٠٧/٠٧/٢٠٠٦
ماريو فارغاس ليوسا: الكاتب الذي يرى نفسه كبيراً أحمق.. وهناك كثيرون هكذا
صباح زوين
ماريو فارغاس ليوسا: لا تصدقوا الصحافيين
أنا في صالة استقبال الفندق حيث نزل ماريو فارغاس ليوسا. انا في انتظاره. ثم ما لبث ان اطل وجه بشوش وما إن سلّمت عليه حتى قال: <آه، لهجتك ارجنتينية>. قلت <طبعا، وبين لهجتي ولهجتك سوف نتكلم عنك>. عندما قرأت ليوسا قبل قرابة العشرين سنة، لم اتصور اني سألتقي يوما صاحب هذا الأدب الغزير ومنه مثلا <بانتاليون والزائرات>، تلك الرواية الساخرة والطريفة. بل لم أتصور انه سيأتي الينا ويزورنا في بيروت، صاحب عشرات الروايات هذا. حاز ليوسا جوائز عديدة ومهمة، منها جائزة <امير استورياس> سنة ,1986 وجائزة <سربانتس> سنة ,1994 وجائزة <ليو بولدو ألاس> سنة ,1959 وجائزة <رومولو غالييغوس> سنة .1967 لكن ليوسا، وقبل ان يفوز بكل هذه الجوائز وقبل ان يتمكن من العيش من كتابته، عمل في ميادين عدة، فاشتغل استاذا في اللغة الاسبانية، وصحافيا في الوكالة الفرنسية للأنباء، وفي الراديو التلفزيون الفرنسية، كما انه شغل مرات عدة منصب استاذ زائر في الجامعات الاميركية. يُعتبر ليوسا احد أهم كتّاب الجزء الثاني من القرن العشرين تُرجم الى لغات لا تُحصى. بدأت شهرته في برشلونا سنة 1963 عندما استلم جائزة <بيبليوتيكا بريبيه> تقديرا لروايته <المدينة والكلاب> حيث يتكلم عن الاصالة والمسؤولية والبطولة. يتميز ليوسا <بتقنيات سردية تحديثية> كما يصفه النقاد، وفي كل اعماله تتمحور كتابته حول مواضيع تتعلق بالواقع الاجتماعي البروفي واحيانا الاميركي اللاتيني بما ينطوي على نزاعات عرقية ولا اخلاقية سياسية. تجدر الاشارة ان ليوسا جمع في شخص واحد مواهب عدة، اذ ليس فقط روائياً، انما هو ايضا كاتب مسرح وباحث وناقد أدبي ويمكن القول انه بدأ حياته الأدبية فعلا وحقيقة في اوروبا. فهو عاش في باريس وبرشلونة ولندن ولا يزال يقيم في كل واحدة منها على التوالي من دون ان ينسى زيارة البيرو كل سنة. وعلى الرغم من اهتمامه بالسياسة فهو يكرر دائما ان على الكاتب ان لا يضحي اطلاقا بمشروعه الفني من اجل ايديولوجيات سياسية. كما انه يقول في مكان ما: <الأدب هو نشاط اساسي وليس على الاطلاق اختصاصا>. عليه ان يحتلّ مكانا كبيرا ومهما في حياة كل الناس، كونه مصدر معرفة واسعة ومصدرا خارقا للذة. هذه هي الرسالة التي اجلبها للشباب: ان نقتنع بأن الكتب مهمة اذ ليس ثمة تسلية صحية ومثيرة وباعثة على الفرح اكثر منها. فالكتاب الجيد والمبدع حقيقة <يغير وجودنا بأكمله>. بعض من اعماله: <الهاربة من الإنكا> سنة 1952 (مسرحية)، <الزعماء> سنة ,1958 <المدينة والكلاب> سنة ,1963 <البيت الاخضر> سنة ,1966 <الكلاب الصغار> سنة ,1967 <حوار في الكاتدرائية> سنة ,1969 <بانتاليون والزائرات> سنة ,1973 <العربدة الدائمة> سنة ,1975 <حرب نهاية العالم> سنة ,1981 <من قتل بالومينو موليرو> سنة ,1986 <لغة الشغف> سنة .2001 كيف أتتك فكرة الكتابة؟ هل كانت رغبة منذ صغرك أم أتت صدفة؟ } لا، ليس صدفة. الأمر بدأ مع القراءة. أنا تعلّمت القراءة في الخامسة من عمري، ودائما أقول انه هذا هو الشيء الأهم الذي حصل معي، أتذكر كيف ان القراءة أغنت حياتي وعالمي من خلال الكتب والمغامرات التي كنت اقرأها، واعتقد ان هذه كانت العلامات الاولى لقلق ما، لحساسية ما ازاء الأدب. كانت والدتي تخبرني ان الاشياء الاولى التي كتبتها انا كانت تتمات للروايات او الحكايات التي كنت اقرأها، فكنت أغيّر نهاياتها او اطيلها، والى ما هنالك، علما بأني أنا لا أتذكر شيئا من هذا. ما أتذكره هو ان القراءة شغلت طفولتي ومراهقتي، فأتذكر بوضوح تام الشخوص التي كنت أصادفها في الروايات أكثر مما أتذكر رفاقي في المدرسة. روايات الكساندر دوما مثلا، كانت بالنسبة لي شيئا رائعا لا مثيل له، وعشتها كأنها تجربة شخصية، كأني كنت هناك، مع الشخوص، فأعيش تجاربهم حتى تصورت أني واحد من الفرسان الثلاثة. أتذكر ايضا <البؤساء> لفكتور هوغو عندما كنت في بداية صفوفي الثانوية. وقد أكون بدأت الكتابة في تلك الحقبة عندما كنت لا أزال في المدرسة حيث كتبت قصائد وقصصا قصيرة وحكايات. لكني لم أفكر اني سأكرّس يوما حياتي للكتابة: فهذا أمر مستحيل التفكير به بالنسبة لشاب اميركي جنوبي. لماذا؟ } لأن الكتابة كانت بمثابة نشاط ترفيهي مما يعيق العمل من أجل لقمة العيش. اذ كانت الكتابة في تلك الحقبة تبدو وكأنها تسلية ولا يمكننا تكريس كل وقتنا لها. كان علينا ان نتدبر لقمة عيشنا. ومن أجل ذلك علينا ان نعمل فالأدب لا يطعم خبزاً. لذلك رأيتني ادرس شيئا آخر، فدرست الحقوق اولا، ثم درست الأدب، ما مكّنني من ممارسة وظيفة المحاماة والتعليم معا، ولكني ظللت مصرا على فكرة اني سأكرّس ما تبقى من وقتي للكتابة. وهذا ما فعلته: فبعد دراستي الأدب والحقوق، حظيت بمنحة للدكتوراه في الأدب، وذلك في اسبانيا. كنت قد كتبت قصصا قصيرة عدة وأنا طالب جامعي، فجمعت بعض هذه القصص عند وصولي الى اسبانيا (وكنت قد نشرتها متفرقة في البيرو) وقدمتها الى جائزة ليوبولدو ألاس وحزت الجائزة، هذا كان أول كتاب لي منشورا تحت عنوان <الزعماء>، سنة ,1958 وأنا في الثانية والعشرين من عمري. اذا ابتداء من ذلك الوقت أخذت تعتبر نفسك بجدية كاتباً! } نعم، ففي مدريد، اي سنة ,1958 اتخذت ذلك القرار: قلت لنفسي، لن أكون ابدا كاتبا اذا كتبت فقط أيام الآحاد والأعياد، واذا كرّست بقية ايام الاسبوع لنشاطات لا تمت بصلة الى الأدب. لذا قررت ان انظم حياتي بطريقة اخرى: قلت لنفسي، سوف أنظم حياتي حسب متطلبات الأدب، وفي ما تبقى من وقت، سوف أبحث عن عمل، عن لقمة عيش، وذلك كي لا يؤكل وقتي كله خارج النشاط الكتابي. واعتقد ان ذلك القرار كان مهما جدا. طبعا لا أنفي انه كلّفني صعوبات عملية ومادية جمة، لكن نفسيا كان هذا مهما جدا جدا لي، وذلك لأني بدأت أشعر حينها اني حقا كاتب. ذهبت الى باريس، ثم الى اسبانيا، وهناك عملت في مجالات عدة: علّمت اللغة الاسبانية، وفي النهاية عملت صحافيا، اولا في الوكالة الفرنسية للأنباء، ثم في راديو تلفزيون الفرنسية بينما كنت في الأثناء أكتب روايتي الاولى <المدينة والكلاب> وحالفني الحظ ايضا إذ حزت جائزة مهمة جدا في حقل الأدب الاسباني. احرقوا كتابي الى ما يعود نجاح هذه الرواية؟ } انا احب ان اعتقد ان الرواية نجحت لأنها جيدة! لكن في الحقيقة من يدري ما الذي يجعل الكتاب ناجحا. انما اقول لك ان هذه الرواية اثارت فضيحة كبيرة في البيرو، اذ كان وقعها سلبيا على العسكر في البلاد، وكانت ردة فعلهم انهم احرقوا كتابي في المدرسة الحربية حيث تقع احداث الرواية. وهذه الفضيحة بذاتها هي التي ساهمت في جعل الكتاب مقروءا وفي ايقاظ الفضول لدى الناس لقراءة الرواية. كنت مقيما في اوروبا في ذلك الوقت واخذت تصلني تلك الاخبار بطريقة غير مباشرة، وفوجئت بأن الكتاب احدث كل هذه الفضيحة. اذ في الحقيقة لم اتصوّر يوما ان كتابا او رواية يمكنها ان تحدث ما احدثت هذه من اثارة وغضب. اعود الى مسألة اكتشاف ذاتك كاتبا: متى تم هذا الاكتشاف؟ اثناء ممارستك الكتابة الروائية ام لم يكن اكتشافا انما قرار راشد ثم اجتهاد فحسب؟ } اعتقد اني حملت في داخلي هذا الميل الى الكتابة منذ طفولتي، انما فقط في مراهقتي انتبهت الى انها (الكتابة) اكثر من ميل، الى انها التزام وتكريس الذات والوقت، ومنذ ذلك الوقت فكّرت ان الكتابة مهمة اساسية في حياتي وعليّ بالتالي تكريس حياتي لها. وكان ان اتخذت ذلك القرار في ما بعد في اسبانيا، سنة ,1958 واعتقد ان هذا القرار ساعدني كثيرا. انا اصف الكتابة بالفعل الكتابي. ماذا تقول؟ } اقول انه يجب ان يكون ثمة حالة، ثمة استعداد وقابلية، واضافة الى ذلك، يجب ان يكون ثمة دأب ومثابرة، يجب ان يكون ثمة نقد ذاتي. لا شك في ذلك. } تعرفين ان برنارد شو قال جملة طريفة جدا وتبدو لي صحيحة جدا ايضا. قال عن الموهبة الادبية: <انها عشرة بالمئة الهام، وتسعين بالمئة عَرَقٌ>! هذا الكلام صحيح، فالفعل الكتابي هو فعل خلق وعمل في آن، علما بأن الدأب وحده لا يكفي. } ثمة اوقات نكتب فيها وكأننا في حالة من الاثارة، لكني اعتقد ان تلك الاوقات نفبركها فبركة من خلال الاصرار والدأب والمثابرة والعمل الدائم والنقد الذاتي المستمر. هل صحيح ان مرحلتك الروائية الاولى تتصف بالدقة الصارمة والموضوعية، في حين ان مرحلتك الثانية التي لم تعد فيها متأثرا بسارتر، اكثر ذاتية وطرافة؟ ولكن كيف يكون الروائي موضوعيا؟! } هذا صحيح بعض الشيء ولو انه في كل المراحل تجدين من كل شيء. في مرحلتي الأولى كنت متأثرا جدا بنظريات سارتر، بالأدب الملتزم. كان لسارتر أثر كبير عليّ وافكاره تركت ظلالها فيّ، كذلك ادبه، وسارتر انسان ذكي جدا، لكنه بعيد عن الطرافة. فلا نجد اي ابتسامة في كل عمل سارتر الأدبي، وهذا الأمر هو الذي أثّر فيّ وجعلني افكّر في تلك المرحلة من حياتي الادبية بأن الطرافة شيء لا يتلاءم مع الادب الجدي. وانطبعت بالتالي بهذه الاجواء كتبي الاولى امثال <مدينة الكلاب>، <البيت الاخضر>، <حوار في الكاتدرائية> الخ. الا ان كل هذا يتغيّر اواخر الستينيات واوائل السبعينيات، عندما فكّرت بكتابة رواية حول ما رأيته شخصيا في الادغال البيروفية، ويتعلق بالجيش. وثمة نظام في الثكنات انشأوه للترفيه عن الجنود، يقوم على استقبال فريق كامل من النساء او <الزائرات>. الرواية تنطلق من هذه <الحادثة> التي رأيتها في الواقع. اعتبرت حينها هذا الاكتشاف غريبا جدا، خصوصا ان الذي ينظمه هو الجيش بذاته. حاولت ان اكتب رواية جدية حول الأمر، لكني رأيت ان هذا مستحيل. ثمة قصص لا نستطيع كتابتها بشكل جدي لأنها قد تبدو غير معقولة. هكذا بدأت اكتب رواياتي بجو من الطرافة او الاخيرة هي التي فرضت نفسها عليّ. لكن اقول لك انها كانت تجربة رائعة بالنسبة لي، اذ اكتشفت ان الطرافة عنصر غنيّ يحتوي على ابعاد حياة بأكملها، على التجربة البشرية، والتي لا نستطيع ان نحكيها سوى في اسلوب مضحك. وهذا ما اعطى عملي، كما اعتقد، ابعادا مختلفة. هل كل الكتب من هذا النوع لديك تحمل الفكاهة الفجّة ذاتها كالتي في <بانتاليون والزائرات>؟ } كتبت ايضا <الخالة خوليا والكاتب الفاشل> حيث تجدين الطرافة كذلك، لكنها فكاهة اقل فظاظة، اي اكثر تهذيبا ورقة مما هي عليه في <بانتاليون>، لكن استطيع القول ان منذ هذين الكتابين بدأت الفكاهة تحضر في اعمالي. هناك كذلك عناصر اخرى كانت غائبة في المرحلة الاولى امثال اللعب، فكرة اللعب، فكرة اللهو، وبعض الفانتازيا الحرة البعيدة عن الهموم السياسية والاجتماعية. هذه الافكار بدأت في السبعينيات تدخل في رواياتي. وماذا عن النزاع الحاد بين الأب والإبن الذي تكلمت عليه مرارا. اي نوع من النزاع هو؟ هل عشته أنت؟ } طبعا عشته، بل عشته بطريقة مأسوية جدا. انا اكتشفت ان لي ابا فقط في العاشرة من عمري. عائلة والدتي جعلتني اعتقد ان والدي ميّت، اذ ان والديّ كانا منفصلين، وعائلة والدتي حيث نشأت كاثوليكية متشددة، تخجل كثيرا من شيء اسمه طلاق. والدتي تخجل كذلك، ولهذا السبب دعوني اظن اني يتيم الأب. في العاشرة من عمري تصالح والداي، الا ان علاقتي بأبي كانت جدا سيئة. علاقة صعبة. لم نتفق ابدا. في الحقيقة كنا غريبين، اضافة الى انه كان انسانا مختلفا تماما عني. كان براغماتيا. ألم يكن حنونا؟ } على الاطلاق. انا كرهته كرها فظيعا. لماذا؟ } لأنه سرق مني والدتي! كانت كلها لي، وفجأة يظهر هذا السيد! طبعا، العقدة التقليدية! اذا كان منافسك! } صحيح. في اي حال كان ايضا رافضا كليا موهبتي الادبية. كان يرى الى الادب كشيء ناقص ومعيب، شيء يتعلق بالمخنثين. هذه طريقة تفكير العائلات البورجوازية التقليدية في اميركا الجنوبية. } كان ابي في اي حال شغيلا كبيرا، عمل منذ صغره والادب ظل خارج حقل تفكيره كليا. لذا رأيت الأمر طريفا جدا على تناقضه، اذ اعتقد ابي انه قد يستطيع ان يخفيني عن تلك الموهبة الخطيرة، اي الادب، لذا وضعني في المدرسة الحربية، لكن ليس فقط لم أشفَ، انما وجودي هناك وهبني موضوعا او فكرة روايتي الاولى <المدينة والكلاب> فأنا مدين إذن لوالدي!! إذاً أنت مدين جدا لوالدك، بل أكثر مما يمكنه ان يتصوّر إذ اصبحت كاتبا عالميا! } ادين له هذا بل اكثر من هذا، اذ بفضله انا تعرّفت الى البيرو. نشأت في عائلة جدا منغلقة على ذاتها وحمتني كثيرا من اي خطر خارجي، الى درجة منعتني من ان ارى البيرو في حقيقته. كنت في عالم هادئ ضمن عائلتي، في حين كان البيرو بلدا عنيفا جدا وفيه تناقضات ونزاعات كبيرة بين الطبقات الاجتماعية كما فيه نزاعات عرقية. كل هذا تعرفت اليه بفضل وضع والدي لي في المدرسة الحربية. طبعا كان هذا الفضل غير مباشر. اما علاقتي الشخصية به فكانت سيئة جدا. وفي احدى الروايات كتبت تقريبا عما كانه هو، مستلهما علاقتي الصعبة معه. الا تعتقد ان النزاعات الطبقية والعرقية في البيرو هي واحدة، حيث ان العرق الابيض هو البورجوازي والعرق <المحلي الأصلي> (الهندي) هو الفقير؟ } بل البيرو خليط من كل شيء. انه مزيج من ثقافات وحضارات عدة، من لغات عدة. تعني بلغات عدة، تلك الاسبانية واللغات الهندية العديدة؟ } في البيرو، اكثر من لغة هندية، اضافة الى الاسبانية. انا اعرف اسما واحدا لتلك اللغات، وهو الكتشوا. } في البيرو يتكلم السكان الاصليون الكتشوا، الايمارا، والى ما هنالك، فثمة اربعين لغة صغيرة في الادغال. ثمة في البيرو نحو مليون هندي لا يتكلم سوى الكتشوا او الايمارا. البيرو بلد يتكوّن من تراتبيات قاسية، والفروقات في الطبقات صعبة جدا، وبالتالي الفروقات الاقتصادية. والفروقات الحضارية ايضا هي مهمة جدا، من دون ان ننسى الفروقات المناطقية. لنقل ان اهل الساحل ينظرون بعين دونية الى اهل الجبال، وفي الوقت ذاته، يضمر اهل الجبال حقدا كبيرا على اهل الساحل، كذلك فان اهل الريف وأهل المدينة يعيشون في نزاع دائم. اضافة الى كل هذا، ثمة نزاعات في العادات والتقاليد. أي نوع من العادات والتقاليد؟ } اذا جبتِ البيرو، تستطعين ان تري بعينيك المجرّدة كل التطوّر البشري، من المجتمع الأكثر بدائية، مثلا في الأمازونيا حيث ثمة قبائل لا تزال تعيش في العصر الحجري (بالمناسبة كتبت رواية اسمها <الحكواتي>، وتتكلم عن جماعة صغيرة في الامازونيا تُدعى <الماتشيغنغاس>. قد اقول انهم اليوم اكثر تقرّبا من العالم الغربي، لكن في الخمسينيات والستينيات كانوا لا يزالون يعيشون كليا في العصر الحجري. اذا يمكنك ان تجولي في البيرو من الحضارة الأكثر بدائية الى الحضارة الأكثر تمدّنا وحداثة، مرورا بكل المراحل للتطوّر الاجتماعي، اي يمكنك ان تجدي ايضا الاقطاع. هل لا يزال الاقطاع يمارس جنبا الى جنب مع الحداثة؟ } يمكنني القول ان الاقطاع الحقيقي لم يعد موجودا، فالمزارع الكبيرة أمّمت في اوائل الستينيات. لكن ما لا يزال قائما في الواقع، هو العقلية، عقلية الاقطاعي، ولو ان السلطة انتُزعت من اولئك. كيف توفّق بين مهمتك كاتبا ومهمتك سياسيا؟ } لكني لست سياسيا! ناضلت كثيرا في المجال السياسي. } صحيح، ناضلت كثيرا، لكني لم اكرّس نفسي يوما للعمل السياسي. ? مع انك ترشّحت لرئاسة الجمهورية! } هذا صحيح. لكني لم اكرّس ذاتي يوما للسياسة. ما فعلته هو اني اعتقدت انه يتوجب علينا دائما ان نشارك في الحياة السياسية، خصوصا اذا رأينا ان الأمور حولنا ليست على ما يرام. اذا رأينا ان المجتمع انحرف ووقع في الفساد وفي الاحتكار واذا طغى الظلم، رأينا ناسا يرضخون قهرا للتمييز العنصري، في هكذا حالات علينا ان نقوم بشيء مفيد! هذا ما أسميه السياسة. عدا ذلك لم احب السياسة يوما، وذلك منذ طفولتي. المرّة الأولى التي مارست فيها السياسة بشكل سرّي، كانت عندما كنت طالبا في الجامعة، وذلك تحت الديكتاتورية، أحسست وقتها ان السياسة المنقذ الاساسي والضروري للبشرية. حتى اني اعتقد انه امرٌ لا اخلاقي ان لا نشارك في السياسة، وخصوصا سنة ,1987 اذ كان البلد يعيش حالة دقيقة جدا، كنا نعيش تقريبا حربا اهلية مع حركة المتمردين، اضافة الى الحالة الاقتصادية الرديئة وكان التضخم حينها هائلا. الديموقراطية التي كانت لدينا كانت هشة جدا وبدأت بالتالي تنهار او هكذا بدت لي. في هكذا ظروف، ومن دون فرح كبير، عليك ان تنخرط بالسياسة. احسست ان هذا واجبي اضافة الى اني فكرت اني هكذا استطيع ان افعل شيئا. تعلّمت اشياء كثيرة عن البيرو، عن السياسة وعني انا. اذا ما قمت به ليس مهمة سياسية انما واجب اخلاقي ومدني. اما هدفي الوحيد في الحياة فهو الادب، وليس عندي اهتمام غيره، وحتى عندما كنت متورطا في تلك المعركة الانتخابية ظللت افكر في الادب، وكان الامر بذاته تضحية حقيقية. قلت مرة انك ستعمل كل ما في وسعك لتكون كاتبا من القرن الحادي والعشرين. مذا تعني بذلك؟ } اسمعي، التاريخ لم يعد يهمني كثيرا، على الرغم من اني كنت على وشك تبنيه بفضل استاذ خارق علمني في الجامعة وكان اكثر اساتذة التاريخ مهارة، وهو متخصص في حقبة اكتشاف اميركا، وكانت صفوفه جد مشوّقة كنت على وشك ان أقرر ان التاريخ هو كل ما كنت احلم به، اي انه الادب وانه كل شيء في آن. اقول لك ان الرواية التي تنطوي على جذور تاريخية دائما تعجبني، شرط ان يكون التاريخ فيها درسا حول الحاضر. اما ان يكون مجرّد اعادة بناء للماضي، فهذا النوع من التاريخ لا يلفت انتباهي. كتبت مثلا رواية عن الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر في البرازيل، حرب مشوّقة جدا. لكن اكثر ما ادهشني في تلك الحرب هو النزاع بين عصبيتين، بين نظريتين مختلفتين تماما تمنعان الخصمين من التواصل او مباشرة اي حوار ممكن. كان النزاع في النهاية بين فنتازيتين، بين وهمين ايديولوجيين. هذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم. كتبت ايضا رواية حول تروخيليو مثلا، الديكتاتور الدومينيكاني، لكن ليس لإعادة بناء تاريخ توخييو، انما لوصف بعض الشيء ظاهرة الرجل المستبد والأنظمة المتسلّطة هذه هي كارثة اميركا اللاتينية، ولا يزال هذا قائما في بعض بلدانها (كما كوبا وفنزويلا) الى يومنا هذا. لذا قلت لك انني اعتبر التاريخ درسا للحاضر، بهذا المعنى ما يهمني هو الزمن الذي اعيش فيه. اعتقد ان هذا من الاشياء القليلة التي لا ازال فيها سارتريا. العالم الذي نعيش فيه هو هذا بالذات وليس القرن التاسع عشر ولا القرن الثامن عشر ولا حتى القرن الثالث والعشرين. هذا هو العالم حيث نعيش وعلينا ان نسعى الى عيشه في العمق محاولين فهمه من خلال تجارب الماضي. ماركيز وبورغيس بهذا المعنى كيف تستطيع مقارنة نفسك مع غارسيا ماركيز، فأنت تحفر في الواقع وهو تكثر عنده الفانتازيا؟ } اعتقد اننا مختلفان جدا. صحيح اننا من اميركا اللاتينية، ولو انه يكبرني سنا بعض الشيء، وقرأنا تقريبا الكتاب ذاتهم، واعتقد ان اثر فولكنر كان كبيرا جدا علينا نحن الإثنين. الا ان عالم غارسيا ماركيز يتجه اكثر نحو الفانتازي، نحو الاسطوري، من دون ان ينفصل في الوقت ذاته عن واقع هو الواقع الأميركي اللاتيني. بنى عالما بأكمله من الفانتازيا والخيال، عالم يفاجؤنا ويدهشنا بما يقدمه من جديد، في حين عالمي انا محصور في واقع من النوع الموضوعي، من النوع التاريخي. وكيف ترى إلى عالم بورخيس؟ ففي أدبه كثير من الفانتازيا والخيال أيضا. } أنا من المعجبين الكبار ببورخيس، وأعتقد أنه الكاتب الأهم والأكبر في اللغة الإسبانية راهنا. قد يكون الأقرب من كلاسيكيي العصر الذهبي، بل هو الكاتب الخارق والخارج عن أي معيار داخل اللغة الإسبانية، إنه يمثل ظاهرة غير طبيعية في هذه اللغة، ذلك لأنه يمثل كل ما هو معاكس للميل الطبيعية للغتنا، لتقليدنا فيها، أي يعاكس الغزارة والدفق. فكبار اللغة الإسبانية هم تماما هذا، بدءاً بسربانتس، حيث غنى اللغة ينتشر في نوع من العظمة، وحيث تجدين كلاما أكثر منه أفكارا، وانفعالات أكثر منها أي شيء آخر. هذا ما يميز الإرث الكبير للغتنا. وغارسيا ماركيز مثلا هو خليفته في حين أن بورخيس يشكّل استثناء. في كتابة بورخيس ثمة أفكار بقدر ما هناك كلمات. ألا تعتقد أن سبب ذلك يعود الى جذوره الأنغلوساكسونية لجهة والدته؟ } قد يكون شيء من هذا، لكن حتى في العالم الأنغلوساكسوني، عالم بورخيس غير طبيعي. عالمه شخصي جدا، عالمه مزيج من عناصر كثيرة، لكنه أيضا يتميز بتقشف كبير، وهو أمر غير طبيعي في اللغة الإسبانية. هذه القدرة على اختزال عالم بأكمله من الأفكار والتجريد. انه كاتب تجريدي أكثر منه انفعالي أو تعبيري. يقول في مكان ما: <أشياء كثيرة قرأتُ، وقليلة هي الأشياء التي عشتها> وأعتقد أن هذا يفسر عالمه الأدبي. هذا شأن الكتّاب العقلانيين. } صحيح، هذه الجملة التي قالها مرة تصفه تماما، إذ حياته الثقافية الفكرية غنية جدا، بينما تجربته الحياتية شبه غائبة. ومع ذلك، لغته هي إحدى أكبر الثورات في النثر، إنه نثر جدا ذكي بمعنى أن أفكاره تنطوي على قوة جارفة. وفي الوقت ذاته لا يسعنا أن ننكر أنه عالم غاية في الغرابة. إضافة الى ذلك، ابتكر نوعا من النص الفكري على مفترق طرق بين الشعر والسرد. لذا أعتقد أنه من أكبر مبدعي عصرنا، بل أكثر، إذ نلاحظ أنه كلما مر الوقت كلما تكرست هذه الظاهرة. فاليوم هو مقروء أكثر مما قُرئ في حياته. وبعد مئة عام سوف يُقرأ أكثر وأكثر. وماذا قد تقول عن أدبك في هذا المجال؟ } ليس القدرة على التقييم في هذا المعنى. يقول بورخيس بالمناسبة شيئا رائعا: <عندما ننظر الى أنفسنا في المرآة، لا نستطيع إطلاقا أن نعرف كيف هو وجهنا>. هذا صحيح، فالمرآة هي الغش الأكبر. } خصوصا وأن الكاتب لا يملك المسافة الكافية ليتمكن من التقييم. يقيّم الكاتب من خلال الأصداء وردات الفعل ازاء ما يكتبه، إلا أن كل هذا ذاتي جدا. نبقى في الموضوع ذاته تقريباً، لأسألك ما إذا كانت شهرتك الكبيرة غيّرت الى حد ما نصك. وهل تعتبر نفسك كاتبا كبيرا؟! } أعتقد أن الكاتب الذي يرى نفسه كاتبا كبيرا يكون كاتبا أحمق! وثمة عدد لا بأس به من هكذا كتّاب. من المهم جدا أن نحافظ دائما على وعينا النقدي. وفي النهاية الكتابة بحد ذاتها هي ما يمنحنا الشعور باللذة. نعرف عنك (وعن روائيين كثر في أي حال) انك تغيّر أو تصحح باستمرار المسودات. ألا يتعبك هذا ويأخذك الى نوع من الجنون؟ } طبعا يتعبني. لكن قل لي متى أو في أي مرحلة من عملية التصحيح الدائم، تشعر أنه يجب عليك أن تضع حداً لكل هذا التبديل الذي قد يستمر الى ما لا نهاية. } في وقت معين أشعر مثلا أنه إن لم أنتهِ من العمل، العمل ذاته سوف ينهيني. إنه سوف يهلكني، وهو قادر على تدميري. عند هذه النقطة اتخذ قرارا بأن أنهي الرواية. أذكر رواية لكامو <الطاعون>، حيث ثمة طبيب يريد أن يكتب رواية، إلا أنه لم يستطع يوما أن يتخطى الجملة الأولى، لأنه يكتشف أن هذه الجملة الأولى يمكن أن تعاد كتابتها في طرق عديدة، مما يشله. هذا فقط للتأكيد على أن المبالغة في التصحيح هو خطير جدا. المخرج هل يمكنك أن تكلمني قليلا عن تجربتك كمخرج سينمائي؟! } هي تجربة يتيمة، أتت إليّ صدفة ولم أبحث عنها! مرة واحدة فقط ساهمت في إخراج فيلم، بل كنت مساعد مخرج فيلم مقتبس من إحدى رواياتي <بانتاليون والزائرات>، إنما كانت النتيجة سيئة الى درجة أنني لم أعد التجربة. ألم ينجح الفيلم؟ } كان فيلما سيئا جدا. لأنك أنت أخرجته! } تماما، والذنب ذنبي! لكن هل تمنيت أن تكون مخرجا سينمائيا؟ } أخبرك ان ما حدث معي في تلك التجربة يليق برواية وكأنه لا يمت الى الواقع بصلة! كنت إذاً في مكسيكو، أكتب سيناريو لشريط وثائقي. وفجأة أستلم مكالمة هاتفية من قبل سيد قال لي إنه يمثل شركة <باراماونت بكتورز> الضخمة، قسم عالم اللغة الإسبانية أجمع. ثم قال لي <أتصل بك لأعرض عليك أن تقوم بإخراج الفيلم المقتبس من روايتك بانتاليون والذي ستتكفل الباراماونت بكتورز بإنتاجها>. ورأيت نفسي أقهقه من الضحك عند سماعي هذا، قائلا له إني لا أعرف شيئا في الإخراج. كل ما أعرفه هو أني أحب السينما وأشاهد الأفلام فحسب. حتى الكاميرا لا أعرف ما هي! المرة الوحيدة التي أمسكت فيها الكاميرا، كان ذلك عندما أردت التصوير لجريدة طلبت مني تصوير مصارعة الثيران، فاحترقت معي كل الصور، ما عدا واحدة ظهر فيها ثور يشرب الماء! إلا أن مندوب الباراماونت كرر وأصر قائلاً: <لا، لا، أنت لا تريد أن تفهمني. من الصعب جدا الحصول على مال للأفلام. وعندما تأتي هكذا فرصة، لا يجوز أن نرفض. ولما كنت عرضت عليك هكذا مهمة ضخمة في حياتي، إلا أن ما حصل هو التالي: رئيس الغولف أند وسترن كان مسافرا في طائرته الخاصة من نيويورك الى لندن وأحدهم أخبره خلال الرحلة أنه قرأ رواية اسمها بانتاليون والزائرات، وانه استمتع بها كثيرا، راوياً له موضوعها، أي يضم الجيش فرقا من الزائرات للترفيه عن الجنود إلخ، وإذ برئيس الغولف أند وست يسارع في القول ان هذا الفيلم يجب أن يكون لنا وأمر بشراء الحقوق، مضيفا أيضا: <أعتقد أن هذا الفيلم يجب أن يكون فيلم الكاتب>. ففي ذلك الوقت كانت رائجة موضة سينما الكتّاب، حيث يشرف الكاتب بذاته على إخراج الفيلم. الشخص الذي اتصل بي قال لي إن <الأمر محسوم، لأننا اشترينا حقوق الرواية وأصبحت لنا، وأطلب منك أن توافق مقابل مبلغ كبير من المال، إضافة الى أني سأؤمّن لك عددا من المساعدين يعرفون ماذا يجب أن تفعل>. فكرت أنه لا يمكنني أن أرفض هكذا عرضا مغريا وفريدا لن يتكرر في حياتي! هكذا تم الاتفاق وقمت بالإخراج وكان الفيلم كارثة! وأعود وأقول لك إن الحكاية هذه كانت غاية في الطرافة والغرابة لدرجة أني أعتبرها فيلما بذاته. قلت مرة إنك تتمنى أن تمارس الجنس مثل فرس النهر! هل هذا صحيح؟ } يجب ألا نصدق كل ما يقوله عنا الصحافيون. يقول الصحافيون أي شيء! أنا لم أقل هذا، خصوصا وأنه في حال أردت أن أكون وحيد قرن فإن عليّ أولا أن أزن 500 أو 600 كيلوغرام! لكن من أين اخترع الصحافيون كل هذا عنك؟! } إنهم يقولون تفاهات كثيرة! لكن ما كنت قد قلته أنا، أو بالأحرى ما أقوم به، هو أنني أجمع تماثيل صغيرة من هذا الحيوان، على سبيل الهواية. بدأ هذا الميل عندي منذ أن نشرت مسرحيتي <كاتي وفرس النهر>. فبعد عرضها بدأ الناس يهدونني تماثيل منه. في إحدى المرات سألني صحافي وكان الحوار في بيتي وبالتالي رأى الصحافي هذه المجموعة من فرس النهر، فسألني <لماذا تجمع تماثيل لهذا الحيوان؟>، فقلت له إني أحب هذا الحيوان لأنه ظريف، ولأنه يجسّد الشعار الشهير للهيبيز (مارس الجنس، لا الحرب). وهذا الحيوان، على الرغم من قبحه الفظيع ومن مظهره العدائي جدا، مسالم جدا وبالإضافة الى ذلك، يحب ممارسة الجنس طول الوقت. ولهذا السبب انحرف الصحافي عما فسرته له وكتب تلك الحماقات. قلت مرة إن الإبداع والموهبة ليسا دائما مكافئين، إذ الحظ والصدفة يلعبان دورا في المراجعات الصحافية. هل تعتقد أنك كوفئت كما يجب أو أكثر مما يجب؟ هل حالفك الحظ أم ما قيل عنك تراه صحيحا؟ } الإطراءات الصحافية ليست كلها بالضرورة نابعة من دوافع أدبية صرفة، هي في أحيان كثيرة، وفي ما يخصني أنا، نابعة من دوافع سياسية أو نفعية. فالأدب والمصالح الاجتماعية أو السياسية كلها أمور تمتزج ببعضها كثيرا وتخلق بالتالي سوء تفاهم هائلا. المشكلة أني لا أستطيع شخصيا أن أكون موضوعيا حول كفاءتي أو عدم كفاءتي. علما بأني واثق بأن الكفاءة وحده الوقت يقررها، الوقت يقرر ما إذا العمل الأدبي يبقى أو لا يبقى. بعد أن يموت الكاتب، أي عندما لا يبقى من الكاتب سوى عمله وعندما يبقى العمل بالتالي وحده ليدافع عن نفسه بنفسه ضد الانطفاء والنسيان. فثمة أعمال تستمر بعد غياب الكاتب وهي الأعمال المهمة، لكن ثمة أيضا أعمال تبقى مطمورة زمنا طويلا على الرغم من أهميتها. والمثل على ذلك غونغورا، وهو شاعر في إسبانيا، الذي بقيت أعماله مطمورة مئتي عاما، الى أن أتت الصدفة في القرن العشرين فأعادوا له الاعتبار.
نصفُ إغماضه من اجل احتمال ضجيج العالم
رواية: نصف قمر
بقلم: نصرت شمدين (كاتب عراقي من مدينة الموصل)
قراءة: محمد الأحمد
برغم فوضى العالم المزدحم بالتناقضات والمفارقات تبقى عينُ الإنسان كليلة عن رؤية كل ما يدور، وبرغم تزاحم وسائل الاتصال التي تريد أن تضخ بضاعتها الصورية عبر فضائياتها الغزيرة المادة، والمتنوعة و الموزعة الاتجاهات.. تبقى الإنسان في زمن الصور متعطشا لرؤية كل شيء في الآن نفسه، ويبقى الإنسان برغم كل هذه المشاهد المتدافعة التالية تزيح ما بعدها، والأفكار الجيدة تستقر بدل غيرها، والعين مفتوحة على ما يحدث، تنقله الاتصالات عبر العين، ولا تستطيع العين أن تتحصل على نصفُ إغماضه من اجل احتمال ضجيج العالم، وتصير عاهة العمى أداة روائية تفصل بين البطل المحور والروائي كما في (نصفُ قمر) اسمُ الرواية الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة 2006 - بغداد.. تحكي عن حالةُ عمى، نتيجة إهمال المريض لحالته التي تفاقمت و أدت به إلى العمى. رحلة في عالم صاخب ملئ بالأصوات، عالم سماعي مزدحم بالضغوطات يتحول إليه المبصر بعد أن يفقد الرؤية، و تكون أذنيه مركزا استقطاب من العالم الذي حوله، و مركزا استدلال إلى ما حوله.. بواسطتهما يبقى متحدياً اللون الأسود ليخرقه عبر النغم، مبتدأً منه تحديد العلاقات ما بين البعيد، والقريب.. بالصوت وحده تكون نقطة التقاء الخطوط البنائية المتواشجة من علاقات بطل الرواية حيث يستدل البطل المحوري (عادل) إلى أماكنه المألوفة، بكل حس وذوق، و يتصرف بدقة من يعرف الألوان كلها، المغمورة في اللون الأسود.. الذي حجب عن القارئ سرداً تفاصيل الألوان الأخرى المتواثبة بين الاضاءات المتسعة إلى حافات حادة من التذكر الدقيق.. حافات مصيرية حادة تتمثلها المساحة السوداء كما سبورة الدرس في المدرسة، ولكن البطل لم يقيده العمى، و كأنه انطلاق الخط المشير بثقة نحو الوضوح. ( شيء مؤلم أن نمتلك الضوء ولا نهتم بعالم اللون الأسود – ص 5). ثمةٌ جميلةٌ شفافة في جملة الكاتب (نوزت شميدن) تضاف إلى رصيد الراوي في روايته البكر الموسومة بـ (نصفُ قمر).. فقد اعتمد السرد بإيقاع واحد، و وتيرة واحدة، و راح يهدر به بلا توقف.. بعمق هيرمينوطيقي: (تعني بتأويل حقيقة الكتاب الواقعية والروحية- دليل الناقد الأدبي – ص48). هي فسحة الأمل العريضة التي ينطلق منها البطل متحركا على سبورة اللون الأسود.. (ظلام الأعمى كتلة ثقيلة، ومحتبسة. شمس سوداء تشع حلكة وتضيف الأسود إلى الأسود بلا انتهاء- ص29). حيث يفقد الاهتمام بما حوله إلا من خلال الصوت، ويحقق الصلة الكاملة بكل ما في العالم من ارتباط ، ورغم العمى لم يكن مقصيا عن حياته و أهله و أحبته بل كان بينهم يشاركهم ما يشاركونه به.. ورغم الفاصل الذي أصبح حقيقة راسخة.. (حاولت أن اكتشف تلك اللغة النغمية السرية بين العصا وعالم الطريق - ص 68). بقى العراقي بطلا روائيا بين أبطال الروايات الإنسانية المتميزة.. بطل ملئ بالحب والتطلع، مخترقا للعتمة، بألف خطوة.. علا قات واضحة بواقعيتها مع بعض، وأيضا إلى ذكرياته المدفونة مع قصة حب عاشها بلون آخر.. (أخذت أسبح وأسبح واندفع في السواد، اضرب بذراعي والفراغ مثل طائر خرافي، وفجأة رايتها تقف فوق غيمه من سواد- ص43). ثمة ألوان يصفها الراوي ويتحسسها كما يتحسس الأعمى طريقه بعصاه.. إذ تقول الدكتورة سهير القلماوي[1]: (الرواية شكل أدبي يزاد خطره وتتنوع أساليبه ويزحزح كثيرا من سلطان الشعر، والرواية المكتوبة لها طاقتها وتطوراتها، وقد أخذت مكان الصدارة في الأشكال الأدبية عالميا وعربيا لأنها الوعاء الأنسب للمرحلة التاريخية التي نجتازها اليوم واهم سماتها التغيرات السريعة المتلاحقة وتدافع المعتقدات والأيدلوجيات في سباق لاهث على عقول الناس لتوجه تفكيرهم و تصوراتهم، وبالتالي سلوكهم وتصرفاتهم). بقيت قصة الحب القديمة تتألق كلما فكر الروائي في مسيرة خطواته المتحدية الظلمة، بنصف ضوء متحديا ضجيج العالم الصاخب.. تحت ضوء شحيح، سلطهُ القمر في ليلة معتمة، ولكنه بقي كأنموذج بطل روائي متميز بعراقته، وطموحه.. منطلقا إلى أبعاد أكثر حرية من الفضاء الذي يسمح به فضاء السردي للرواية.. ألانه حركة واقع غير قابل للتزييف.. فكان صدقُ الكتابة أكثر من صدق الفضاء في حرية حركية الإبداع… فقد اعتمد البطل في النهاية حبيبته بديلا عن العصا التي يعتمدها، وراح متأبطا يدها إلى حيث يريد.
ثمة كلمات أخرى تستحقها هذه الرواية التي تبشر بعراق المبدعين الممتلئين بمثل كاتب (نصفُ قمر)، يستحق منا التحية، لأجل أن يتواصل بعطائه الجميل.. كوننا نعول على ما سيجيء منه مستقبلاً.. فالرواية صدق قد أفاد به، وقضية قد كشفها المبدع العراقي بكل ما في أداته من صوت معبر..
بغداد
[1] مقدمة كتاب انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية.. المؤسسة العربية- ص 7
رواية: نصف قمر
بقلم: نصرت شمدين (كاتب عراقي من مدينة الموصل)
قراءة: محمد الأحمد
برغم فوضى العالم المزدحم بالتناقضات والمفارقات تبقى عينُ الإنسان كليلة عن رؤية كل ما يدور، وبرغم تزاحم وسائل الاتصال التي تريد أن تضخ بضاعتها الصورية عبر فضائياتها الغزيرة المادة، والمتنوعة و الموزعة الاتجاهات.. تبقى الإنسان في زمن الصور متعطشا لرؤية كل شيء في الآن نفسه، ويبقى الإنسان برغم كل هذه المشاهد المتدافعة التالية تزيح ما بعدها، والأفكار الجيدة تستقر بدل غيرها، والعين مفتوحة على ما يحدث، تنقله الاتصالات عبر العين، ولا تستطيع العين أن تتحصل على نصفُ إغماضه من اجل احتمال ضجيج العالم، وتصير عاهة العمى أداة روائية تفصل بين البطل المحور والروائي كما في (نصفُ قمر) اسمُ الرواية الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة 2006 - بغداد.. تحكي عن حالةُ عمى، نتيجة إهمال المريض لحالته التي تفاقمت و أدت به إلى العمى. رحلة في عالم صاخب ملئ بالأصوات، عالم سماعي مزدحم بالضغوطات يتحول إليه المبصر بعد أن يفقد الرؤية، و تكون أذنيه مركزا استقطاب من العالم الذي حوله، و مركزا استدلال إلى ما حوله.. بواسطتهما يبقى متحدياً اللون الأسود ليخرقه عبر النغم، مبتدأً منه تحديد العلاقات ما بين البعيد، والقريب.. بالصوت وحده تكون نقطة التقاء الخطوط البنائية المتواشجة من علاقات بطل الرواية حيث يستدل البطل المحوري (عادل) إلى أماكنه المألوفة، بكل حس وذوق، و يتصرف بدقة من يعرف الألوان كلها، المغمورة في اللون الأسود.. الذي حجب عن القارئ سرداً تفاصيل الألوان الأخرى المتواثبة بين الاضاءات المتسعة إلى حافات حادة من التذكر الدقيق.. حافات مصيرية حادة تتمثلها المساحة السوداء كما سبورة الدرس في المدرسة، ولكن البطل لم يقيده العمى، و كأنه انطلاق الخط المشير بثقة نحو الوضوح. ( شيء مؤلم أن نمتلك الضوء ولا نهتم بعالم اللون الأسود – ص 5). ثمةٌ جميلةٌ شفافة في جملة الكاتب (نوزت شميدن) تضاف إلى رصيد الراوي في روايته البكر الموسومة بـ (نصفُ قمر).. فقد اعتمد السرد بإيقاع واحد، و وتيرة واحدة، و راح يهدر به بلا توقف.. بعمق هيرمينوطيقي: (تعني بتأويل حقيقة الكتاب الواقعية والروحية- دليل الناقد الأدبي – ص48). هي فسحة الأمل العريضة التي ينطلق منها البطل متحركا على سبورة اللون الأسود.. (ظلام الأعمى كتلة ثقيلة، ومحتبسة. شمس سوداء تشع حلكة وتضيف الأسود إلى الأسود بلا انتهاء- ص29). حيث يفقد الاهتمام بما حوله إلا من خلال الصوت، ويحقق الصلة الكاملة بكل ما في العالم من ارتباط ، ورغم العمى لم يكن مقصيا عن حياته و أهله و أحبته بل كان بينهم يشاركهم ما يشاركونه به.. ورغم الفاصل الذي أصبح حقيقة راسخة.. (حاولت أن اكتشف تلك اللغة النغمية السرية بين العصا وعالم الطريق - ص 68). بقى العراقي بطلا روائيا بين أبطال الروايات الإنسانية المتميزة.. بطل ملئ بالحب والتطلع، مخترقا للعتمة، بألف خطوة.. علا قات واضحة بواقعيتها مع بعض، وأيضا إلى ذكرياته المدفونة مع قصة حب عاشها بلون آخر.. (أخذت أسبح وأسبح واندفع في السواد، اضرب بذراعي والفراغ مثل طائر خرافي، وفجأة رايتها تقف فوق غيمه من سواد- ص43). ثمة ألوان يصفها الراوي ويتحسسها كما يتحسس الأعمى طريقه بعصاه.. إذ تقول الدكتورة سهير القلماوي[1]: (الرواية شكل أدبي يزاد خطره وتتنوع أساليبه ويزحزح كثيرا من سلطان الشعر، والرواية المكتوبة لها طاقتها وتطوراتها، وقد أخذت مكان الصدارة في الأشكال الأدبية عالميا وعربيا لأنها الوعاء الأنسب للمرحلة التاريخية التي نجتازها اليوم واهم سماتها التغيرات السريعة المتلاحقة وتدافع المعتقدات والأيدلوجيات في سباق لاهث على عقول الناس لتوجه تفكيرهم و تصوراتهم، وبالتالي سلوكهم وتصرفاتهم). بقيت قصة الحب القديمة تتألق كلما فكر الروائي في مسيرة خطواته المتحدية الظلمة، بنصف ضوء متحديا ضجيج العالم الصاخب.. تحت ضوء شحيح، سلطهُ القمر في ليلة معتمة، ولكنه بقي كأنموذج بطل روائي متميز بعراقته، وطموحه.. منطلقا إلى أبعاد أكثر حرية من الفضاء الذي يسمح به فضاء السردي للرواية.. ألانه حركة واقع غير قابل للتزييف.. فكان صدقُ الكتابة أكثر من صدق الفضاء في حرية حركية الإبداع… فقد اعتمد البطل في النهاية حبيبته بديلا عن العصا التي يعتمدها، وراح متأبطا يدها إلى حيث يريد.
ثمة كلمات أخرى تستحقها هذه الرواية التي تبشر بعراق المبدعين الممتلئين بمثل كاتب (نصفُ قمر)، يستحق منا التحية، لأجل أن يتواصل بعطائه الجميل.. كوننا نعول على ما سيجيء منه مستقبلاً.. فالرواية صدق قد أفاد به، وقضية قد كشفها المبدع العراقي بكل ما في أداته من صوت معبر..
بغداد
[1] مقدمة كتاب انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية.. المؤسسة العربية- ص 7
حلمٌ عراقي قد يتحقق
محمد الأحمد
ما زلت احلمُ بان يوما ما سيكون لي فيه احد ما ممن اعرفهم يقرؤون بعض ما أنشره في الصحف أو في بعض صفحات الانترنيت، ليتحقق حلمي بدعوة ما لمؤتمر ثقافي ما، في بلدي طبعا فانا عشتُ أيام تلك معروفاً وُمعَرَفاً باني احضر المهرجانات والمؤتمرات الثقافية معززاً، مكرماً، صائلاً، جائلاً في الأرقة بدون دعوة، لأني كنت بحق اعتبر نفسي مدعوا، ولا أنافس احد على مكان ليس لي، على الرغم من إني اعرف الأسماء أكثر من الوجوه، وهناك كنتُ أرى، وجوهاً ثقافية بحق تستحق بمثل ما استحققت، وجوهاً عراقية كثيرة لا تصلها (ولن تصلها) أية دعوة، لكنها حاضرة رغم التعتيم تضيء بجدلها، ومفاتن آفاقها الصحف العالمية قبل المحلية، فكنت أرى، وكنت التفُّ إليها بمثل ما كانت تفعل، ونجيد التعارف والتعريف، وغالبا ما كنا نرى وجوهاً ليست من الثقافة بشيء، تحضر، وتحاضر في ما لا تعرف. واليوم عندما تأتي اليَّ الدعوة الحقة، الحلم، بدون تجاهل، بقصد، فأنني سوف أرى في زماننا الجديد - هذا- لا لوجود لعابر سبيل أن يكون مدعوا لمهرجان يشترك فيه غير المثقفين، و لا مجال لأي طارئ غير مثقف أن يحشر اسمه بين القوائم، بمثل ما كان يحدث في (هذا) الزمان العتيق الذي حتما سيولي بلا عودة، هو و مثقفيه العجاب.. (لا فرق بين زمان اليوم والأمس) عندما كان الشاعر الذي لم يكتب قصيدة واحدة تستحق التوقف يقود مؤتمرا للروائيين، ويكون أول المدعوين في بلد مضياف، وهو لا يعرف أسماء خمس من الروايات العربية المهمة، كونه صاحب فضل سابق ويرد إليه الفضل بالمثل، نظيره قد كان دعاه يومها إلى مهرجان ما في بلده، او كان يريده ان يكون محمّلا بدين مُسَبَّق، ليضمن صاحبه رد المثل بالمثل، ويكون ذلك المدعو مهماً بأهمية القائمة المطعمة بأسماء كان لها وزناً، فأغلب القوائم مطعمة بالمبدعين الحقيقيين، أو ببعض من كانت فاعلة في زمانها، ويكون للمدعو قيمة من يجلس إليه يحدثهُ عما حدث في المطار ولا حديث يخصّ الإبداع، إلا تغزلاً بالفندق الفلاني الذي عقد فيه المؤتمر الفلاني، و تمرّ العشرة دقائق في القهقة العالية والابتسامات العريضة، الخالية من الرصيد الثقافي. ليعود سريعاً إلى غرفته، ويعلق مكالماته الهاتفية حتى لا يحرجه شاباً عراقيا يعرف في الرواية العربية أكثر مما يعرف عن المطارات التي لم يصلها، فيلبد الضيف بعيدا عن الأضواء حتى تجئ السُفرة العراقية العامرة بما لذ وطاب. حتى تعبر ايام المهرجان كلها، ويأتي المهرجان أو المؤتمر الذي يليه، محملا بالغنائم لكل قادم، والمثقف العراقي، يحمّل الماً ممضاً في التجاهل، والنسيان، واليوم حتما بمثل تلك الدعوة، سأكون، يومها احمل ورقتي لأتنافس بها مع أقراني في الفكر والأعلام، وسيكون ما اطرحه مسموعاً، لكونه بلغة عربية سليمة واضحة المخارج والمقاصد، ولن يتحسس منها أحدا ما، كوني لا اخصّ بطروحاتي شخصا معينا، وإنما اشخص حالة كنا نعانيها، وتحلم الثقافة العراقية بالتخلص منها، فلا يشكو منها العشرات من أمثالي من غير الحزبيين، وسوف تكون الفكرة كالماء الزلال تصل إلى متلقيها بلا غمز أو لمز، وسوف يكون ما قدمت في ورقتي الثقافية بداية لقول آخر يؤججه تلاقح مثقفاً آخراً، وتلتقي الفكرة بالفكرة لأجل أن تكتمل، ويصبح بعدها مفتاحا لبحث جديد. وهكذا تكون الحالة ثقافية صرف، حيث لا تلكؤ في اسطرها، ولا يقتحمها ممن لا يعرف في أولياتها وآليتها. نحلم أن تكون الثقافة أولا بفرز المثقف من غيره، والاحتكام إلى ما نتج منه، وليس ما سوف ينتج في الأحلام، والأوهام. فثمة أسماء تدعي نتاجا عظيما.. بالتالي يكون فيه رأيا آخراً، والثقافة ابداً للمثقفين المجتهدين.
بغداد
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)