٠١‏/٠٨‏/٢٠٠٥

حامد الزبيدي


(عرض سريالي)
قصة قصيرة: حامد الزبيدي
السريالية: هي الفوضى المدهشة في عالم فقد اتزانه

بدأت الشمس، تختفي خلف القمم، إنزوت حزناً من يومها الوؤد ، انتشر القطيع السماوي ولاحت عيون (لوثايان1) المتلألئة في الظلام، في تلك اللحظة، توهجت المصابيح، وابتسمت الطرقات، لحبيبات المطر النازل على رؤوس الواقفين أمام أبواب بناية المسرح الكبير، حشوداً أخذت دورها بالدخول، امتلأت المقاعد وغصت الممرات وقوفاً، والعيون ترنوا باندهاش إلى تلك اللغة الملونة والى ذلك الديكور السوريالي الذي يتحدث إليهم بصمت، يفسر لهم رؤى المسرحية الممتزجة بمراحي المخرج، الذي كان يجلس في آخر كرسي في الصالة المكتظة بالنظارة، يدخن سيجارته وكانت تجلس إلى جانبه امرأة عجوز صماء، قد أزعجها الدخان الخارج من منخريه، تحسس ردود فعلها، رمى سيجارته، تحت حذاءه، وهو ينظر إلى الواقفين في الممرات والجالسين على المقاعد يتفحصهم بعيني ذئب جائع، كان قلبه المرتجف، يخفق بشدة، في تلك اللحظة انتابه شعور لا يمكن تفسيره، أضاف إليه غصة قلقٍ وتوترٍ وخوف من اللاشيء، حدج المرأة العجوز الصماء التي نفد صبرها، وهي تتطلع إلى ذلك العالم السحري، دخل الصالة رجل ذو كرش متهدل والذيول تتبعه، جلس على الكرسي المخصص اليه، انتشرت الذيول، أخذت أمكنتها، تخشبت، تجبست في أركان الصالة تتفرس في الوجوه، يقظة، حذرة، خوفاً على راحة ذي الكرش المتهدل، أخرج لفيفة التبغ وقرب رأسه الكبير إلى الذي يجلس بجانبه، أرّث اللفيفة، أخذ نفساً عميقاً ثم همس بأذنه:
-هل المسرحية كوميدية؟
رد عليه بوقار وفي صوته المرتجف، نغمة حزن لعدم فهمه السوريالية:
-لا يا سيدي.. إنها مسرحية سوريالية.
تكور وجهه العبوس واعتلت خديه مسحة كدر وغم مبين، شاعت عيناه، ترنو إلى الجدران، سارت برفقٍ ويافطة بيضاء كبيرة معلقة على جدار الصالة، كتب عليها بخط كبير اسم (الحرية) ثم التفت إلى الجهة الأخرى فقرأ اسم (الديمقراطية) رفع رأسه بشموخ وعلياء وهو يعلم علم اليقين، (بأن ليس هناك شيء أكبر من الحرية ولا أكبر من الديمقراطية على الجدران)، دعك كرشه المتهدل بيده ونقر عليه بسباته بارتياح، اقترب منه المخرج المساعد المتملق وبحركة رشيقة، أحنى قامته بقدسية واجلال وقال بخشوع مبتذلٍ:
-مرحباً بك سيدي الموقر.. ونحن نزهو شوقاً وفخراً لحضورك الميمون.
ثم تراجع إلى الخلف بخطوات بطيئة، مرتجفة، خائفة، خاشعة، رفع قامته وحصر عيناه، ومشى بخيلاء وكبرياء في الممر المكتظ بالنظارة، يدفع هذا بتذمر، ويلكز ذاك بعجرفةٍ، حتى وصل المخرج، ثم افتعل ابتسامة باردة كاذبة، وهمس بفرح غامر.
-لقد حضر السيد………… العرض المسرحي.
اكتفى المخرج بنظرةٍ غامضةٍ ولاذ بالصمت المطبق، وكأنه لم يسمع منه شيئاً، فأردف إليه المخرج المساعد متوسلاً:- أتمنى أن أقدم نفسي للجمهور.. بدلاً عنك في نهاية العرض المسرحي.
اجتاح عيناه شيء من الحزن، ولكنه ابتسم ابتسامة فارغة ودار في خلده (أن أعظم لحظة يعشها المخرج، هي تلك) تودد إليه وألح عليه الحاحاً لا مفر منه:
…..أرجوك أتوسل اليك، أن تمنحني هذه اللحظة.. إن عروسي تحضر العرض المسرحي واريد..
ثم يصمت، وهو ينظر إليه بعين الترجي، رد عليه المخرج بهدوء ملؤه الطيبة والحنان:
-وهو كذلك.. كما تحب.
المخرج المساعد يطير من شدة الفرح، يقبل وجه المخرج ثم ينطلق ماشياً في ذلك السيل البشري متجهاً صوب خشبة المسرح، أخذت الإضاءة بالخفوت شيئاً فشيئاً حتى ساد الظلام وساد الصمت في الصالة، توجهت العيون، كل العيون إلى خشبة المسرح المضيئة، دخل الممثلون، يؤدون أدوارهم، ثم ينشدون الحاناً حزينة، تشبه الصراخ والعويل (نامي جياع الشعب نامي، حرستك آلهة الطعام) طربت الأوتار واصدحت الحناجر بالهتاف، واختلطت أصوات النظارة بأصوات المدعوين حتى فاضت الدموع من المآقي وامتزجت الآهات بالنحيب، فشكلت سمفونية الزمن العصيب، انطلقت المرأة العجوز الصماء في الغناء الذي كان يشبه البكاء، وأجبرت المؤدين والنظارة سواء، بإعادة سمفونية (تنويمة الجياع)2 وبرغم الحزن الجاثم، كانت تتصادم نغمات الفرح المقتول، وتحركت الأجساد برقة إلى الشمال والى اليمين، تماوجت طرباً، بيد أن ذا الكرش المتهدل، كان مندهشاً، كان مستغرباً مما يفعلون، التفت إلى الذي يجلس بجانبه:
-بأي لغة يتحدثون هؤلاء؟ إنني لا أفهم شيئاً مما يقولون… هل أنت تفهم شيئاً؟
-اطلاقاً لا أفهم شيء سيدي.
ارتعدت فرائصه غضباً واشتد حنقه ثم قال باشمئزاز بالغ:
-أهذا هو المسرح السوريالي؟
-نعم سيدي.
فاضت عينا المخرج بالدموع ولسانه ينشد معهم بهدوء، تهيأ إلى الخروج وقال في ذات نفسه (إلى أين أهرب من هذا العالم) وبدأ يفكر (أي طريق امثل للانسحاب؟) لقد قضى نيفاً من عمره المسرحي، كلما ينتهي العرض المسرحي، ينسل هارباً، ولا يدري ما يكون وراءه، انتهى العرض المسرحي، بدأ الممثلون، يتقدمون إلى النظارة، تصفيق حار، وزغاريد عالية، وهتاف كأنه الزمازم، صعدت الذيول الشرسة إلى خشبة المسرح المقدسة، حولتها إلى حلبة ملاكمة بل إلى ساحة مصارعة الثيران الدموية، تمدد المخرج المساعد فوق الخشبة على اثر ضربة قاضية، أفقدت صوابه من أحد الذيول، صراخ وعويل، وكلام جارح في الصالة المظلمة، ركض المخرج في الممر، ارتقى الدرج مسرعاً وهو يصرخ بأعلى صوته:- أطفأ الإنارة … أطفأ…!!
دخل غرفة الإنارة فلم يجد أحد فيها، لقد هرب، منفذ الإنارة، ضغط على المفتاح، أظلام تام، ثم ضغط على مفتاح آخر، أضيئت الصالة، واشتبكت الذيول بالنظارة، ودارت معركة حامية الوطيس، كانت تقودها المرأة العجوز الصماء، قهقهة ذو الكرش المتهدل وقال لصاحبه:
-ان ما أشاهده الآن هو أعظم مما شاهدته قبل قليل!
ثم غرق في ضحكاته القذرة، وأسند ظهره إلى الخلف بنشوة وانشراح، وهو ما زال يضحك على أولئك الممثلين الممرغين في أتربة الخشبة، يلقون أقسى وأمر العذاب، ضرب يداً بيد:
-حقيقة ان المسرح السوريالي تجسيد حي للواقع.
ثم قهقه قهقهةً عاليةً، سال منها اللعاب على ذقنه، نهض من مكانه وهو ينظر إلى الذيول، تولى قيادتهم وأملى عليهم توجيهاته العنيفة، فاشتد الضرب بالممثلين الجاثمين، أغرتهم الهراوات بالدماء، ورفستهم الأحذية القوية، لم تتحمل العروسة ما أصاب عروسها، داست على حيائها، ونبذت خجلها ثم قفزت من مكانها بلا دراية ولا شعور، انطلقت وهي تصرخ بجنون، متجهةً نحو خشبة المسرح، حصرها أحد الذيول في ركن الصالة، ورضع شفتيها الحمراوين عنوةً، كطفلٍ شرهٍ لم يبلغ حد الفطام وكان المخرج المساعد يضرب على خشبة المسرح بيديه، احتجاجاً على إكراه عروسه ، غضبت المرأة العجوز الصماء وجن جنونها، خلعت عصبتها السوداء عن رأسها، قذفتها في الهواء، انطلقت، تدافعت، ترافست، ثم وصلت إلى ذي الكرش المتهدل المنشغل بإصدار أوامره، خلعت نعلها ثم صفعته، صفعة سوريالية على وجهه، جفل منها، ثم فقد صوابه وانهار اتزانه، فسقط صريع الأرض، وهي تهتف بأعلى صوتها:
-يعيش المسرح الحر… يعيش المسرح السوريالي.
توجهت نحوها البنادق، أطلقت النيران، سقطت المرأة العجوز الصماء، اشتد غضب النظارة، تحولوا إلى كتلة من نار، هجموا على الذيول، ضغط المخرج على مفتاح الإنارة، أظلام تام، صراخ، وأصوات اطلاقات نارية في الصالة، خرج من الغرفة، هبط الدرج وهو يقول في ذات نفسه :
-(اني لا احترم العالم الذي لا يستطيع إيقاف النزيف الدموي) استوقفه أحد الذيول.
-من أنت؟
مجنونُ..يحلم بتغير العالم.
تركه بهدوء، مشى في الظلام نحو الباب الخارجي.


1 لوثيان.. التنين
2 ترنيمة الجياع.. قصيدة لشاعر العرب الأكبر (محمد مهدي الجواهري)


حامد الزبيدي
16/12/002