شعبه. انه، وغاندي، برعا في «صناعة» اساسية هي صناعة التسامح. صناعة أدخلت الكتل البشرية في علاقات ايجابية بدل ادخالها في علاقات سلبية. عندنا، خذ مقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري مثلاً. انه حدث ضخم ومحزن وعنيف. ولكن ألا ترى معي ان كل اللغة التي سادت بعد مقتله انما كانت لغة ثأرية؟ قارن هذا بما بادر اليه غاندي (القتيل) ومانديلا (الأسير). إن المجتمعات لا تبنى إلا على لغة تصالح بين الاطراف. إن لم تسد لغة التصالح والتسامح لن يكون تقدم. في غياب التسامح حتى لو حلت الديموقراطية لن نكون سوى ديموقراطية شعوب وقبائل وطوائف وزعامات تقليدية متوارثة. ديموقراطية نزيفها كما نزيف الثورات بالانقلابات والعدالة الاجتماعية بشعارات الاشتراكية. مهما يكن، اذا كنا نعتبر المثقف المحرك الواعي للعبة التغيير في المجتمع، سنفهم بعض اسباب تخلفنا امام مثقفين يتنطحون لنقد كل ما لا يروق لهم ثم حين يُنتقدون تثور ثائرتهم. فهم، على طريقتهم سلطة اخرى، مثل المعارضة في بلادنا التي ما إن تصل الى الحكم حتى تصبح سلطة، وربما أسوأ من التي كانت تعارضها. عندنا، في الثقافة العربية، ظل مفهوم المعارضة مفهوماً نسقياً ينتمي الى النسق الثقافي الفحولي... ما جعل سجل المعارضات الكبرى في عالمنا العربي، سجلاً دامياً وعنيفاً. معارضاتنا قامت لتهدم لا لتبني ومن هنا اخفاقها الدائم... خذ العباسيين مثلاً، لقد ثاروا متهمين الأمويين بالتسلط والظلم، فلما صارت السلطة لهم صاروا أسوأ من الامويين... هذا من دون أن ننسى ان زعيمهم الاول كان يلقب بـ «السفاح».

> تقول إن للشعب البسيط وعيه الصائب وتتحدث عن ثقافة التسامح لدى غاندي ومانديلا، وهذا كله صحيح ومنطقي. فهل يعني هذا ان على مثقفينا العرب ان يعيدوا النظر في كل ممارساتهم وربما ان يتجهوا الى حيث قيم الثقافة الشعبية وأخلاق التسامح ماثلة؟

- بالتأكيد... هذا هو المطلوب. مطلوب من المثقفين دخول ضمير الشعب، آن الأوان لهذا. على العموم ثمة في العالم كله اليوم عودة الى الثقافة الشعبية. النخب اكتشفت انها كانت تعامل الثقافة الشعبية بإهمال وسخرية. اليوم تبدل هذا كله. وها هم المبدعون يتجهون الى الشعب وابداعاته انطلاقاً من ان النبع هناك والمصب هناك. ان الشعب هو الأقدر على المعارضة ولو من طريق النكتة. والشعب حين يعزف عن الانتخابات انما يعبر عن موقف واضح... هو لا يقف ضد الديموقراطية، بل ضد الذين يمثلون هذه الديموقراطية. وحين يشكو الكتّاب والناشرون من ان احداً لا يشتري كتبهم على من الحق يا ترى؟ الناس يقرأون ويشاهدون أفلاماً ويستمعون الى الغناء... فقط هم يتجنبون ما يعاملهم باستعلاء... ومن لا يثق بهم
بعقوبة ابتكار البساتين، وبهجة الليل والندى، وفجر الفاختات. هبة الجغرافية للتاريخ. وتأثيث التاريخ لبراءة الجغرافية.. لم تتنصل بعد من روح القرية كما لو أنها ما تزال وفيّة لوصف ياقوت الحموي لها يوم عدّها قرية كبيرة تشتهر بالليمون. وضاجة بصخب المدينة الحديثة كأنها تلهث وراء بهرجة العصر، تطولها ولا تطولها.. لم تنصفها الحكومات المتعاقبة، ولا كتبة التاريخ، غير أن الشعراء جعلوها في حدقات القصائد، وكان نهرا ديالى وخريسان نسغ خلودها على الرغم من عاديات البشر والزمان.بعقوبة؛ عبق التاريخفي الآرامية باعقوبا هي بيت الحارس أو بيت العقوبة، ويبدو أن أجدادنا قبل آلاف السنين اختاروا هذه البقعة النضرة بخضرتها ومياهها لتكون مكاناً للسجن يقضي فيه المحكومون مدة عقوبتهم. ومنذ القرن السادس عشر كانت منطقة ديالى تسمى بمنطقة ( طريق خراسان ). وفي سنة 1816 وصف الرحالة الانكليزي جيمس بيكنغهام مدينة بعقوبة بعد أن زارها قائلاً؛ بعقوبة قرية كبيرة مبعثرة تتألف من مساكن بنية من الطين وبساتين النخيل وحدائق وما شاكلها مختلفة في بنيانها مع سوق بائس ومسجدين صغيرين، ولا يتجاوز عدد السكان الألفي نسمة، كلهم من العرب، ويحكم المكان يوسف أغا التابع إلى أسعد باشا ببغداد.وحين كان العراق ثلاث ولايات هي ( بغداد والموصل والبصرة ) كانت بعقوبة قضاءً تابعاً لسنجق بغداد إلى جانب أقضية عانة والرمادي وسامراء وخانقين ومندلي والكاظمين والكوت والعزيزية. وذكر الرحالة كارستن نيبور الذي زار العراق بعد العام 1680 أنه زار خريسان من جملة مدن ولاية بغداد ويقصد قضاء خراسان حيث سميت المنطقة المعروفة الآن بديالى باسم خراسان. وكذلك أشار لذلك المنشئ البغدادي في العام 1820 الذي دخل المدينة مع المستر كلاديوس جيمس ريج وكتب في وصف المدينة؛ من بغداد إلى بعقوبة ثمانية فراسخ وبعقوبة من قرى خريسان وهي من الجانب الآخر لنهر ديالى، وعلى شطي ديالى وخريسان خمسون قرية معمورة، وفي هذه القرى أنواع الفاكهة والكروم، وفي وسط الطريق بين بغداد وبعقوبة ببعد أربعة فراسخ خان النص المعروف عند العرب بخان بني سعد، وبالقرب من شط ديالى بني خان سمي خان السيد، وسكانه من أهل بعقوبة ويعبرون إليه بسفينة. وفي أواخر القرن التاسع عشر يقول كي لسترانج أن بعقوبة أول مدن طريق خراسان، وهي ذات بساتين ونخيل، وأن الطريق إلى المشرق صار يمر بها بعد خراب مدينة النهروان.يوغل الباحث المختص بتاريخ ديالى المحامي والأديب طه الدليمي في تضاعيف القرون ليتحرى عن طرق المواصلات أولاً والتي كانت تصل بعقوبة بغيرها في غابر الزمان فيقول: في العصر العباسي كان الطريق من بغداد إلى مناطق ديالى يمر بمدينة النهروان وهي جنوبي محطة كاسلر بوست القديمة، وفي شمال الإمام المعروف بأبي العروج بعد مروره بأراضي سامي الأورفلي ودير تيرما ثم الدسكرة ( أسكي بغداد ) ثم شهربان وجلولاء وخانقين، وكان هذا الطريق القديم على الأرجح لا يمر ببهرز وبعقوبة، وتبدل الأمر في آخر العهد العثماني.يستشهد الدليمي بما يذكره ستيفن لونكرك؛ بأنه كان يتفرع من ضواحي بغداد الشمالية طريقان بزاوية حادة يمر الشرقي منهما بخان سماه الأتراك بـ ( أورطة خان ) أي ( خان النص ) ثم يصل إلى معبر ديالى في بهرز ومن ثم يحاذي بساتين قرى بعقوبة وقلعة شهربان، ويمر بين تلال منخفضة/ تلال حمرين/ فيخترقها إلى خانقين. كما يتحدث وبحسب الدليمي أيضاً باحث محدث عن طريق آخر والذي يسير جنوباً بمحاذاة نهر ديالى من جهته الشرقية ماراً ببهرز حتى يصل إلى مصب ديالى في دجلة ومن ثم المدائن،وكان هذا الطريق يمر بصحراء لا يأمن سالكه من قطاع الطرق حتى بنى الوزير عمر باشا خاناً محكماً في العام 1100 هو خان بني سعد، وما تزال آثاره باقية حتى يومنا هذا.يقول روبرت آدمز: أن بعقوبة لم يذكر كثيراً في الكتب القديمة على الرغم من قدمها والسبب كما يرى هو عدم مرور الطرق القديمة بها وحين تحول طريق خراسان نحو الشمال وأصبح يمر بها بدلاً من مروره بالنهروان تردد ذكره وكثر.ويرى الباحث الدليمي: أن وصف ياقوت الحموي ظل منطبقاً عليها حتى بدايات القرن التاسع عشر، ومذ ذاك وصفت ومن خلال رؤية أحد المسافرين بأنها بلدة كبيرة تعرف باعتدال مناخها وكثرة مراعيها وجودة تمورها تتبعها عدة قرى ويحكمها ضابط يعينه الباشا كل سنتين أو ثلاث. وشاهد عيان آخر وصفها في العام 1820 بأنها قرية واسعة منتشرة تتكون من بيوت مبنية بالطين وبساتين ومزارع مختلفة وفيها سوق فقير وجامعان صغيران ولا يزيد عدد سكانها على الـ 2000 نسمة وكلهم من العرب، وهي بأمرة يوسف أغا، وهو خاضع لأسعد باشا والي بغداد، وذكر شاهد آخر مر بها في العام 1824 بان الخراب الشامل أصابها بسبب احتلالها من قبل جيش محمد علي ميرزا حاكم كرمنشاه، ثم وصفت بعد ذلك بعشر سنوات بأنها تزيد كثيراً على كومة خرائب، وبحسب رحالة فرنسي في العام 1845 فإن الحياة قد عادت إلى سوقها وجامعها وعدد بيوتها 800 بيت.نهرا ديالى وخريسان؛قديماً، في اللغة الرومانية، وبحسب الباحث طه الدليمي: كان نهـــــر ديالى يسمى ( جنديس ) وهو النهر الذي وصل إليه كورش في طريقه إلى بابل، وقيل أن الكتّاب الأقدمين كانوا يرسمون ديالى على صورة ( ديالاس )، وعند ياقوت الحموي ت 626هـ هو نهر بعقوبة الأعظم، وهو النهر المسمّى ( تامرّا ) أيضاً، وعلى هذا النهر كانت تركب مدينة بعقوبة من جانبها الغربي، وما تحت المدينة منـــــه يسمى ( ديالى )، ويصب في دجلة، ومصبه هناك يسمى ( فم ديالى ).أما خريسان في المدونات العربية القديمة هو نهر جلولاء، ويوم كانت منطقة ديالى في العهد العثماني تسمى ( طريق خراسان ) وبعد التخفيف ( قضاء خراسان ) سمي النهر بـ ( خريسان ) حيث الأصل فيه ( خراسان ) وما زال أهالي بعقوبــــة يسمونــــه هكذا على الإمالة وقلب ألف ( خراسان ) ياءً على وفق ما يقول الباحث طه الدليمي، ويضيف؛ وخريسان في العهد السابق سمي رسمياً بـ ( نهر سارية ) نسبة إلى القائد الإسلامي المشهور سارية بن زنيم بن عبد الله بن كنانة الدؤلي بعدما أمره الخليفة عمر بن الخطاب على جيش وسيره إلى فارس سنة 23 هـ وله قال: يا سارية الجبل. ولو سمي النهر باسمه القديم جلولاء لكان ذلك أكثر صواباً من الناحية التاريخية، لعدم وجود العلاقة التاريخية بين هذا النهر والقائد الإسلامي الجليل.بعقوبة خط سرد متعرج، يبدأ من نقطة مستترة في كهف الزمان، ويمضي مع خطوات الرحالة والهائمين والعشاق والأتقياء والمحاربين والغزاة نحو نقطة سديمية في أفق رجراج، مدينة تقف اليوم على كف حلم خجول، يختال سَحَرها في عيون العنادل، ويختلج شفقها في حناء أصابع عروس مسكونة بالوجل اللذيذ.. قد يعكر صحوها رماد البارود ورائحة الموت، لكنها تنفض ما علق بروحها من خوف بعد هنيهة فتعود لتشاكس نقاء الماس إذ يضطرب في فتوة أنهارها..ليل بعقوبةكيف لمدينة أن تستعيد عبق لياليها.. صفاء وسنها، وحلو أحلامها، بعدما اختنقت دروبها بأنفاس كائنات الخراب والكوابيس؟.كيف لها أن تمسح الهباب عن ندى عشبها، وترد، مرة أخرى، لعشاقها رنين نهرها القديم، ولسكاراها أمان النوم في عراء الفجر، ولنسائها قلق انتظار أزواجهن الذين لا يصلون بيوتهم إلاّ مع استيقاظ العصافير؟.كثيرة هي مفردات قاموس الليل، التي كانت، في مدينة مثل بعقوبة ( حفيف البساتين البليل، ووشوشة الماء تحت الكباري الحجرية.. طلاب المدارس يذاكرون دروسهم تحت أعمدة النور، ولغط المقاهي السهرانة.. رائحة الشواء والشاي المهيّل، والوقع الرتيب لخطوات السائرين على كتفي نهر خريسان يغتابون من غابوا، ويبوحون بأسرارهم قبل أن يتفرقوا وقد تخففوا من عبء يومهم… )، لكنها مفردات أُغتصبت.. سرقها بعضهم فحلّت بدلاً منها مفردات أخرى ( اللصوص.. المكبسلون.. الدوريات الأميركية.. منع التجول.. صفارة سيارات الشرطة.. إطلاقات نار وانفجارات.. كتبة الشعارات الخائفة على الجدران، والظلام الفسيح ).منذ سنين، والحق يقال، كان الكابوس الهائم على وجهه يقضم من ليل المدينة أشياءه الحميمة.. يطيح بعذوبتها ورونقها، ومذاقها وشذاها..لن تخبر مدينة على حقيقتها ما لم تجس خلل ليلها.. ما لم تتشرب فتنة عتمتها، وأنفاس أضوائها، وما لم تتحسس غموض لوعتها وهي تنسج أحلامها في خبائها السرّي.. وما لم تتعرف على أناسها ، كيف هم في برية الليل ، وكيف يفعلون…لكل منا ليله، وليل القلق غير ليل العشق، وليل السفر غير ليل السمر، وليل العائلة غير ليل الغربة، وغالباً ما تكون الذاكرة مترعة بأطياف الليالي أكثر مما تكون مثقلة بتفاصيل النهارات.. بيد أنّ ليالينا لم تعد كما كانت، ولا أحد بمستطاعه أن يعيدها ، سيرتها الأولى، سوانا.ذاكرة رجل.. ذاكرة مكان وزمانأدخل ذاكرة رجل واحد، أحاول أن أتقصى في جغرافية ما قبل الحرب العالمية الثانية للمدينة، يفاجئني الرجل بخصوبة ما يخزنه هناك من خريطة واضحة للأماكن، وأسماء وأحداث، وحين أعلمه بنيتي في كتابة هذا التحقيق تنفرج أساريره فيروح يتدفق بكلام فرح كما لو أنه أطمأن أخيراً، لأن ذكرياته الحميمة سيجري الاحتفاظ بها في موضع آمن، أقصد؛ في أفق الكتابة.حميد حسن كاظم مطر رجل تجاوز السبعين، يحمل في إهابه تاريخ مكان ونكهته المعتقة عبر عقود من المسرات والأوجاع. يحدثك عن خانات ومقاه وبساتين ودور حكومية ومضايف واسطبلات وحمامات للرجال وحمامات للنساء، وبيوت من طين وأخرى من طابوق.. عن بزازين وعطارين وحلاقين وبقالين وحوذيين.. ينتزع أماكن من مواضعها الحالية ليأتي بأماكن أخرى كانت واندثرت كأنه يحلّق في مدار حلم أو جنة خيال.ـ كان هنا أوتيل فيه مرقص وبار.ـ متى؟.ـ في الثلاثينيات والأربعينيات.تنظر إلى حيث يشير، تجد دكاكين ومطعماً عصرياً.ـ في وسط بعقوبة، شارع النصر الحالي كان بيت وبستان حسون الدهان.. وفي موضع محل غازي السعدي على خريسان كان اسطبل خيل “طولة حاتم الدهان”.. كان الحوذيون يبيتون عربات الربل فيه.ـ أتذكر أياً منهم؟.ـ نعم، هوبي علج، مهدي أوقاتي، جواد حاجم، إسماعيل حاجم، حميد أبو النص.يقول حميد مطر؛ كانت بعقوبة تلتم حول خريسان، مكان المصرف الحالي كان بيت الملا لالة عارف، أمام المصرف كانت قهوة البغدادي، وحول القنطرة قهوة الحاج عبود حسين صفاوي وقهوة الحاج أحمد لفتة، وفي مكان العيادة الشعبية الحالية كان ثمة زقاق فيه بيت أبو تويا اليهودي، أما بناية السراي القديم فكانت تحوي دائرة المتصرفية، وخلفها كانت المحكمة، وإلى جانبها السجن، وإلى مبعدة منها دائرة البريد حيث مقهى شكر محمود الورد ومقهى أحمد الورد، وفوق كل مقهى من المقهيين الأخيرين كان أوتيل، وإلى جانب مقهى أحمد الورد محل لبيع الخمور يملكه حسقيل اليهودي.. كان مشروع الماء في موقع حي السوامرة شمال المدينة، إلى جانبه مولدات الكهرباء، ومعمل ( كورة ) لصناعة الأوعية الفخارية “البستوكات والحبوب والتنكات”..يذكر حميد مطر من القصابين “جبار سعودي، وزيدان مهدي ونعمان القصاب وشهاب أحمد السالم ومجيد عبود ومحمد حسين عيشة وحسن فدعم وحبيب أبو شلال. ومن البقالين يذكر “حسون غائب ورشيد فليجة وصالح شفيق وعبود حميدة وعبد تمراوي وفاضل دروش وجواد الجبر، ومن البزازين يذكر جميل شيعي وعيدان أبو عارف وغني البزاز والحاج كريم أرحيم وشيوعا اليهودي وسليم ليلو اليهودي، ويذكر من اليهود أيضاً موشي بائع الأدوية الشعبية ونزار بائع الملابس. ويذكر من الخياطين أبو جابر النجفي وحميد الأعرج وتوفيق الخياط وأسطة أحمد المصلاوي وأبو أحمد صبحي.ويقول: كانت في المدينة أكثر من مخزن للحبوب والمنتجات الزراعبة “علوة” منها علوة عبود دروش، وعلوة خليل كزة، وعلوة باقر العلوجي، وعلوة جاسم حسك، وعلوة مصطفى عبيد، وعلوة مصطفى بديعة، وعلوة عباس الجيال، وعلوة حجي جواد.أسماء وأسماء تتناثر من بين شفتيه، يشير إليها بحنين خفي، يقول؛ كانوا وغادروا، كم من رجال هذه المدينة رأيت، أين هم؟.في ذلك الزمان. يقول حميد: كانوا في مقهى عباس تيتي يلعبون الزورخانة، وكان هناك أجانب يأتون بالقرود والدببة ويراقصونها والناس تتفرج، وكانوا يلعبون المصارعة.. نازل عباس الديك الألماني كرين وتغلب عليه، هنا، في بعقوبة.. إلى جانب مقهى عباس تيتي كان موقع بعقوبة العسكري، يتدرب فيه الجنود ويقومون بالاستعراضات، وكان الانضباطية يختارون الشباب اللائق للتجنيد في الأسواق ومحطات القطار بالنظر. وكان هناك خان التموين في 1941 يعطون كل عائلة كيلو سكر أحمر، وحنطة وشعير مخلوطين بالتراب، وكانت ماكنة الطحن أمام الموقع العسكري وصاحبها أسطة محمد الديري، وفي بستان علي حسون العجمي كانت ماكنة طحن أخرى يملكها اليهودي جوري. وفي العام 1949 بنى ناجي وهودة، وهما يهوديان أيضاً أول دار للسينما في المدينة.وهكذا يرحل حميد مطر في إيراد تفاصيل واسعة عن الأمكنة والأشخاص بشغف وأسى. لا نستطيع تتبعها كلها في هذه العجالة، غير أننا نتلمس مدى التغيرات التي حصلت خلال عقود قليلة، لا في جغرافية الأمكنة وحسب وإنما في خارطة المؤسسات، والتقاليد، والعلاقات الاجتماعية كذلك.واليومكل من تتحدث معه، يحيلك إلى أشياء ضائعة.. إلى مسرح عامر كان قبل عقود، والآن لم يعد له وجود، وإلى دور سينما حلم بها الناس ولم يشيدها لهم أحد.. وإلى مقاه فقدت نكهتها، أو أنها أغلقت أبوابها أو أُزيلت، ولاسيما تلك التي كانت على ضفتي نهر خريسان، وبلا سبب معقول.. أما المؤسسات الحكومية المعنية في ظل النظام السابق فلم تبادر قط إلى إنشاء مقاه أو أية مرافق سياحية من خلال استغلال الأماكن الجميلة الملائمة والتي هي، بلا شك، كثيرة في مدينة مثل بعقوبة.بعقوبة اليوم تتنفس الخوف مع الغبار ودخان العبوات الناسفة، غير أنها تخلع عنها هذا الرداء أحياناً، بقوة اليأس والأمل في آن معاً لتمارس ما تقتضي منها الحياة بحرارتها، وإبداعها.. يخرج الناس بالآلاف إلى مدارسهم ودوائرهم وإلى الأسواق والمقاهي، ويتنزهون على ضفاف النهرين “خريسان وديالى”.. إن مسارات ما بسلكون هي هي منذ عقود، لا يكاد يكون هناك شيء قد تبدل بشكل جوهري وحاسم.. شارع بغداد القديم، جسر الجمهورية، الجسر الحديدي الذي كان مخصصاً للقطارات التي اختفت ذات يوم من أيام حروبنا الكثيرة، تمثال الفلاحة، شارع المحافظة، ملعب الإدارة المحلية، متحف ديالى، المسبح الذي قصفته الطائرات الأميركية بعد أن احتله مسلحون قبل سنتين، الشارع المحاذي لخريسان من الجهتين، ساحة الكوثر، شارع الأطباء، بناية المكتبة العامة، والسوق بتفرعاته وضجيجه وفوضاه. ، قنطرة خليل باشا، ساحة مدرسة الوثبة، جسر التحرير، مقبرة الشريف، متنزه نادي الفروسية، تقاطع الموت، تأمل الأسم!! هذه وأشياء أُخر تعطي صورة لمدينة تنام على قلق، وتحلم بالنهوض ذات صباح من دون أن تتوقع سماع لعلة رصاص ودوي قنابل الموت في الطرقات.
.::. سعد محمد رحيم