٢٥/٠٦/٢٠٠٦
مطر (كاظم حسوني) وظمأهُ القديم
قراءة: محمد الأحمد
مجدُ العمل الأدبي انه ينطوي على متنٍّ لغوي صقيل، وعمق بطين، وشهادةٌ على عصره، فيكون ذا حضورٍ بيّن، ونهج واضح لأجل أن يبقى سمة ببصمة متميزة بين سمات القصة العراقية الراقية بين أقرانها في أدب أهل الأرض قاطبة، ويدخل الأديب قائمة كتابها الغرِّ الميامين. فالأدب وجه الجيل وهويته الراسخة، كإرث حضاري متميز، حيث حقيقة التاريخ، الحق، وما لم يستطع احد أن يغيره لأن يجمل قالبه، وخاصة (العراقي) الذي قد عصفت به مخيبات أمل متلاحقة من حروب متوالية، وأزمات متتابعة جرفته عنوة عن مسيرة حياته الطبيعية، فبقي في وطنه محصورا بين الجدران المتراصة، يعاني الحرمان تلو الحرمان، وبقي حالما بالخلاص، حالما في رؤية تلو أخرى لأجل اختراق القوالب المقيتة، القاسية، التي بقيت تتعمد إبقاءه ضمن المقرر، لأنه إنسان يمتلك حق طبيعي في العيش والتنعم بثرواته، فبقي يكتب عن المطر الواعد لأنه بظمأ قديم راسخ. فمن سبع قصص كون منها (كاظم حسوني) مجموعته القصصية (ظمأ قديم)، الصادرة حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2006م. القصص توالت بحسّ مرهف تميز بعطر انتشر جذابا كرائحة الأرض عندما يلامسها مطر أول موسم بعد جدب قاس (أول الغيث)، حيث جاءت القصص متتابعة زاخرة بتنوع سردي، متناغم القص؛ (في انتظار المطر)، (الثلج الكبير)، (نداء أخير)، (حلم المساء)، (طقوس قيامة ليلى المغنية)، (رجل في أعلى السلم)، (ظمأ قديم)، كقصص قصيرة جنسها الأدبي، أثبت القاص على أمكانية التداخل بين مستويات مختلفة من الخطابات الأدبية والفنية، فالقصة لديه قصيدة أفادت من إمكانات الشعر، والقصة لوحة فنية احتوت مشاهداً أفادت من إمكانات السينما، (هذه الكيانات الناشئة عن الأدب وفيه موجودة بيننا، وهي لم تكن موجودة، وماثلة منذ الأزل كما هي (ربما) حال الجذور التربيعية ونظرية (فيثاغورس) على أنها من الآن فصاعداً، بعد أن تولدت عن طريق الأدب وتغذت من توظيفاتنا العاطفية الجياشة، باتت ماثلة وموجودة وينبغي علينا أن نأخذها في الحسبان، ولكي نتفادى النقاشات الأنطولوجية؛ أي ذات المواصفات الوجودية الثابتة، والميتافيزيقية، فلنقل بأنها موجودة كعادات ثقافية، وحالات اجتماعية، غير أنّ صفة المحرم العالمي التي يحملها سفاح القربى هي أيضا عادة ثقافية، وفكرة، واستعداد، ومع ذلك فإنها امتلكت القوة التي تجعلها تحرك المصائر- امبرتوايكو)، باتت القصة القصيرة العراقية تخرج إلى النشر وهي تحمل وعيا مضادا لكل آليات الركود ويمتلك حقيقة كلية ناتجة عن وعي القاص الشخصي للزمان والمكان، فينهض من ثبات المثقف المهزوم، (نفسيا وجسديا ومعرفيا وثقافيا) إلى متحرك ناقد متسائلا عن مفاهيم الجديدة للعدل والخير والحقيقة والهوية. مهشماً لقوالب مثلثات التحريم، وموجداً سطوتها، ومنتجاً لبلاغة جملة معاني تقوم علي المدركات الحسية، متواصلة لأجل تشكيل البصري عبر قصة (الخاطرة) أو قصة (المقالية)، (كل هذا يتفاعل ويعتمل في داخلي. ويحدث أن مجرد ظهور سحابة صغيرة عابرة في السماء، يصل إليها خيالي. تجعلني أبتكر لها مطراً يهمي ناعماً خفيفاً، أو عنيفاً مدراراً تارة أخرى، يغرق الطرقات والشوارع، يتسرب إلى البيوت والمحلات، يحتل الشقوق والزوايا المظلمة- ص 7) مثل (في انتظار المطر)، مبنية على تواتر يتصاعد الحدث فيها إلى ذروته دون أن يخلف حكاية سوى صورة حصار المثقف المستقل وعزله ونفيه. ويمكن أن نعتبر القصة الثانية (الثلج الكبير) من قصص الحرب البديعة (ما خلفته معارك الليل بالأشلاء المبعثرة والثلج المدمي- ص13) المؤلمة مداخلا فيها قصة النبي (يوسف) وأخوته، وأعطاها الترابط قيمة جمالية لتكون أكثر من قصة حرب، وتحمل رسالتها التي أراد كاتبها أن تصل (هؤلاء يا أبتي حملتهم معي- ص21) لان كتّاب قصة المكان هم ورثة كتّاب القضايا المصيرية (يجب أن لا تحوي أحاديثنا أو كتبنا على كثير من الخيال، لأنه لا ينتج غالبا إلا أفكارا باطلة صبيانية، ولا تصلح من شأننا، ولا جدوى منها في صواب الرأي أو قوة التمييز، أو في السمو بحالنا، فيجب أن تصدر أفكارنا عن الذوق السليم، والعقل الراجح، وان تكون أثرا لنفوذ بصيرتنا- لابرويير)، والقصة القصيرة تتوالى بحضورها الشاخص كشاهدة تاريخ يدونها الأديب كجزء من حياة عاشها ودونها وثيقة على عصره محملة وجهة نظره، وموروثاته، كقصة جديدة عكست ذاكرة ثقافية جديدة فرضتها، الوعي بالعالم إلى البحث عن مراكز متعددة، ربما تكون ذاتية، أو شخصية.. كأنه يقول: (أعلن اختلافي المتمثل في ضرب المركز وتفتيت الشخـــــصية المركزية وتفكيك البناء إلى بناءات قد تكـــــون مشتتة). والكاتب يُمايز بحسية عالية بين الموت كفعل، والموت ككائن حي كما في قصة (نداء أخير)، ويطرح مفهوما جميلا جليا بان الموت لن يأتي للإنسان الفاعل فالفعل فعله الدائم، و به يبقى حيا حيث يموت الإنسان ويبقى الفعل حيا يجري على الأرض بدلالة مدونته الشخصية التي تبقى أبدا تتحدى الموت، أما في قصة (حلم المساء) تستعرض المتغيرات الثقافية، وما واكبها من روافد جديدة للمعرفة الشخصية (متظاهرا بأنه لا يعبا بأحد سوى الكتاب الذي بين يديه- ص36) أبرزها الصورة، فهي قصة سردت بالكلمة صورا، وذكريات عاطفية قد حدث أيام كانت الذاكرة فتية لا يشغلها سوى عالم مثالي، قد مر بالكاتب وخلف كلمات من بعد أن حدد ملامح امرأة ما قد شغلته مذ ذلك الزمان، وأيضا كما في قصة (طقوس قيامة ليلى المغنية)، التي بقي العاشق ينشد قصيدته الشاهدة على من عشق ومن قتله عشق، ذلك (ولفرط ارتباكه، تعثرت قدماه بتلّة التراب فانزلق داخل القبر، واستلقى بسكون فيما خلعت المرأة كفنها ومزقت موتها ثم نهضت واقفة مبهورة تتطلع باندهاش بكل اتجاه متفرسة في السماء الزرقاء وصمت القبور الشاخصة حولها، وما فتئت أن شدت قامتها واندفعت راكضة برشاقة مخترقة ممرات القبور الضيقة وجسدها العاري يهتز ويلمع تحت فضة القمر، يشدها صفير قطار الفجر حيث هبط منه الشبح كعادته في المحطة الخالية- ص 50). قصص تواصل فيها الكاتب (كاظم حسوني) كمدونٍّ حاد الرؤية يعرف كيف يشوق كاتبه بقصصه المقتدرة، الحاضرة كشهادة صريحة صادقة عن عصرها، وعرف كيفية إجهار عشقه لجنس القصة القصيرة، ومن بعد أن تعمد بربط كاتبه القصصي الأول (رقصتها مطر[1])، بـ(ظمأ قديم)، إذ جعلته امتدادا له، حيث حضر (المطر) في متون قصصه كلها، كرابط دقيق ما فتئ (يستدرجنا مجدداً إلى ما ألفناه ونروح ننصت إليه من جديد فعذوبة كلماته كافية لأن تستحوذ علينا وتكبلنا إليه. كنا نحلم، نثب من وحل الظلام، نطير، ونتوارى خارج المكان وصوته وحده يسبح في سماء العنبر الثقيل يهطل فوق رؤوس مغيبة يتساقط عنها غبن متكلس وعفونات أيام غادرة- ص 52).
بعقوبة
25/06/2006 07:44:19 ص
[1] مجموعة قصصية صادرة عن الاتحاد الأدباء العرب – دمشق 200م
قراءة: محمد الأحمد
مجدُ العمل الأدبي انه ينطوي على متنٍّ لغوي صقيل، وعمق بطين، وشهادةٌ على عصره، فيكون ذا حضورٍ بيّن، ونهج واضح لأجل أن يبقى سمة ببصمة متميزة بين سمات القصة العراقية الراقية بين أقرانها في أدب أهل الأرض قاطبة، ويدخل الأديب قائمة كتابها الغرِّ الميامين. فالأدب وجه الجيل وهويته الراسخة، كإرث حضاري متميز، حيث حقيقة التاريخ، الحق، وما لم يستطع احد أن يغيره لأن يجمل قالبه، وخاصة (العراقي) الذي قد عصفت به مخيبات أمل متلاحقة من حروب متوالية، وأزمات متتابعة جرفته عنوة عن مسيرة حياته الطبيعية، فبقي في وطنه محصورا بين الجدران المتراصة، يعاني الحرمان تلو الحرمان، وبقي حالما بالخلاص، حالما في رؤية تلو أخرى لأجل اختراق القوالب المقيتة، القاسية، التي بقيت تتعمد إبقاءه ضمن المقرر، لأنه إنسان يمتلك حق طبيعي في العيش والتنعم بثرواته، فبقي يكتب عن المطر الواعد لأنه بظمأ قديم راسخ. فمن سبع قصص كون منها (كاظم حسوني) مجموعته القصصية (ظمأ قديم)، الصادرة حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2006م. القصص توالت بحسّ مرهف تميز بعطر انتشر جذابا كرائحة الأرض عندما يلامسها مطر أول موسم بعد جدب قاس (أول الغيث)، حيث جاءت القصص متتابعة زاخرة بتنوع سردي، متناغم القص؛ (في انتظار المطر)، (الثلج الكبير)، (نداء أخير)، (حلم المساء)، (طقوس قيامة ليلى المغنية)، (رجل في أعلى السلم)، (ظمأ قديم)، كقصص قصيرة جنسها الأدبي، أثبت القاص على أمكانية التداخل بين مستويات مختلفة من الخطابات الأدبية والفنية، فالقصة لديه قصيدة أفادت من إمكانات الشعر، والقصة لوحة فنية احتوت مشاهداً أفادت من إمكانات السينما، (هذه الكيانات الناشئة عن الأدب وفيه موجودة بيننا، وهي لم تكن موجودة، وماثلة منذ الأزل كما هي (ربما) حال الجذور التربيعية ونظرية (فيثاغورس) على أنها من الآن فصاعداً، بعد أن تولدت عن طريق الأدب وتغذت من توظيفاتنا العاطفية الجياشة، باتت ماثلة وموجودة وينبغي علينا أن نأخذها في الحسبان، ولكي نتفادى النقاشات الأنطولوجية؛ أي ذات المواصفات الوجودية الثابتة، والميتافيزيقية، فلنقل بأنها موجودة كعادات ثقافية، وحالات اجتماعية، غير أنّ صفة المحرم العالمي التي يحملها سفاح القربى هي أيضا عادة ثقافية، وفكرة، واستعداد، ومع ذلك فإنها امتلكت القوة التي تجعلها تحرك المصائر- امبرتوايكو)، باتت القصة القصيرة العراقية تخرج إلى النشر وهي تحمل وعيا مضادا لكل آليات الركود ويمتلك حقيقة كلية ناتجة عن وعي القاص الشخصي للزمان والمكان، فينهض من ثبات المثقف المهزوم، (نفسيا وجسديا ومعرفيا وثقافيا) إلى متحرك ناقد متسائلا عن مفاهيم الجديدة للعدل والخير والحقيقة والهوية. مهشماً لقوالب مثلثات التحريم، وموجداً سطوتها، ومنتجاً لبلاغة جملة معاني تقوم علي المدركات الحسية، متواصلة لأجل تشكيل البصري عبر قصة (الخاطرة) أو قصة (المقالية)، (كل هذا يتفاعل ويعتمل في داخلي. ويحدث أن مجرد ظهور سحابة صغيرة عابرة في السماء، يصل إليها خيالي. تجعلني أبتكر لها مطراً يهمي ناعماً خفيفاً، أو عنيفاً مدراراً تارة أخرى، يغرق الطرقات والشوارع، يتسرب إلى البيوت والمحلات، يحتل الشقوق والزوايا المظلمة- ص 7) مثل (في انتظار المطر)، مبنية على تواتر يتصاعد الحدث فيها إلى ذروته دون أن يخلف حكاية سوى صورة حصار المثقف المستقل وعزله ونفيه. ويمكن أن نعتبر القصة الثانية (الثلج الكبير) من قصص الحرب البديعة (ما خلفته معارك الليل بالأشلاء المبعثرة والثلج المدمي- ص13) المؤلمة مداخلا فيها قصة النبي (يوسف) وأخوته، وأعطاها الترابط قيمة جمالية لتكون أكثر من قصة حرب، وتحمل رسالتها التي أراد كاتبها أن تصل (هؤلاء يا أبتي حملتهم معي- ص21) لان كتّاب قصة المكان هم ورثة كتّاب القضايا المصيرية (يجب أن لا تحوي أحاديثنا أو كتبنا على كثير من الخيال، لأنه لا ينتج غالبا إلا أفكارا باطلة صبيانية، ولا تصلح من شأننا، ولا جدوى منها في صواب الرأي أو قوة التمييز، أو في السمو بحالنا، فيجب أن تصدر أفكارنا عن الذوق السليم، والعقل الراجح، وان تكون أثرا لنفوذ بصيرتنا- لابرويير)، والقصة القصيرة تتوالى بحضورها الشاخص كشاهدة تاريخ يدونها الأديب كجزء من حياة عاشها ودونها وثيقة على عصره محملة وجهة نظره، وموروثاته، كقصة جديدة عكست ذاكرة ثقافية جديدة فرضتها، الوعي بالعالم إلى البحث عن مراكز متعددة، ربما تكون ذاتية، أو شخصية.. كأنه يقول: (أعلن اختلافي المتمثل في ضرب المركز وتفتيت الشخـــــصية المركزية وتفكيك البناء إلى بناءات قد تكـــــون مشتتة). والكاتب يُمايز بحسية عالية بين الموت كفعل، والموت ككائن حي كما في قصة (نداء أخير)، ويطرح مفهوما جميلا جليا بان الموت لن يأتي للإنسان الفاعل فالفعل فعله الدائم، و به يبقى حيا حيث يموت الإنسان ويبقى الفعل حيا يجري على الأرض بدلالة مدونته الشخصية التي تبقى أبدا تتحدى الموت، أما في قصة (حلم المساء) تستعرض المتغيرات الثقافية، وما واكبها من روافد جديدة للمعرفة الشخصية (متظاهرا بأنه لا يعبا بأحد سوى الكتاب الذي بين يديه- ص36) أبرزها الصورة، فهي قصة سردت بالكلمة صورا، وذكريات عاطفية قد حدث أيام كانت الذاكرة فتية لا يشغلها سوى عالم مثالي، قد مر بالكاتب وخلف كلمات من بعد أن حدد ملامح امرأة ما قد شغلته مذ ذلك الزمان، وأيضا كما في قصة (طقوس قيامة ليلى المغنية)، التي بقي العاشق ينشد قصيدته الشاهدة على من عشق ومن قتله عشق، ذلك (ولفرط ارتباكه، تعثرت قدماه بتلّة التراب فانزلق داخل القبر، واستلقى بسكون فيما خلعت المرأة كفنها ومزقت موتها ثم نهضت واقفة مبهورة تتطلع باندهاش بكل اتجاه متفرسة في السماء الزرقاء وصمت القبور الشاخصة حولها، وما فتئت أن شدت قامتها واندفعت راكضة برشاقة مخترقة ممرات القبور الضيقة وجسدها العاري يهتز ويلمع تحت فضة القمر، يشدها صفير قطار الفجر حيث هبط منه الشبح كعادته في المحطة الخالية- ص 50). قصص تواصل فيها الكاتب (كاظم حسوني) كمدونٍّ حاد الرؤية يعرف كيف يشوق كاتبه بقصصه المقتدرة، الحاضرة كشهادة صريحة صادقة عن عصرها، وعرف كيفية إجهار عشقه لجنس القصة القصيرة، ومن بعد أن تعمد بربط كاتبه القصصي الأول (رقصتها مطر[1])، بـ(ظمأ قديم)، إذ جعلته امتدادا له، حيث حضر (المطر) في متون قصصه كلها، كرابط دقيق ما فتئ (يستدرجنا مجدداً إلى ما ألفناه ونروح ننصت إليه من جديد فعذوبة كلماته كافية لأن تستحوذ علينا وتكبلنا إليه. كنا نحلم، نثب من وحل الظلام، نطير، ونتوارى خارج المكان وصوته وحده يسبح في سماء العنبر الثقيل يهطل فوق رؤوس مغيبة يتساقط عنها غبن متكلس وعفونات أيام غادرة- ص 52).
بعقوبة
25/06/2006 07:44:19 ص
[1] مجموعة قصصية صادرة عن الاتحاد الأدباء العرب – دمشق 200م
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)