٠٧/٠٩/٢٠٠٦
أولاد حارتنا..
هل صارت لعنة
نجيب محفوظ ؟
سعد القرش
بعد قيام ثورة يوليو تموز 1952 ظل نجيب محفوظ عازفا عن الكتابة بحجة أن العالم الذى كان يسعى بالكتابة إلى تغييره غيرته الثورة بالفعل ولم تعد للكتابة جدوى بعد أن أنهى الثوار مرحلة تاريخية كان يريد لها أن تنتهي.وحين انحرفت التجربة الثورية، كما قال محفوظ فى أكثر من مناسبة، عن الشعارات التى أعلنتها وظهرت فجوة عميقة بين النظرية وتطبيقاتها كتب محفوظ رواية "أولاد حارتنا" التى عاد بها إلى الكتابة عام 1959.وبعد بدء نشر الرواية مسلسلة فى صحيفة الأهرام الحكومية ابتداء من 21 سبتمبر أيلول حتى 25 ديسمبر كانون الأول 1959 حث بعض رموز التيار الدينى المحافظ على وقف النشر استنادا إلى تأويل الرواية تأويلا دينيا يتماس مع قصص بعض الأنبياء.إلا أن ذلك لم يتسبب فى وقف النشر ولكنه تسبب فى عدم طبعها فى كتاب داخل مصر إلى اليوم.وقال الكاتب المصرى سليمان فياض إنه كان يعمل انذاك بوزارة الأوقاف سكرتيرا للجنة كانت تحمل عنوان "الدفاع عن الاسلام" مع الشيخين سيد سابق ومحمد الغزالى وكانا مسؤولين معا عن إدارة المساجد والدعوة والدعاة.وأضاف فياض أنه فى إحدى جلسات تلك اللجنة "قدم الشيخ الغزالى ورقتين معدتين من قبل يستعرض فيهما "أولاد حارتنا" من زاوية الاتهام وحدها. وفى الورقتين كانت الإدانة " لأولاد حارتنا " فى غيبة من الدفاع والمتهم. ومنذ ذلك الحين وقصة " التكفير والاتهام بالالحاد لا تتوقف."وصدرت الرواية فى بيروت عن دار الآداب ومن هناك تصل إلى القارئ المصرى الذى لا يجد صعوبة فى الحصول عليها.ولاتزال مكتبة مصر الناشر الدائم لأعمال محفوظ تسقط "أولاد حارتنا" من قائمة أعمال الكاتب إلى اليوم ولم يعترض محفوظ لأنه لم يكن يريد خوض معركة لإصدار الرواية فى مصر.وظلت الرواية متاحة فى مصر لمن يريدها بدون أن إثارة أزمات إلى أن أعلنت لجنة جائزة نوبل فى تقريرها أن الكاتب استحق الجائزة عام 1988 عن أربعة أعمال منها "أولاد حارتنا"، وكانت تلك الإشارة أشبه بباب جهنم على محفوظ حتى أن الشاب الذى حاول قتله بسكين فى أكتوبر تشرين الأول عام 1994 قال "إنهم" قالوا له ان هذا الرجل "محفوظ" مرتد عن الاسلام.ومن بين الكتب التى صدرت عن الرواية "كلمتنا فى الرد على أولاد حارتنا" لمحمد جلال كشك و"كلمتى فى الرد على نجيب محفوظ" للشيخ عبد الحميد كشك.وفى حماسة الاحتفال بجائزة نوبل أعلنت صحيفة المساء الحكومية القاهرية إعادة نشر الرواية مسلسلة وبعد نشرت الحلقة الأولى اعترض محفوظ وبعض الخائفين عليه فتم ايقاف النشر.وعقب المحاولة الفاشلة لاغتيال محفوظ تحمست صحيفة الأهالى المصرية التى تصدر كل أربعاء عن حزب التجمع اليسارى المعارض لنشر الرواية فى عدد خاص منها. وصدرت "أولاد حارتنا" كاملة بعد أيام من الحادث فى عدد خاص من الاهالى يوم الأحد 30 أكتوبر تشرين الأول 1994 وأعلن أنه نفد بالكامل.وحملت عناوين الصفحة الأولى.."لأول مرة فى مصرالنص الكامل لرائعة نجيب محفوظ أولاد حارتنابعد 35 عاما من غيابها عن الشعب المصري."ومهدت الصحيفة لنص الرواية بمقالات لنقاد وصحفيين بارزين هم محمود أمين العالم وشكرى محمد عياد وفريدة النقاش وجابر عصفور ومحمد رضا العدل وسلامة أحمد سلامة والممثل عادل إمام. وزيادة فى الحفاوة تمت الاستعانة برسوم مصاحبة للنص للفنانين عبد الغنى أبو العينين وجودة خليفة فضلا عن غلاف الطبعة البيروتية .وعقب نشر الرواية فى الاهالى أصدر كتاب وفنانون بيانا طالبوا فيه بعدم نشر الرواية فى مصر بدعوى حماية حقوق المؤلف الذى نجا قبل أيام من الذبح. فى حين وصف كتاب أخرون ذلك البيان بأنه "محزن".وبعد محاولة الاغتيال قام الشيخ الغزالى بزيارة محفوظ فى مستشفى هيئة الشرطة على شاطيء نهر النيل حيث كان يتلقى العلاج حيث التقيا لأول مرة.والشيخ الغزالى بشهادة فياض هو صاحب المذكرة التى صودرت بموجبها "أولاد حارتنا".وروى الكاتب المصرى يوسف القعيد الذى حضر اللقاء أن الغزالى علق على اتاحة الرواية فى مصر قائلا إن "السموم أيضا تنشر خلسة والناس تقبل عليها" وشدد على أنه ضد الرواية ولكنه أدان محاولة الاغتيال التى "لا يقرها شرع ولا دين".وردا على التمهيد للمحاولة ببعض الكتب التحريضية ومنها كتاب الشيخ كشك قال الغزالى انه "رجل جاهل"، فى إشارة إلى كشك.وتعرض محفوظ لمشكلة أخرى ليس بسبب "أولاد حارتنا" مباشرة ولا بسبب قصة قصيرة كتبها فى الستينيات وتحمل عنوان "الجبلاوي" وإنما بسبب دعابة.فبعد محاولة اغتياله سألته ممرضة عن حالته الصحية فداعبها قائلا "يظهر أن الجبلاوى راض علي". فالتقط محام من مدينة المنصورة هذه الدعابة بعد نشرها فى صحيفة الأخبار الحكومية فى السابع من ديسمبر كانون الاول عام 1994 ورفع يوم 12 من الشهر نفسه دعوى قضائية ضد محفوظ متهما اياه "بالافتئات على حقوق الله عز وجل وتسميته بالجبلاوي."وطلب المحامى تعويضا مؤقتا قدره 501 جنيه لما أصابه من ضرر نتيجة الحوار المنسوب إلى محفوظ إلا أن محكمة جنايات المنصورة أصدرت حكمها النهائى يوم 26 ديسمبر كانون الاول عام 1995 برفض الدعوى.ثم تجدد الجدل حول "أولاد حارتنا" نهاية عام 2005 حيث أعلنت مؤسسة دار الهلال عن نشر الرواية فى سلسلة "رويات الهلال" الشهرية ونشرت الصحف غلافا للرواية التى قالت دار الهلال إنها قيد الطبع حتى لو لم يوافق محفوظ بحجة أن الابداع بمرور الوقت يصبح ملكا للشعب لا لصاحبه. وحالت قضية حقوق الملكية الفكرية التى حصلت عليها دار الرشوق دون ذلك.وأعلنت دار الشروق مطلع عام 2006 أنها ستنشر الرواية بمقدمة للكاتب الاسلامى أحمد كمال أبو المجد. ونشرت مقدمة أبو المجد التى أطلق عليها "شهادة" فى بعض الصحف لكن الرواية لم نفسها لم تصدر إلى الان.
سعد القرش
نجيب محفوظ
ملتبساً نصوصه السردية الأخيرة
محمد علي شمس الدين
نصب تذكاري لنجيب محفوظ في القاهرةمنذ العام 1994، وتحديداً من تاريخ يوم ما من أيام تشرين الأول 1994، حصل انعطاف كبير في حياة ونتاج الروائي الكبير نجيب محفوظ، وقد انعكس وضعه الجَسَدي على نتاجه انعكاساً ايجابياً، فكتب على امتداد السنوات التالية عملين هما من أجمل ما كتب في حياته الإبداعية، «أصداء السيرة الذاتية» و «أحلام فترة النقاهة»... ولم يكفّ عن كتابة الأحلام، إلا حين اضطرّه عارض صحي للدخول الى المستشفى في الشهر الفائت (تموز، يوليو 2006). آخر حلم كتبه، كما نشر في «لوفيارو ماغازين» – التي كان يكتب فيها بين حينٍ وآخر – هو التالي:
«رأيت ناصراً في الحلم وهو يعطيني رغيف خبز من نوع خبز مصر العليا وهو يمتاز بأنه قاسٍ ومطبوخ على ضوء الشمس، فهو قد أعطاني إياه وطلب مني أن آكله».
يضيف محفوظ في المجلة نفسها: «الحلم حدود عالمي».
وهذا الحلم هو حلم سياسي وطني بامتياز... لكنّ رقعة أحلام نجيب محفوظ هي أكثر اتساعاً وأبعد أغواراً، بعضها يطلع من النوم والرؤيا، والبعض الآخر هو أحلام يقظة.
وقد اضطرت اصابة نجيب محفوظ ببعض الإعاقة الجسديّة، من شلل جزئي في عصب اليد اليمنى، وضعف بالغ في النظر، بنتيجة ما تعرض له في تشرين الأول (أكتوبر) 1994 من طعنات غدرٍ في عنقه من قبل متشددين جاهلين من الجماعة الإسلامية، اضافة الى وضعه الصحي الناجم عن مرض السكري الذي يعاني منه من مدة طويلة... الى اللجوء للذاكرة من جهة وللأحلام من جهة ثانية، ليملي شحنته الإبداعية على من يكتبها له على الورق. هكذا جاءت شيخوخة نجيب محفوظ مصحوبة بإعاقات جسدية وصحية، لكنها خصبة ومنتجة على صعيد الكتابة. أسمح لنفسي بأن أعتبر عملية الأخيرين، وهما أبرز ما كتبه في الشيخوخة: «أصداء السيرة الذاتية» و «أحلام فترة النقاهة»، بمثابة ولادة جديدة لهذا الروائي العظيم، صاحب المراحل والمفاجآت... لقد تولدت لديه رؤيا روائيّة جديدة، لعلها تطوير خصب ومتنوّع لمرحلة كتاب «المرايا»، وتتصف بصفتين أساسيتين هما: الشعرية المستندة الى الرؤيا والأحلام من جهة، والتركيز أو التكثيف المضغوط حتى حدود الانفجار لعنصري الحَدَث واللغة... فنجيب محفوظ الثاني، هو بالعربية، شاعر الرواية الأكبر، وروائي الشعر المفاجئ، ولا يشقّ له في هاتين السِمَتين غبار.
يلجأ الكاتب في عمليه المذكورين: السيرة (وهي الأهم والأعمق) والأحلام، الى خيمياء غريبة تدور في رأسه، وتعصف في تاريخه الذاتي والعام، ووجدانه... قبل أن تستوعبها الكلمات. تتقاطع في «أصداء السيرة الذاتية» شخصيّة نجيب محفوظ السِيَريّة (سيرته الذاتية) مع ذاته الثقافيّة المتخيّلة، أي تتقاطع مجمل إبداعاته الروائية الواقعية والمتخيّلة (كتب أكثر من خمسين رواية ومجموعات قصصية كثيرة إضافةً الى النصوص المسرحيّة)، مع نتف من سيرة حياته من الصِبا حتى الشيخوخة. فنحن هنا لسنا أمام عمل روائي صرف، ولسنا أمام مذكرات وسرد لوقائع سيرة حياتية، بل أمام عمل يبدأ من أرض الذاكرة ليصعد في فضاء التأمّل والثقافة.
وأول المفارقات ما تكشفه الأصداء من حقائق للذات الإبداعية لنجيب محفوظ، هي على عكس ما اعترف به أو أشيع عنه من أنه كائن اجتماعي محافظ ومنضبط، وينطوي على نفسيّة «موظّف» وسلوك يداري السلطة الحاكمة، أو القوى العالمية المسيطرة ولا يدعو لمناطحتها... حتى لكأنه يتلافى «الثورة» بمعناها السياسي والاجتماعي المباشر.
في «الأصداء» ينكشف لنا نجيب محفوظ آخر ومغاير. يكتب في إحدى نبذ السيرة: «دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح الى مدرستي الأولية محروساً بالخادمة. سرت كمن يساق الى سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة وفي قلبي حنين للفوضى...» فهو منذ السابعة من عمره، مشغوف بالثورة وداعية لها وفي قلبه حنين الفوضى (فأين الانضباط الوظيفي؟). ويكتب في النبذة الثانية «... واندلعت في باطني ثورة مباغتة، متسمة بالعنف متعطشة للجنون»... وحتى لا ننساق وراء إغراء الكلمات وخداعها، علينا أن ندرك خاتمة كل نبذة من النبذتين آنفتي الذكر... فالثورة التي دعا اليها محفوظ وهو دون السابعة كانت متعلقة بتظاهرات الطلاّب وإقفال المدارس بنتيجة ذلك. لذا كتب: «ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة الى الأبد». كذلك اندلاع الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون، في باطنه... فقد اندلعت «أمام الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء».
نحن هنا أمام مبدع ملتبس، بل متعدد... وينبغي الحفر على طبقات ذاته الإبداعية.
يقول في الأصداء: «سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأنّ عاقبة الجبن أوخمُ من عاقبة السلامة». وسوف نعثر في شخصيّة أصداء السيرة الذاتية وهي شخصيّة «عبد ربه التائه» 0 ولعلها الكاتب نفسه – على جميع الأشخاص الذين تراكموا أو تعاقبوا على نجيب محفوظ على امتداد مراحل حياته، من لدن مغادرته الطفولة، ودورانه في البحث عنها، حتى حدود الموت ومشارف القبر. ونجد أنفسنا أمام متأمّل وروائي بعيد الأغوار، خصب، متعدّد وصاحب أقنعة.
فهو يمشي، كما يقول «تتبعه نداءات الحب والموت»، ويتقلّب بين الذاكرة والنسيان حيث «قوّة الذاكرة تتجلّى في التذكّر كما تتجلّى في النسيان». ومحفوظ صاحب مقاطع وسِيَر عذبة في العشق وتمجيد الحياة، تقرّبه من الشعر الصافي. يقول في «خطبة الفجر»: «إذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحبَ والنغم» ويقول: «كابدت من الشوق ما جعل حياتي لهفة مكنونة في حنين».
ويظهر على نجيب محفوظ، من خلال عبد ربه التائه مسّ من الانجذاب الصوفي لم يكن موجوداً أو واضحاً في أعماله الروائية والقصصية السابقة. يظهر لنا، وهو يجري وراء قطار القناطر الخيريّة، وكأنه مشدود وراء قطار آخر ونداء يقول له «اترك كل شيءٍ واتبعني»... ولؤلؤته التي يراها في المنام، تخصّه وحده دون الناس. متعته كمتعة لاعب البليارد مع نفسه من دون لاعب يواجهه أو جمهور يلتفّ حوله «المتعة أن ألعب وحدي...» كما يقول.
ولا نحسبنَّ الشيخ نجيب محفوظ مستسلماً لسكينة الإيمان، وهدوء العقل وطمأنينة الشيخوخة... إنه أشدّ تركيباً وأجمل خلطةً وجودية من ذلك. انه يرى ويقول بضرورة الفوضى... يسوق في نبذة من السيرة خبراً عن رجل له ثلاثة أبناء عقد النيّة على السفر للحجّ، فاستدعاهم وسألهم واحداً واحداً:
- ماذا تقولون بعد الذي كان؟
أجاب الأكبر: لا أمل بغير القانون
وأجاب الأوسط: لا حياة بغير الحب
وأجاب الأصغر: العدل أساس القانون والحبّ
فابتسم الأب وقال: لا بدّ من شيء من الفوضى كي يفيق الغافل من غفلته. ونجيب محفوظ، صاحب أصداء السيرة الذاتية، هو عينه تاجر الأحلام الأكبر، في «أحلام فترة النقاهة»... ولعله مهّد لهذه الأحلام حين كتب في نهاية الأصداء «حذارِ... فإنني لم أجد تجارةً هي أربحُ من بيع الأحلام».
فمادّة «أحلام فترة النقاهة» مادّة حلميّة محض... مع عدم التخلّي عن الحدث الحكائي أو الروائي والشخصيات الروائية. فثمّة إذن، في أصداء السيرة كما في الأحلام، عناصر سرد روائي بعدّته الأساسية، من خلال انخطافات الشعر وأحلامه واختزاله التعبيري.
يقدّم لنا نجيب محفوظ، على الرغم من شيخوخته وضعفه، في «الأحلام» دليلاً اضافياً على «فحولة أدبية» (كما تقول سناء البيسي في مقدمتها للأحلام). إنه يشرخ في الأرض البكر. فبين المادّة الحلمية والفوضى الخلاّقة تتشكل نصوص أحلام فترة النقاهة بآلية سريالية عجيبة. فنحن أمام شريط من الأحلام ممتع مختصر مفاجئ يقترب فيه محفوظ من ساحة القصيدة، لجهة الكثافة والغرابة والمخيّلة. والأحلام ليست مجنونة وإن كانت غرائبيّة، وهي مرتّبة بضبط روائي يغوص في اللاوعي، ولكنه لا يغادر الوعي أو يقطع معه... ما يجعل بعضها قريباً من أحلام اليقظة... مع مقدار من الشطح يقل أو يزيد بين حلمٍ وآخر... ما يضفي على هذه الكتابة المفاجئة، شيئاً من الفنتازيا. يقول في حلم 64: «من شدّة الرعب تسمّرت قدماي في الأرض، فعلى بعد ذراعٍ منّي شبّت ثلاثة كلابٍ ضخمة، متوحشة، تريد أن تنقضّ عليّ لتفتُكَ بي لولا أن قبَضَتْ على أذيالها امرأة باستماتة»... وإلى اليمين وقعت كلبة في ريعان الشباب لآية في غزارة الشعر وبياضه ونعومته، وكانت تشاهد ما يحدث في قلق تجلّى في اهتزازات ذيلها المقصوص. وارتفع نباح الكلاب الثلاثة واشتعلت في أعينها الرغبة المتأججة في الفتك بي، ولما تعذّر عليها الوصول إليّ استدارت فجأةً ووثبت على المرأة. وعند ذلك اقتلع الرعب قلبي وارتمت عليّ الكلاب... أما الكلبة الجميلة فتطلّعت لي مدّة، وترددت لحظة عابرة، ثم ألقت بنفسها في المعركة دون مبالاةٍ بالعواقب». الأماكن والأزمنة في أحلام محفوظ، والحوادث والأشخاص تسبح في سَديم غرائبي متخيّل. نكون معه في حديقة فنغدو في شارع، ونبدأ من منزل بالعباسية (الحي السكني الذي يقيم فيه الكاتب في القاهرة) فينقلب المكان الى فيلاّ في موقع آخر. ويلتقي في الأحلام، الأحياء والأموات وتتبادل الأزمنة الأدوار فلا حدود مرسومة بين الصبا والكهولة، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الواقعي والخيالي.
وأحلام محفوظ غالباً ما تلامس شؤون حياة عاشها الرجل، انما بالرمز والإيماء. والشيخ الجليل غالباً ما يحلم بالنساء العاريات، ولكن نادراً ما يصل اليهنّ بوصلٍ مريح. هو يحلم أيضاً بالحكومة والوظيفة والمنزل والأم والأخوات وبأصدقائه من الحرافيش... وربما عثرنا أحياناً على أحلام عبقرية وأحلام ساخرة وأحلام غرائبية الى جانب الأحلام العادية... وهكذا يتابع نجيب محفوظ بالكتابة، الواقع بالحلم، كما يمكن أن يتابع أيضاً، بالكتابة الإبداعية نفسها، الحياة بالموت».
ملتبساً نصوصه السردية الأخيرة
محمد علي شمس الدين
نصب تذكاري لنجيب محفوظ في القاهرةمنذ العام 1994، وتحديداً من تاريخ يوم ما من أيام تشرين الأول 1994، حصل انعطاف كبير في حياة ونتاج الروائي الكبير نجيب محفوظ، وقد انعكس وضعه الجَسَدي على نتاجه انعكاساً ايجابياً، فكتب على امتداد السنوات التالية عملين هما من أجمل ما كتب في حياته الإبداعية، «أصداء السيرة الذاتية» و «أحلام فترة النقاهة»... ولم يكفّ عن كتابة الأحلام، إلا حين اضطرّه عارض صحي للدخول الى المستشفى في الشهر الفائت (تموز، يوليو 2006). آخر حلم كتبه، كما نشر في «لوفيارو ماغازين» – التي كان يكتب فيها بين حينٍ وآخر – هو التالي:
«رأيت ناصراً في الحلم وهو يعطيني رغيف خبز من نوع خبز مصر العليا وهو يمتاز بأنه قاسٍ ومطبوخ على ضوء الشمس، فهو قد أعطاني إياه وطلب مني أن آكله».
يضيف محفوظ في المجلة نفسها: «الحلم حدود عالمي».
وهذا الحلم هو حلم سياسي وطني بامتياز... لكنّ رقعة أحلام نجيب محفوظ هي أكثر اتساعاً وأبعد أغواراً، بعضها يطلع من النوم والرؤيا، والبعض الآخر هو أحلام يقظة.
وقد اضطرت اصابة نجيب محفوظ ببعض الإعاقة الجسديّة، من شلل جزئي في عصب اليد اليمنى، وضعف بالغ في النظر، بنتيجة ما تعرض له في تشرين الأول (أكتوبر) 1994 من طعنات غدرٍ في عنقه من قبل متشددين جاهلين من الجماعة الإسلامية، اضافة الى وضعه الصحي الناجم عن مرض السكري الذي يعاني منه من مدة طويلة... الى اللجوء للذاكرة من جهة وللأحلام من جهة ثانية، ليملي شحنته الإبداعية على من يكتبها له على الورق. هكذا جاءت شيخوخة نجيب محفوظ مصحوبة بإعاقات جسدية وصحية، لكنها خصبة ومنتجة على صعيد الكتابة. أسمح لنفسي بأن أعتبر عملية الأخيرين، وهما أبرز ما كتبه في الشيخوخة: «أصداء السيرة الذاتية» و «أحلام فترة النقاهة»، بمثابة ولادة جديدة لهذا الروائي العظيم، صاحب المراحل والمفاجآت... لقد تولدت لديه رؤيا روائيّة جديدة، لعلها تطوير خصب ومتنوّع لمرحلة كتاب «المرايا»، وتتصف بصفتين أساسيتين هما: الشعرية المستندة الى الرؤيا والأحلام من جهة، والتركيز أو التكثيف المضغوط حتى حدود الانفجار لعنصري الحَدَث واللغة... فنجيب محفوظ الثاني، هو بالعربية، شاعر الرواية الأكبر، وروائي الشعر المفاجئ، ولا يشقّ له في هاتين السِمَتين غبار.
يلجأ الكاتب في عمليه المذكورين: السيرة (وهي الأهم والأعمق) والأحلام، الى خيمياء غريبة تدور في رأسه، وتعصف في تاريخه الذاتي والعام، ووجدانه... قبل أن تستوعبها الكلمات. تتقاطع في «أصداء السيرة الذاتية» شخصيّة نجيب محفوظ السِيَريّة (سيرته الذاتية) مع ذاته الثقافيّة المتخيّلة، أي تتقاطع مجمل إبداعاته الروائية الواقعية والمتخيّلة (كتب أكثر من خمسين رواية ومجموعات قصصية كثيرة إضافةً الى النصوص المسرحيّة)، مع نتف من سيرة حياته من الصِبا حتى الشيخوخة. فنحن هنا لسنا أمام عمل روائي صرف، ولسنا أمام مذكرات وسرد لوقائع سيرة حياتية، بل أمام عمل يبدأ من أرض الذاكرة ليصعد في فضاء التأمّل والثقافة.
وأول المفارقات ما تكشفه الأصداء من حقائق للذات الإبداعية لنجيب محفوظ، هي على عكس ما اعترف به أو أشيع عنه من أنه كائن اجتماعي محافظ ومنضبط، وينطوي على نفسيّة «موظّف» وسلوك يداري السلطة الحاكمة، أو القوى العالمية المسيطرة ولا يدعو لمناطحتها... حتى لكأنه يتلافى «الثورة» بمعناها السياسي والاجتماعي المباشر.
في «الأصداء» ينكشف لنا نجيب محفوظ آخر ومغاير. يكتب في إحدى نبذ السيرة: «دعوت للثورة وأنا دون السابعة. ذهبت ذات صباح الى مدرستي الأولية محروساً بالخادمة. سرت كمن يساق الى سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة وفي قلبي حنين للفوضى...» فهو منذ السابعة من عمره، مشغوف بالثورة وداعية لها وفي قلبه حنين الفوضى (فأين الانضباط الوظيفي؟). ويكتب في النبذة الثانية «... واندلعت في باطني ثورة مباغتة، متسمة بالعنف متعطشة للجنون»... وحتى لا ننساق وراء إغراء الكلمات وخداعها، علينا أن ندرك خاتمة كل نبذة من النبذتين آنفتي الذكر... فالثورة التي دعا اليها محفوظ وهو دون السابعة كانت متعلقة بتظاهرات الطلاّب وإقفال المدارس بنتيجة ذلك. لذا كتب: «ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة الى الأبد». كذلك اندلاع الثورة المباغتة المتسمة بالعنف المتعطشة للجنون، في باطنه... فقد اندلعت «أمام الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء».
نحن هنا أمام مبدع ملتبس، بل متعدد... وينبغي الحفر على طبقات ذاته الإبداعية.
يقول في الأصداء: «سألت الشيخ عبد ربه التائه: متى يصلح حال البلد؟ فأجاب: عندما يؤمن أهلها بأنّ عاقبة الجبن أوخمُ من عاقبة السلامة». وسوف نعثر في شخصيّة أصداء السيرة الذاتية وهي شخصيّة «عبد ربه التائه» 0 ولعلها الكاتب نفسه – على جميع الأشخاص الذين تراكموا أو تعاقبوا على نجيب محفوظ على امتداد مراحل حياته، من لدن مغادرته الطفولة، ودورانه في البحث عنها، حتى حدود الموت ومشارف القبر. ونجد أنفسنا أمام متأمّل وروائي بعيد الأغوار، خصب، متعدّد وصاحب أقنعة.
فهو يمشي، كما يقول «تتبعه نداءات الحب والموت»، ويتقلّب بين الذاكرة والنسيان حيث «قوّة الذاكرة تتجلّى في التذكّر كما تتجلّى في النسيان». ومحفوظ صاحب مقاطع وسِيَر عذبة في العشق وتمجيد الحياة، تقرّبه من الشعر الصافي. يقول في «خطبة الفجر»: «إذا راودك خاطر اكتئاب فعالجه بالحبَ والنغم» ويقول: «كابدت من الشوق ما جعل حياتي لهفة مكنونة في حنين».
ويظهر على نجيب محفوظ، من خلال عبد ربه التائه مسّ من الانجذاب الصوفي لم يكن موجوداً أو واضحاً في أعماله الروائية والقصصية السابقة. يظهر لنا، وهو يجري وراء قطار القناطر الخيريّة، وكأنه مشدود وراء قطار آخر ونداء يقول له «اترك كل شيءٍ واتبعني»... ولؤلؤته التي يراها في المنام، تخصّه وحده دون الناس. متعته كمتعة لاعب البليارد مع نفسه من دون لاعب يواجهه أو جمهور يلتفّ حوله «المتعة أن ألعب وحدي...» كما يقول.
ولا نحسبنَّ الشيخ نجيب محفوظ مستسلماً لسكينة الإيمان، وهدوء العقل وطمأنينة الشيخوخة... إنه أشدّ تركيباً وأجمل خلطةً وجودية من ذلك. انه يرى ويقول بضرورة الفوضى... يسوق في نبذة من السيرة خبراً عن رجل له ثلاثة أبناء عقد النيّة على السفر للحجّ، فاستدعاهم وسألهم واحداً واحداً:
- ماذا تقولون بعد الذي كان؟
أجاب الأكبر: لا أمل بغير القانون
وأجاب الأوسط: لا حياة بغير الحب
وأجاب الأصغر: العدل أساس القانون والحبّ
فابتسم الأب وقال: لا بدّ من شيء من الفوضى كي يفيق الغافل من غفلته. ونجيب محفوظ، صاحب أصداء السيرة الذاتية، هو عينه تاجر الأحلام الأكبر، في «أحلام فترة النقاهة»... ولعله مهّد لهذه الأحلام حين كتب في نهاية الأصداء «حذارِ... فإنني لم أجد تجارةً هي أربحُ من بيع الأحلام».
فمادّة «أحلام فترة النقاهة» مادّة حلميّة محض... مع عدم التخلّي عن الحدث الحكائي أو الروائي والشخصيات الروائية. فثمّة إذن، في أصداء السيرة كما في الأحلام، عناصر سرد روائي بعدّته الأساسية، من خلال انخطافات الشعر وأحلامه واختزاله التعبيري.
يقدّم لنا نجيب محفوظ، على الرغم من شيخوخته وضعفه، في «الأحلام» دليلاً اضافياً على «فحولة أدبية» (كما تقول سناء البيسي في مقدمتها للأحلام). إنه يشرخ في الأرض البكر. فبين المادّة الحلمية والفوضى الخلاّقة تتشكل نصوص أحلام فترة النقاهة بآلية سريالية عجيبة. فنحن أمام شريط من الأحلام ممتع مختصر مفاجئ يقترب فيه محفوظ من ساحة القصيدة، لجهة الكثافة والغرابة والمخيّلة. والأحلام ليست مجنونة وإن كانت غرائبيّة، وهي مرتّبة بضبط روائي يغوص في اللاوعي، ولكنه لا يغادر الوعي أو يقطع معه... ما يجعل بعضها قريباً من أحلام اليقظة... مع مقدار من الشطح يقل أو يزيد بين حلمٍ وآخر... ما يضفي على هذه الكتابة المفاجئة، شيئاً من الفنتازيا. يقول في حلم 64: «من شدّة الرعب تسمّرت قدماي في الأرض، فعلى بعد ذراعٍ منّي شبّت ثلاثة كلابٍ ضخمة، متوحشة، تريد أن تنقضّ عليّ لتفتُكَ بي لولا أن قبَضَتْ على أذيالها امرأة باستماتة»... وإلى اليمين وقعت كلبة في ريعان الشباب لآية في غزارة الشعر وبياضه ونعومته، وكانت تشاهد ما يحدث في قلق تجلّى في اهتزازات ذيلها المقصوص. وارتفع نباح الكلاب الثلاثة واشتعلت في أعينها الرغبة المتأججة في الفتك بي، ولما تعذّر عليها الوصول إليّ استدارت فجأةً ووثبت على المرأة. وعند ذلك اقتلع الرعب قلبي وارتمت عليّ الكلاب... أما الكلبة الجميلة فتطلّعت لي مدّة، وترددت لحظة عابرة، ثم ألقت بنفسها في المعركة دون مبالاةٍ بالعواقب». الأماكن والأزمنة في أحلام محفوظ، والحوادث والأشخاص تسبح في سَديم غرائبي متخيّل. نكون معه في حديقة فنغدو في شارع، ونبدأ من منزل بالعباسية (الحي السكني الذي يقيم فيه الكاتب في القاهرة) فينقلب المكان الى فيلاّ في موقع آخر. ويلتقي في الأحلام، الأحياء والأموات وتتبادل الأزمنة الأدوار فلا حدود مرسومة بين الصبا والكهولة، وبين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين الواقعي والخيالي.
وأحلام محفوظ غالباً ما تلامس شؤون حياة عاشها الرجل، انما بالرمز والإيماء. والشيخ الجليل غالباً ما يحلم بالنساء العاريات، ولكن نادراً ما يصل اليهنّ بوصلٍ مريح. هو يحلم أيضاً بالحكومة والوظيفة والمنزل والأم والأخوات وبأصدقائه من الحرافيش... وربما عثرنا أحياناً على أحلام عبقرية وأحلام ساخرة وأحلام غرائبية الى جانب الأحلام العادية... وهكذا يتابع نجيب محفوظ بالكتابة، الواقع بالحلم، كما يمكن أن يتابع أيضاً، بالكتابة الإبداعية نفسها، الحياة بالموت».
أدونيس
ذاكرة والواقع في الحرب الإسرائيلية على لبنان
- 1 –
الحصار الذي تواصل إسرائيل فرضـــه علــــى لبنان، تواصل في الوقت ذاته، فرضه على نفسها، إنسانياً وأخلاقياً. للمرة الأولى، أسمع في العالم بين الأوساط الثقافية أشخاصاً كانوا يقفون الى جانب هذه الدولة، من دون تحفظ، بدأوا يترددون في تأييدها، ويشكّون في صحة خطابها، وينتقدون ممارساتها. وهذه علامة مهمة، خصوصاً إذا عرفنا الهيمنة شبه الكلية التي تمارسها إسرائيل على هذه الأوساط، بل إن بعض «أصدقائها» من الكتاب والمفكرين بدأوا يطرحون أسئلة من هذا النوع، مثلاً: «إذا كانت إسرائيل ديموقراطية حقاً، كما تقول لنا، فلماذا لا تقبل أن يكون هناك أشخاصٌ لا يؤيدون سياستها»؟ و «لماذا تصرّ أن تفرض على الجميع أن يؤيدوها وأن يُحبوها»؟
- 2 –
من ناحية ثانية، يتابع هؤلاء الأصدقاء، قائلين: «أثبت قادة إسرائيل ويُثبتون، نظراً وعملاً، منذ نشوء دولتهم، أنهم لا يريدون أن يعيشوا في سلام عادل ودائم، لا مع الفلسطينيين، ولا مع العرب»، ويكمل بعضهم قائلاً: «على رغم ما عاناه الفلسطينيون، طوال أكثر من نصف قرن، في شتاتهم أو على أرضهم، دفاعاً عن حقوقهم المشروعة، وعلى رغم ما قدمته الأنظمة العربية الى إسرائيل، في الاعتراف بها، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، أو في إقامة علاقات معها، ديبلوماسية أو تجارية، أو الاثنتين معاً، فإن هذا كله بدا كأنه ليس إلا واجباً مفروضاً على العرب – طوعاً أو كرهاً».
هكذا، طول نصف قرن، بدا أن قادة إسرائيل، متعاونين ومتحدين مع قادة الولايات المتحدة، لا ينظرون عملياً الى العرب إلا بصفتهم:
إما ثروة ينبغي تجريدهم منها أو السيطرة عليها.
وإما أرضاً استراتيجية تجب «قيادتها» لأنهم لا يعرفون أن يقودوها.
وإما بشراً يجب استخدامهم، بطريقة أو بأخرى، عمّالاً وعملاء، أو عبيداً.
فليس هناك أي بعد إنساني أو حضاري في نظرة النظام الإسرائيلي الى العرب.
- 3 –
نعرف جميعاً أن للذاكرة مكاناً أول في حياة اليهود، وفي تاريخهم، وفي ثقافتهم. والغريب أن النظام الإسرائيلي يمحو من هذه الذاكرة كل ما يتصل بالعرب. فهو لا يفكر بتاريخ الأسلاف الذين ينتمي اليهم، والذين عاشوا في بيروت ودمشق وبغداد، وفي مكة والمدينة وصنعاء، وفي القاهرة والمغرب العربي، وفي الأندلس، جنباً الى جنب، وعلى جميع المستويات مع إخوانهم العرب. وعندما طُرد العرب من الأندلس، طُرد اليهود معهم، كأنهم شعب واحد. وصحيح أنهم تخاصموا، وتنافسوا، وتحاربوا، لكن تمّ ذلك في ما بينهم، كما كان يتم حتى في العائلة الواحدة، أو في القبيلة الواحدة، أو في ما بين القبائل العربية. وهكذا كانوا يواصلون حياتهم المشتركة. ولم يكن أحد ينادي بطردهم، أو قتلهم، كما يفعل هذا النظام اليوم، مع «جيرانه» العرب في فلسطين، مثلاً.
- 4 –
الأكثر غرابة هو أن الدول الغربية التي تقف الى جانب إسرائيل، لا تطرح سؤالاً واحداً حول هذا السلوك الذي يمارسه النظام الإسرائيلي إزاء العرب. ولا تتساءل، تبعاً لذلك، عن الدور الذي يقوم به، بتجبّره، وغطرسته واحتقاره للعرب، في توليد ردود الأفعال عند الشعوب العربية، بدءاً بالتذمر والنفور والكراهية، ورفض السلام مع نظام يحتقرهم، وانتهاء بالعنف إزاءها، وبالتشدد الأصولي، على أنواعه العنفية (الإرهابية) والفكرية.
وها هي تلك الدول تنظر الى الإرهاب كأنه ينبت عفواً من تلقائه، أو كأنه نقطة تجريدية، أو شكل من أشكال الوجود الميتافيزيقي، لا سبب له ولا علة، أو تنحصر أسبابه، في «إرادة» مجانية لتدمير الغرب، وحليفه النظام الإسرائيلي.
أما كيف نشأت هذه «الإرادة»، وما الأسباب الكامنة وراءها، فعلمُها عند الولايات المتحدة وإسرائيل وحدهما. وهو علم لا يكف عن الخلط الأحمق الغبي الظالم، بين الإرهاب، والتحرر، ونزعة الاستقلال. والحق اننا بتنا اليوم نخشى أن يُعدّ مثلاً نقد الثقافة الإسرائيلية، وبخاصة في جوانبها الدينية – الاجتماعية، نوعاً من الإرهاب، أو نوعاً من العداء للسامية.
- 5 –
كلا، لن يس
تطيع النظام الإسرائيلي أن يغلب العرب، أو أن يحاورهم، بقدرته على زرع الجثث في شوارع فلسطين أو لبنان (أو غيرهما – من يدري؟)، ولا بقدرته على تدمير المطارات والمرافئ والطرقات والجسور والعمارات، ومقومات الحياة، إضافة الى قتل البشر، وتهجيرهم وتشتيتهم.
لا يستطيع الإنسان أن يتغير أو يغير عدوّه، إذا لم يغيّر هو نفسه ما بنفسه. ولن يستطيع النظام الإسرائيلي أن يدخل في حوار حقيقي وخلاّق مع العرب، إلا إذا تحرر من الدمار الداخلي الذي يملأ عقله، وتحرر كذلك من الجثث ومن الألغام التي تزرعها في أعماقه الذاكرة والتاريخ والأحداث.
كل شيء يتيح للعرب أن يتساءلوا حول مصيرهم، إنسانياً وحضارياً، في هذا المناخ الذي يخلقه النظام الإسرائيلي، المناخ الحربي – اللاإنساني واللاحضاري، الذي رأينا نموذجه الأبرز (حتى الآن) في لبنان. ولا نتحدث عن فلسطين: لا عن الجدار العازل المشين، ولا عن التدمير المتواصل للحياة في فلسطين.
كيف يمكن الكلام على التعايش العربي – الإسرائيلي في هذا المناخ؟ والجواب يقدّمه الواقع نفسه»
أنصار هذا التعايش – السلام بين اليهود والعرب إنما هم قلّة ضئيلة تزداد تضاؤلاً. وهي قلة مهمشة غالباً، ومنبوذة أحياناً
.
- 6 –
قد تستطيع إسرائيل أن تغلب، موقتاً، ولكنها لا تقدر أن تقنع أحداً بـ «صحة» دعواها. وعجزها عن الإقناع يزداد طرداً مع قدرتها على التغلّب. غير أن التغلّب موقت، كما قلت. فهو من جهة عدواني، وهو من جهة ثانية، آليّ. وعلى إسرائيل وأنصارها في الغرب أن يتذكروا أن الانتصار الأخير ليس للآلة، وإنما هو للإنسان.
وأنا هنا لا أُماهي بين اليهود والنظام الإسرائيلي. ولا أُماهي كذلك بين العرب وأنظمتهم. وأقول هذا عارفاً إن النظر الى النظام، في معزل عن الشعب الذي يمثله، يستدعي نقاشاً. وفيه ما قد يُثير كثيراً من الخلافات.
ربما تعمل إسرائيل والولايات المتحدة على أخذ العِبرة من حربهما على لبنان، والإفادة منها في إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، بإقامة دولتهم المستقلة، والكف عملياً، خلافاً للمنطوق النظري، عن وضع العوائق في وجه قيام أنظمة عربية، ديموقراطي، حقاً.
فقد أُعلنت هذه الحرب بحجة القضاء على الإرهاب، متمثلاً هذه المرة في «حزب الله».
والنتيجة هي أنها كانت «قضاء» على لبنان، لا على هذا الحزب. فقد دُمّرت مطاراته، ومرافئه وطرقاته وجسوره. ودُمّرت آلاف العمارات وكثير من مقومات الحياة الزراعية، والاصطيافية، والصناعية. إضافة الى تهجير مليون نسمة، والى القتل والتشتيت وإعاقة المئات.
غير أن هذا التدمير المادي للبنان، لم يؤد، كما كان يُظن، الى تدميره، معنوياً وسياسياً، بحيث يُترجم ذلك في انقسامات وصراعات داخلية تنذر بحرب أهلية جديدة. على العكس، ازدادت وحدة اللبنانيين تماسكاً ورسوخاً، وازداد وعيهم بلا إنسانية النظام الإسرائيلي، واستهتاره بالإنسان وحقوقه. وازدرائه لكل ما هو حضاري. وهكذا ازدادوا كراهية لهذا النظام وعداء. ونهض بينهم وبين فكرة السلام حاجز قوي متين، يؤسف له كثيراً، والسبب فيه هو النظام الإسرائيلي.
يُضاف الى ذلك شعور الاعتزاز بالبطولات التي أثبتها اللبنانيون في مقاومة الغزو الإسرائيلي، وفي التصدي له، وفي تمزيق هالة الغطرسة عن «جيش إسرائيلي لا يُغلب».
والأعمق من هذا كله هو أن هذا الغزو عمّق عند اللبنانيين إرادة الوحدة في نموذج فريد للديموقراطية في الشرق العربي، وفي ترسيخ هذا النموذج القائم على التعددية الثقافية، وعلى التنوّع البشري، والانفتاح على الآخر، خلافاً لما نراه في إسرائيل، وفي معظم البلدان العربية.
ذاكرة والواقع في الحرب الإسرائيلية على لبنان
- 1 –
الحصار الذي تواصل إسرائيل فرضـــه علــــى لبنان، تواصل في الوقت ذاته، فرضه على نفسها، إنسانياً وأخلاقياً. للمرة الأولى، أسمع في العالم بين الأوساط الثقافية أشخاصاً كانوا يقفون الى جانب هذه الدولة، من دون تحفظ، بدأوا يترددون في تأييدها، ويشكّون في صحة خطابها، وينتقدون ممارساتها. وهذه علامة مهمة، خصوصاً إذا عرفنا الهيمنة شبه الكلية التي تمارسها إسرائيل على هذه الأوساط، بل إن بعض «أصدقائها» من الكتاب والمفكرين بدأوا يطرحون أسئلة من هذا النوع، مثلاً: «إذا كانت إسرائيل ديموقراطية حقاً، كما تقول لنا، فلماذا لا تقبل أن يكون هناك أشخاصٌ لا يؤيدون سياستها»؟ و «لماذا تصرّ أن تفرض على الجميع أن يؤيدوها وأن يُحبوها»؟
- 2 –
من ناحية ثانية، يتابع هؤلاء الأصدقاء، قائلين: «أثبت قادة إسرائيل ويُثبتون، نظراً وعملاً، منذ نشوء دولتهم، أنهم لا يريدون أن يعيشوا في سلام عادل ودائم، لا مع الفلسطينيين، ولا مع العرب»، ويكمل بعضهم قائلاً: «على رغم ما عاناه الفلسطينيون، طوال أكثر من نصف قرن، في شتاتهم أو على أرضهم، دفاعاً عن حقوقهم المشروعة، وعلى رغم ما قدمته الأنظمة العربية الى إسرائيل، في الاعتراف بها، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، أو في إقامة علاقات معها، ديبلوماسية أو تجارية، أو الاثنتين معاً، فإن هذا كله بدا كأنه ليس إلا واجباً مفروضاً على العرب – طوعاً أو كرهاً».
هكذا، طول نصف قرن، بدا أن قادة إسرائيل، متعاونين ومتحدين مع قادة الولايات المتحدة، لا ينظرون عملياً الى العرب إلا بصفتهم:
إما ثروة ينبغي تجريدهم منها أو السيطرة عليها.
وإما أرضاً استراتيجية تجب «قيادتها» لأنهم لا يعرفون أن يقودوها.
وإما بشراً يجب استخدامهم، بطريقة أو بأخرى، عمّالاً وعملاء، أو عبيداً.
فليس هناك أي بعد إنساني أو حضاري في نظرة النظام الإسرائيلي الى العرب.
- 3 –
نعرف جميعاً أن للذاكرة مكاناً أول في حياة اليهود، وفي تاريخهم، وفي ثقافتهم. والغريب أن النظام الإسرائيلي يمحو من هذه الذاكرة كل ما يتصل بالعرب. فهو لا يفكر بتاريخ الأسلاف الذين ينتمي اليهم، والذين عاشوا في بيروت ودمشق وبغداد، وفي مكة والمدينة وصنعاء، وفي القاهرة والمغرب العربي، وفي الأندلس، جنباً الى جنب، وعلى جميع المستويات مع إخوانهم العرب. وعندما طُرد العرب من الأندلس، طُرد اليهود معهم، كأنهم شعب واحد. وصحيح أنهم تخاصموا، وتنافسوا، وتحاربوا، لكن تمّ ذلك في ما بينهم، كما كان يتم حتى في العائلة الواحدة، أو في القبيلة الواحدة، أو في ما بين القبائل العربية. وهكذا كانوا يواصلون حياتهم المشتركة. ولم يكن أحد ينادي بطردهم، أو قتلهم، كما يفعل هذا النظام اليوم، مع «جيرانه» العرب في فلسطين، مثلاً.
- 4 –
الأكثر غرابة هو أن الدول الغربية التي تقف الى جانب إسرائيل، لا تطرح سؤالاً واحداً حول هذا السلوك الذي يمارسه النظام الإسرائيلي إزاء العرب. ولا تتساءل، تبعاً لذلك، عن الدور الذي يقوم به، بتجبّره، وغطرسته واحتقاره للعرب، في توليد ردود الأفعال عند الشعوب العربية، بدءاً بالتذمر والنفور والكراهية، ورفض السلام مع نظام يحتقرهم، وانتهاء بالعنف إزاءها، وبالتشدد الأصولي، على أنواعه العنفية (الإرهابية) والفكرية.
وها هي تلك الدول تنظر الى الإرهاب كأنه ينبت عفواً من تلقائه، أو كأنه نقطة تجريدية، أو شكل من أشكال الوجود الميتافيزيقي، لا سبب له ولا علة، أو تنحصر أسبابه، في «إرادة» مجانية لتدمير الغرب، وحليفه النظام الإسرائيلي.
أما كيف نشأت هذه «الإرادة»، وما الأسباب الكامنة وراءها، فعلمُها عند الولايات المتحدة وإسرائيل وحدهما. وهو علم لا يكف عن الخلط الأحمق الغبي الظالم، بين الإرهاب، والتحرر، ونزعة الاستقلال. والحق اننا بتنا اليوم نخشى أن يُعدّ مثلاً نقد الثقافة الإسرائيلية، وبخاصة في جوانبها الدينية – الاجتماعية، نوعاً من الإرهاب، أو نوعاً من العداء للسامية.
- 5 –
كلا، لن يس
تطيع النظام الإسرائيلي أن يغلب العرب، أو أن يحاورهم، بقدرته على زرع الجثث في شوارع فلسطين أو لبنان (أو غيرهما – من يدري؟)، ولا بقدرته على تدمير المطارات والمرافئ والطرقات والجسور والعمارات، ومقومات الحياة، إضافة الى قتل البشر، وتهجيرهم وتشتيتهم.
لا يستطيع الإنسان أن يتغير أو يغير عدوّه، إذا لم يغيّر هو نفسه ما بنفسه. ولن يستطيع النظام الإسرائيلي أن يدخل في حوار حقيقي وخلاّق مع العرب، إلا إذا تحرر من الدمار الداخلي الذي يملأ عقله، وتحرر كذلك من الجثث ومن الألغام التي تزرعها في أعماقه الذاكرة والتاريخ والأحداث.
كل شيء يتيح للعرب أن يتساءلوا حول مصيرهم، إنسانياً وحضارياً، في هذا المناخ الذي يخلقه النظام الإسرائيلي، المناخ الحربي – اللاإنساني واللاحضاري، الذي رأينا نموذجه الأبرز (حتى الآن) في لبنان. ولا نتحدث عن فلسطين: لا عن الجدار العازل المشين، ولا عن التدمير المتواصل للحياة في فلسطين.
كيف يمكن الكلام على التعايش العربي – الإسرائيلي في هذا المناخ؟ والجواب يقدّمه الواقع نفسه»
أنصار هذا التعايش – السلام بين اليهود والعرب إنما هم قلّة ضئيلة تزداد تضاؤلاً. وهي قلة مهمشة غالباً، ومنبوذة أحياناً
.
- 6 –
قد تستطيع إسرائيل أن تغلب، موقتاً، ولكنها لا تقدر أن تقنع أحداً بـ «صحة» دعواها. وعجزها عن الإقناع يزداد طرداً مع قدرتها على التغلّب. غير أن التغلّب موقت، كما قلت. فهو من جهة عدواني، وهو من جهة ثانية، آليّ. وعلى إسرائيل وأنصارها في الغرب أن يتذكروا أن الانتصار الأخير ليس للآلة، وإنما هو للإنسان.
وأنا هنا لا أُماهي بين اليهود والنظام الإسرائيلي. ولا أُماهي كذلك بين العرب وأنظمتهم. وأقول هذا عارفاً إن النظر الى النظام، في معزل عن الشعب الذي يمثله، يستدعي نقاشاً. وفيه ما قد يُثير كثيراً من الخلافات.
ربما تعمل إسرائيل والولايات المتحدة على أخذ العِبرة من حربهما على لبنان، والإفادة منها في إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة، بإقامة دولتهم المستقلة، والكف عملياً، خلافاً للمنطوق النظري، عن وضع العوائق في وجه قيام أنظمة عربية، ديموقراطي، حقاً.
فقد أُعلنت هذه الحرب بحجة القضاء على الإرهاب، متمثلاً هذه المرة في «حزب الله».
والنتيجة هي أنها كانت «قضاء» على لبنان، لا على هذا الحزب. فقد دُمّرت مطاراته، ومرافئه وطرقاته وجسوره. ودُمّرت آلاف العمارات وكثير من مقومات الحياة الزراعية، والاصطيافية، والصناعية. إضافة الى تهجير مليون نسمة، والى القتل والتشتيت وإعاقة المئات.
غير أن هذا التدمير المادي للبنان، لم يؤد، كما كان يُظن، الى تدميره، معنوياً وسياسياً، بحيث يُترجم ذلك في انقسامات وصراعات داخلية تنذر بحرب أهلية جديدة. على العكس، ازدادت وحدة اللبنانيين تماسكاً ورسوخاً، وازداد وعيهم بلا إنسانية النظام الإسرائيلي، واستهتاره بالإنسان وحقوقه. وازدرائه لكل ما هو حضاري. وهكذا ازدادوا كراهية لهذا النظام وعداء. ونهض بينهم وبين فكرة السلام حاجز قوي متين، يؤسف له كثيراً، والسبب فيه هو النظام الإسرائيلي.
يُضاف الى ذلك شعور الاعتزاز بالبطولات التي أثبتها اللبنانيون في مقاومة الغزو الإسرائيلي، وفي التصدي له، وفي تمزيق هالة الغطرسة عن «جيش إسرائيلي لا يُغلب».
والأعمق من هذا كله هو أن هذا الغزو عمّق عند اللبنانيين إرادة الوحدة في نموذج فريد للديموقراطية في الشرق العربي، وفي ترسيخ هذا النموذج القائم على التعددية الثقافية، وعلى التنوّع البشري، والانفتاح على الآخر، خلافاً لما نراه في إسرائيل، وفي معظم البلدان العربية.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)