٢٢‏/٠٩‏/٢٠٠٦

;كليزار أنور:
القصة الناجحة لا يعرف فيها الواقع من الخيال


محمد القذافي
ليبيا


ولدت الكاتبة العراقية كليزار أنور عزيز عام 1965، وهي كردية الأصل .. موصلية النشأة. بدأت الكتابة والنشر عام 1995، وقد صدر لها "بئر البنفسج " مجموعة قصصية/ 1999 عن دار الشؤون الثقافية/ بغداد، و" عجلة النار " رواية/ 2003 عن دار الشؤون الثقافية/ بغداد، و "عنقود الكهرمان" مجموعة قصصية/2006 عن دار الشؤون الثقافية العامة/بغداد. ولها عدة مخطوطات قصصية وروائية تنتظر من يخرجها الى النور ....

تأخر مفيد

* يبدو لي ان بدايتك جاءت متأخرة بعض الشيء..لهذا تدفق نهر السرد لديك بقوة كي يصل إلى الأراضي الجافة ويرويها فبدت أعمالك شجيرات مزهرة متوزعة مكانيا وإنسانيا... يستطيع المتلقي تلمس وجودها أينما وجدت.

- نعم .. لأني لم أُفكر ذات يوم أن أكون قاصة.. كنتُ قارئة جيدة .. ومتابعة للحركة الثقافية.. هذه القراءة والمتابعة الجادة خدمتني في تراكم بعض هذا الخزين المعرفي في داخلي.. وعندما كتبت اتخذ هذا الحزين شكل القصة وتدفق علي الورق سرداً هادئاً، فنمت قصصاً أخذت لها حيزاً في الوجود وُُثبت اسمي بمسمار قوي على جدار السرد القصصي العراقي.

* هذا التأخر ان صحت تسميته هكذا.. هل جعلك تكتفين بقراءاتك الإبداعية والنقدية ..؟

- ولكوني قارئة جيدة، فقد قرأت عناوين ممتازة ولأني أُعجبت بها .. لا إرادياً وجدتُ نفسي أكتب عنها بكل حب وإعجاب، وأنا لا أعتبرها دراسات نقدية، وإنما هي نقد انطباعي، إنها - مجرد - قراءات .. هدفي منها خدمة القارئ لتكون بين يديه. وأكثر من مرة وصلتني ايميلات من القراء يقولون لي فيها .. كتابتي عن هذه الرواية أو تلك المجموعة جعلهم يبحثون عنها لقراءتها.

دور التراث

* ماذا أخذت من التراث ؟

- التراث.. هو الأرض التي مددنا جذورنا في أعماقها، وبدون أرض وبدون جذور لن تصمد أشجارنا علي الورق.
* هل استطعت الإفصاح عما تريدين قوله أيام النظام السابق دون الاصطدام بالرقابة وقمع أجهزة السلطة ...؟

- الكاتب الذكي يستطيع أن يقول كل شيء بمجرد اللجوء إلى "الرمز" .. ولستُ وحدي مَن فعل هذا .. أغلبنا لجأ إلي الرمز لإيصال ما يريد أن يقوله.

* المرأة في العالم العربي ... أليست مساهمة فيما تعيش من حالة تهميش وقهر....؟

- بالتأكيد لها بعض الدور في التهميش.. وإن لم تنقذ نفسها من هذا الغرق الذي وجدت نفسها ــ وأوجدها مجتمعها ــ فيه.

الواقع والنص

* بأي درجة من المفترض ان يكون الواقع منعكسا في النص؟

- لا يوجد قاص ذكي وحقيقي لا يعكس الواقع في أغلب نصوصه.. هو يوجد الصورة ويؤطّرها بالخيال لتكون قصة فنية متميزة.. أما الدرجة الافتراضية - برأيي - أن لا يعرف القارئ أين الواقع فيها من الخيال .. عندها سيكتب قصة ناجحة .. لن تموت !

ثورة ثقافية

* يقول عبدالله العروي إذا أردنا ان نعطي فعالية لعملنا الجماعي وإبداعية حقيقية لممارستنا السياسية والثقافية. فلا بد من ثورة ثقافية تعم المجتمع بجميع فئاته وتغلب المنهج الحديث في الصورة التي ظهر بها في بقعة معينة من العالم، لا في ثوب مستعار من الماضي ما رأيك أنت ؟

- يا أخي العزيز .. ما أن فتحنا عيوننا علي هذه الأرض حتي وجدنا الثورة تلو الثورة تعصف بطبيعة مجتمعنا العربي "القبلي" المتخلف. والإبداع.. عمل فردي بحت إن جازت التسمية .. وهذا يبدو بشكل واضح لكل متابع للحركة الثقافية .. وكل مبدع حقيقي يأخذ من تجربة الماضي دروساً تجعله يتجاوز كل الأخطاء نحو ما يراه مناسباً، فمَن يحلم بمستقبل ناجح عليه أن يأخذ بتجربة الماضي والحاضر أيضاً.

* ما الذي يدفعك للتحدي ؟

- سأرد عليك بحكمةٍ تقول: لا مجد بلا تحدي !

* كونك أنثى ...ماذا يعني لك ...او يضيف ...؟

- لم أتضايق يوماً من كوني أنثى .. لا أدري أنا راضية أن خلقني الله هكذا .. ودائماً أحاول جاهدة أن أكون أنثى حقيقية تعرف ما لها وما عليها. وأنا - بالأساس - أُؤمن بالإنسان "ذكراً كان أم أنثى" وما يترسخ في داخله من مبادئ وقيم وأخلاق .. وحتى إبداع !

[1] نشر في جريدة العرب العالمية بتاريخ 31/07/2006
 Posted by Picasa
مسارات الإبداع
محمد الأحمد
تُغلبني الفكرة دائماً، وتنثرني تعباً على موج المعنى، إذ تتلبسني تماما في كل خطوة، وكل شهقة او تنهدة. تطاردني عبر الاثير حيثما احل، اجدها امامي شاخصة، فارضة نفسها علي عنوة، كانها تتسلط علي أكثر من احتياجاتي الفسلجية. تتلبسني وكاني اريد ان اتحدث بها مع اي كان، وغالبا ما تجعلني متعبا بين كمٍّ من الكلمات التي انتظمت في الذهن، وتزاحمت مكتظة تريد النزول الى السطر، فثمة خيط واحد يجمعها؛ ما ان امسك برأسه واسحبه مرة واحدة، فكأن الافكار تريد الاندلاق مرة واحدة، فاعرف بانها اوشكت ان تنطلق على معان تحتويها، احسها تتفرع من باكثر من فرع، ككائن حي بعروق تنبض، وغالبا ما يجعلني أشعر بلذة نشية، خفية، تجتاحني. فاتمنى ساعتها ان احررها من مكمنها. تلك الكتابة بعد حين اعهدها متناثرة من فضاء الذهن، حيث تعند، تحرن، تريد ان تهطل دفق مطرها على يباب الورقة مسطرة على فضائها الأبيض، غيثها المسود لذلك المتناه؛ كغيمة ملبدة. ولكنها تشبه فرسا تعافر الارض بيمينها الرشيقة، قبل الانطلاق. تبغي التباهي برشاقتها، وسحرها. فأي ارض سوف تغير فوقها واي فراغ هذا الذي يتشعب كثيراً قبل أن امسكه، أو أفكر به بشكل نهائي لأجل أن اسطره من ذهني وخيالي وأخطه على الورقة، فما أن امسكه حتى أجدني قد أمسكت غيره و شبيهه إن لم يك قرينه. فالافكار متوالدة من الافكار ورحم الذهن يتسع أبدا للاحتضان حتى الولادة. لكنني أحس بنشوة من اقترب مناه. كلما وصلت إلى فكرة اقتربت من الفكرة التي فكرت، ولكني بعد أن اقرأ ما خططته يدي بقلمها، أحسني مرة أخرى قد تهت عما أريد قوله. تغلبني لأني أردت القول الفصل فيما يؤرقني، ورغم كل ذلك التلظي المهيب؛ أجدني باني ما استطعت أن أقول ما أردت أن أقوله، أحسني قد ابتعدت هنا في هذا المقطع المتعجل، و قد اسرفت الجهد والوقت في ذلك المقطع المبطئ. ولكني امشي حيث المعنى، الذي سيصل بي إلى تحقيق ذاتي. فكل خلاياي مستفزة، ومستنفرة؛ ولكن القول قد مسَّ وجيباً آخرا من غير ان يقول كل قوله، فقد فتح لي افقاً جديدا أخذني كموج بحر عات، أفقا فيه لذة نشيه تهطل بتتابع مكتسية لحما ودما، وقد وجدت فيه حلاوة اكتشاف آخر لم اك قد خططت به أو حلمت به. ترى هل لي ان أصل إلى ما بإمكاني الوصول إليه، بمثل ما وصل إليه الكتاب اللذين علموني كيفية الإعجاب بجملهم الذهبية التي ما زالت تبدو لي عصية على أن أجد فيها ثغرة أو أن أضف إليها إضافة ما.. كلما قرأتها وجدتها تأخذني إلى المعنى الآخر، وكأني اكتشف بأنها تشير إلى معان اشمل مما استطعت أن احصل عليه من قراءتي الأولى. أية أسرار يحملها النتاج العظيم، الذي قطع كل تلك المساحات، وعبر الأزمنة المتراكبة. دائما الاعمل الابداعي تتناقله اللغات، لايفرق بين لغة حية او لغة متية، بين لهجة محكية، اوعمومية، ولايعترف بجغرافيا محددة، يصل من الشرق او الغرب، وكانه مكتوب بلغة المكان الذي وصل اليه، وربما يحمل هويته، وعطره.. اي سحر يمتلك، واي خلود يلفه، كونه في كل مرة يتخذ معنى جديدا، ويكون حاضرا إلى أي عصر يقرأ فيه. انظر إليه بجلال مهيب، وهو يمسك بيدي قبل أن يمسك بخزيني الذهني، يصبح مسيطرا مدة طويلة لا يعبر عليها النسيان. يأخذني العمل الابداعي إلى الارتجاف من سطوته العفية، لا استطيع ان اتنكر له، ولأني قرأته احسسته جزء مني وكانه صوتي الذي لم يخرج بعد. يغمرني شعور من يدخل مكانا لم يسبق ان دخله، وعلى الرغم من ذلك يكون المكان ليس غريبا، ومعرفا بكل حيثياته على الرغم من كل الظروف. كمن أعطاني أفكارا جدية في الكتابة الناضجة، أعطاني كيفية التذوق، والاستدلال إلى خارطة الإبداع الحق. أكون قد وعيت أنني في زمن يجب أن تكون الإضافة فيه شاخصة، ويشار إليها لأننا في عام ازدحم فيه المبدعون، وتعددت فيه القنوات والمواقع، فلكل مثلي هاجس حقيقي يدفعه إلى ان يكون بصوت فريد جهور، فلكل الم صرخة، ولكل قلم فسحة فضية تجعله أن يأخذ بالقارئ الذي تزدحم أمامه الأصوات وتختلط الحروف بالمصالح والمطالح، فهو أما أن يبقى يقرا المعروض أمامه إلى النهاية، أو يبحث عن شيء يمسه في صميمه، فما عاد قراء اليوم يلتهمون المنشور من الفه الى يائه، فكل منهم في عالم التعددية الثقافية صار يبحث عمن يغني عن ليلياه. أو يكون ذلك الصوت جزء من صوته، بذلك المكتوب فيستدر التأيد، وتلك القضية شبيهة قضيته، وتغرز فيه؛ يكون الصوت مُعَبِرا أو مُعَبراً (تارة بكسر الباء، واخرى بفتحها) حسب غايات المخاطب والمخطوب، المعبر اليه، او المعبر عليه.. حيث ما من خطاب يحمل وجها واحدا، او معنى واحدا ينتهي عند الحالة المقصودة، فالأفكار النيرة تتوالد من قرائنها، او نقائضها، ويكون عطائها وفيرا بلا انتهاء.. فالبصمة هي البصمة، لانها تترك اثرها، فلن يهملها احد لانها قرينةُ واقعة، والصوت هو الصوت، لانه قرينةُ احتياج، فتتشكل قرائن الانسان المدونة مدلة عليه ومنها تشع الأفكار المتوالية، فالفاعل بفعله، والمعمول بعامله، والخالق بخلقه. فكم فكرة ولدت من فكرة، وكم إبداعا خلف إبداع، وغالبا ما يبقى مثلي غير راض عن نفسه لأنه متعامل مع إبداع حي متوالد، لا ينته.. فيرى نفسه قاصرا امام المبدعين، يرى نفسه معترفا بابداعهم، معترفا بصنعهم الراق، معترفا في مثابرتهم في اكتسابهم المعرفة، والتعبير عن وجوههم، ووجودهم، ورؤياهم. فلم يرض عن إبداعه لأنه يعطي حق الإبداع كاملا، ويرى بانه كان من الممكن ان يقدم الاداء الافضل، والافضل مبغياً في كل زمان ومكان.

‏10‏ أيلول‏، 2006
 Posted by Picasa
ادونيس
ضريبة الهواء


-1-
لا أملك إلا حياتي. مع ذلك، أحتاج دائماً الى ما يطمئنني أنني أملكها حقاً.
-2-
«الوطن»؟
ربما سنصل قريباً في هذا العالم العربي الذي يضم أوطاناً كثيرة الى مرحلة يُطلب فيها من المواطن أن يدفع ضريبة جديدة، اسمها «ضريبة الهواء».
-3-
تقودنا الرقابة السياسية والدينية في البلدان العربية الى مأزق أصوغه كما يلي: «مَن يتكلم لا يعرف ومن يعرف لا يتكلم».
-4-
«الشيطان مختبئ» في التفاصيل»، يقول دافيد هيوم. كيف نقرأ الدم الذي يسيل في فلسطين، على نحو متواصل، منذ خمسين سنة، وكيف نقرأ الدم الذي يسيل في العراق، وكيف نقرأ «تفاصيل» العرب إجمالاً في ضوء «شيطان التفاصيل»؟.
-5-
في الأصولية الدينية، اليوم، نزعة للتوحيد بين «الانفعال» و «المعتقد» أو بتعبير آخر، الى «تذويب» المعتقد في «الذات». وفي هذا ما يؤدي ببعضهم لكي يحولوا الدين الى «ملك شخصي»، ويحولوا مَن لا يرى رأيهم الى «كافر» - «عدو»، لا بد من «محوه».
وفيه كذلك، ما يدفع بعضهم الى أن يغضبوا لـ «معتقدهم» أكثر مما يغضبون لـ «الخالق» نفسه.
والسؤال، في هذا الصدد، هو: كيف يمكن هؤلاء أن يعتقدوا بأن مثل هذه الممارسة دفاع عن الدين، أو خدمة له؟
-6-
عند العرب، يولد الابن أباً.
بعبارة ثانية: الابن، عند العرب، أب بالولادة. المجتمع العربي مجتمع آباء.
لبنان (المتقدم بين العرب) مثل حي.
-7-
تكلم مع الهواء،
لكي تعرف كيف تصغي الى الشجر.
-8-
المثلث في الجنس دائرة. والدائرة خط مستقيم.
الجنس سحر الطبع ذائباً في الطبيعة.
-9-
هناك بشر في العالم كله، لا يهمهم في التحليل الأخير، أن يفهموا.
يهمهم أن يُصلّوا،
وان يصوتوا،
وأن يصفّقوا،
طوبى لحرف الصاد.
-10-
من الخطأ القول إن الوطن لا يخطئ.
لكي تكون وطنياً حقاً، عليك أن تضع الوطن باستمرار، موضع تساؤل ونقد.
-11-
شهوة الغيب مرض لا يشفى. «حكاك» لا في الدماغ وحده، بل في العظم كذلك. لا في الجسد وحده، بل في «الروح» كذلك.
... ربما لهذا لم يعد للمفردات السائــدة، اليـــــوم، أي معنى. خصوصاً في العربيــــة. تحتاج لكي تكتسب معاني جديدة الى أن تنعتق من الغيب - بمطلقاته كلها، ومن الواقع – بتفاصيله كلها.
-12-
الأفكار الخلاقة ليست بيوتاً، وإنما هي حقول وأشجار.
-13-
الحوار بين طرفين أو أكثر يعني أن هناك اختلافاً. يعني كذلك أن الاختلاف مبدأ الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية، وقاعدتها.
اللاحوار إلغاء. إلغاء للمشكلات وللاطراف. وهو إلغاء يبطل الحياة العقلية ذاتها. حين لا يحاور المواطن المواطن فإن كلاً منهما يلغي دور الآخر، وفاعليته، ويلغي نفسه كذلك.
-14-
كل مواجهة للعرب مع الخارج، تكاد أن تنقلب الى «حرب» داخلية. لماذا؟
-15-
كلما غابت الشمس، أشعر أن فيّ شيئاً يموت.
ولكما أشرقت كذلك.
موت: غروب وشروق في آن.
-16-
الشعر حب يجعل الليل أقل ظلاماً، والنهار أكثر شفافية.
-17-
الشعراء يخلقون «ثوراتهم» الخاصة، ويشاركون أساسياً في خلق الثورات العامة. لكن منذ أن تتأسس هذه الأخيرة، وتتحول الى سلطة، تلفظهم وتنبذهم. ونادراً ما ولد في التاريخ كله شاعر داخل الثورة – المؤسسة.
يولد الشعر قبل الثورة أو بعدها: في التمهيد لها، أو في انهيارها.
يا للمفارقة: الشعر «يحيي» الثورة. وهي التي «تقتله».
-18-
عندما يؤمن الشعب بحقيقة وحيدة واحدة، فذلك يعني ان هذه الحقيقة ليست إلا دماً.
-19-
دون أعداء، لا تطاق الحياة.
-20-
ليس هناك ما هـو أكثـر جحيمية من أن يقتـل إنسان انساناً آخر، لا لشيء إلا لكي يدخل الجنة.
-21-
الفرق بين القارئ والنص في ثقافتنا الدينية السائدة هو أن الأول مدينة مغلقة، والثاني باب مفتوح.
-22-
بلدان لا مكان فيها للحرية، لا مكان فيها للانسان. هل تستحق مثل هذه البلدان أن يكون لها مكان على هذه الأرض الجميلة؟
أليس من الأجدى أن تحول الى مجرد منظر طبيعي؟
-23-
نتحدث دائماً عن الماضي الذي يبسط ظله على الحاضر، وننسى غالباً أن نتحدث عن هذا الكل نفسه الذي يهيمن على ضوء الحاضر.
-24-
يقول نيتشه: «الخلاق يبـحـث عن رفقاء، لا عن جثث أو قطعان ومؤمنين. الخلاق يبحــــث عـــن رفقاء يخلقون الى جانبه»، ويفتحون صفحة جديدة.
-25-
كل شيء في حياتنا وثقافتنا مسيّج. والحاجة، اليوم، ملحة لكي نزيل الاسيجة كلها.
لكن، قبل العمل على هذه الازالة، علينا أن نعرف مسبقاً: لأي هدف نزيلها، وكيف؟
 Posted by Picasa

حول الدين والعلمانية
محمد عبد العزيز


إذا كانت العلمانية هى استبعاد الدين من المجال العام، فهى تشمل جانباً آخر، لا يشكل جزءاً من طبيعتها، لكنه يترتب عليها بالضرورة، فالواقع أنه لا يجرى نفى الدين تماماً، وبوسعه أن يكون موجوداً خارج الدولة أى فى المجتمع المدني، حيث يمكنه أن يمارس وأن ينظم نفسه بحرية. والعلمانية كما يؤكد مؤلفو هذا الكتاب، ليست نفياً للدين إلا فى داخل الدولة، وهو ما يسمح بتأكيده خارج الدولة، ويسمح من ثم بوجود الحرية الدينية، وبهذا الشكل بالتحديد يمكن للحرية الدينية أن ترتبط بالعلمانية، دون أن تشكل جزءاً من جوهرها بمعناه الأصيل. ويؤكد ميكائيل لووى أن معظم مؤيدى الماركسية وخصومها ينظرون إلى عبارة "الدين أفيون الشعوب" على أنها خلاصة المفهوم الماركسى من الظاهرة الدينية، على أننا يجب أن نتذكر أن هذا التعبير ليس ماركسياً بشكل خاص، فالعبارة نفسها يمكن العثور عليه فى سياقات مختلفة، فى كتابات كانط، وهيردر، وفويرباخ، وعلاوة على ذلك، فإن من شأن قراءة متأنية لمجمل فقرة ماركس التى يظهر فيها هذا التعبير نتبين أن كاتبها أكثر إدراكاً لدرجات الألوان، مما هو شائع عنه، فهو يأخذ فى اعتباره الطابع المزدوج للدين: "إن الهم الدينى هو نفسه تعبير عن هم واقعي، واحتجاج على هم واقعي، إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة، هو قلب عالم لا قلب له، مثلما هو روح وضيع بلا روح، إنه أفيون الشعوب". التمثيلات الدينية والصراع الطبقى وقد أبدى فريدريك إنجلز اهتماماً بالظاهرة الدينية، ويدورها التاريخى، يفوق اهتمام ماركس بهما كثيراً، وتتمثل مساهمة إنجلز الرئيسية، التى قدمها إلى الدراسة الماركسية للأديان فى تحليله لعلاقة التمثيلات الدينية بالصراع الطبقي، وفيما وراء المناظرة الفلسفية والمادة ضد المثالية، حاول فهم وتفسير التجليات الاجتماعية الملموسة للأديان، فالمسيحية لم تعد تبدو فى نظره - مثلما كانت تبدو فى نظر فيورباخ - بوصفها "جوهراً" منفصلاً عن الزمن، بل هى تبدو بوصفها شكلاً ثقافياً يتعرض لتحولات فى العصور التاريخية المختلفة: فهى تبدو فى البداية بوصفها ديانة للعبيد، ثم بوصفها أيديولوجية فى الإمبراطورية الرومانية، ثم بوصفها أيديولوجية ملائمة للهيراركية الإقطاعية، وأخيراً بوصفها أيديولوجية تتميز بالتكيف مع المجتمع البورجوازي، وهى تظهر من ثم بوصفها فضاء رمزياً تتنازع عليه قوى اجتماعية متناحرة: اللاهوت الإقطاعى، والبروتستانية البورجوازية، والهرطقات الشعبية، وفى بعض الأحيان، كان تحليله يزل ف1 اتجاه تفسير نفعى ذرائعي1، بشكل ضيق للحركات الدينية: "إن كل طبقة من الطبقات المختلفة تستخدم الدين الملائم لها، ولا أهمية تذكر لما إذا كان هؤلاء السادة يؤمنون بالأديان التى يتبناها كل منهم أم لا". ويبدو أن إنجلز لا يرى فى سورة الإيمان المختلفة غير "الستار الديني" للمصالح الطبقية، لكن إنجلز يفضل منهجه الذى يؤكد الصراع الطبقي، قد أدرك - خلافاً لفلاسفة التنوير - أن النزاع بين المادية والدين يتطابق دائماً مع الصراع بين الثورة والمرجعية، فنجد على سبيل المثال، فى إنجلترا فى القرن الثامن عشر، أن المادية ممثلة فى شخص هوبز قد دافعت عن الملكية المطلقة، فى حين أن الشيع البروتستانتية قد استخدمت الدين كراية لها فى النضال الثورى ضد "آل ستيورات"، وبالشكل نفسه، بدلاً من اعتبار الكنيسة كلاً متجانساً من الناحية الاجتماعية، قدم تحليلاً رائعاً يبين كيف أن الكنيسة قد انقسمت فى بعض المنعطفات التاريخية بحسب تركيبها الطبقي. ومع كون إنجلر مادياً، ملحداً، عدواً لدوداً للدين، فإنه قد أدرك شأنه ذلك شأن ماركس الطابع المزدوج للظاهرة الدينية: دورها فى إضفاء الشرعية على النظام القائم، ولكن أيضاً تبعاً للظروف الاجتماعية، ودورها الانتقادى والاحتجاجى، بل والثوري. أزمة العلمانية يؤكد المؤلف الشريك فى هذه الدراسة أوليفييه روا أن العالم الإسلامى ليس وحده، الذى تأثر بتحولات العلاقة فيما بين الدين والسياسة، ولعلنا نشهد اليوم تعبيراً جديداً عن العلاقات فيما بين الدين والدولة والمجتمع، وفق النموذج الأقرب إلى أشكال العلمنة ذات الطراز الأنجلو - ساكسونى، مما أدى إلى النموذج العلمانى ذى الطراز الفرنسي، والواقع أن ما هو دينى إنما يغزو مجتمعاً تقل باضطراد سيطرة الدولة عليه، ويعرف الغرب اليوم موازنة بالغة الوضوح بين مطالبة بدولة وصية، تحمى جماعة قومية، وتطور فلسفة مجتمع مدني، لا تكون الدولة فيه غير حكم بعيد الحضور إلى حد ما، وهى موازنة، لأنه ما نغنيه ليس الحديث عن تعارض بين صنفين متناوبين "كأمريكا الجمهورية من ناحية والدولة اليعقوبية الفرنسية من ناحية أخرى"، بل عن تطبيق مرجعين يجرى استحضارهما كل بدوره، والحال أنه فى هذه الساحة الخاصة بالعلاقات المعقدة فيما بين ضعف الدولة وتجاوز القوميات، والمجتمعات المدنية، ودمقرطة الأنظمة السلطوية، إنما يزدهر الإحياء الديني، وفيما أن الحقل السياسى قد أصبح أكثر تعقيداً، فإن الإشكالية القطبية القديمة للعلمانية "الدولة والدين" إنما يصعب عليها احتواء الأشكال الجديدة للتدين فى قوامها، بيد أن هذا الاحتواء هو الرهان. وبحسب أوليفييه روا أصبحت العلاقة بين الدين والسياسة علاقة غير تناظرية: فالأصولية الدينية لا تهتم بالسلطة السياسية حتى فى الولايات المتحدة، بل تهتم بالمجتمع وهذا صحيح أيضاً بالنسبة للأصوليين الجدد المسلمين، وتقرير واقع أن طارق رمضان وريث مؤسس الإخوان المسلمين لافتراض أن لديه استراتيچية تعتبر سياسة فى نهاية الأمر "إقامة دولة إسلامية فى فرنسا" إنما يعنى عدم فهم شيء على الإطلاق فيما يتعلق بعدم استثمار الدولة، الذى يميز جميع الحركات الأصولية المعاصرة، فالدولة بالنسبة لهذه الحركات ليست أداة لتحويل المجتمع، ذلك أن عودة الأفراد إلى الإيمان هى التى سوف تسمح بإعادة تأسيس المجتمع فى الدين، وبذا فإن هذه الحركات إنما تركب موضة وموجة القردنة والمجتمع المدني، وبذا فإن استخدام الأدوات التقليدية للعلمانية، والذى يهدف إلى التعريف الحقوقى للآصرة الاجتماعية، لا يعود فاعلاً. العلمانية الفرنسية وأخيراً يتعرض ثالث مؤلفى هذه الدراسة موريس باربييه على تعريف العلمانية الفرنسية، حيث يؤكد أنه ليس من السهل تقديم تعريف مُرض للعلمانية، حتى وإن كانت هناك بالفعل عدة مفاهيم عنها، ومن المؤكد أن يمكننا القول إن العلمانية تتمثل إما فى الفصل بين الدولة والدين، أو فى حياد الدولة فى الشأن الديني، أو هى استبعاد الدين من المجال العام، فهى تشمل جانباً، آخر، لا يشكل جزءاً من طبيعتها، لكنه يترتب عليها بالضرورة، فالواقع أنه لا يجرى نفى الدين تماماً، وبوسعه أن يكون موجوداً خارج الدولة، أى المجتمع المدني، حيث يمكنه أن يمارس وأن ينظم نفسه بحرية، والعلمانية ليست نفياً للدين إلا فى داخل الدولة، فهى لا تنفى الدين فى أعماق الناس، ولئن كانت العلمانية الفرنسية غير معرضة للتهديد، فإنها تجد نفسها الآن فى موضع مناقشة حادة، لا سيما فى السنوات الأخيرة بعد حظرها الحجاب الإسلامى فى مدارسها.
ــــــــــــــــــــــــ
* هذا عرض لكتاب "حـول الدين والعلمانية" لميكائيل لووى وآخرين، ترجمة بشـير السـباعي، ونشر "دار ميريت"، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006.
 Posted by Picasa