٢٨‏/٠٨‏/٢٠٠٦

هيمنة
إنتاج المعنى وستراتيجية الحفر في التراث
عامر عبد زيد



تعد القراءة سلطة تمارس هيمنتها على المقروء ، وتبحث عما تصبو اليه فهي تكتشف جوانب غير منكرة بها ، وبذلك فهي تحقق اضافة وتشف بشيء جديد ، وقد تخالف ما اعتادت الاذهان عليه ، وهذا يعود الى المواجهات التي تخضع لها القراءة من منهج ورؤية ينضويان تحت اشكالية تبحث عن حلول ، وبذلك فهي الثاوي وراء القارئ الذي ينطلق منها صوب المقروء .
فهي يجب ان تسعى الى تجاوز عوائق القراءات الأخرى القائمة على التوحيد بين الفكر والدين عبر الغاء المسافات بين الذات والموضوع حتى يصبح ما تقدمه من تفسير يقوم على رد كل الظواهر الى مبدأ اولي يستوى في ذلك الظواهر الاجتماعية او الطبيعية او تعمل بالاعتماد على سطلة التراث وتحويل النصوص التراثية الثانوية الى نصوص اولية تتمتع بقدر هائل من القداسة لا يقل عن النصوص الاصلية ، مضافاً إلى هذا ذلك النمط من التفكير الجامد المتمركز حول الانا ولا يرتضي أي خلاف فكري الا اذا كان في الفروع دون الاصول هادرا البعد التاريخي عبر تجاهله ويتجلى ذلك عبر مقولة (الاصل) .
ومن هنــا فـان القراءة لابد ان تكون خاضعة للثوابت تبتعد عن استنطاق المقروء لانها مرتبطة بحدود المقروء وعاملة على كشف الظروف والملابسات الاجتماعية والتاريخية التي اثرت في تكوين المقروء عبر الزمن داخل بنية معرفية معينة فاذا كانت الاشكالية تكمن وراء القراءة فان القارئ خاضع لمؤثرات عصره بوصفه مثقفا (يفكر بصورة او باخرى مباشرة او لا مباشرة انطلاقا من تفكير مثقف سابق يستوعبه ، يسير على منواله ، يكرره ، يعارضه ، يتجاوزه ... الخ والتفكير في موضوع ، والموضوع اما افكار واما معطيات الواقع الطبيعي او الاقتصادي او الاجتماعي ... الخ فالتفكير يتم بتوسط مفاهيم ونظريات آليات في التفكير ترتبط ، ولابد ، بمرجيعة معرفية معينة.
لكن ما هي تلك المفاهيم والنظريات والآليات التي اعتمدها الجابري ، انها تنطلق من رؤية الحداثه وما بعدها التي تؤسس الى نمط جديد من القراءة للتراث انها قراءة يبدو فيها (كل نص حاضر يتضمن نصا (غائبا) بالضرورة والوصول الى بنية المدلولات الغائبة لا يكون الا انطلاقا من بنية الدوال الحاضرة ، لتبني على انقاضها فلسفتها الجديدة فلسفة الغياب) فلسفة الحضور تقوم على تطابق الدال والمدلول في حين فلسفة الغياب هي حضور الدال وغياب المدلول . أي أنها فلسفة لا تريد ان تكون شارحة بقدر ما هي تسعى الى كشف المسكوت عنه الذي يحدث اضافة ويستجيب لموجهات القراءة المعاصرة . فالفرق بين فلسفة الحضور وفلسفة الغياب هو قيام الاولى على مبدا (التمركز) وقيام الثانية على مبدا (الاختلاف) ان نمطا جديدا من القراءة تنشد الى اشكاليات الماضي بقدر ما تحاول ان تكون في تعاملها مع التراث العربي او الغربي وخصوصا التجارب الفذة التي لا يمكن تكرارها او تعميمها (وانما الممكن استلهامها والتفاعل معها ، قراءتها وفهمهــــا ، لا بقصد احيائها والتماهي معها ، بل من اجل توظيفها بشكل يتيح لمن يقرؤها ان يمارس التفكير بصورة مثمرة عبر اكتشاف ابعادها المجهولة ، او لكشف ابنيتها المتشابكة ، وبذلك تعرف ما لم يكن يعرفه اهلها ، وتتحرر من سلطتها حتى لا تقع اسراها ، ونمارس فاعليتنا التنويرية ازاءها حتى لا تهمشنا وتحجب وجودنا). فان القراءة بهذا قد تحدد جدتها في انها تنشد الاختلاف الا انها ايضا تمثل عملية انتاج للمعنى وهي بهذا محكومة باربعة شروط حضور القارئ ، ووجود النفس واستحضار الموروث وتوفر التجربة ، وهي الاطراف المؤثرة في ستراتيجة الحفر في بنية التراث.
التأهيل الثقافي للحداثة
ضمن هذه الحدود ظهرت قراءة محمد عابد الجابري - للتراث العربي الاسلامي وتراث ابن رشد خاصة بوصفه جزءا من هذا التراث على انها تنطلق من اشكالية الخصخصة العربية ايضا ، أي بدافع معاصر تلمسه في نقد الجابري النهضة بقوله : نحن العرب عندما نتحدث عن (النهضة) فاننا نتحدث عن مشروع نامل تحقيقه اما في اوروبا فكلمة (نهضة) تشير الى واقع تحقق ثم ان مشروع النهضة لم يكن وحيدا على الساحة العربية ولا الدولية بل كان هناك مشروع اخر مضاد هو المشروع الامبريالي وبالتالي فمشروع النهضة لا نطرحه بوصفه بديلا لقديم إنما نطرحه بوصفه بديلا عن الأخر الغرب الذي ايقظنا بغزوه .. واصبح مشروع نهضتنا يتجه الى القديم لا لنقلبه ونصفي الحساب معه ، بل الى الاخر الغرب ، الغرب لنقاومه مستنجدين بقديمنا ، أي بتراثنا وبالتالي نجد انفسنا تقاوم الاخر الغرب بالاخر الماضي أي نقاوم سلطة مرجعية فحصية بسلطة مرجعية اخرى تشدنا اليها . هذا النص مركزي في اطروحة عابد الجابري اذ اصبحت النهضة الغربية واقعا ملموسا في حين ان النهضة العربية ، بقيت في مستوى المشروع والطوباوية . الاولى انجزت وتعمل من داخلها - ومن فائض امتدادها الخارجي - على تجاوز ذاتها ، اما الثانية فهي فكرة غير مكتملة ومشروع يتحقق . وهكذا وجدت النخب العربية نفسها تتارجح بين نموذجين ، النموذج الاوربي الذي يفرض نفسه في الحاضر ، والنموذج العربي الاسلامي الذي تحقق في الماضي وبحر معه تاريخية ثقيلة.
وهناك اخر اشار بوضوح اكثر حدّد به خطوط مشروعه الرئيسة وهي (محور النقد الابستمولوجي) لتراثنا ، ومحور التأهيل الثقافي للحداثة في فكرنا ووعينا ، ومحور نقد الحداثة الاوربية نفسها ، والكشف عن مزالقها ونسبية شعاراتها.
وضحت المحور الاول (أي النقد المعرفي) تقع هذه القراءة حيث كشف لنا النص الاول ان ما يطالب به الجابري هو نقد التراث وتصفية الحساب معه وقد اتخذ لهذه الغاية خطوات منهجية تعمل كشف السلطات الفاعلة التي تحولت الى عوائق ابستمولوجية رافقت تطور تراثنا اذ يرى التراث انتاج مدة زمنية تقع في الماضي وتفصلها عن الحضارة المعاصرة.
وقد اعتمد النقد الابستمولوجي على الخطوات الاتية :
اولا : المنهج هو المسألة الاساس ، وهي نقد العقل لا استخدام الفعل بهذه الطريقة او تلك وقد اعتمد فيه :
1- المعالجة البنيوية : وتتلخص في معالجة فكر صاحب النص ككل تتحكم فيه ثوابت ويغتنى بالتحولات وقد اعتمد على النصوص التي تعود الى ابن رشد في كشف تلك العناصر .
2- التحليل التاريخي : وهو يقوم على ربط فكر صاحب النص بمجاله التاريخي .
وقد عمل الجابري على النظر الى ابن رشد ضمن حدود التاريخ المغاربي وما شهده من تحولات فكرية وسياسية واجتماعية .
3- الصراع الايديولوجي : أي الكشف عن الوظيفة الايديلوجية وهذا واضح في ربط مشروع ابن رشد بثورة ابن تومرت التي اثمرت قيام دولة الموحدين . ثم عمل على وصل القارئ بالمقروء من خلال حدس استشرافي في قراءة سياق التفكير ويتستر وراء مناورات التعبير وقد عمل من اجل كشف تلك المساحات التي وظفها في مشروعه النقدي للتراث .
ثانيا : على القراءة (الرؤية) اذ يؤكد ان الرؤية تؤطر المنهج وتحدد له افقه وابعاده والمنهج يغني الرؤية ويصححها وتحتوي :
1- الاشكالية بوصفها (منظومة من العلاقات التي تنسجها داخل فكر معين ، مشاكل عديدة مترابطة لا توفر امكانية حلها منفردة ولا تقبل الحل - من الناحية النظرية - الا في اطار حل عام يشملها جميعا ، وبعبارة اخرى ان الاشكالية هي النظرية التي لم تتوفر امكانية صياغتها فهي توتر ونزوع نحو النظرية ، أي نحو الاستقرار الفكري . وان اشكالية فكر ما لا تحدد بما انتجه هذا الفكر بل ان مجالها يتسع لجميع انواع التفكير التي يقوم بها هذا الفكر . وان اشكالية لا تتحدد فقط بما تم التصريح به بل ايضا بما تتضمنه وتحتمله) . أي إن الإشكالية تمثل دالا منفتحا على الإضافة والتأويل بشكل يجعل القراءة تاخذ بعدا صوب اكتشاف المسكوت عنه والغياب داخل النص عبر ممكناته .
2-تاريخية الفكر وهذا يتعلق بالحقل المعرفي أي الفضاء الايستمولوجي والمضمون الايديولوجي .انه يعنى بمفهوم (تاريخية الفكر) أي ارتباطه بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي انتجه او على الاقل تحرك فيه هو يقول : تقصد هنا بالمجال التاريخي ما يمكن التعبير عنه بـ (عمر الاشكالية) او زمنها انه الفترة التي تغطيها نفس الاشكالية في تاريخ فكر معين وهو يجعــــل المجال التاريخي يتحدد بشيئين اثنين :
أ) الحقل المعرفي : الذي يتحرك فيه هذا الفكر والذي يتكون من نوع واحد ومنسجم من (المادة المعرفية) وبالتالي من الجهاز التفكيري : مفاهيم ، تصورات ، منطلقات ، منهج ، رؤية .
ب) المضمون الايديولوجي الذي يحمله ذلك الفكر ، أي الوظيفة الايديولوجية (السياسية الاجتماعية) التي يعطيها صاحب او اصحاب ذلك الفكر لتلك المادة المعرفية.
هذه الرؤية تعمقه في مشروعه النقدي (نقد العقل العربي الذي يتضمن : تكوين العقل وبنية العقل والعقل السياسي والعقل الاخلاقي تضمن بعدين الاول العقل النظري متناولا إياه عبر بعدين بعد تكويني - تاريخي يدرس فيه تكون - هذا العقل والثاني بنسبة العقل العربي كما تكون في العصر العباسي الثاني وقد جاء في هذا على مستوى المنهج منهج بنيوي يسعى الى كشف آليات التفكير وظيفة العقل او الخطاب الذي تشكل داخله مركزا على المادة المعرفية وفضائها عبر ثلاثية البيان ، العرفان البرهان وهو يكمل ذلك الحوار الذي يبحث في اصول الثقافة العربية واليات التفكير بها وقد كان قد تناول هذا (علي اومليل) في دراسته للفكر العربي الاسلامي في كتابه (الفلسفة الثقافية والسلطة السياسية) والذي تناول باختصار اشكاليات الخطابات عبر شخصيات المثقفين وقد كان لهذا الكتاب تناصات كثر في متون كتب الجابري المتنوعة وهذا ضمن اشكالية الحداثة القائمة على دراسة التراث والحفر في تراثيات السلطة التي كان لميشيل فوكو كبير الاثر فيها وامتدادها في المغرب العربي والبعد الثاني العقل العملي الذي تناول فيه الجابري نقد العقل السياسي عبر مهيمنات العقيدة القبلية الغنيمة وهو هنا يحاول دراسة تراثيات السلطة في الاسلام يمثل تناصات كثيرة مع المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه وكتابه (نقد الفعل السياسي) ودراسة المفكر التونسي هشام جعيط في" الكوفة" ، حيث تلمس بوضوح تلك المحددات في هيمنة العلاقات العقائدية في ظل الحكم الراشدي ثم تغلب القبيلة بعد الفتنة وعلاقة كل هذا بالغنيمة شاملا الفعل الاخلاقي فانه يحاول فيه دراسة الاخلاق بين القضاء العربي الاسلامي والاخلاق الوافدة من فارس القائمة على الطاعة (الاحكام السلطانية) كما تسمى في الاسلام والاخلاق ذات الجذر اليوناني . في كل هذا نلمس فيه باحثا يحاول إن ينشد الاختلاف في خلق فضاءات جديدة للحوار بين الانا والاخر سواء كان هذا الاخر التراث ام كان الاخر الغرب .فكل نص حاضر يتضمن نصا (غائبا) بالضرورة وصولا الى بنية المدلولات الغائبة التي لا يمكن ادراكها الا انطلاقا من بنية الدوال الحاضرة . أي إشكالية المثقف لا يمكن ان ينطلق دون حاجة تدفعه الى التامل في الماضي نظر لما يتركه من ظل ثقيل يترك عوائق جمه تعوق الحاضر وانفتاحه على المستقبل (لا تملك للتراث الا بمجاوزته الا ان المجاوزة لا تعني التخلي والاهمال انها على العكس من ذلك تقويض مستمر للمفاهيم وليست معارضة موقف بآخر . فتفكيك المفاهيم استراتيجية وليس نقدا بالمعنى المعروف . ثم انه ليس تحليلا صوريا . وهذا ما يسعى الجابري آليه لكن هذا لا يعني انه لا يسقط بالتحيزات الايديولوجيه ولا يعني اننا يجب ان نتماهى معه انه القراءة هي نزوع الاختلاف والقراءة التنويرية تدفعنا الى الحوار معها عبر الصورة اليها لغرض اكتشافها وادراك بينه المتشابكة (بذلك تعرف ما لم يكن يعرف اهلها ، ونتحرر من سلطتها حتى لا نقع اسراها وتتقدم بها لئلا تتقدم علينا ، ونمارس فاعليتنا التنويرية ازاءها حتى لا تهمشنا وتحجب وجودنا). وهذه القراءة تاخد بعدين الاول معرفي (ابستمولوجي) فيما الثاني وجودي (انطولوجي) (اذا كان التاويل هو الذي يمكننا من بناء صلة مزدوجة بالتراث والمعاصرة بقدر ما يتيح قراءة عصرية للتراث او توظيفا للماضي الذي لا ينفك يحضر باتجاه المستقبل او ممارسة للخصوصية بصورة عامة).
وهذا بالضبط ما يجب ان نفعله مع قراءة الجابري للتراث العربي الاسلامي ،
القراءة الابستمولوجية عند محمد عابد الجابري
إن الحديث عن منطلقات هذه القراءة التي قدمناها وحاولنا إن نعرض إلى إشكالية القارئ بوصفه يشكل مركزا يحاول إن يبحث عن حاجاته في النص المقروء بحثا عن بنية الغياب.
لكن هذه القراءة ليست فريدة بل أنها موجودة في منطلقات مفكرين عرب سبقوا الجابري وان اختلفوا معه في المنطلق والمنهج إلا أنهم يشتركون ويتداخلون بل إن قراءة الجابري تمثل اتصالا بتلك القراءات السابقة ، التي اتخذت من المعرفة (الابستملوجيا) نأخذ لقراءة ابن رشد ، أنها قراءة تنطلق من حاجة معاصرة إلى عقلنة وعلمنة المشروع المعاصر الذي جاء فعل التثاقف مع الأخر الذي قدم تصورا علمانيا أعاد بناء التراتبية بين الإنسان والله من جهة والإنسان والعالم من جهة اخرى وقد أعطى دورا كبيرا للإنسان بوصفه مركز الكون ومقياسا لما يحيط به ، وهذا معاكس للتصور الإسلامي القائم على اتخاذ الله الفاعل الأول والمصدر الأول للوجود والمعرفة فهناك مثلا اختلاف بين الإعلاء المسيحي والإعلاء الإسلامي اليهودي (إن تجريد مفهوم الإله وإعلائه عملية ثقافية تالية وليست أولية فاعلة . فالإعلاء العلماني هو مفهوم ترانستدنتالي في الأساس ، إما الإعلاء التاريخي في اليهودية والإسلام ، فلم يكن أبدا أبعادا للإله عن العالم ، وإنما تنزيه من مدنس العالم . إعلاء يعطيه صفة كونية بلا تناقض .. إن الإعلاء الإلهي الإسلامي هو إعطاء بعد للقوة الربانية ولسيطرته المطلقة على العالم ... ومع هذا ينشغل هذا الإله بمشاكل البشر اليومية ، ويضع الحدود ويقيم الشريعة ، وله ملائكة وقديسون وأولياء أي انه جمع بين كونه مجرد ترانستدنتالي وفي نفس الوقت موجود في الواقع . وهذا أعطاه دورا فاعلا في الكون والمجتمع معا . بالمقابل أصبح الإله في التصور العلماني خارج الواقع متعاليا وبالتالي أصبح للإنسان الدور الأول في حياته لا مسافة بينه وبين الوجود ، هذه العلمانية التي تمثل مرجعية يحاول الفكر العربي المعاصر إن يستعين بها في بناء تصور علماني إلا انه يحاول إن يتخذ من ابن رشد بوصفه شخصية داخل التراث الإسلامي أي انه يمنح تلك الأفكار العلمانية شرعية المرور إلى الواقع الإسلامي لأنها تملك جذورا في نصوصه التي كانت تمثل نوعا ناضجا من العقلانية استثمرها الغربيون في الرشدية الـــــلاتينية فـــــي بناء فصل بين الدين والدولة . ويحاول أصحاب القراء الابستمولوجية إن يوظفوا هذا في استثمار الموروث الليبرالي الغربي في بناء عقلانية عربية معاصرة عبر التجذير لها في التراث وهذا هو جوهر القراءة التي تبحث عن الشرعية لهذه الأفــكار.
وهكذا حاولت تلك القراءة إعطاء ابن تأصيل عقلي ارسطي وجعله مختلفا عن الاتجاه الذي تمثله الافلاطونية المحدثة ونقدا للفكر الفلسفي الإسلامي . وهذا أمر مشترك بين ممثلي هذه القراءة ماجد فخري ومحمد عاطف العراقي ومحمد عابد الجابري في سعي هؤلاء إلى تقديم ابن رشد على انه اقرب إلى الروح الارسطية من باقي الفلاسفة المسلمين . ونحن هنا إزاء قراءته لابن رشد .
محمد عابد الجابري " لحظة ابن رشد":يقدم لنا عابد الجابري تحليلا لفلسفة ابن رشد في كتابه الأول نحن والتراث ، ضمن أفق الإشكالية المغربية وتعارضها مع إشكالية المشارقة لقد جرت العادة على التمييز في العالم الإسلامي بين المشرق والمغرب وهذا التمييز بنظر" عابد الجابري" يعود إلى الفتوحات الإسلامية الأولى ويعكس واقعا تاريخيا وسياسيا وثقافيا أكثر مما يعكس واقعا جغرافيا محصا. وهكذا فان المدرستين المغربية والمشرقية هما مظهران أساسيان ومتمايزان من مظاهر العقلانية في الإسلام بل يمكن عدها اتجاهين عقلانيين ، وليس فقط متمايزين ، بل متناقضي الاتجاه :العقلانية الرشدية واقعية والعقلانية الفارابية السينوية عقلانية صوفية . ومن المعطيات في هذا الأمر :
الفصل بين الدين ،والفلسفة على إن لكل منهما مجاله الخاص، وطريقته الخاصة ،والنظرة الاكسيومية. إلى كل من البناء الديني ،والبناء الفلسفي ، النظرة التي تحرص دوما على ربط القضايا، بمنظومتها الفكرية الأصلية .
تأكيد العلاقة السببية في عالم الطبيعة، وعالم ما بعد الطبيعة سواء بسواء وفهم حرية الإرادة البشرية ضمن الضرورة السببية، وربط هذه الحرية بالعلم بالأسباب. الميل إلى نوع عقلاني خاص من، وحدة الوجود ، يعد الإله قوة رابطة بين أجزاء الكون ، وظواهر قوة روحية هي في إن واحد مندمجة في الكون ومتعالية عليه. وهكذا يعرض عابد الجابري إلى مفهوم القطيعة ويرصدها في تغيير الإشكالية التي تقوم على الفصل بين الدين والفلسفة لدى المغاربة عكس إشكالية المشرق القائمة على التوفيق بين الشريعة والفلسفة ، فالقطيعة كانت لدى مشيل فوكو الانفصال لا يعني شيئا أخر سوى انه قد يحدث أحيانا في خلال عدة سنوات إن تكن ثقافة ما عن التفكير على النحو الذي درجت عليه حتى تلك الآونة لكي نشرع في التفكير في شيء أخر وعلى نحو أخر . وعلى هذا يرى عابد الجابري انه إذا كان لابد من إعطاء معنى للمفاهيم التي نوظفها هنا فيجب استخلاصها من السياق أي من الفضاء الفكري الذي نستعلمها فيه . إما المعنى الذي يعطيه لها إطارها المرجعي الأصلي فيجب إن يؤخذ بوصفه دليلا فقط وليس مدلولا المفهوم هو الذي يفرض نفسه على الباحث حيث الممارسة وليس قبلها وإما المعنى الذي يحمله هذا المفهوم في ذهن عابد الجابري فقد لا يتضح لديه تمام الوضوح إلا عندما يكون قد انتهى من توظيفه ولو ضمن رؤية حدسية خاطئة. وعلى هذا الأساس فعندما يطبق مفهوم القطيعة مع مشروع ابن حزم الظاهري (384 - 456 هـ. الذي يضعه على انه المشروع الإيديولوجي والفلسفي ،فظاهرية ابن حزم منظورا إليها في ضوء الملابسات السياسية التي أطرت تفكيره وحددت له اتجاهه هي مشروع إيديولوجي حضاري وبديل لايدولوجيا الدولة الفاطمية وإيديولوجية الدولة العباسية ، اللتين كانتا تتنافسان وتحاربان الخلافة الأموية . " إما إذا نظرنا إلى (ظاهرية) ابن حزم من الزاوية الابستمولوجية المحض وجدناها مشروعا فكريا فلسفي الأبعاد يطمح إلى إعادة تأسيس (البيان) وإعادة تركيب العلاقات بينه وبين (البرهان) مع إقصاء تام فالقطيعة تنعكس دلالتها من خلال الطابع النقدي بهذا المشروع الفكري من جهة وخلوه من هاجس التوفيق بين الدين والفلسفة من جهة أخرى. وبالتالي فابن حزم كان يجسد إعلانـا نضاليا للمشروع الإيديــولوجي الذي اختمر في الأندلس والــذي يلمـس فيـه اتجاهــين:
الأول " ظهور ابن حزم ومذهبه الظاهري العقلاني " والثاني النشاط اليهودي " في الأندلس ثقافيا وفلسفيا ودينيا ". فمشروع ابن حزم " سيغدو أساسه الابستمولوجي أساسا لثقافة الأندلس بخصوصية متميزة). وقد طبقها المنهج الظاهري الذي يرجع اصل المذهب الظاهري في الفقه إلى داود الاصفهاني (202 - 270 هـ.) الذي كان أول مرة شافعيا ، ومذهبه يقوم على نقطتين اثنتين :
الأولى - " هي القول بان الشريعة نصوص فقط وان الأحكام يجب إن تؤخذ من ظاهرها دونما تأويل أو قياس فالقرآن عندهم مبين بنفسه يدل ظاهر لفظه على المعنى المقصود وبالتالي لا مجاز فيه ولا مجال للقياس " . الثانية - " فتتعلق بما لم يرد فيه نص خاص مباشرة وهنا تعود الظاهرية إلى ما يسمونه (الدليل) وهو استدلال يعتمد على صريح النصوص أيضا " . وعلى هذا الأساس فالمنهج الظاهري يرفض القول بالباطن ورفض القياس كما لدى الفقهاء والمتكلمين معتزلة واشاعرة فالأمر لا يتعلق بمجرد الانفصال عن الشافعي بل يتعلق الأمر بإعادة تأسيس البيان كليا. وهذا ما يريد ابن حزم تأسيسه البيان على أساس منطقي قواعد العقل الكوني وليس على القياس كما فعل الشافعي " مثل الانتقال من مقدمتين إلى نتيجة تلزم عنهما لزوما ضروريا أو الانتقال من لازم إلى ملزوم أو من كلي إلى جزئي إلى غير ذلك من القواعد المنطقية التي اجتهد في تطبيقها بل في تبيئتها " والشيء الذي يستبعد " هو التعليل الذي ينهي عليه القياس الفقهي ". ويحدد ابن حزم بيان القرآن بثلاثة أقسام :
1- " قسم بين بنفسه لا يحتاج إلى مـــــزيد بيان ".
2- " قسم يحتاج إلى بيان وبيانه في القرآن نفسه ".
3- " قسم يحتاج إلى بيان وبيانه في السنة".
يقدم عابد الجابري اعتراضا على من يرى (ابن حزم) مجرد تابع ل ـ (داود الاصفهاني) ويرى إن هذا القول " لا ينطوي .... على ظلم شخصية علمية فقط بل على تشويه المسيرة الثقافية العربية الإسلامية وتقيم بداية لحظة جديدة " منها أيضا " مما انعكس إثره على اللحظة بأكملها ". إذ اعتمد ابن حزم " النقد ألتجاوزي " ، النقد الذي يمارس ضد الإشكالية كلا ومن خارجها ويتجه بالتالي إلى الأسس والمناهج لفحصها والكشف عن الثوابت ومن ثم تعرية الإشكالية برمتها وفتح الطريق إمام تجاوزها ، إمام عملية تأسيس جديدة ". وقد امتد نقد ابن حزم ألتجاوزي إلى جميع فروع الثقافة العربية الإسلامية من فقه وأصول وكلام ومنطق وفلسفة لكنه ركز في ميدان أصول الفقه وأصول الدين (علم الكلام) فالأصول عند ابن حزم هي القرآن والسنة والإجماع ودليل من هذه الثلاثة. إما في مجال علم الكلام " يرفض ابن حزم (الفيزياء الكلامية) ويتبنى طبيعيات أرسطو ومفاهيمها ونظرياتها ": البرهانية " في أفق تأسيس البيان على البرهان على صعيد المنهج كما على صعيد المفاهيم والرؤية ". فان مشروع ابن حزم مشروع مزدوج "أيديولوجيا وفلسفيا معا ". تبنى المهدي ابن تومرت (المتوفى سنة 245 هـ.) الأولى بينها تولى ابن باجة المهمة الثانية وكما كان ابن تومرت يمارس السياسة في الدين بهدف تغيير الواقع السياسي القائم كان ابن باجة يمارس السياسة في الفلسفة بهدف إنشاء واقع فكري جديد حالم لهذا لم يمارس السياسة بالفلسفة بخطاب إيديولوجي إنما بخطاب فلسفي. متحرر من قيود السياسة وقيود المعرفة " او العوائق الابستمولوجية التي أورثها عن علم الكلام من جهة " ومن جهة أخرى. تحرر (ابن باجة) من إشكالية المشارقة . حقل " خطابه الفلسفي خطابا فلسفيا خالصا يتحرك في دائرة والبرهان دائرة الفلسفة والعلم إما دائرة الدين والبيان فهو يتعامل معها بوصفها دائرة مستقلة مبنية على الوحي وهو من المذاهب الإلهية لا تكون باختيار الإنسان. إما ابن تومرت فان ظاهرية ابن حزم تصبح معه بعد خمسين عاما أساسا لحركة سياسية في المغرب ابتداء من (عام 511 هـ.) ضد دولة المرابطين المغربية .اتخذ شعار ترك التقليد والرجوع إلى الأصل سلاحا أيديولوجيا فراح يوجه الضربات لكيان دولة المرابطين الذين كانوا بنظر ابن تومرت منحرفين عن الدين الصحيح لان فقهاءهم اعتمدوا القياس فأوقعوا الناس في التشبيه والتجسيم على مستوى العقيدة لقياسهم الله على الإنسان . من هذا المنطق الذي يستعيد بكيفية مباشرة المضمون الديني والأساس الابستمولوجي لـ (ظاهرية) ابن حزم سار (ابن تومرت) بحركته إلى نهايتها وهذا ما يظهر في المنهجية في كتابه (اعز ما يطلب) .وهكذا تظهر تلك الثورة الثقافية التي تدعو إلى قراءة جديدة للنصوص الدينية قراءة تقطع مع المذاهب القائمة التي ابتعدت بفروعها المتسلسلة عن الأصول الأولى وتفتح المجال لقيام حركة عقلانية نقدية جديدة. ثم يعرض عابد الجابري لابن رشد بوصفه قمة المشروع ألمغاربي الذي بدأ بابن حزم يعرض عابد الجابري لمشروع ابن رشد على المستوى العمودي في التكوين يعمل ابن رشد على الترتيب " العلاقة بين البيان والبرهان. على أساس نظرة واقعية عقلانية إلى الأمور نظرة تعالج الدين والواقع الفلسفي بروح نقدية تحترم معطيات الواقع . لهذا جاءت فلسفته واقعية تقدم "على النظر إلى الدين والفلسفة " بوصفها " بناءين مستقلين يجب إن يبحث عن الصدى فيهما داخل كل منهما وليس " خارجهم.ولذلك كان من غير المشروع بنظره تداخل أجزاء من هذا البناء في البناء الأخر . أو قراءة أجزاء من هذا البناء بواسطة اجزاء من ذاك . لهذا وضع شروطا للتأويل هي المبدأ الأول إن الخطاب الديني هو دوما على وفاق مع ما يقرره العقل إما بدلالته الظاهرة وإما بتأويل والتأويل له حدود وشروط .
إما المبدأ الثاني فهو يفصل في تأويل ومالا يؤول وفي هذا الصدد يقرر ابن رشد انه يقوم على أصول ثلاثة لا يجوز التأويل فيها فقط وهي: الإقرار بوجود الله وبالنبوة وباليوم الأخر إما ماعدا ذلك فقابل للتأويل ولكن بشروط ثلاثة هي :
الشرط الأول - احترام خصائص الأسلوب العربي في التعبير إذ التأويل ليس شيئا أخر سوى إخراج اللفظ من دلالته الحقيقية (الظاهر) إلى الدلالة المجازية(الباطن) من غير إن يخل بعادة لسان العرب في التجويز مثل تسمية الشيء بشبيه أو سببه أو لاحقه أو مفارقه.
الشرط الثاني - احترام الوحدة الداخلية للقول الديني ، فلا يجوز تضمينه أشياء غريبة عن مجاله التداولي الأصلي كما كان زمن النبي" .
الشرط الثالث - مراعاة المستوى المعرفي لمن يوجه إليه التأويل فلابد من مراعاة المستوى الثقافي".
التكوين التاريخي
وهكذا يستعيد مشروع ابن حزم ويتجاوزه في آن واحد ، يستعيده منطلقا واتجاها ، ويتجاوزه محتوى ومضمونا ويعمل " ابن تومرت على صنع الأداة - السلطة ، الشرط الموضوعي الضروري لحياتها وبقائها ، بينما عمل ابن باجة على تعميق مضمونها العقلاني ، الشرط الذاتي الضروري لنموها ". وهكذا ربط التكوين التاريخي للعقلانية المغاربية من ابن حزم ومن ثم ابن تومرت بثورته السياسية ضد المرابطين ومع ابن باجة الذي عمق الوعي الفلسفي وبالتالي يأتي مشروع ابن رشد الذي يقيم لنا عصرا معرفيا جديدا يمثل نظاما معرفيا جسد مشروع تأسيس وبالتالي يجسد قطيعة مع التداخل التلفيقي مع لحظة الغزالي ففكر " ابن رشد قد تحرك في الاطارالعام نفس الاتجاه النقدي نفسه اللذين تحرك فيهما ابن حزم ". معتمدا " الطريقة التي تكشف عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها فهي الطريق التي تعتمد استقراء القرآن والوقوف عند ظاهر ألفاظه وعدم التجاوز بالتأويل - فيما لابد فيه من تأويل " (إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية ، من غير إن يخل قي ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي). ويؤكد الباحث إن الله ظاهر ألفاظ الشرع ومقاصد الشرع مفهومات مركزيات في المشروع الثقافي الاندلسي " ككل المفهوم الأول يحيلنا إلى ما قبل ابن رشد إلى ابن حزم ". إذ هذه الطريقة البرهانية التي تعتمد الاستقراء وعدم الاقتصاد في طلب معنى لفظ أو أية في القرآن من اللفظ أو الآية وحدها بل لابد من الاستعانة بالسياق الذي ورد فيه اللفظ بل لابد من استحضار مختلف السياقات التي ورد فيها في القرآن كله إذا لزم الأمر أي تعتمد استقراء القرآن والوقوف عند ظاهر ألفاظه وعدم التجاوز بالتأويل.
والمفهوم الثاني إلى ما بعد ابن رشد إلى ألشاطبي صاحب كتاب مقاصد الشريعة الشريفة . لكن هذه المقاصد قد أخذها (الشاطبي) عن (ابن رشد) الذي وضعها في مجال العقيدة . فابن رشد يقدم لنا مشروع تأسيس البيان في العقيدة خاصة . بعد إن استعاد المحور الرئيس والأساس في مشروع ابن حزم ، إعادة تأسيس البيان وفي ميدان العقيدة وقد ارتفع ابن رشد بهذا الاتجاه وبذلك الإطار الى مستوى أعلى كثيرا مما كان عليه عند ابن حزم . مستوى الفكر الفلسفي الناضج المتمكن من النفس الواعي للتضحية ومن هنا سيصبح التأثير ألحزمي فيمن جاء بعد ابن رشد يحمل معه بصمات رشدية واضحة. وهنا يأتي مشروع الشاطبي أبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي (المتوفي 790 هـ.) يمثل قمة ما وصل إليه العقل العربي في ميدان الأصول. ويشترط عابد الجابري بمن يقرا هذا المشروع شرطين اثنين اولهما سعة الإطلاع، ليس على ميدان الفقه وأصوله وحسب بل على مختلف اوجه الثقافة العربية من تفسير وحديث وفقه وأصول وكلام ومنطق وفلسفة وتصوف . وثانيها ، الإدراك العميق لأبعاد النقلة الابستمولوجية التي عرفها الفكر العربي مع ابن حزم وابن رشد والمتمثل في نزعتهما العقلانية النقدية الرامية الى تأسيس البيان على البرهان وهكذا يلتمس التجديد في مشروع الشاطبي في ثلاث خطوات منهجية هي :
1- الاستنتاج (القياس الجامع)
2- الاستقراء
3- التركيــــز على ضرورة اعتبار مقاصد الشرع .
إذ يدشن مقالا جديدا تماما في الأصول قوامه يثبت بضرورة الحس أو بضرورة العقل أو بالنظر والاستدلال إما الثانية تثبت بالنقل عن الشارع نقلا صحيحا هذا بنسبة للخطوة المنهجية الأولى . اماالثانية فهو الاستقراء التي كان ابن حزم قد دعا الى ضرورة اعتماد منهج في التعامل مع النص القرآني غير ما يتعلق الأمر بلفظ يبدو لأول وهلة إن معناه الظاهر يختلف عن ما تقرره بديهية الحس والعقل وكان ابن رشد قد سلك المسلك نفسه في القصيدة إذ كان قد جعل معنى (التأويل) هو استخلاص معنى اللفظ من النص القرآني باعتماد نوع من الاستقراء يأتي الشاطبي ليوظف هذا التطبيق ألرشدي للاستقراء ألحزمي توظيفا جديدا قوامه استخلاص من (كليات الشريعة)التي هي كليات استقرائية.
والخطوة الثالثة مقاصد الشريعة إذ يؤكد عابد الجابري هنا إن الشاطبي اخذ هذه الفكرة من ابن رشد ليوظفها في مجال الأصول التي دعا الى ضرورة بنائها على مقاصد الشرع بدل بنائها على استثمار لفظ النصوص كما لدى الشافعي . وهكذا عد هذه النقاط الثلاثة وهي (مفهوم المقاصد و(المفهوم الكلي) و(الطريقة التركيبية) وهي عناصر لم يكن لها حضور تأسيس في حقل المعرفة البيانية وبالتالي يكون الشاطبي قد دشن نقلة ابستمولوجية هائلة في الفكر الأصولي البياني العربي نقلة جديدة بان تحقق المشروع ألحزمي ألرشدي ، تأسيس البيان على البرهان وذلك انطلاقا من مركز الدائرة البيانية نفسها (علم الشريعة) ولكن النقلة التي بشر بها الشافعي. في ميدان علم الشريعة بقيت مثلها مثل التي بشر بها ابن رشد في ميدان الحكمة وهنا يؤكد عابد الجابري إن تجديد العقل ليس فقط على مدى استيعابنا للمكتسبات العلمية والمنهجية المعاصرة بل أيضا ولربما بالدرجة الأولى يتوقف على مدى قدرتنا على استيعاب نقدية ابن حزم وعقلانية ابن رشد وأصولية الشاطبي وتاريخية ابن خلدون بوصفه لحظة أخرى من المشروع ألمغاربي وشانه شان الشاطبي . إن الدلائل بنظر عابد الجابري تؤكد إن أيا منها لم يتأثر بصاحبه وإنما قد عمل كل منهما بمفرده على تحقيق المشروع ألحزمي ألرشدي لهذا كان مشروع ابن خلدون يقدم على تأسيس التاريخ على البرهان كان يتطلب خطوتين اثنتين ، إما الخطوة الأولى فقد استطاع ابن خلدون إنجازها ، وإما الخطوة الثانية فقد اخفق فيها ، لقد نجح ابن خلدون في اكتشاف علم جديد يصلح ان يكون على الأقل من وجهة نظره (معيارا صحيحا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب فيما ينقلونه) ولكنه فشل في تطبيق هذا (المعيـــار- المنطق) في مؤلفه التاريخي الضخم كتاب (العبر).


 Posted by Picasa