٣٠‏/٠٩‏/٢٠٠٦


شارع المتنبي
.. من جورج أورويل إلى الاعتراف بالفشل
محمد عبد العزيز


عبد الستار ناصر كاتب وروائى عراقى مقيم فى عمان، أحد الكتاب البارزين فى الثقافة العراقية، حافظ على صموده ونجاحه، لأكثر من ربع قرن ينطوى على جرأة وشجاعة فى كتابة القصة القصيرة، وهو يشاغب داخل مسروده القصص. سطع نجمه رغم تعرضه للسلطة الحاكمة، وهو الأديب العراقى الوحيد الذى ظهر على شاشة التليفزيون وصافح صدام حسين الرئيس العراقى السابق، ثم سرعان ما سافر إلى عمان ليعلن قطيعته مع نظام صدام، ويكتب عن مكبوتاته. فى قصص عبد الستار ناصر، تجد لذة عراقية تشابه طعم القيمر العراقى المخلوط بدبس التمر، وتشعر أنه فعلاً يقدم لك خبز التنور، أو صمون المخابز الحار. تتميز القصص التى يسردها بلغته الجميلة والحميمة، والتى تقوم على تنوع الحدث والانتقال فى الأمكنة والغوص بعيدًا فى تلافيف الروح، واقتناص حكاياتها من العمق، ونستطيع أن نتلمس حالة القمع والكبت الإنسانى الذى يغمر شخوص قصصه ورواياته، وأكثر ما يوظفه القاص عبد الستار هو التجارب الحقيقية الإنسانية، التى يوظفها لصالح النص القصصي، فهو لا يقف عند مشارف النص، أو مدخل القصة، بل يكون دليلاً أمينـًا، وقائدًا متميزًا فى الرسم القصصى المشترك. بدأ ناصر مشواره القصصى عام 1968 مع "الرغبة فى وقت متأخر" ثم "تلك الشمس كنت أحبها" عام 1971 و"طائرة الحقيقة" عام 1974، و"موجز حياة شريف نادر" و"لا تسرق الوردة رجاء" عام 1978 ثم "الحب رميـًا بالرصاص" عام 1985، و"مطر تحت الشمس" 1986، و"الشمس عراقية" 1986، "الكواشي" 2000، و"نصف الأحزان" عام 2000 و"بعد خراب البصرة" عام 2000. يقول ناصر فى مقدمة كتابه "شارع المتنبي" " إنه على الرغم من أن كتابة النقد ليست مهنته، فإنه أنجز ثلاثة كتب فى هذا المضمار الصعب.. ويقول: " والحكاية كما أراها الآن، هى أننى بعد قراءة أى كتاب ممتع أو مفيد يستهويني، أجد أصابعي، وهى تكتب الهوامش حول مستطيل الكلمات المطبوعة فى ذاك الكتاب الممتع المفيد، وإذا ما انتهيت من قراءته أعود إلى جمع هوامشى وأعمل على ترتيب مفرداتها، وإعادة كتابتها، فإذا بها كما العروس وهى تزف إلى مبدعها فى ليلة ماطرة لذيذة. شارع المتنبى هو الجزء الثالث بعد "سوق السراي" و"باب القشلة" الذى يتناول فيه ناصر خروج المبدع العراقى عبد الرحمن مجيد الربيعى من بيت الطاعة، وحكاية الكاتب المصرى خالد محمد غازى مع "نساء نوبل" وعن معاناة القاص الأردنى خليل قنديل وهو يكتب القصص القصيرة تحت حرارة يوليه .. كما أبحر فى صهيل أسئلة المبدعة التونسية رشيدة الشارني. يتناول ناصر فى القسم الأول من كتابه نقدًا لعدد من الإبداعات، فيبدأ بأول أعمال جورج أورويل "أيام بورمية" التى صدرت طبعتها الأولى عام 1934 وهى سيرة حياة أقرب ما تكون شبهـًا بحياة مؤلفها، وشخصية "فلوري" أيام كانت السيادة البريطانية طاغية بقوة على مساحات شاسعة من شرق آسيا بل تراه يعمد إلى أن حياة "فلوري" هى نفسها المحطات التى مر بها أورويل منذ عمل ضابط شرطة فى بورما قبل أن يصل إلى الشيخوخة، دون أن يدرى أنه سيموت أيضـًا قبل أن يكمل الخمسين من عمره. ويلفت ناصر إلى أن كل شيء فى "أيام بورمية" مزحوم بالسواد والغبار والحرارة، والبيوت، والشوارع الفرعية، والأسواق، والسجون، وثلاثة أرباع زمانها صيف لاهب يشوى النفوس ويزهق الأرواح حتى تشعر - أنت القارئ - بكثير من التعب. ومن أورويل يطوف بنا ناصر إلى القاص والروائى العراقى عبد الرحمن مجيد الربيعي، لا سيما مع كتابه "الخروج من بيت الطاعة" وما له من نكهة مختلفة ومتميزة عن بقية نتاجاته، إذ يحكى فيه عن تجربته فى كتابة القصة والرواية، كما يتطرق إلى المحظور والمسموح فى الابداع العربي، مع أفكار يناقشها حول العالمية والمحلية فى القصة والرواية، زائدًا بعض إشاراته فى طريق سيرته الشخصية، دون أن يغفل الحديث عن الحرية فى الإبداع والحياة. المحطة الثالثة فى معالجات ناصر النقدية، مع المؤلف خالد غازى فى كتابه "نساء نوبل" واصفـًا إياه بأنه من الكتب التى نحتاجها لتسخين الذاكرة، فهو يحكى عن كوكبة من النساء دخلن التاريخ من أجمل أبوابه، وكان حضورهن فى العالم خدمة حقيقية للقيم العظيمة، وخدمة أصيلة للعدل والمساواة والسلام. ومن غازى إلى لنا عبد الرحمن مع أوهامها الشرقية يعترف ناصر أن ما روته لنا قد أوجعه وأرغمه على التساؤل: ترى هل تعلم الدنيا بما يعانيه البشر فى هذه الرقعة من الأرض، والتى يسمونها الوطن العربي؟ ذلك أن ما تكتبه عن الروح يكشف ما يعانيه الجسد من خسائر وحروب يومية وتركات ورثناها من سالف العصر والزمان، ونطوق بها أعناقنا حتى نوشك أن نموت خنقـًا دون شفيع نستجير به. إن قصص لنا عبد الرحمن - بحسب ناصر - هذا شأنها الأول، والتالى أنها توقظ الدم ثانية فى الجسد المصلوب الذى امتدت إليه المسامير، عساها، وربما ترجو - هى - ذلك، لو أنها تتمكن من رفع مسمار واحد عن أصابع قتلاها، لكنها تكتشف بعد كل قصة تكتبها أن الوهم لا يزال أكبر منها، وأنها لن تحصد فى نهاية المطاف غير البقاء على أطلال قصر كان شامخـًا ذات يوم فى تأريخ النقاء، ونكران الذات والمروءة. وتحت عنوان: "جريمة قتل كتاب" يحدثنا أننا قد نسمع بالتطورات العلمية، ونزداد سعادة بما وصل إليه الإنسان من علو فى مضمار الفضاء، بينما الفوائد فى عالم الأدب والكتابة عمومـًا لا سلبيات ولا حروب فيها، إنه فى خدمة الإنسان، وزيادة وعيه ومعلوماته وثقافته، وهو البناء التحتى لهذا الكائن الذى لا يزال بحاجة إلى الأمان والسلام والطمأنينة والفرح، وهو ما لا تحققه العلوم عادة، إذا ما تذكرنا حالة الفوضى فى عالمنا المعاصر، حتى يبدو الناس فى الشوارع كما المجانين مع هواتفهم النقالة، وهو كذلك أيضـًا أمام شاشات الإنترنت التى يطول المقام أمامها أكثر من عشر ساعات فى اليوم الواحد أحيانـًا. وفى اعتراف جريء - لا نتفق معه - يقول ناصر: بعد أربعين عامـًا من زمن الكتابة، وأربعين كتابـًا حملت اسمي، رأيت فى ساعة صحو أن المسافة بينى وبين القصة القصيرة والرواية لم تزل بعيدة. أنا كاتب فاشل تجاوز الخمسين. ولم أحقق نصف ما حققه ماركيز، أو سارتر. مخيف جدًا أن يكون المبدع أصغر شأنـًا من بقية المبدعين. ويضيف: لن أتردد وأنا أعترف بالفشل الذى أحس به، أين مكانى فى هذا العالم فى موازاة هنرى ترويا الذى كتب "الميت الحي" والتى لن أتمكن من إبداعها حتى لو وصلت الستين من عمري؟ لم أسكت عن الكتابة، ولم أشعر بالعيب مما قرأت عنى وعن قصصي. وأكبر دليل على فشلى أننى أمضيت من عمرى أربعين عامـًا وأنا أقرأ وأكتب واقرأ وأكتب، وعلى الرغم من ذلك لا أعرف ما يدور حولى من أسئلة وتناقضات وألغاز وأسرار ومقومات وأساليب الكتابة، ولم أحقق نصف ما حققه سارتر وماركيز وبونزاتي، وما زلت أشعر بالخجل وأنا أقرأ استيفان تسفايج، وديرك والكوت، وأرى أنه قد أزف الوقت حتى أقول: كفى. وأخيرًا .. أقول يكفى أن تقرأ أعمال عبد الستار ناصر.. وكفى.
 Posted by Picasa