الشعر في حياة
حسين علي محفوظ
ذاكرة انسكلوبيدية
تورد عن كل حادث حديث
علي العكيدي
ثمانون عاماً ودع العلامة الدكتور حسين علي محفوظ من عمرٍِ كان والقلم صنوان، فالقلم لم يفارق محفوظ كما لم تفارقه نظرته العميقة والدقيقة للحياة وحبه الجنوني للعراق ولبغداد خاصة.
حتى أن لإهتمامه بها وتأثره بتراثها وكتاباته العديدة عنها وتغنيه بأمجادها وخصوصيتها في نفسه شعراً ونثراً وأدباً بشكل عام ، لقب بشيخ بغداد ، ومن شعره في حق بغداد ما قاله هدية لها في يوم تأسيسها:
بغداد برج الأوليا
ء تعانقت فيه الكواكب
غنى الزمان بمجدها
وحدت بمدحتها الركائب
دامت جبيناً للفخار
ومفرقاً لذرى الذوائب
والعلامة محفوظ، الكاتب والأديب والمؤرخ والفلكي والنسابة، الموسوعي بكل ما تعنيه هذه التسمية من أبعاد نقدية وفكرية، قد بدأ حياته الفكرية شاعراً، لذلك أضحى محفوظ مرهف الحس، نقي الوجدان، صادق المشاعر، بكاء تدمع له عينان صادقتان لمجرد أن يذكر أمامه اسم يعشقه محفوظ دون تحفظ، فاسم العراق، أو الوطن، زوجته أو أي اسم له موقع مميز في وجدان محفوظ يكفي بأن تتزامن معه دموع صادقة تملأ مآقي عيون لم تألف إلا رؤية الجمال ولم تنسجم إلا معه.
يتوقف حميد المطبعي وهو يتحدث عن العلامة حسين علي محفوظ في سلسلته موسوعة المفكرين والأدباء العراقيين عند شعر محفوظ أو عند محفوظ الشاعر ، فيقول: (وبدأ في الرابعة عشرة يغني شعراً في النفس وقصيدة في الأرواح ... وقصيدة في الأصيل والشمس والشهور ... وقصيدة لأمه، فكانت قصائده في بذرة الطفولة، سمّاها (عبث الصبا) .. ثم جاوزها فسمّى أشعاره (روائح الشباب) .. ولما أوشك أن يعانق السادسة عشرة جمع قصائده في ديوان سماه (يواقيت الوشاح).. ثم دخل دار المعلمين العالية فرتّب أشعاره وقصائده وسماه (شقاشق) وأحصى ذكريات أعوامها الأربعة في ديوان (الدرعميات) نسبة إلى دار المعلمين العالية.. وأدركه من الحيف من بعد فسمى شعره بعد التخرج ((ديوان المحنة)).. وخاض (غمرات الحياة) في الوظيفة فكانت ديواناً رابعاً .. وفارق العراق واشتاق للأهل والوطن والدار .. فنظم (كربة الغربة)، وسمى شعره بعد الأربعين (ثمالة كأس) .. وجمع نخباً من أشعاره في الديوان الأخير ، وقد سماه (رشفات) ... وهو في كل شعره ، يعد نفسه ظل الشريف الرضي، لا سيما وأن الأخير من قدامى أخواله، يواصل المطبعي حديثه عن بدايات محفوظ الشعرية فيقول: يبتدئ ديوان (الدرعميات) الذي يحتوي على مجموع شعره وهو طالب في دار المعلمين العالية بقصيدة يحيي المعهد وأساتذته ألقاها في حفلة التعارف الأولى التي حضرها الأساتذة والطلاب في 15 تشرين الثاني 1944 وقد عرفته تلك القصيدة للوسط التعليمي كشاعر وأديب وقد تألفت من اثني عشر بيتاً جاء في مطلعها:
أورق العود وازدهى النوار
وطوى معصم الرياض سوار
لقد مثلت السنوات الأربع التي قضاها محفوظ في دار المعلمين طالباً للعلم، فترة زمنية حافلة بالشعر كنشاط ثقافي وفكري بدأ به محفوظ حياته العلمية حيث كانت مناسبة مولد الرسول الكريم محمد بن عبد الله (ص) هي المناسبة المركزية التي يحتفل بها الدار يحضرها الملك والوصي ووزير المعارف وكبار رجال العلم والمعرفة، أما محفوظ فهو حاضر مع زملائه الشعراء حيث كان يعد واحداً من أهم شعرائها، وله في كل عام قصيدة، ففي عام 1945 كانت قصيدته بعنوان (مولد النور) وهي في اربعة وعشرين بيتاً ، جاء في مطلعها:
يا غمام الندى إذا الغيث أكدى
وسراجاً إذا عبأ الليل جندا
وفي عام 1946 كانت قصيدته بعنوان (نور محمد) وهي في (23) بيتاً وقد جاء في مطلعها:
ربة الشعر الهميني البيانا
فلعمر والهدى خرست لسانا
لم يقتصر شعر محفوظ على المناسبات فقط فشعر التهاني والمدح هو جزء من شعره الذي امتد ليشمل الرثاء والفخر والحماسة باستثناء الهجاء.
فمن شعره في الرثاء ما قاله بحق المرحوم طه الراوي، ومطلعه:
تجهّم أفق الفضل بعد وأغبرّا
لأنك كنت الشمس للفضل والبدرا
ومن شعره في الفخر والحماسة وقد نازعه بعض الأعاجم، حيث يقول:
يا منكراً فضلي وقد
سابقت فرسان المعاني
من ذا يطاول مقولي
وهو الحسام الهندواني
كابرت أرباب الفصا
حة والبلاغة والبيان
كانت أطروحة الدكتوراه التي قدمها العلامة محفوظ في نهاية عام 1955م في الأدب المقارن انتقالة نوعية في حياة محفوظ الفكرية وعلى الرغم من أن الموضوع كان في الأدب بشكل عام إلا أن المقارنة التي أجراها محفوظ بين عملاقي الشعر في كل من العراق وإيران وهما أبو الطيب المتنبي وسعدي الشيرازي بوصفهما علمين من أعلام الشعر والأدب كان له تأثير كبير جداً على مجرى حياة محفوظ الفكرية بشكل عام، وما يتعلق منها بالشعر بشكل خاص حيث مر الرجل وهو يصول ويجول بين أكثر من ست مئة مصدر أغلبها كان على شكل دوواين شعرية، كما جاء في مقدمة أطروحته التي طبعها عام 1957، (المتنبي وسعدي ، أثر الثقافة العربية في سعدي الشيرازي) والتي ساعدت وزارة المعارف العراقية على طبعها.
كان محفوظ يقارن بين الرجلين والمقارنة هنا ليست المفاضلة إذ (ربما يفهمها البعض كذلك) وإنما هي حالة من التوغل في الفكر على مستوى المنابع والوسائل والنتائج على حد سواء مما أعطى لعلامتنا الفاضل فرصة لأن يعوم بالفكر الفارسي على مستوى الأدب والنثر والشعر متمثلاً بنتاج سعدي الشيرازي الأدبي وممن أخذ من الشعراء العرب حيث يحصي محفوظ عدد الشعراء العرب الذين راجع دوواينهم لغرض إتمام أطروحته وهم أكثر من سبعين شاعراً عدا الشعراء الفرس وعددهم أكثر من خمسة وعشرين شاعراً.
يقول العلامة محفوظ في مقدمة كتابه أعلاه: وقد أمعنت النظر في ديوان سعدي وهو مجلد ضخم الحجم قوامه أربعة كتب في زهاء 1300 صفحة عدة أشعارها نحو من 17000 بيت، بله النثر وتتبعت مآخذه من الثقافة العربية وتوسعت في الكشف من أصول أفكاره ومعانيه في القرآن ، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وكلام الصحابة وآثار السلف، والأمثال القديمة، والأخبار والقصص، وكتب الأدب ودواوين الشعر مستمداً ذلك من مراجع كثيرة أنافت على (500) كتاب، عدا عما لم أشر إليه من كتب يصعب استقصاؤها، وأسفار تعذرت على الإحصاء، وانتهيت في البيان إلى ديوان المتنبي الذي هو عمدة الكتاب، وأصل الغرض ومغزى الكلام وذات الموضوع والمعاني المتنبية التي اقتبسها سعدي من ديوان المتنبي وترجمها بالفارسية نيف ومئة في ثلاث مئة موطن تقريباً من شعره ونثره.
٢٦/٠٩/٢٠٠٦
الجوهر الساكن والاداء الحي
المعرفة بين الخيال
والتجريب والحقائق الواقعية
عقيل مهدي يوسف
قد نختلف عند تقويمنا للجهود العلمية لهذا الباحث او ذاك في جدواها لخدمة واقعنا الفكري والاجتماعي او نميز الاضافة من الاجترار، والعقيم من المنتج النافع، على وفق تصورات محددة، لتلك الجهود ولو بعد حين من تتالي الحوادث والايام عليها. يبرز اسم زكي نجيب محمود من بين أبرز العقول المهمة التي خدمت الحقيقة من طريق خاص مميز هو (الوضعية المنطقية) التي حمل لواءها في اواخر القرن الماضي هذا الفيلسوف الرائد. وفي كتابه (نافذة على فلسفة العصر) اختزل لنا تاريخا من الافكار وتراه راغبا في تنمية التفكير الناقد، نابذاً القواعد الشائهة، والزائفة، التي تذهب بالجهود كلها الى آفاق مسدودة، بشرط الا نفهم من دعوته بانها نفعية مبتذلة ترى في الكلمة قوة (براكماتية) ذرائعية، تحجب عنها تلك القيمة الروحية المثلى، والملهمة.
وعلى طريقته يميز زكي نجيب الكائنات البشرية الكادحة من المستهلكة او كما يسميها، النملية، التي تكدس الاوراق لا النحلية التي تنتج عسلاً من رحيق الطبيعة، والمجتمع وقف (فرانسيس بيكون) (1561- 1626) ضد المعالجة اللفظية للعالم، في كتابه (أطلنطس الجديدة) وخلص الى ان العلم قوة، واداة لتغيير البيئة وتحقيق اغراضنا فيها . كان العلماء في الغالب مثل العناكب ينسجون النسج من اجوافهم، يثرثرون وهم لايقدمون ولايأخرون وكان العلم الطبيعي خيالاً يتخيلونه لا واقعا يعيشونه وحين جاء العلم التجريبي صار الخيال علما وعملا . هنا انبثق الاشتغال على استنباط القواعد، التي تثبت لنا ان بمقدور الماء ان يرويك من ظمأ او يقضي عليك بالغرق فيه، النار تنضج لك الطعام والنار تدلع الحريق المدمر. وفق هذه النظرة التجريبية الجديدة، انتقلت صورة الدنيا من رؤيتها اشياء وكائنات لها جواهرها الثابتة الى رؤيتها على انها علاقات. اختفى مايمكن تسميته بالنفاق الثقافي، عند الانسان في طريقة التعبير عن انتمائه الى العصر، ولم يعد مقبولاً، ان تعاصر زمانك (بظاهر) اللفظ، وتعارضه (بباطن) الايمان . جاليلو وازن ، بين الاذهان والاعيان، او بين الصفات الاولية، وهي في الاشياء ذاتها وبين الصفات الثانوية التي تخص آراءنا نحن ، هذه المقابلة بين الصفات قادت (ديكارت) ليميز بين الذات من جهة، والطبيعة من جهة اخرى، فالذات فكر خالص، والطبيعة امتداد خالص. وليحسم العلم الحديث هذا الاشكال، فيرى ان ليست هناك طبيعة وهنا عقل!! بل اصبحت الطبيعة والعقل كلاهما من نمط واحد، هو الاحداث او قل الحركة التي تتبدى بها الذرات المكونة للطبيعة والعقل معا لذلك تدرسها تخصصات علمية مختلفة: فيزياء ، فسيولوجيا، سايكولوجيا. وانتهى هوسرل الى ان ليس هناك بعثرة بين ماهو داخلي وخارجي اخذا على ديكارت، قوله (انا افكر) من دون ان يذكر لنا في اي شيء يفكر؟ لان التفكير بغير شيء يتعلق فيه ضرب من المحال فادراكي (لوردة حمراء) وامتزاجي بها في كيان واحد ساعة (الوعي) بها، ليس فيه ماهو (اولي) و (ثانوي) ليس فيه (موضوعي) و (ذاتي) لانه لحظة حية لاتقبل التحليل ليس في العالم الخارجي (وردة) تبعث موجات ضوئية يقابلها في الذهن صورة لها ترجمت الموجات الضوئية الى لون احمر، ليس الامر هكذا بل ان وعيي بهذا الجزء من العالم الخارجي حقيقة متصلة، فالاشياء حقائقها هي ظواهرنا في وعينا وليست هي بكومات من الصفات يتكوم بعضها فوق بعض في صندوق اسمه (عقل). الانسان يواجه الطبيعة على وفق علاقة اساسية، تقوم بين العارف بموضوع معرفته، علاقة العقل بالمعقول . ان تسلسل الاحداث تصنع تاريخ الظاهرة، لا جوهرها المزعوم. فباتت الذرة كهارب دوارة في افلاكها حول نواة، وليست كتلة صماء ويمكن تطبيق النظرة العلمية على الفن نفسه، ولو اخذنا المسرحية او العرض لوجدناه انماطاً من حركة ، وأنساقاً من علاقات وأطراً من بناء. انك لاتنتظر لترى موضوع المسرحية المعينة ومضمونها الفعلي لتقول انها مسرحية. بل يكفيك انها قد صبت في الاطار المعلوم الذي هو، شكل ، المسرحية، كما نعرفه او كما نريده.
اي ان طريقة البناء هي التي تحدد حقيقة واقعية او فكرية. والبنية تقع في صميم المنهج العلمي وعلى هيكلها يقوم الجبل، والانسان والقطعة الموسيقية، التي قد تتعدد ظروف عزفها، بل قد تتفاوت اجادة العزف في كل مرة، لكننا نظل نقول عنها انها قطعة موسيقية بعينها في جميع الحالات، لان البنية الصوتية واحدة. مسرحية (هاملت) تكون هي نفسها مكتوبة في كتاب ويشاهدها جمهور مختلف تبقى هويتها بالرغم من هذا التعدد. حدث المنعطف الجديد في طريقة معرفتنا للعالم، فانتقلنا من ادراكنا لجواهر الاشياء، الى طرائق بنائها وادائها لوظائفها، وفق ذلك البناء.
النهج التجريدي
كنا نستخرج صوراً شكلية للمنطق الذي نظن ان تفكيرنا العلمي، يسير على نهجه ونعتقده الواقع! ويأتي (برتراند رسل) ليرى في منطقه الجديد، ان العلاقات لا الحقائق المتعلقة بالاشياء، هي التي ان تم احكامها تملأ اطار تلك العلاقات بأي شيء تريد، لانها تخص منطقا رياضيا ويسير (هوايتهد) في النهج التجريدي، الرياضي نفسه، حين يرى ثباتا وتغيراً في اطار الانسان العام، وفي الحوادث العارضة وان قيام الاطار الرياضي النظري المنطقي امر لامندوحة عنه، لتضع فيه كل حادثة ترد في مجرى الخبرة المباشرة ويراد فهمها والا كيف تفهم حادثة، منتزعة من محيطها؟!
الفلسفة تمنحنا ذلك الاطار الفكري العام، الذي نضع فيه احداثا متناثرة لنفهمها حق الفهم. افلاطون بحث في العالم القديم (اليونان) عن مثل ثابتة، خالدة، حصل هذا في القرن الرابع ق.م. ويأتينا (سانتيانا) في القرن العشرين، ليذهب الى وجود عالم (للماهيات) فيه افكار عما يمكن حدوثه، وعالم (للوقائع الفعلية) فيه ماحدث حقاً. و(هوايتهد) يسبق لديه القانون الرياضي، وجود الشيء، الذي يسير بمقتضاه، اي ان الصور في عالم الممكنات ان هي الا صيغ رياضية مجهولة الدلالة، حتى اذا صب فيها هذا (الشيء) المادي او ذاك اكتسبت به دلالة معينة محددة. وخلافه عن افلاطون انه لايفصل بين عالمين مثالي وواقعي بل يشتق صورة الرياضية من كائنات واقعية فعلية . اذ ليس الا هذا العالم بكائناته ثم يجيء عقل الفيلسوف فيستنبط من كل كائن (صورته الرياضية) ويظل يضم الصور الرياضية بعضها الى بعض، حتى يتكون له المبدأ الاول، الذي يصاغ عالم الاشياء بمقتضاه. ويفرق (كاسيرر) بين المدركات العقلية في فروع العلم المختلفة، للرياضيات مدركات العدد للطبيعة مدركات المكان والزمان والطاقة ويخلص في كتابه (الجوهر والاداء) الى ان حقيقة الانسان ليست في جوهر ساكن، بل في اداء حي فعال. العقل، قدرة تعرف كيف تختار الاشياء فتوازن بينها لان العقل حقيقة فاعلة قبل ان يكون جوهراً قائما بذاته. تستوعب الصور الرمزية عند كاسيرر ليس العقل فقط بل الاسطورة والفن والدين. قال كانط لقد ايقظني (ديفيد هيوم) من سباتي الفكري لانه يقول ان سقوط الحجر للاسفل هو ما دلتنا عليه مشاهداتنا الحسية ولاعلاقة له بالعقل، اي يمكن افتراضا ان يرتفع الحجر الى الاعلى لا الى الاسفل، لو كانت (الحواس) بمشاهداتها هي وحدها ابواب (العلم الطبيعي) لوجب ان تنتهي الى النتائج التي خلص اليها (ديفيد هيوم) لكن الامر خلاف ذلك، فالحواس تأتينا بالمادة الخام من أحاسيس تصل الينا خليطا من طريق العين والاذن والجلد وغيرها، ولو وقف الامر عند هذا الحد لما كانت (معرفة) لكن وراء الحواس عقلا مجهزا بمقولات وقوالب تنصب فيها مادة الاصابات فتكون بذلك علما كما تنسق حروف المطبعة فوق صفحات الكتاب على نسق معلوم، فتصبح معاني، وليست حروفاً مفككة ويخلص كانط ان للمعرفة، احساسات تأتي من خارج، ومقولات عقلية تنظم تلك الاحساسات وهي من داخلنا لولا الاحساسات لظلت المقولات، فارغة من المضمون، ولولا المقولات لظلت الاحساسات، بلا معنى معقول.
ويحدد (البراكماتيون) حقيقة الفكرة لا في مقوماتها، بل ماتستطيع ان تفعله في دنيا الاشياء. فالفكرة (اداة) تطلب لما تؤديه، وليست هي كالصورة الفنية ننظر اليها في ذاتها. وفي ختام رحلته المعرفية يتأمل (زكي نجيب) واقعنا العربي، فيرى ان طائفة من رجال الفكر فينا، ملأوا شرايينهم بثقافة غربية خالصة، فكان وجودهم بيننا وجوداً (جغرافيا) وجوارا مكانيا فقط، واما ان يشاركونا في الوجود الزماني الذي يصل يومنا بأمسنا فهذا يستحيل عليهم ودعوته لاتخلو من مرارة يكابدها المثقف العربي الجاد وربما يجاري د. زكي نجيب آراء عصره في انسلاخ (الانتليجنسيا) المثقفة العربية عن واقعها وكأن السدود هي التي تحجز الفكرة الغربية عن الفكرة الشرقية، وهذه اشكالية خاضت في مظانها عقول عربية مرموقة لمعرفة الحد الفاصل بين الاصالة والمعاصرة او بين العربي والآخر. والقضية برمتها تتعلق في معرفة الكيف الذي تؤدي فيه الامانة الفكرية الخاصة بالنخبة المثقفة للناس أجمعين حسب قنوات تواصل حقيقية ترفد ظمأنا الى الحرية والتحضير والمعرفة ومغادرة البداوة، والسلوكيات المريضة التي لاتتناغم مع تطلعات مجتمعاتنا نفسها يقول زكي نجيب محمود ان في الوطن العربي : (افكاراً مبعثرة لكنها هوامل لاتجد الشوامل التي تجمعها وتصهرها وعذرا من ابي العلاء في كتابه (الهوامل والشوامل)!!
المعرفة بين الخيال
والتجريب والحقائق الواقعية
عقيل مهدي يوسف
قد نختلف عند تقويمنا للجهود العلمية لهذا الباحث او ذاك في جدواها لخدمة واقعنا الفكري والاجتماعي او نميز الاضافة من الاجترار، والعقيم من المنتج النافع، على وفق تصورات محددة، لتلك الجهود ولو بعد حين من تتالي الحوادث والايام عليها. يبرز اسم زكي نجيب محمود من بين أبرز العقول المهمة التي خدمت الحقيقة من طريق خاص مميز هو (الوضعية المنطقية) التي حمل لواءها في اواخر القرن الماضي هذا الفيلسوف الرائد. وفي كتابه (نافذة على فلسفة العصر) اختزل لنا تاريخا من الافكار وتراه راغبا في تنمية التفكير الناقد، نابذاً القواعد الشائهة، والزائفة، التي تذهب بالجهود كلها الى آفاق مسدودة، بشرط الا نفهم من دعوته بانها نفعية مبتذلة ترى في الكلمة قوة (براكماتية) ذرائعية، تحجب عنها تلك القيمة الروحية المثلى، والملهمة.
وعلى طريقته يميز زكي نجيب الكائنات البشرية الكادحة من المستهلكة او كما يسميها، النملية، التي تكدس الاوراق لا النحلية التي تنتج عسلاً من رحيق الطبيعة، والمجتمع وقف (فرانسيس بيكون) (1561- 1626) ضد المعالجة اللفظية للعالم، في كتابه (أطلنطس الجديدة) وخلص الى ان العلم قوة، واداة لتغيير البيئة وتحقيق اغراضنا فيها . كان العلماء في الغالب مثل العناكب ينسجون النسج من اجوافهم، يثرثرون وهم لايقدمون ولايأخرون وكان العلم الطبيعي خيالاً يتخيلونه لا واقعا يعيشونه وحين جاء العلم التجريبي صار الخيال علما وعملا . هنا انبثق الاشتغال على استنباط القواعد، التي تثبت لنا ان بمقدور الماء ان يرويك من ظمأ او يقضي عليك بالغرق فيه، النار تنضج لك الطعام والنار تدلع الحريق المدمر. وفق هذه النظرة التجريبية الجديدة، انتقلت صورة الدنيا من رؤيتها اشياء وكائنات لها جواهرها الثابتة الى رؤيتها على انها علاقات. اختفى مايمكن تسميته بالنفاق الثقافي، عند الانسان في طريقة التعبير عن انتمائه الى العصر، ولم يعد مقبولاً، ان تعاصر زمانك (بظاهر) اللفظ، وتعارضه (بباطن) الايمان . جاليلو وازن ، بين الاذهان والاعيان، او بين الصفات الاولية، وهي في الاشياء ذاتها وبين الصفات الثانوية التي تخص آراءنا نحن ، هذه المقابلة بين الصفات قادت (ديكارت) ليميز بين الذات من جهة، والطبيعة من جهة اخرى، فالذات فكر خالص، والطبيعة امتداد خالص. وليحسم العلم الحديث هذا الاشكال، فيرى ان ليست هناك طبيعة وهنا عقل!! بل اصبحت الطبيعة والعقل كلاهما من نمط واحد، هو الاحداث او قل الحركة التي تتبدى بها الذرات المكونة للطبيعة والعقل معا لذلك تدرسها تخصصات علمية مختلفة: فيزياء ، فسيولوجيا، سايكولوجيا. وانتهى هوسرل الى ان ليس هناك بعثرة بين ماهو داخلي وخارجي اخذا على ديكارت، قوله (انا افكر) من دون ان يذكر لنا في اي شيء يفكر؟ لان التفكير بغير شيء يتعلق فيه ضرب من المحال فادراكي (لوردة حمراء) وامتزاجي بها في كيان واحد ساعة (الوعي) بها، ليس فيه ماهو (اولي) و (ثانوي) ليس فيه (موضوعي) و (ذاتي) لانه لحظة حية لاتقبل التحليل ليس في العالم الخارجي (وردة) تبعث موجات ضوئية يقابلها في الذهن صورة لها ترجمت الموجات الضوئية الى لون احمر، ليس الامر هكذا بل ان وعيي بهذا الجزء من العالم الخارجي حقيقة متصلة، فالاشياء حقائقها هي ظواهرنا في وعينا وليست هي بكومات من الصفات يتكوم بعضها فوق بعض في صندوق اسمه (عقل). الانسان يواجه الطبيعة على وفق علاقة اساسية، تقوم بين العارف بموضوع معرفته، علاقة العقل بالمعقول . ان تسلسل الاحداث تصنع تاريخ الظاهرة، لا جوهرها المزعوم. فباتت الذرة كهارب دوارة في افلاكها حول نواة، وليست كتلة صماء ويمكن تطبيق النظرة العلمية على الفن نفسه، ولو اخذنا المسرحية او العرض لوجدناه انماطاً من حركة ، وأنساقاً من علاقات وأطراً من بناء. انك لاتنتظر لترى موضوع المسرحية المعينة ومضمونها الفعلي لتقول انها مسرحية. بل يكفيك انها قد صبت في الاطار المعلوم الذي هو، شكل ، المسرحية، كما نعرفه او كما نريده.
اي ان طريقة البناء هي التي تحدد حقيقة واقعية او فكرية. والبنية تقع في صميم المنهج العلمي وعلى هيكلها يقوم الجبل، والانسان والقطعة الموسيقية، التي قد تتعدد ظروف عزفها، بل قد تتفاوت اجادة العزف في كل مرة، لكننا نظل نقول عنها انها قطعة موسيقية بعينها في جميع الحالات، لان البنية الصوتية واحدة. مسرحية (هاملت) تكون هي نفسها مكتوبة في كتاب ويشاهدها جمهور مختلف تبقى هويتها بالرغم من هذا التعدد. حدث المنعطف الجديد في طريقة معرفتنا للعالم، فانتقلنا من ادراكنا لجواهر الاشياء، الى طرائق بنائها وادائها لوظائفها، وفق ذلك البناء.
النهج التجريدي
كنا نستخرج صوراً شكلية للمنطق الذي نظن ان تفكيرنا العلمي، يسير على نهجه ونعتقده الواقع! ويأتي (برتراند رسل) ليرى في منطقه الجديد، ان العلاقات لا الحقائق المتعلقة بالاشياء، هي التي ان تم احكامها تملأ اطار تلك العلاقات بأي شيء تريد، لانها تخص منطقا رياضيا ويسير (هوايتهد) في النهج التجريدي، الرياضي نفسه، حين يرى ثباتا وتغيراً في اطار الانسان العام، وفي الحوادث العارضة وان قيام الاطار الرياضي النظري المنطقي امر لامندوحة عنه، لتضع فيه كل حادثة ترد في مجرى الخبرة المباشرة ويراد فهمها والا كيف تفهم حادثة، منتزعة من محيطها؟!
الفلسفة تمنحنا ذلك الاطار الفكري العام، الذي نضع فيه احداثا متناثرة لنفهمها حق الفهم. افلاطون بحث في العالم القديم (اليونان) عن مثل ثابتة، خالدة، حصل هذا في القرن الرابع ق.م. ويأتينا (سانتيانا) في القرن العشرين، ليذهب الى وجود عالم (للماهيات) فيه افكار عما يمكن حدوثه، وعالم (للوقائع الفعلية) فيه ماحدث حقاً. و(هوايتهد) يسبق لديه القانون الرياضي، وجود الشيء، الذي يسير بمقتضاه، اي ان الصور في عالم الممكنات ان هي الا صيغ رياضية مجهولة الدلالة، حتى اذا صب فيها هذا (الشيء) المادي او ذاك اكتسبت به دلالة معينة محددة. وخلافه عن افلاطون انه لايفصل بين عالمين مثالي وواقعي بل يشتق صورة الرياضية من كائنات واقعية فعلية . اذ ليس الا هذا العالم بكائناته ثم يجيء عقل الفيلسوف فيستنبط من كل كائن (صورته الرياضية) ويظل يضم الصور الرياضية بعضها الى بعض، حتى يتكون له المبدأ الاول، الذي يصاغ عالم الاشياء بمقتضاه. ويفرق (كاسيرر) بين المدركات العقلية في فروع العلم المختلفة، للرياضيات مدركات العدد للطبيعة مدركات المكان والزمان والطاقة ويخلص في كتابه (الجوهر والاداء) الى ان حقيقة الانسان ليست في جوهر ساكن، بل في اداء حي فعال. العقل، قدرة تعرف كيف تختار الاشياء فتوازن بينها لان العقل حقيقة فاعلة قبل ان يكون جوهراً قائما بذاته. تستوعب الصور الرمزية عند كاسيرر ليس العقل فقط بل الاسطورة والفن والدين. قال كانط لقد ايقظني (ديفيد هيوم) من سباتي الفكري لانه يقول ان سقوط الحجر للاسفل هو ما دلتنا عليه مشاهداتنا الحسية ولاعلاقة له بالعقل، اي يمكن افتراضا ان يرتفع الحجر الى الاعلى لا الى الاسفل، لو كانت (الحواس) بمشاهداتها هي وحدها ابواب (العلم الطبيعي) لوجب ان تنتهي الى النتائج التي خلص اليها (ديفيد هيوم) لكن الامر خلاف ذلك، فالحواس تأتينا بالمادة الخام من أحاسيس تصل الينا خليطا من طريق العين والاذن والجلد وغيرها، ولو وقف الامر عند هذا الحد لما كانت (معرفة) لكن وراء الحواس عقلا مجهزا بمقولات وقوالب تنصب فيها مادة الاصابات فتكون بذلك علما كما تنسق حروف المطبعة فوق صفحات الكتاب على نسق معلوم، فتصبح معاني، وليست حروفاً مفككة ويخلص كانط ان للمعرفة، احساسات تأتي من خارج، ومقولات عقلية تنظم تلك الاحساسات وهي من داخلنا لولا الاحساسات لظلت المقولات، فارغة من المضمون، ولولا المقولات لظلت الاحساسات، بلا معنى معقول.
ويحدد (البراكماتيون) حقيقة الفكرة لا في مقوماتها، بل ماتستطيع ان تفعله في دنيا الاشياء. فالفكرة (اداة) تطلب لما تؤديه، وليست هي كالصورة الفنية ننظر اليها في ذاتها. وفي ختام رحلته المعرفية يتأمل (زكي نجيب) واقعنا العربي، فيرى ان طائفة من رجال الفكر فينا، ملأوا شرايينهم بثقافة غربية خالصة، فكان وجودهم بيننا وجوداً (جغرافيا) وجوارا مكانيا فقط، واما ان يشاركونا في الوجود الزماني الذي يصل يومنا بأمسنا فهذا يستحيل عليهم ودعوته لاتخلو من مرارة يكابدها المثقف العربي الجاد وربما يجاري د. زكي نجيب آراء عصره في انسلاخ (الانتليجنسيا) المثقفة العربية عن واقعها وكأن السدود هي التي تحجز الفكرة الغربية عن الفكرة الشرقية، وهذه اشكالية خاضت في مظانها عقول عربية مرموقة لمعرفة الحد الفاصل بين الاصالة والمعاصرة او بين العربي والآخر. والقضية برمتها تتعلق في معرفة الكيف الذي تؤدي فيه الامانة الفكرية الخاصة بالنخبة المثقفة للناس أجمعين حسب قنوات تواصل حقيقية ترفد ظمأنا الى الحرية والتحضير والمعرفة ومغادرة البداوة، والسلوكيات المريضة التي لاتتناغم مع تطلعات مجتمعاتنا نفسها يقول زكي نجيب محمود ان في الوطن العربي : (افكاراً مبعثرة لكنها هوامل لاتجد الشوامل التي تجمعها وتصهرها وعذرا من ابي العلاء في كتابه (الهوامل والشوامل)!!
الشكل الالكتروني للموسيقي
المبدع وذاته الشخصانية
عقيل مهدي يوسف
انبثت الروح الصادمة في الموسيقي الالكترونية لتقوض من نسيجها وبنائها المنسجم المعهود وتحشوه بالضجيج والمفرقعات والمؤثرات الغرائبية وكذلك دهمته بمنجزاتها، العروض المسرحية، والروايات، والقصائد وافلام السينما باعاجيبها الخارقة، ومعالجاتها الخرافية و»الفنطازيا« التي ستتبدل تجلياتها في فنون الحداثة تبعا لكل جديد تبتكره في عالم الالحان والاغاني وسماع اصوات عجزت عن التقاطها الاذن البشرية في عهودها السابقة.السمات الفنية المعاصرةيحصر الناقد والباحث الانكليزي »هربرت ريد« سمات الفن المعاصر علي وفق تقسيمات محددة، منها »التفكيرية« ويقصد بها الفن الواقعي والانطباعي ، لان هذا الفن يتميز باقترابه من مظاهر الواقع، الذي نتعرف عليه في حياتنا اليومية، فهو يشخص تلك العلامات الواقعية او تراه يقدم »انطباعا« مباطنا للواقع، ولكنه نابع من مصدر »ذاتي« غير منشق عن طبقات الواقع نفسه، ويقترب من الطريقة التقليدية في الرؤية والنظر الذي نالفه في الحياة نفسها. والنزعة الثانية هي »الوجدانية« ويراها هربرت ريد، متمثلة بالفن: »السريالي« و»المستقبلي« ونجد في هذا النمط غلوا تخيليا يرفض مظاهر الواقع وقيمه، ويطمس الرؤية التقليدية، ويتحمس للاندفاع في اجواء الجنون، بحثا عن صور فائقة التخيل، فيسجل حركتها الخيالية هذه النابعة من اللاشعور الانساني والمحولة للطبيعة في هذه النتاجات والمحرفة لاشكالها وطبائعها وماهياتها.نزعات تعبيريةوهنا- ايضا- النزعة »التعبيرية« وهو ما يميز الفنون التعبيرية التي تعبر عن فردية المبدع وذاتيته الشخصانية، وتعكس رؤيته الخاصة عن الحياة، بحيث تبدو هذه الاشكال والتكوينات المتفردة وهي مشوهة، حافلة بالانكسارات الضوئية والظلال المبالغ بها، وكذلك تتحرك فيها وجوه واقنعة وستائر وتتخاطفها الاضواءوالمؤثرات الاصطناعية والميزانسينات المخفية والمنبعجة والمنحرفة والمشوهة، والمنزاحة عن القاعدة العادية للنظر الواقعي. واخيرا ما يسمي بالاتجاه »الحدسي« الذي يميز الفنون »التكعيبية« وهو ما عرف به »بابلوبيكاسو« و»براك« حيث نري اوجها مختلفة ومن زوايا مغايرة للشكل الواحد الذي يطمس المنظور التقليدي الذي ارست اسسه فنون ونظريات عصر النهضة الاوربية. الخامة والحدسوتعمق »الحدس« كثيرا في الفنون التي تظهر »خاماتها« وتتصدر النتاج الفني، فيتحرك من المساحة التخيلية الواقعة فوق معطيات الحواس الخمسة، وبذلك تتحرك هذه المواد مثل الحديد والبلاستك والاشرطة والاسلاك والزجاج والجلود والبرونز، وقطع الغيار مثل المواسير والاحواض في نطاق ما فوق الحسي، لتؤدي دورا خاصا يتعلق بما يقدمه الفنان من امكانيات في عمله الفني، قابلة لكي يجعل منها المشاهد التجربة »حدسية« متميزة جماليا. حتي ان اللوحة في »اوب - ارت« واخر التوصلات البصرية التموجية الغامضة، التي يشكلها الوعي لدي المتلقي ويؤطرها بطريقته الخاصة ليكون لها هيئة »Shaape« وشكلا »Form« ودوال حسية لونية وضوئية معنية، حتي هذه التجارب مازالت عرضة للنسف والاقصاء امام رعشات الفن ورغائبه السرية التي تتوسل العلم، والتقدم التقني الهائل لخدمة مآربها فتضم عناصر جديدة من خارج الاطار المحكم للوحة او للصنيع الفني التشكيلي التقليدي وتخلط بقصيدة واضحة، وبتشويش متعمد ما بين البنية السطحية للوحة بالبنية الحجومية والملمسية للتمثال بالبعد الهندسي والمعماري والتصميمي الرقمي في النتاج الفني الواحد.
المبدع وذاته الشخصانية
عقيل مهدي يوسف
انبثت الروح الصادمة في الموسيقي الالكترونية لتقوض من نسيجها وبنائها المنسجم المعهود وتحشوه بالضجيج والمفرقعات والمؤثرات الغرائبية وكذلك دهمته بمنجزاتها، العروض المسرحية، والروايات، والقصائد وافلام السينما باعاجيبها الخارقة، ومعالجاتها الخرافية و»الفنطازيا« التي ستتبدل تجلياتها في فنون الحداثة تبعا لكل جديد تبتكره في عالم الالحان والاغاني وسماع اصوات عجزت عن التقاطها الاذن البشرية في عهودها السابقة.السمات الفنية المعاصرةيحصر الناقد والباحث الانكليزي »هربرت ريد« سمات الفن المعاصر علي وفق تقسيمات محددة، منها »التفكيرية« ويقصد بها الفن الواقعي والانطباعي ، لان هذا الفن يتميز باقترابه من مظاهر الواقع، الذي نتعرف عليه في حياتنا اليومية، فهو يشخص تلك العلامات الواقعية او تراه يقدم »انطباعا« مباطنا للواقع، ولكنه نابع من مصدر »ذاتي« غير منشق عن طبقات الواقع نفسه، ويقترب من الطريقة التقليدية في الرؤية والنظر الذي نالفه في الحياة نفسها. والنزعة الثانية هي »الوجدانية« ويراها هربرت ريد، متمثلة بالفن: »السريالي« و»المستقبلي« ونجد في هذا النمط غلوا تخيليا يرفض مظاهر الواقع وقيمه، ويطمس الرؤية التقليدية، ويتحمس للاندفاع في اجواء الجنون، بحثا عن صور فائقة التخيل، فيسجل حركتها الخيالية هذه النابعة من اللاشعور الانساني والمحولة للطبيعة في هذه النتاجات والمحرفة لاشكالها وطبائعها وماهياتها.نزعات تعبيريةوهنا- ايضا- النزعة »التعبيرية« وهو ما يميز الفنون التعبيرية التي تعبر عن فردية المبدع وذاتيته الشخصانية، وتعكس رؤيته الخاصة عن الحياة، بحيث تبدو هذه الاشكال والتكوينات المتفردة وهي مشوهة، حافلة بالانكسارات الضوئية والظلال المبالغ بها، وكذلك تتحرك فيها وجوه واقنعة وستائر وتتخاطفها الاضواءوالمؤثرات الاصطناعية والميزانسينات المخفية والمنبعجة والمنحرفة والمشوهة، والمنزاحة عن القاعدة العادية للنظر الواقعي. واخيرا ما يسمي بالاتجاه »الحدسي« الذي يميز الفنون »التكعيبية« وهو ما عرف به »بابلوبيكاسو« و»براك« حيث نري اوجها مختلفة ومن زوايا مغايرة للشكل الواحد الذي يطمس المنظور التقليدي الذي ارست اسسه فنون ونظريات عصر النهضة الاوربية. الخامة والحدسوتعمق »الحدس« كثيرا في الفنون التي تظهر »خاماتها« وتتصدر النتاج الفني، فيتحرك من المساحة التخيلية الواقعة فوق معطيات الحواس الخمسة، وبذلك تتحرك هذه المواد مثل الحديد والبلاستك والاشرطة والاسلاك والزجاج والجلود والبرونز، وقطع الغيار مثل المواسير والاحواض في نطاق ما فوق الحسي، لتؤدي دورا خاصا يتعلق بما يقدمه الفنان من امكانيات في عمله الفني، قابلة لكي يجعل منها المشاهد التجربة »حدسية« متميزة جماليا. حتي ان اللوحة في »اوب - ارت« واخر التوصلات البصرية التموجية الغامضة، التي يشكلها الوعي لدي المتلقي ويؤطرها بطريقته الخاصة ليكون لها هيئة »Shaape« وشكلا »Form« ودوال حسية لونية وضوئية معنية، حتي هذه التجارب مازالت عرضة للنسف والاقصاء امام رعشات الفن ورغائبه السرية التي تتوسل العلم، والتقدم التقني الهائل لخدمة مآربها فتضم عناصر جديدة من خارج الاطار المحكم للوحة او للصنيع الفني التشكيلي التقليدي وتخلط بقصيدة واضحة، وبتشويش متعمد ما بين البنية السطحية للوحة بالبنية الحجومية والملمسية للتمثال بالبعد الهندسي والمعماري والتصميمي الرقمي في النتاج الفني الواحد.
أسئلة العراق الثقافية
خالد سليمان
لوصف الواقع الثقافي العراقي الراهن قد لا نحتاج سوى إلى الواقع ذاته، ذلك ان أي وصف أو سرد تاريخي، رغم القبول به كمنطق خلفي للأحداث، ينقصه شكل أداء اللاعبين الجدد في رسم العراق اليوم. ولإيجاد صورة واضحة عن العراق بين تاريخيته المزدوجة في رحم الكولونيالية والعروبة ومكوناته الطبيعية، وبين حاضره المشدود بثقافة الأقوام والطوائف والمذاهب الخارجة المتحررة ضمناً من دهاليز <البعث السوداء>، يجدر بنا البحث عن آليات إنتاج الثقافة. فأية صورة عن العراق الراهن ثقافياً، ترتهن على فعالية القوى الإجتماعية الجديدة في شكل ظهورها على الأقل. يمكننا القول ان الأسئلة التي تضع الثقافة في أُفق تأجيل دائم، هي ذات الأسئلة التي تضع المستقبل على فكرة إستقدام ملزم على الشروط الإجتماعية الجديدة المتمثلة في قيم إعادة تجميع الطائفة أو المذهب في دائرتي السياسة والدين. ولايمكننا بالتالي الحديث عن اية فعالية مفترضة للثقافة العراقية من دون ربطها بالسياسة <الترميزية> الحالية التي تعتمد بالدرجة الأُولى على واقع أُبتذل فيه شرّ الماضي والحاضر لدرجة الإستقواء بجميع الوسائل المتاحة. هذا لا يعني بالطبع ألقاء اللوم على <لعراق الإجتماعي> بقدر ما هو سؤال عما يحتويه هذا الجسم التاريخي في تناقضاته من ملامح تحرير آخر من حقبة الظلم. فالعراق لم يتحرر من الظلم برأي، ذلك انه تعرض لأشنع مباغتة يومية من القتل والتنكيل بعد تحريره من حكم البعث. بين هذا وذاك نحتاج إلى رؤى جديدة لتفسير العلاقة بين العنف الذي يلف العراقيين اليوم وبين ثقافتهم أو ثقافاتهم بالأحرى. هناك من يلجأ إلى كلاسيكيات عراقية في وصف العنف والوطنية ويقدم تعريفات مدرسية لحال الثقافة العراقية وصورها العكسية والتابعة للمجموعات الإجتماعية. في ذات السياق والحاجة الملحة للبحث عن أسباب غياب ثقافة فعالة في حياة العراقيين، يحاول الكثير من الكتاب العراقيين حصر الثقافة في الحقول الأدبية والفنية والفكرية ولا يبقى السجال الثقافي بالتالي سوى ظاهرة كلامية في المقاهي أو على الصفحات الثقافية. أما الثقافة الفعالة فهي تلك التي تنظم المجتمع وتحرضه وتنزله إلى الشارع. اليوم وفي العراق، يتحكم رجل الدين بملايين من الناس ويحرّك فيهم مشاعر الغضب والفرح والإنفعال من خلال دمج الشعار الديني المتمثل في <القدسي> مع الشعار السياسي المكشوف للموافقة والطعن معاً. ويحتكم رجل الدين إلى سيكولوجية الناس من خلال احتكامه بالرموز الثقافية وحيويتها وديناميكيتها. إذاً هناك ثقافة عراقية تتجسد في الحياة اليومية للناس وفي معتقداتهم وآرائهم ورؤاهم المختلفة للأشياء، وللثقافة هذه جذور تاريخية ودينية وإجتماعية وسياسية وجغرافية أيضاً . ولكن هل بإمكان المثقف، والسياسي أيضاً تأثيث الشارع بالقدر ذاته من القوة؟ أية ثقافة تشكل نواة الفعالية المطلوبة لإرتقاء المسؤولية من <الكلام> إلى التداخل والمشاركة في الشأن اليومي ، ولا نتكلم هنا عن ثورة ثقافية ولا مفاهيم راديكالية كما يريدها <الثوريون المبتذلون>. ما نريده هو التحرر من ثقافة <الأتيكيت> والبحث عن ثقافة عضوية تشمل المفردة اليومية في حياة المواطن ومحاولة جعل الكلمة واقعاً مرئياً ومحكياُ وفق تناقضاته وإشكالياته ومعوقاته ومتطلباته المتمثلة بالخبز والأمن والكرامة. أية ثقافة عراقية الآن؟ وأية ثقافة عراقية غداً؟ الثقافة العراقية اليوم، هي ثقافة التصادم مع الماضي والراهن، ذلك ان تحرير البلد من عصر البعث لم يؤد إلى تحريره من مفردات العنف والتنكيل. وللسبب ذاته نرى ان هناك شرخاً واسعاً بين القوى الإجتماعية الجديدة إذ تستقوي كل واحدة منها بقوتها ونفوذها ورموزها، وبين الواقع المسمى بال<الإنتقالي>. ولئن تواجه الثقافة العراقية اليوم سلطات موقعية دينية ومذهبية وقومية، تترتب عليها إحتمالات المقايضة والترويض ايضا، ذلك ان جميع الحقول الإعلامية والصحافية والأكاديمية تخضع للسلطات ذاتها، يجدر بنا قراءة مشهدنا الثقافي وفقاً لآليات <الوقع الجديد> وتداعياته النكوصية إن صح التعبير. لنتذكر هنا اعتراف <غونتر غراس> بعد مرور ستة عقود على مشاركته في <قوات الحماية> النازية التي لم يعرف حينها حتى معنى هذه المنظمة السرية الألمانية التي ارتكبت أخطر جرائم أثناء الحرب العالمية الثانية. انه إعتراف خطير ويأتي من رجل مهم ليس في الثقافة الألمانية فحسب بل في الثقافة الأوروبية، ذلك انه يعيد إلى الأذهان أعتم مرحلة في تاريخ أوروبا والعالم. ويشارك غراس في إعترافه هذا، في بناء ثقة متأخرة بين ذاكرة ضحايا <الهولوكوست> وذاكرة <الجلادين. ويرجع الفضل في كسر هذا الصمت وإعلان المشاركة في أخطر منظمة نازية إلى المراحل التي تلت الحرب الكونية الثانية في أوروبا إذ تميزت بالمصالحة الإجتماعية والثقافية والسياسية. فلولا تلك المراجعة النقدية في حياة الأوروبيين بعد الحرب على مستوى الفكر والسياسة والثقافة، لما تمخض عن جميع تلك الجرائم إعتراف كهذا برغم إخفائه ستون عاما. في العراق، لاتزال المنظمات السرية البعثية <شغّالة> في جعلها للقتل روتيناً ولازال هناك مثقفون وكتاب يخططون لعودة البعث من المقاهي العربية. تزامناً مع هذا دخلت القوى الإجتماعية الجديدة التي تخوض الصراع على السلطات الموقعية قبل الحلم ب<بغداد>، دخلت في صراع لا تخلو ملامحه من عناصر التنكيل بالذات. بين هذا وذاك، نفتقد لمصالحة وهدوء قد يصبحان مخاضاً لإعتراف طويل، إعتراف نكتب فيه كتاب <الوصمة> العراقي
الشعر الآن في أبهى أزمنته
هاشم شفيق
هل الشعر في أزمة، كما يتردد بين حين وآخر؟ هل الشعر في حال يرثى لها؟ أصحيح ليس لدى الشعر جمهور؟ وهل الكتاب الشعري في كساد والشعر نفسه آيل الى موات؟ كما قال المفكر اليوناني كوستاس أكسيلوس بموت الشعر، جريا على قول، موت المؤلف وموت التاريخ وموت الذات الإلهية؟ من جهتي، لقد راقبت الشعر أكثر من ثلاثين عاما، متجولا في أنسقته الجمالية وحقوله التعبيرية، مستكشفا من خلال هذه المسيرة عماراته الفنية وطرزه النفيسة المطروحة في الأشكال والمحتويات، محدقا في الصنيع والتجارب، في النماذج والأساليب، متتبعا الرؤى والأحلام والخيالات التي تتشظى من نسيجه الداخلي، وسرتُ في طرقه الصعبة والوعرة وتوغلت في البعيد، في الأغوار والمجاهل، لأرى وألمس وأحس بما يخلفه الشعر من صبوات وحرائق وأفكار، فلم ألمس من وراء هذه الرحلة، رغم مشاقها وخطورتها وتعبها، لم أحس سوى أن الشعر هو حياة ثانية للمبدع، ولم ألحظ من مظاهر للشعر منذ أمرئ قيس حتى أصغر شاعر من عام الفين سوى أنه في تطور متواتر، وأنه يعيش أبهى مراحله الزمنية، وأفاد على نحو جمالي من كل تحولات عصره. جمهور الشعر كان مزيجا متنوعا، ومن مختلف المستويات العلمية والثقافية، ومن شتى الشرائح والطبقات الاجتماعية، وبقيت صلة الشعر بالجمهور مستمرة حتى مطلع الثمانينيات، حيث أخذت تتراجع إبان ظهور الانفجار الكبيرفي الثورة العلمية، وخصوصا على صعيد الاتصالات وما حصل من تطور تقني في الوسائل المسموعة والمرئية وما لحق وسائط وشبكات الاتصال الالكترونية من ابتكار وكشف وابتداع. داخل هذا الصخب الآلي، اكتشف الشعر أيضا نفسه، فعاد الى داخله، الى عالم الأحلام واليوتوبيات والتأملات، ليكون فن القلة الذي يشتغل على عالم الجوانيات والدواخل، هدفه المجاهل والأباعد والماورائيات، فضلا عن مهمته الأساسية في اكتشاف الحياة والعالم، أي ان مهمته أصبحت جمالية بحتة، ترنو الى صقل اللغة عبر الإيجاز والكثافة والصفاء، ثم الاشتغال على فض الرؤى واختراع الحكايا الرؤيوية، وإضاءة الزمان الجديد والمتخيل من خلال لغة نبوئية، قادرة على الاختراق والتخطي، مؤثرة في الوقت عينه نقل الأحاسيس والمشاعر الإنسانية وفضح الباطن لدى الكائن وغزو أعماقه من أجل تعريضها للأشعة والإشراق الشعري، ابتغاءً في الوصول الى المشاركة والتفاعل واقتسام ما تنطوي عليه روح الآخر من مشكلات وجودية. وفق هذا المساق يمكن القول ان وظيفة الشعر قد تغيرت كثيرا، وطرأت عليها تحولات دلالية مست الجوهر فيها، أي ان الشعر غدا إشاريا، ميالا الى الانزياح نحو فن الصمت والإيحاء والإيماءة، وابتعد ان يكون وسيلة وغاية، نأى عن الهتاف ليتبصر في جوهره كونه فنا موحى به، يخضع للرؤى ونداء الداخل، وكف أنْ يكون داعية سياسية وواسطة يملى عليها لتغدو حمالة للطارئ والعابر والآني. تحت هذا المظور نجد ان القارئ أيضا تطور، وحصلت نقلة في سيرورة ذائقته نحو مناخ متقدم فيه تطلع الى الجديد والخاص والفاتن في الشعر العربي، أضحت لدى القارئ الجديد معرفة ورؤية لمواكبة جديد الشعر العربي ومتابعة الأساليب والتغييرات التي مست أدوات ولغة الشاعر العربي الجديد الباحث عن أفق مغاير للمعهود والمقرر والمكتوب تحت وطأة التكرار، والحماسة لقضية ما، بغية إرضاء الذائقة السطحية، إذاً القارئ أيضا مسته عدوى التجديد والنفور من الزعيق والنظم والحشو التعبيري والمطولات والملاحم الباكية على الماضي النضير، وإلا لما لاقينا من يقتني ويحب ويشير الى <شناشيل ابنة الجلبي> للسياب و<قصائد حب على بوابات العالم السبع> للبياتي و<الفرح ليس مهنتي> للماغوط و<ورد أقل> لمحمود درويش و<الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع> لأنسي الحاج و<جنة المنسيات> لسعدي يوسف و<زيارة السيدة السومرية> لحسب الشيخ جعفر و<كائنات مملكة الليل> لحجازي و<أغاني مهيار الدمشقي> لأدونيس. حركة الكتاب الشعري لو عدنا الى خواتيم الأربعينيات، ونظرنا الى حركة الكتاب الشعري، إبان تفجر حركة الشعر الحديث، لوجدنا حركة الكتاب لا تتعدى القطر العربي المطبوع فيه، وإذا طبع في العاصمة، نجد من الصعب وصوله الى المحافظات والنواحي والقرى، فيظل أسير الموضع الذي طبع فيه، فديوان نزار قباني الأول <قالت لي السمراء> طبع منه ثلاثمئة نسخة، وتكاليف الطبع كانت على نفقة الشاعر، وكذلك هو حال السياب في البدايات والبياتي، وكان رواد الشعر العراقي يطبعون في مطابع بغدادية مغمورة ومحدودة الانتشار، بحيث انسحب هذا الوضع على مرحلتي الخمسينيات والستينيات، فعلى سبيل المثال مطبعة <شفيق> ورافئيل بطي الصحافي والناقد في بغداد وغيرها كانت تطبع على نفقة الشاعر أو الكاتب نفسه، وكذلك هوالأمر مع مطابع البصرة والموصل، والديوان المطبوع لا يتعدى الخمسمئة نسخة في كل الأحوال وهكذا كان حال <حفار القبور> للسياب و<خفقة الطين> لبلند الحيدري و<ملائكة وشياطين> للبياتي، والحال ينطبق على <القرصان> لسعدي يوسف في البصرة، والديوان المشترك ليوسف الصائغ وهاشم الطعان في الموصل، وهنا يظل تداول الكتاب مرهونا بنسبة المتعلمين وعدد النخبة. بينما الكتاب الشعري الآن يسافر الى جميع أنحاء العالم، يقطع مسافات ويعبر قارات وينفذ عبر الحدود والأسلاك بألف وسيلة ووسيلة، فالمعارض التي تقام حاليا في العالم العربي، عددها بات لا يحصى، فبلدان الخليج العربي كمثال، باتت لها معارضها الخاصة بالكتاب، وهي دول صغيرة، ولكنهت أصبحت تنافس المعارض العالمية، لما تقدمه من خدمات ومستلزمات فنية وتعبوية، لإعلاء شأن معارضها ولفت النظر وجلب الزوار، أي المهمة غدت حضارية، مقرونة بعوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، زائدا انها اكتسبت خبرات ومهارات السوق العالمية للكتاب، حتى غدت على هذه الدرجة من المستوى والتنفيذ والتنويع في المحتوي والمطروح، من التشكيلات الطباعية، هذا فضلا عن اشتمال المعرض على ندوات أدبية وفكرية وفنية، وحفلات توقيع تدعم وتساند المعروض، فالشاعر الحديث، مثلا، لم يعد معزولا، مثل السابق ومهمشا ومقصيا في أقصى قرية من بلاده، مثل السياب وجيكور والبريكان والزبير، بل رأينا الشاعر المعاصر، يوقع في مصر ودمشق وبيروت وعمان والرباط وتونس، ثم يستقل الطائرة، ليحضر حفل توقيع ترجماته في دور فرنسية وألمانية وانكليزية وأسبانية وإيطالية، كما حصل مع أدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف، أي رأيناه حاضرا في مكان مختلف ولغة مختلفة وجمهور مختلف، ومهما كانت الدواعي والوسائط والأساليب لهذا الحضور، يبقى انه يشكل إضافة هامة لثقافتنا العربية، ويؤدي الى انتشار الصوت الثقافي اللامع والمتنور والمغاير لصوت ثقافة العنف والتخلف والتكفير والإرهاب الذي لطالما اتهمنا به، فالشاعر هنا هو بمثابة السفير الحقيقي للامة، هو الصوت المتجول الذي يحمل الرؤى والصور والنبوءات. أما بخصوص مبيع المجاميع والدواوين الشعرية، فهنا الكل يبيع، خذ على سبيل المثال لا الحصر، دار <صادر> و<المعرفة> وهما داران بيروتيتان عريقتان، تطبعان للشعراء الكلاسيكيين القدامى، هاتان الداران تتفننان بالرونق والشكل ونوعية الورق والغلاف، رغم انهم قد غادروا الى مثواهم منذ أكثر من الف عام. إذاً الكل يطبع ويبيع، فالشعراء الرواد المحدثون والمعاصرون، أغلبهم صدرت أعمالهم الشعرية في أكثر من طبعة، محمود درويش، طبعتْ أعماله الشعرية في البدء دار <العودة> في أكثر من طبعة، ثم <المؤسسة العربية> وأخيرا وليس آخرا دار <رياض الريس> أدونيس، طبعتان دار <العودة> ثم <المدى> في دمشق، سعدي يوسف، طبعة الأعمال الشعرية الأولى كانت في دار <الأديب> البغدادية، ثم <العودة> ومؤخرا صدرت طبعته الثالثة في <المدى> البياتي والماغوط وامل دنقل وممدوح عدوان، صدرت طبعتان من أعمالهم الشعرية، بذا يكون الشعر معمرا ومقروءا على مدى طويل، وهو سيبقى سيد الفنون وديوان العرب بامتياز وحتى في الغرب هو ايضا ينظر له كونه أعلى مرتبة من بقية ما يكتب بصفته فن الكثافة والإيحاء والتقطير، ففي زمن الشاعر الفرنسي جاك بريفير، اختفى روائيون كثيرون وبقي هو الأكثر مبيعا منذ نصف قرن، الشاعر الأميركي والت ويتمان، لا يزال يتصدر قوائم المبيعات بديوان وحيد هو <أوراق العشب> وما بقي مطلوبا من بين روائيين عديدين كانوا يكتبون في زمنه هو الروائي هرمن ملفيل كاتب رائعة <موبي ديك> لأنه كاتب استثنائي، والأمر ذاته ينطبق على ت س إليوت الذي يتصدر الواجهات دائما ومعه ييتس وكيتس ومكنيس وأودن وآر س توماس وتيد هيوز وسيلفيا بلاث وأميلي ديكينسن، عراقيا هناك السياب هو الأبرز وربما هو الأبقى قياسا الى أقرانه من الروائيين والقصاصين، سوريا نجد أدونيس، فهو العلم الأشهر قياسا بالذين بدأوا معه من القصاصين والروائيين، وإذا قيل ان هؤلاء رواد ومطلوبون ومن هنا تكررت طبعاتهم، لكن الواقع الشعري العربي يقول عكس هذا، فثمة شعراء عرب من أجيال لاحقة طبعت مجاميعهم أكثر من طبعة كشوقي بزيع، عز الدين المناصرة، محمد علي شمس الدين، فاضل العزاوي، جودت فخر الدين، محمد بنيس، حسن طلب، قاسم حداد، بول شاؤول، ويحيى جابر، والأخير هو من جيل احدث، ونصف هذه الدزينة تكتب قصيدة النثر، لا بل هناك شعراء من جيل أجد، يطلق عليهم <جيل الفين> في بيروت، نشروا قصائد نثر، ودعوا الى توقيع مجاميعهم وباع كل شاعر في حفل التوقيع قرابة الثلاثمئة نسخة، كناظم السيد وغسان جواد، وكانت كلفة طباعة هذه المجاميع على دار <مختارات> التي رأت في نتاجهم ما يستحق المغامرة، ومثل هذا يحدث في دمشق وفي القاهرة. هذا عدا أن هناك شبيبة شعرية تسعى الى المخرج ذاته في كل من المغرب العربي والخليج العربي . أما شكوى بعض دور النشر من قلة مبيعات الشعر، فهي شكوى دائمة، لأن أصحاب دور النشر العربية يريدون من الكتاب الشعري أن يكون <البيست سيلير> أي الكتاب الأكثر مبيعا، والشعر بالطبع لا يرتضي أن ينزل من مرتبته الجمالية والفنية، ليبيع مثل كتب الطبخ والريجيم والرياضة وكتب الأحزاب الدينية المتطرفة، أو مثل كتب الروايات الإيروتيكية التي تنقل في متونها عوالم فضائحية، أو كتب المذكرات ذات اللمسة الآنية، صفوة القول هو ان الشعر ليس آنيا، لأنه نتاج الرؤية، وزمانه يكمن في البعيد، لذا نراه قليل التداول، بطيء البيع، ويباع على مديات، تمتد لسنوات، ولكنه، وهنا يكمن بيت القصيد كما يقولون، سيبقى متداولا ومطلوبا ويعاد طبعه لقرون، وإلا ما الذي يدفع داراً مثل دار <العودة> أن تلجأ لطبع شاعر مثل الياس ابي شبكة، سوى انه مطلوب وباق بقوة ما كتبه وقدمه من أشعار مبدعة، لتقدمه في حلة جديدة وفي أعمال شعرية كاملة، بعد أن كانت أعماله متناثرة بين دار <المكشوف> وغيرها، لقد قضى أبو شبكة وهو في مطلع الخمسين من عمره، منعزلا، وبعيدا في قريته بسكنتا، تاركا وراءه إرثا خلاقا ولافتا، بحيث جاء من يجمع ما أبدعه من صنيع ليعيد اليه ألق الاستمرارية من إبداع شعري كامن فيه قادر أن يتحول عبر ضوء الديمومة باتجاه السرمدية. حال الشاعر الآن قضى السياب في أواخر الستينيات من القرن الماضي، بعيدا ومنعزلا وعليلا، كان يقايض ديوان شعر بقنينة دواء، ويستجدي حبات منه بمكافأة لقصيدة، فشاعر مثل السياب، لم يسافر طيلة حياته من أجل الشعر، سوى مرتين، وكانت هاتان السفرتان من تدبير يوسف الخال، الأولى دعاه ليقرأ قصائده في بيروت، ضمن خميس مجلة شعر، والثانية كانت الى روما، يوم انعقاد مهرجان الشعر العالمي، والمرة الأولى التي حصل فيها على جائزة كانت أيضا بدافع من يوسف الخال، حين منح ديوانه <أنشودة المطر> جائزة مجلة شعر، كاستحقاق أولا على صنيعه، وثانيا كمساعدة له في تخفيف أعباء محنته الشخصية. بينما ظرف الشعراء العرب اليوم، على صعيد المهرجانات والجوائز، فإنه لا يمكن مقارنته بالسابق، فالشاعر اليوم، نجم يلمع هنا وهناك، يدعى الى مهرجانات أدبية وثقافية لا تحصى، محلية وعربية وعالمية، يوطد من خلالها صلته بالآخرين، وينقل لهم ثقافة بلده أولا، عبر ما يصلهم من نتاجه الإبداعي، ثم يترك انطباعا معرفيا ووهجا كارزميا في المحل الذي يحل فيه، فهنا ثمة اتصال بالآخر، ثمة علاقة جمالية، تربطه به، فهو ليس معزولا في قريته، يكتب الشعر ويعاني أمراض الجسد والسياسة والمجتمع، بل هو على تماس مع الواقع والوقائع، يتنقل في كل مكان، ويرى كل شيء، ويتحدث ويساجل ويدلي برأيه عبر الوسائل الإعلامية، في بلده أو هذا البلد أو ذاك، ينتقد ويشير ويصرح ويكتب عن زياراته في الصحف والمجلات التي يعمل أو يتصل بها، كما يرشح الشاعر نفسه، أو ترشحه نقابة معينة لنيل إحدى الجوائز العربية الكثيرة، وقد يفوز بأكثر من واحدة، وربما يكون من بينها جوائز عالمية، ناهيك عن المنح التي تمنح للشاعر والتي تكلل دائما بالانتجاع والاستجمام والإقامة لغرض الكتابة، كل هذه الإمكانات هي الآن معروضة أمام الشعر، ثم يأتي من يقول لك: ان الشعر يموت، ويعيش في غرفة الإنعاش ، وإنه زمن الرواية! التلقي مسؤولية الشاعر أزعم من زاويتي الخاصة وأظن، أن مسألة الإيصال والتلقي، تقع بالدرجة الأساسية على الشاعر نفسه، بالتأكيد نحن باستطاعتنا التقييم والاحتكام الى الذائقة في التفضيل، كون هذا القميص جيداً وتلك السيارة رديئة وسيئة الصنع، الشاعر مثل هؤلاء الصانعين ينتج ولا أحد يشاركه صناعته سوى مقدرته وتمكنه ومدى طاقة الخلق الكامنة فيه، أي كم هو موهوب ومثقف وعارف بأسرار صناعته، فالشعر <صناعة وضرب من النسج> كما قال الجاحظ، يوما، وهو المسؤول الأوحد أمام هذه المهمة الجمالية التي أنيطت به، والشاعر المبدع هو من يفرض صوته وصنيعه وهو من يتجشم عناء هذه المسيرة عبر الإخلاص لها والتفرغ روحيا وعمليا لكل ما يحيط بهذا الفن من معارف وأسرار وخبرات وصولا الى حسن أداء الرسالة. لو عدنا قليلا الى ستينيات القرن المنصرم، وتابعنا سيرة النشر ونشاط الشعراء البارزين آنذاك عبر المجلات التي كانت تتبنى نشر نتاج المبدعين من الشعراء الرواد في تلك الأيام مثل مجلة <شعر> و<الآداب> و<حوار> و<الأديب> يوم كان السياب ينشر الى جانب توفيق صايغ في <حوار> وهو صاحب المجلة، سنجد قصيدة السياب، كانت تصل الى القارئ أكثر، وتنتشر وتحفظ، وفي الوقت ذاته، تحمل نواة ديمومتها، وكانت مجلة <شعر> تنشر لجبرا إبراهيم جبرا وأنسي الحاج، فكانت قصائد جبرا تظل طريقها الى القارئ، وقصائد أنسي تلقى قبولا وتعطى مكانة من لدن القارئ، وتنشر المجلة أيضا قصائد ليوسف الخال وهو صاحب المجلة الى جانب قصائد لأدونيس، فنجد قصائد الأخير تجد صدى مختلفا ولافتا، غير الصدى الذي توفرت عليه قصائد الخال، وتنشر <الآداب> قصائد للويس عوض وعبد الصبور، فنلقى الأخير قصيدته قد أثارت لغطا، والأول تداركه الصمت وربما الإهمال، وتنشر المجلة ذاتها قصائد للشعراء محمود درويش وتوفيق زياد، فتحصد قصيدة محمود درويش إعجابا ودويا لدى النخبة والعامة، بينما قصيدة توفيق زياد رغم مباشرتها ووضوح مضامينها تؤول الى حالة أخرى، وتنشر المجلة كذلك لخليل حاوي وفؤاد الخشن، فنجد الشعر يستبقي الأول ويلفظ الثاني، و<الأديب> تنشر للبياتي وكاظم جواد مشاكسه ومنافسه، فترينا الأيام بقاء البياتي وغياب تام لكاظم جواد ليس عن الساحة الشعرية العربية، بل حتى العراقية.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)