المقام العراقي هل سيصمد امام عولمةالموسيقى؟
ضياء السيد كامل
بيت المقام العراقي/ديالى
ولد وترعرع اميراً حالما شفافاً في قصور بغداد وقبابها الشاهقة وعصرها الذهبي، ولد لتطلقه الشفاه وتتلقفه الاذان والقلوب الضامئة والعاشقة للكلمة المموسقة في مجالس السمر البغدادي بين بكاء النوافير ورفرفة الطيور الملونة وايقاعات خطى الجواري الحسان وهن يملأن كؤوس الحب للندمان مع صوت ابراهيم الموصلي وهو يغني(الا عللاني قبل ان نتفرقا- وهاك اسقني كاسا شرابا مروقا- فقد كاد ضوء الصبح ان يفضح الدجى-وكاد قميص الليل ان يتمزقا)هكذا كانت بداية المقام العرقي في بغداد في عصرها العباسي الاول واستمر بالتواصل من حنجرة الى حنجرة ومن معلم الى تلميذ حتى كان شاهد على سقوط بغداد الاول سنة 1258م على يد هولاكو وها هو اليوم احد شهود العيان لاحتلالها الاخير،لست هنا بصدد كتابة موضوع على الاحتلال ولكنه هو وحده المقام العراقي الذي اخذ بيدي لاتصفح خطواته عبر التاريخ لانه-المقام العراقي- عباسي النشاة عراقي الهوية بغدادي الروحية ولان لكل مجتمع ثقافته وتقاليده وموروثاته التي تميزه عن غيره لذا كان ومايزال المقام العراقي جزا لايتجزأ من تفاصيل الحياة والشخصية البغدادية تحديدا.
في العصر الحديث وتحديدا في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الان ظهرت مدرستان للمقام العراقي اهتمتا به وساعدت على المحافظة عليه وايصاله الى الاذان داخل وخارج العراق،المدرسة الاولى هي مدرسة المرحوم رشيد القندرجي 1875م-1945م وهي مدرسة كلاسيكية جدا وتسمى ايضا(طريقة الزير) وهي تعتمد في ادائه على الاستعارة الصوتية وقد تلقاها على يد استاذه المرحوم احمد الزيدان وهو موذن في جامع (منورة خاتون)في الاعظمية في بغداد والمتوفي سنة 1912م وكان ذلك ابان الفترة العثمانية وكان من معاصريهم الاسطة محمود الخياط المتوفي عام 1925م والذي اشتهر باداءه مقام المحمودي وهو استاذ المرحوم الفنان الكبير محمد القبنجي.
لقد كان يودى المقام في المقاهي البغدادية المنتشرة، في بغداد حيث كان الناس يستمعون اليه من خلالها لعدم وجود اذاعة او اجهزة تسجيل صوتي انذك وكان يرافقه في الاداء آلات موسيقية بسيطة مثل الجوزة والسنطور والرق وهو مايسمى( بالجالغي البغدادي ) اما المدرسة الثانية التي ظهرت وماتزال مستمرة ليومنا هذا هي مدرسة الاستاذ محمد القبنجي والتي اعتمدت على الصوت الطبيعي للمغني لا الاستعارة الصوتية أي كل قارئ مقام يقرأ حسب طبقته الصوتية مستغنيا عند التكلف في الاداء وبهذا اطلقه من سجن كلاسيكيته وكذلك قام المرحوم القبنجي بدمج مقامات كثيرة مع بعضها لتشابهها وتقاربها مثل الحليلاوي والباجلان والكلكلي والمخالف وغيرها وكذلك اكتشف مقامات جديدة مثل مقام اللامي-القطر-الحجازكار-النهاوند-الكرد-الهمايون ووضع اسسها وقواعدها.
واليوم واينما كنت في بقاع العالم حينما يدغدغ المقام العراقي سمعك يأخذك دون جواز سفر الى قلب بغداد وازقتها وشناشيلها العتيقة وانت تحث الخطى لتسئل عن حبيب القلب(يهل الخلك من شاف ولفي واعرفه) اولتذهب بقارب على شواطى دجلة الخير والعطاء والحب والجمال ( على شواطى دجلة مر يامنيتي وكت الفجر )وتوصي صياد سمكها المسكوف ليصطاد لك سمكة ( ياصياد السمك صدلي بنية ) لسهرة الاحباب بعد ليلة بغدادية جميلة ( الليلة حلوة حلوة وجميلة ) ، هكذا يسافر بك وبمخيلتك وبذاكرتك ايها الصديق ، فالمقام العراقي يمر اليوم بفترة عصيبة جداً وبمحنة كبيرة تكاد تؤدي به الى الاندثار امام موجة العولمة الثقافية التي طالت كل جوانب الحياة وهو أمام كل المتغيرات العصرية التي وصلت لها الحضارة والتكنلوجيا الحديثة والكم الهائل من الاعمال الغنائية المختلفة عبر وسائل الاتصال والفضائيات و الالوان الغنائية الهجينة ، أذ نجد الغناءاليوم يفقد هويته الخاصة به وبصمته التي تميز غناء وموسيقى كل بلد عن آخر ، فقد بدات تاثيرات العولمة واضحة جداً على الموسيقى والغناء في انحاء العالم ، اذ نجد على سبيل المثال الذي نراه ونسمعه يوميا ان كلام الاغنية مزيج غريب من لغات مختلفة واللازمات الموسيقية وايقاعاتها كذلك بين الغربي البوب والهندي واليوناني والاسباني وكذلك الرقصات المرافقة للاغنية اثناء التصوير ، وفي المحصلة النهائية يخرج المتلقي غير قادر على معرفة هوية الاغنية التي شاهدها واستمع لها ، وكأ ن هناك مؤامرة كبيرة لتتفيه الذوق العام ومحاولة لقتل الجمال ومسخ الهويات لدى الشعوب في كل جواب الحياة الثقافية والفنية وغيرها من المجالاتوليس الوطن العربي فقط، هذا على مستوى الاغنية فكيف بالمقام العراقي الذي هو كما نعرف لون غنائي فلكلوري نخبوي موروث ذو مميزات خاصة استطاع الحفاظ على وجوده طيلة هذه القرون فهل سيصمد امام تحديات العولمة ومتغيراتها ؟
أم انه سيركب موجة الفيديو كليب ويغادر هويته ؟
أستطيع هنا ان اسلط الضوء على مجموعة من اسباب هذه المحنة التي يمر بها مقامنا العراقي :
ان المقام فيه من الصعوبة في الاداء بدءاً من التحرير والتسليم واعتماد القطع والاوصال من انغام موسيقية متنوعة لا يمكن حذف او تغيير أي منها لانها تؤثر على شكل المقام الذي يقرأ .
لايقبل التعديل او الحذف ابداً لانه عبارة عن قوالب غنائية ثابتة لايمكن التلاعب بها ، ولم يحدث أي تغيير فيه سوى ما قام به ااستاذ المرحوم محمد القبنجي .
يكاد يكون لون غنائي نخبوي .
أبتعاد طلاب الدراسات الموسيقية عن الاهتمام بدراسته لانه كما اعتقد لايرضي ويشبع رغباتهم وأذواقهم .
لا يوجد في العالم سوى بعض المؤسسات المختصة بتدريسه والحفاظ عليه ، معهد الدراسات الموسيقية في بغداد وبيوت المقام المنتشرة في بعض المحافظات و المتحف البغدادي ، هذا في الداخل اما في الخارج فمؤسسة المقام العراقي في هولندا فقط .
لم تاتي اية نظرية جديدة للتعديل او التغيير دون المساس بقوالبه ، كما فعل الاستاذ المرحوم محمد القبنجي .
ان لوزارة الثقافة الحصة الاكبر من المسؤولية في هذا الشان وكذلك دائرة الفنون الموسيقية المعنية بالدرجة الاساس على الر غم من متابعتها المستمرة لبيوت المقام العراقي في المحافظات ولم تكن بعيدة هي والقائمين عليها بل اننا نراها تجتهد بدعم والحفاظ على بقائه من خلال النشاطات والاماسي والمهرجانات التي تقوم بها .، أما المهتمين بالمقام من نقاد وكتاب واعلاميين فتقع عليهم مسؤولية تاريخية للحفاظ على جزء مهم من ثقافة عراقنا التي ضاع منها الكثير الكثير قبل الاحتلال وبعده .
ضياء السيد كامل
بيت المقام العراقي/ديالى
ولد وترعرع اميراً حالما شفافاً في قصور بغداد وقبابها الشاهقة وعصرها الذهبي، ولد لتطلقه الشفاه وتتلقفه الاذان والقلوب الضامئة والعاشقة للكلمة المموسقة في مجالس السمر البغدادي بين بكاء النوافير ورفرفة الطيور الملونة وايقاعات خطى الجواري الحسان وهن يملأن كؤوس الحب للندمان مع صوت ابراهيم الموصلي وهو يغني(الا عللاني قبل ان نتفرقا- وهاك اسقني كاسا شرابا مروقا- فقد كاد ضوء الصبح ان يفضح الدجى-وكاد قميص الليل ان يتمزقا)هكذا كانت بداية المقام العرقي في بغداد في عصرها العباسي الاول واستمر بالتواصل من حنجرة الى حنجرة ومن معلم الى تلميذ حتى كان شاهد على سقوط بغداد الاول سنة 1258م على يد هولاكو وها هو اليوم احد شهود العيان لاحتلالها الاخير،لست هنا بصدد كتابة موضوع على الاحتلال ولكنه هو وحده المقام العراقي الذي اخذ بيدي لاتصفح خطواته عبر التاريخ لانه-المقام العراقي- عباسي النشاة عراقي الهوية بغدادي الروحية ولان لكل مجتمع ثقافته وتقاليده وموروثاته التي تميزه عن غيره لذا كان ومايزال المقام العراقي جزا لايتجزأ من تفاصيل الحياة والشخصية البغدادية تحديدا.
في العصر الحديث وتحديدا في منتصف القرن التاسع عشر وحتى الان ظهرت مدرستان للمقام العراقي اهتمتا به وساعدت على المحافظة عليه وايصاله الى الاذان داخل وخارج العراق،المدرسة الاولى هي مدرسة المرحوم رشيد القندرجي 1875م-1945م وهي مدرسة كلاسيكية جدا وتسمى ايضا(طريقة الزير) وهي تعتمد في ادائه على الاستعارة الصوتية وقد تلقاها على يد استاذه المرحوم احمد الزيدان وهو موذن في جامع (منورة خاتون)في الاعظمية في بغداد والمتوفي سنة 1912م وكان ذلك ابان الفترة العثمانية وكان من معاصريهم الاسطة محمود الخياط المتوفي عام 1925م والذي اشتهر باداءه مقام المحمودي وهو استاذ المرحوم الفنان الكبير محمد القبنجي.
لقد كان يودى المقام في المقاهي البغدادية المنتشرة، في بغداد حيث كان الناس يستمعون اليه من خلالها لعدم وجود اذاعة او اجهزة تسجيل صوتي انذك وكان يرافقه في الاداء آلات موسيقية بسيطة مثل الجوزة والسنطور والرق وهو مايسمى( بالجالغي البغدادي ) اما المدرسة الثانية التي ظهرت وماتزال مستمرة ليومنا هذا هي مدرسة الاستاذ محمد القبنجي والتي اعتمدت على الصوت الطبيعي للمغني لا الاستعارة الصوتية أي كل قارئ مقام يقرأ حسب طبقته الصوتية مستغنيا عند التكلف في الاداء وبهذا اطلقه من سجن كلاسيكيته وكذلك قام المرحوم القبنجي بدمج مقامات كثيرة مع بعضها لتشابهها وتقاربها مثل الحليلاوي والباجلان والكلكلي والمخالف وغيرها وكذلك اكتشف مقامات جديدة مثل مقام اللامي-القطر-الحجازكار-النهاوند-الكرد-الهمايون ووضع اسسها وقواعدها.
واليوم واينما كنت في بقاع العالم حينما يدغدغ المقام العراقي سمعك يأخذك دون جواز سفر الى قلب بغداد وازقتها وشناشيلها العتيقة وانت تحث الخطى لتسئل عن حبيب القلب(يهل الخلك من شاف ولفي واعرفه) اولتذهب بقارب على شواطى دجلة الخير والعطاء والحب والجمال ( على شواطى دجلة مر يامنيتي وكت الفجر )وتوصي صياد سمكها المسكوف ليصطاد لك سمكة ( ياصياد السمك صدلي بنية ) لسهرة الاحباب بعد ليلة بغدادية جميلة ( الليلة حلوة حلوة وجميلة ) ، هكذا يسافر بك وبمخيلتك وبذاكرتك ايها الصديق ، فالمقام العراقي يمر اليوم بفترة عصيبة جداً وبمحنة كبيرة تكاد تؤدي به الى الاندثار امام موجة العولمة الثقافية التي طالت كل جوانب الحياة وهو أمام كل المتغيرات العصرية التي وصلت لها الحضارة والتكنلوجيا الحديثة والكم الهائل من الاعمال الغنائية المختلفة عبر وسائل الاتصال والفضائيات و الالوان الغنائية الهجينة ، أذ نجد الغناءاليوم يفقد هويته الخاصة به وبصمته التي تميز غناء وموسيقى كل بلد عن آخر ، فقد بدات تاثيرات العولمة واضحة جداً على الموسيقى والغناء في انحاء العالم ، اذ نجد على سبيل المثال الذي نراه ونسمعه يوميا ان كلام الاغنية مزيج غريب من لغات مختلفة واللازمات الموسيقية وايقاعاتها كذلك بين الغربي البوب والهندي واليوناني والاسباني وكذلك الرقصات المرافقة للاغنية اثناء التصوير ، وفي المحصلة النهائية يخرج المتلقي غير قادر على معرفة هوية الاغنية التي شاهدها واستمع لها ، وكأ ن هناك مؤامرة كبيرة لتتفيه الذوق العام ومحاولة لقتل الجمال ومسخ الهويات لدى الشعوب في كل جواب الحياة الثقافية والفنية وغيرها من المجالاتوليس الوطن العربي فقط، هذا على مستوى الاغنية فكيف بالمقام العراقي الذي هو كما نعرف لون غنائي فلكلوري نخبوي موروث ذو مميزات خاصة استطاع الحفاظ على وجوده طيلة هذه القرون فهل سيصمد امام تحديات العولمة ومتغيراتها ؟
أم انه سيركب موجة الفيديو كليب ويغادر هويته ؟
أستطيع هنا ان اسلط الضوء على مجموعة من اسباب هذه المحنة التي يمر بها مقامنا العراقي :
ان المقام فيه من الصعوبة في الاداء بدءاً من التحرير والتسليم واعتماد القطع والاوصال من انغام موسيقية متنوعة لا يمكن حذف او تغيير أي منها لانها تؤثر على شكل المقام الذي يقرأ .
لايقبل التعديل او الحذف ابداً لانه عبارة عن قوالب غنائية ثابتة لايمكن التلاعب بها ، ولم يحدث أي تغيير فيه سوى ما قام به ااستاذ المرحوم محمد القبنجي .
يكاد يكون لون غنائي نخبوي .
أبتعاد طلاب الدراسات الموسيقية عن الاهتمام بدراسته لانه كما اعتقد لايرضي ويشبع رغباتهم وأذواقهم .
لا يوجد في العالم سوى بعض المؤسسات المختصة بتدريسه والحفاظ عليه ، معهد الدراسات الموسيقية في بغداد وبيوت المقام المنتشرة في بعض المحافظات و المتحف البغدادي ، هذا في الداخل اما في الخارج فمؤسسة المقام العراقي في هولندا فقط .
لم تاتي اية نظرية جديدة للتعديل او التغيير دون المساس بقوالبه ، كما فعل الاستاذ المرحوم محمد القبنجي .
ان لوزارة الثقافة الحصة الاكبر من المسؤولية في هذا الشان وكذلك دائرة الفنون الموسيقية المعنية بالدرجة الاساس على الر غم من متابعتها المستمرة لبيوت المقام العراقي في المحافظات ولم تكن بعيدة هي والقائمين عليها بل اننا نراها تجتهد بدعم والحفاظ على بقائه من خلال النشاطات والاماسي والمهرجانات التي تقوم بها .، أما المهتمين بالمقام من نقاد وكتاب واعلاميين فتقع عليهم مسؤولية تاريخية للحفاظ على جزء مهم من ثقافة عراقنا التي ضاع منها الكثير الكثير قبل الاحتلال وبعده .