١٣‏/٠٧‏/٢٠٠٦

العراق إطلالة ما غيّب من التاريخ القريب
في رواية {وردة}[1]
محمد الأحمد
بجرأةٍ موضوعيةٍ عاودتْ بطلةً (وردة).. اقتحام حياة الكاتب (صنع الله إبراهيم)، مجددا، من بعد أن كانت تطارده كفتاة أحلام عذرية، يوما بيوم منذ عام (1957)م.. و تطورت كمشروع خيال كتاب، يكتبه الكاتب، ولكن هذه المرة حقيقة بعيدة عن الخيال كما كانت تأتي إليه، في السابق، حضرت بكل مذكراتها السرية، الخاصة، والعامة، و سكنت معه بأنفاسها الحرة في امتداد صفحات الرواية.. لتتواصل معه في النضال ضد كل ما اعمي شطبا من اسطر كتابه السميك الذي شهد أحداثه الروائي شاهد العصر الذي لوعته مقالب الساسة، والقادة، والملوك، والسلاطين، وحرمته حريته من المعنى.. فالتاريخ هو الذي يهاجم الروائي مرة أخرى (القاهرة ما بين عام 1957وعام1959)م.. تاريخ أحلام تجاوزت الحقبة، واستفاضت في الدقة، حيث ترابطت الأحداث العربية.. مرتهنة بتواشج العلاقات الحاضرة في الصراع على زمان ومكان ستراتيجي مؤثر.. نجد الروائي يصل بنا إلى ملخص جدلي مفاده:
- ربما يستطيع أي حاكم جديد أن يطمس التاريخ الذي سبقه ليوم واحد، أو اكثر، ولكن ليس إلى الأبد، ومهما تفاوتت دكتاتورية قوته، وشراسته، فإنه يجهل قول (بيتر جيل
[2]) الشهير بان التاريخ سجال لا ينتهي، وكل أحداث اليوم.. ستبقى بين الطيّات، إلى حين ما، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تطفو فيه محررة نفسها بقوة اكبر، ولن يمنعها أي حاجز أو فاصل مهما كان ارتفاعه، أو متانته.. وتكون شاخصة مسفرة عن الوجه الحقيقي لما قد حدث بالفعل، لتعطي نفسها بكل صدق وغالبا ما يفشل الطمس، فالذين حاولوا ذلك لتعارضها مع ما يريدون تغير مجراه، وفق مصالحهم.. ويتكرر المشهد للحكام الذين نجدهم قد ذهبوا إلى مكان آخر من التاريخ، وابتعدوا مخلفين ورائهم ما حاولوا حجبه من التاريخ، لان التاريخ عصي بسجاله.. كفيل بالحقيقة مهما حاولوه قمعا بآلتهم التي كانت قوية آنذاك، واليوم باتت واهية سهلة الكشف، واهنة المصير.. محصلةٌ وضوحها الكيفية الدنيئة للتحكم بالثروات.. (صراع بعثي في بغداد بين علي صالح السعدي والبكر.. يعتمد الأخير على صدام حسين المعروف باسم جلاد قصر النهاية[3]). والكاتب المصري الستيني (صنع الله ابراهيم) يرصد في روايته احداث العراق الحديث منذ اول ايام تسلم البعث السلطة في العراق، وصارت الرواية (وردة) من الكتب المحظورة.. لانها اطلالة ما غيب من التاريخ، ونظرة على العراق من الخارج، مثلا: (قرأت افتتاحية تشكو من أن الكويت خرجت من كارثة الاحتلال العراقي إلى براثن حرب استنزاف اشق وأدهى، تمص دمائها قطرة، قطرة. فهي تدفع مليارات الدولارات باسم الأمن والتنسيق، والتسليح، والتدريب[4]).. ففي الرواية قصةُ حبّ فيها ليس فيها ما يميزها عن قصص الحب التي حفل بها ديوان العرب، من إثارة وتشويق، و لكنها امتدت على مساحة عريضة من التاريخ العربي بأكثر من عشرين عاما، لتبقى علامتها أنها شاملة التصوير للفكر العربي، وتحولاته الخطيرة التي حددت هويته، ومساره البيّن.. (كانت شهلا أضأل منه حجما، لكن سمرتها كانت خمرية، ولها عينان جميلتان، وشفتان رقيقتان، وصدر ممتلئ[5]) قصةُ حبّ من طرف واحد ما بين الشاب (رشدي) الشيوعي المصري، و الشابة (شهلا) شقيقة صديقه (يعرب) الشيوعية العمانية.. القوية الشخصية والتي تصغر أخيها بسنتين.. وهي شخصية معرفية.. حاضرة البديهية، تقرا بنهم ما تستطيع من كتب هي في حد ذاتها من أمهات الكتب التي نهجت للإنسان العربي يومها من طريق، و مطمح.. فتاة أحلام، ذكية بعينين جميلتين.. جريئة و مغامرة.. حيث كانت تدرس الطب في الجامعة الأمريكية، وغيرتها إلى الفلسفة، ومن ثم أخذها ساح النضال، حيثما يكون للإنسان مطمح يجد نفسه فيه. (في شهر يوليو سقط النظام الملكي في العراق وانهار حلف بغداد في ثوان، بعد أن استولى عبد الكريم قاسم على السلطة[6])، فبدت الأحداث العربية كلها متضحة من خلال مقارنته ما بين السلطنة في السابق، والسلطنة اليوم.. لا يترك أي فارق ليذكره بأمانة المؤرخ الذي يعتمد أداتاً ذكيةً شاملة. بينما كان زائرا في ضيافة ابن عمه الموسيقي وزوجه في (مسقط)، ومنذ الطريق إلى محل سكنه.. يؤكد الكاتب على انه في عقده السادس، و هي أيضا من جيله.. الجيل الذي شهد التحولات الكاملة.. ما بين شرق وغرب.. وما بين شرق أوسط.. مدونا وجهة نظر المثقف الحريص على رأيه: (قال سعودي: أو قل إنها سياسة اللعب على الحبال. في حرب الخليج رفضوا اتخاذ سياسة متشنجة ضد العراق، واكتفوا بإرسال قوات رمزية إلى حفر الباطن[7]).. بذاكرة المناضل الحقيقي الذي مشى بخريطة النضال من القناعة، وحتى الرمق الأخير، ولكن كل الجهود غير الإنسانية ذهبت سدى.. لان المثقف بفطنة الروائي العليم، وبحرية الإبداع، راح يتخيل، وراح يبتكر ثيم عالمه.. متواصلا بالحكاية من آخرها مثنيا على القيمة البطولية السامية، والمبدئية الأصلية.. وان المبدع هو خلاصة العصر الذي يعيشه، فالمثقف في هذه الرواية هو المتحسس الأول لما يحدث، ويتنبأ بالأحداث قبل أن تقع، بل ويعطي النتائج الكاملة من قبل أن تظهر النتائج، والنتائج تكون لاحقة لرؤيته.. مستنتجا محصلة الحقيقية بالكامل، وغالبا ما تكون بدقة ما يكون به صانع القرار السياسي، حيث الكل من مكانه.. ذلك يتحكم بالقرار المصيري، و الكاتب يتحكم بالقرار الذي يكتسب لحما ودما على الورق.. كشخوص لهم الحق في كل ما حولنا من مبررات في العيش الرغيد. وكأنه قد كشف المستور بشفافية من يعرف المعرفة القاطعة. فوجه النضال واحد في كل زمان ومكان، ضد التعسف في الرأي، وقمع الرأي الآخر بتجاهله، أو بتسفيهه، أو تأجليه إلى غير فاعليته.. (مصرع عبد الكريم قاسم على يد انقلاب عسكري. هل ناصر وراء الانقلاب؟[8]). كما كانت المنشورات السرية الشيوعية تتسائل- ربما سجنه (عبد الناصر) بسبب ولائه، أو لانتمائه لما كان يطمح أن يكون.. و (وردة) المناضلة عادت إليه بكل تاريخها المسلوب، المنتهك، وبكل ثقلها الموضوعي، راحت تقرأ تاريخ النضال للقارئ البعيد عن الساحة المتشوق لمعرفة ما حذف من التاريخ بالنار والحديد، تقرأ مسيرة ما قد حدث ولم يستطع أحد مهما كان أن يتجاهلها، أو يعبرها، تقرا البطلة الروائية نيابة عن القارئ، وتبهره بتدفق الوثيقة الحية التي صارت عمودالرواية المكون من مذكرات حية، بصدقها جرئيه بثقلها.. وجادة تمام الجد في كشف مرآة المرأة العربية المناضلة بكل تفاصليها وهي تثابر وتكافح من اجل حياة حرة كريمة، ولم تكن رواية مكان عربي واحد، بل كانت أمكنة عربية في رواية واحدة، تعطي ما كان قد استلب وضاع ما بين المصالح و المطالح على ساحل الأبيض المتوسط، ضاع كما ضاع دفتر ذكريات الحلم العربي المجزأ وفق ما أرادته أن يكون لتك الدول العظمى ووفق ما ترتئيه خريطتها الاستهلاكية بتوازن القوى.. تنقل الصورة الجلية أينما كانت و أينما يتطلب من (وردة) المناضلة أن تسافر، وان تستقر.. من سلطنة عمان إلى مصر واليمن ثم لبنان وسوريا، والعراق ثم الكويت والسعودية.. ولم يكن اختيار المكان لم يكن لرغبة ما، أو سفر من اجل السفر، ولكن قربها كمناضلة وفاعليتها في حركية التاريخ وتنقل صدق وجودها الذي يكشف حركية التاريخ المتوافقة بما يملك من ثروات، و ستراجية موقعيه، و طيبة إنسانية.. تقع سلطنة عُمان في أقصى الجنوب الشرقي من الجزيرة العربية. يحدها (الخليج العربي) شمالاً، و (الإمارات) من الشمال الغربي، و (السعودية) غرباً، و (اليمن) من الجنوب الغربي، و (المحيط الهندي) جنوباً، و (خليج عمان) شرقاً. غزتها البرتغال وسيطرت على مضيق (هرمز) حتى إجلائهم عنها عام 1622 م، وقد دخل البرتغاليون العاصمة مسقط فاحتلوها وحصّنوها بحصونٍ منيعة لا زالت قائمة إلى يومنا هذا. تركها البرتغاليون نهائياً عام 1649م. ثم قويت الدولة (العمانية) بأساطيلها البحرية التي وصلت حتى الساحل (الأفريقي)، وفي المحيط (الهندي)...
رواية (وردة) إحدى أعمدة الفن الواقعي في الرواية العربية، مبدعها كاتبٌ اتسم نهجه الروائي بالجدية، والموضوعية.. فلم ننس له رواية مثل (تلك الرائحة) التي دون فيها ما أحدثه (جمال عبد الناصر) في الشيوعيين المصريين، أو(نجمة أغسطس) تجربة بناء السد العالي في مصر، أو (اللجنة) التي كتب فيها فصلاً عن دكتاتور (بغداد) منذ مطلع السبعينيات، و رواية (ذات) التي لم نستطع أن نقراها بسبب التعتيم و الحصار الإعلامي على مثقفي العراق، (نسخر من حزب البعث وحديثه عن الرسالة الخالدة للامة العربية التي تظهر بشكل متجددة في مراحل التاريخ، وترمي إلى تجديد القيم الإنسانية، ومن زعيمه (ميشيل عفلق) الذي استكتبه الدكتاتور السوري (حسني الزعيم) تحت ضغط المسدس.. تعهدا بالتوقف عن النشاط السياسي
[9]).. فالمثقف هو ذاكرة المكان الذي يكشف بدقة عن المعلن بغير المعلن؟.. أم إن جنس الرواية المتوجة بالوثائق هي قطعة حلوى لابد من التهامها؟.. بكل ما تحوي من شحنات صدق في لغة جزلة تغوي قارئها إلى لذته، فيكتشف انه اخذ إلى مكان آخر تجري عليه الأحداث، حيث الإنسان العربي المستلب من كل ما يتعلق به.. بقي الإنسان هامشا مفكك اللغة، غير قويم الأخلاق.. يعاني من ازدواج كبير في أعماقه، وقد ضاع ما بين الشخصين المتضادين كل ما على الإنسان الحقيقي أن يجده.. يكشف بدقة ما على القوانين الجدية من دقة، و صرامة لتنظيم الحياة المزدحمة بالتخلف، وخاصة كدولة غنية.. تأتي في تسلسلها من الغنى كالإمارات العربية المتحدة، وما غزاها من هجرة عمل، وأخذ يدخلها من هنا، وهناك.. شراذم، أو عكس ذلك.. (القصة العربية ترتفع إلى مستوى مسئولياتها، فتنهض بعبء التعبير والتقييم، والتوجيه لحياتنا الجديدة - د. غالي شكري[10]).. كونها رواية واضحة المقاصد.. اعتمدت الحكاية كعمود بنائي يلم أوزارها للقارئ، و لا يعطيه فرصة لان يذهب عنها حتى التهام السطر الأخير.. بها تشويق، والتشويق صفة الرواية الناضجة، واقعية بقيت في حيثيات ما يحدث داخل البيت العربي الجليل، الذي بقي يعاني من الحاجة لكافة الضرورات التي حرم منها. الميدان العربي، مساحة الروائي الذي أتقن الصنعة الروائية، وراح يوسع فيها ليشمل بها كل الساحة التي تجري عيها الأحداث، الشمولية تلك تحسسناها بعدة روايات عربية- مثل رواية السوري (حيدر حيدر) (وليمة لأعشاب البحر). خريطة أحداث الرواية تجري ما بين مسقط، و صلالة، و في أواخر عام 1992م، تحديدا.. في العاصمة المنتظمة بدقة فرسانها الإعراب، بعد أن رسم الراوي القدير أمكنة الانطلاق إلى تفرعات (وردة) الروائية، وأثاثها البشري الموزع على مساحة عربية شاملة.. واسم (وردة) هو لقب الشخصية المحورية، تجسد امرأة تميل إلى الاعتماد على الذات وتحقق طموحها من خلال العمل، والاجتهاد.. لتروي سيرة مناضلة عربية مكتوبة بين طيّات السجل العربي الحافل بالاستلاب والقمع، و الإخصاء.. فأكد تخصص الروائي بالوثيقة، حيث كمنت خطورة، وجدية التجربة.. (فان الأنظمة بتسلطها وهزيمتها قد خلقت ظروفا لا تزيد على أن تهبط بإنسانية الإنسان العربي إلى حدها الأدنى- شكري عزيز ماضي[11]) حيث الدقائق تمشي متتابعة في تسلسلها المنطقي في تمكن ليس له مثيل.. أهم مدن السلطنة بعد مسقط العاصمة: مطرح، صلالة. عملتها: الريال العثماني. تولت أسرة (آل بو سعيد) الحكم في منتصف القرن الثامن عشر. ثم توالى على الحكم (14) حاكماً من هذه الأسرة حتى عام (1970م).. ونهضت سلطنة عمان بقيادة السلطان (قابوس بن سعيد بن تيمور)، فغير اسم الدولة من (سلطنة مسقط وعمان) إلى (سلطنة عمان).. ولد عام (1940م)، و تلقّى العلوم العسكرية في الأكاديمية العسكرية الملكية ببريطانيا.. خلف والده، (سعيد بن تيمور)، سلطاناً لعمان عام (1970)م، وبدأ عمرانها في عهده. (في العراق أشفق الشيوعيون الذين قاموا بدور رئيسي في إسقاط النظام الملكي أن يحرموا من حقهم في الوجود الشرعي[12])، (كان شئ مثل الذي فعله عبد الناصر.. عندما تحالف مع البعثيين ضد الشيوعيين السوريين توطئة للتفرغ بعد ذلك للأولين[13])، (سقط النظام البعثي في العراق. انقلاب عبد السلام عارف بدعم من حركتنا والناصريين[14])، هكذا دون صنع الله ابراهيم في روايته (وردة)، وصارت الرواية اكثر مبيعا بين قوائم كتب الاستنساخ التي كان يحظر انتشارها ايام العهد الصدامي البائد.

بعقوبة
http://www.postpoems.com/members/alahmed/
[1] رواية صادرة عن دار المستقبل.. عام 2000م
[2]* History is an argument without end.
[3] ص 92 الرواية
[4] ص 13 الرواية
[5] ص 54 الرواية
[6] ص62 الرواية
[7] ص 29 الرواية.
[8] ص 92 الرواية
[9] ص57 الرواية
[10] أزمة الجنس في القصة العربية.. دار الآفاق الجديدة- ص320
[11] انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية.. المؤسسة العربية- ص 98
[12] ص62 الرواية
[13] ص 62 الرواية
[14] ص 93 الرواية Posted by Picasa
مدارات ادونيس
علاقات «تَفْكير»، لا علاقات «تكفير»
أدونيس
- 1 –
كلما قمت بزيارة الى مدينة اسطنبول، وقد زرتها مراراً. بدءاً من منتصف ستينات القرن الماضي، يتضح لي أكثر فأكثر، أن لهذه المدينة خصائص تجعل منها حاضرة إسلامية فريدة.
إنها، من جهة، نقطة وصل عُضويّ بين الطبيعة والثقافة، يتمازج فيها الإنسان والوسط الجغرافي، في شكل حميم.
المدى الجغرافي، مجسداً في البحر الأسود، فالبوسفور، فبحر مرمرة، فالدردنيل، فبحر إيجه، فالبحر الأبيض المتوسط، يُعانق مدى تاريخياً – ثقافياً، يتجسد في الفترة ما قبل الوحدانية، فالوحدانية المسيحية البيزنطية، فأوروبا.
وهذا ما يجعل هذه المدينة تبدو، من جهة ثانية، كأنها أفقٌ مفتوح بلا نهاية، يتداخل فيه الشرق والغرب كأنهما أرض واحدة، أو «بيت» واحد. وهذا مما ربط الإسلام التركي ويربطه، موضوعياً، بالحداثة الغربية، ومما يجعل منه نموذجاً خاصاً – للفكر والعمل، داخل «العالم الإسلامي».
ولئن كانت هناك مدنٌ – عواصم للماضي، ومدن عواصم للحاضر، ومدنٌ عواصم للماضي والحاضر والمستقبل، فإنني أضع مدينة اسطنبول في طليعة هذه المدن الأخيرة. فهي ليست مشروعاً منفتحاً، موضوعياً وعضوياً، على المستقبل وحسب، وإنما تُسهم كذلك في رسم صورته، وفي بنائه.
الإسلام التركي هو، اليوم، السؤال الأول الذي يجب أن يُطرح على الإسلام العربي. لا على مستوى «الخارج»، وحده، وإنما كذلك على مستوى «الداخل»، وليس على السياسة وحدها، وإنما كذلك على الثقافة. خصوصاً أن الإسلام التركي يؤسس لعلاقات إنسانية جديدة، في ما بين أبنائه، من جهة، وفي ما بينهم وبين «الآخرين»، من جهة ثانية: علاقات «تفكير»، لا علاقات «تكفير».
- 2 –
من اسطنبول، ذهبت الى باليرمو، عاصمة صقلية. لا يزال شعاع من الفن العربي يتلألأ فيها. في كنائسها، خصوصاً. في الكاتدرائية الباذخة، مونريال، على الأخص. حتى في باليرمو، يواجهك تساؤل داخلي صامت: لماذا لا نجد في البلدان العربية فناً عربياً يضاهي بقايا الفن العربي في الأندلس، مثلاً، أو حتى في صقلية؟
هل يجب أن يخرج العرب من ديارهم لكي يكونوا مبدعين وعظماء؟ هل معناهم منحصر في «الهجرة» التي تجعل منهم «أفراداً»؟ كأن العرب لا يبدعون إلا بالمشاركة مع غيرهم. كأن ذاتيتهم الخلاّقة لا تنشحذ إلا بالآخر.
كن غيركَ، إذاً، لكي تكون نفسك. الآخر يُعطيك ما ليس فيك. يكملك، فيما يجعلك أكثر معرفة بنفسك وبالعالم.
«الهجرة» هي أن تكون»فرداً» – هي أن تخرج من «الأمة» الى الكون كله. في «الأمة» لا يكون الفرد سيد نفسه، بل تكون هي السيدة. وليس هو من يحدد الغاية من حياته ووجوده، بل هي. هو فيها مجرّد «خلية» في جسم – كتلة. وهويته هي هوية هذا الجسم – الكتلة.
لا فرادة له.
الفرادة تضاد، وتريد «الأمة» أن يكون الفرد معيّة. الفرادة علوٌّ، وتريد «الأمة» أن يكون الفرد «ترسّباً».
- 3 –
هكذا، فيما وراء العام، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وهو بالغ الفاعلية والأهمية، تأخذني «الهجرة» دائماً الى الذاتي الخاص، البالغ الفاعلية والأهمية هو كذلك، كأنه وردة فاتنة في بستان عظيم، فأردد ما يقوله الشاعر الفاتن مالكولم دو شازال: «جسم المرأة الجميل، أفضل القناديل. نوم اثنين معاً يجعل الليل أقل عتمة».
لكن، سرعان ما يستحوذ عليّ الهاجس الذي لا يقل فتنة. لا أشعر انني موجودٌ، حقاً، بالوصل بل بالفصل. وكلما ازددت اتصالاً أشعر أن علي أن أزداد انفصالاً. ألأنَّ في الاتصال شيئاً من «المعيّة» أو «التبعية»؟ ولماذا هذه «الجدلية» الجامحة في العلاقة حتى بين العمق والعمق، العِرق والعِرق، العَصَب والعصب، الشريان وأخيه الوريد؟ هل لأن «الاستقلالية» هي وحدها الوجود الحي، والحر؟
ومن أين يجيئني هذا الطبع: لا أثبتُ. أحيا متحولاً في حركة من الانفكاك المتواصل الى أن يذوب جسدي في موج الكون.
وماذا أفعل؟
كثيراً، شكوت أمري الى الطبيعة. وتمنيت لو أنها أصغت إلي ولو مرة واحدة.
لا تسألوني، إذاً، لماذا أعشق الجانب البدوي، البدائي في هذه اللغة الفاتنة – لغة العرب: امرئ القيس، طرفة، الأعشى الكبير. الشنفرى وتأبط شراً، وبقية الصعاليك.
هذه البدائية بداية دائمة. تحولٌ دائم.
والقِدَمُ هنا ليس إلا قَدَماً لا تتوقف عن الحركة وعن الرقص في قلب الحاضر.
وما تكون الحياة إذا لم تكن هذه البداية الدائمة؟
- 4 –
أنتظر.
بعدُ، لم تجئ الطائرة. باليرمو – فينيسيا. لا تزال اليقظة باكراً تشوّش حاسة اللمس، كما لو أن جسدي لا يزال يتمطى في سرير نومه.
آخذ عصير برتقال. أتأكد أن لدي قوة لتدمير طاقاتي أحارُ في تأويل دلالاتها. من أين تجيئني الرغبة في استنفاد ما أكتنزه؟
بعد، لم تجئ الطائرة.
في القاعة أشخاص مثلي يحملهم النوم في أرجوحة. تعب السهر كمثل غيم على الوجوه. ليس للصباح معنى، حين لا يطلعُ من الليل، عفواً. حين يتحول الى نُعاس وتثاؤب. حين يؤخذ اغتصاباً.
الصباح، تحديداً، مستقبل. ولا يكون، في مثل هذه الحالة، إلا ماضياً. وما أشقى الحياة حين يكون «الغدُ» فيها، هو «الأمس».
تأخّرت الطائرة.
انهار جسر كنت أمدّه بين الواقع ورغبتي. هكذا تحوّلت رغبتي هي نفسها، وانضمت الى الجيش الذي يحاربني.
أقدر الآن أن أقول: أعرف الوحدة.
الأرض كوخٌ يكاد أن يتهدّم عليّ.
السماء بطاقةُ سفر.
والشمس كمثل ثوبٍ شفافٍ على جسد الأرض.
 Posted by Picasa
تحليل الرواية العراقية الحديثة..
انموذجا: غسق الكراكي

تحسين كرمياني
س : ما الذي دفعك لكتابة روايتك الأولى..؟
ج : الطموح لكتابة رواية..!!
(كلود سيمون)
***
تعرف الرواية على أنها عالم متكامل غريب مبهم الجغرافية،يتوجب على السائح/القارئ/معرفة لغة هذا العالم الشائك والشيق بطبيعة الحال،قبل أن يتجشم عناء مغامرة قد تدفعه مفاجأة للحيلولة عدم مواصلة رحلته الاستكشافية لمعرفة تضاعيفه الحافلة بالأسرار،والرواية الناجحة كما يذهب(كولن ولسن)/تبني التوتر ثم تسمح بالانطلاق كالرعد/..ينطلق(سعد محمد رحيم)من شرارة تلهب أفكاره وتشحن رؤيته بممكنات تؤهله لبناء نص روائي حر يناظر ـ وفق الأساليب الحديثة ـ الواقع ويتلاحم معه،هذه الشرارة يطلقها(كمال)الشخصية التي يجدها الروائي مناسباً ليتوارى خلفه،يتمكن وعلى لسانه طرح همومه أو التعبير بحرية أكثر عّما يؤرقه،لقد كان(كمال)شرارة ملهمة منحت الراوي عتبات تقود إلى شواطئ تعج بلآلئ تبحث عن يد مدربة بإمكانها أن تبهر لو تم إعادة صياغتها بما يناسب فضاء السرد الإبداعي،حيوات مشحونة بتوترات حميمة وباقة أحلام متناسقة تبحث عن فضاء أو إناء يستوعبها..يقول(كمال)/حلم حياتي الكبير أن أكتب رواية/ثم يضيف/الرواية تساوي الحياة ومن لم يترك رواية قبل أن يموت كأنه لم يعش/(ص 11).هذا الحلم الكبير يحتاج إلى مرجعيات شائكة،وربما إلى حد ما ثقافة موسوعية وتجارب حياتية مريرة،مع قدر معين من موهبة قابلة للانفجار،إذا ما تمكن من فض المسلك السليم للوصول إلى شاطئ الإبداع،لا يملك(سعد)بديل(كمال)إلاّ قلمه ومشعل مغامرة وقودها رغبة صادقة لمواصلة المشوار،يكتشف أنه مسكون بأرق البحث عن تفاصيل متناثرة في أزمنة وأمكنة وفي ذاكرات قديمة،ثمة سؤال يلح:هل يريد(سعد)تحقيق رغبة(كمال)..؟؟أم هي غيرة فجرها(كمال)فيه لكتابة رواية وجد أشلائها متواجدة لا تكلفه سوى رحلة تقصي الحقائق لملئ حقيبته بالتفاصيل قبل تشكيلها كنص حياة،تشير السيّر الإبداعية أن الروائي الناجح هو من يزور مواقع أحداث روايته إن لم تكن تلك المواقع مواطن طفولته وله فيها مقابر آلام وسلال مشاهد،عليه أن يغامر ويخاطر من أجل هدف نبيل،فكتابة الرواية كتابة تاريخ حقيقي غير قابل للتزوير أو حذف ما هو فاضح وخادش،والروائي عبر منجز تراثي هائل تبين بما لاشك فيه أنه شاهد عصر ومؤرخ الجوانب اللاإنسانية من إفرازات ومظاهر تصنعها تيارات تتسيد رقاب كل مرحلة،هكذا فعل كبار الروائيين قبل أن يخلدوا لنا مآثر لما تزل تثير اهتماماتنا الفكرية وهي بالتالي تواريخ تنضح بالحقائق لعصورها،فزيارة المكان الروائي أو تخيله تمنح فرصة مثالية لتوزيع الأدوار بشكل غير مربك،وتمنح إلى حد معقول الصدق الفني للنص،ولن يفلح من يجلس في غرفة ويستسلم لخياله كي يقوم بدلاً عنه في جلب أو لملمة أجزاء قد تتضاد مع الفكرة أو تتقاطع مع طبيعة الشخصيات وربما تتنافى مع عقول المرحلة وما تليها،هل يفلح طبيب معالجة مريضه دون معاينته والكشف عليه قبل تحرير عقاقير شفاءه،ينطلق(سعد)صوب تلك الأمكنة الطفولية النائية،يبحث عن شخصيات يعرفهم هو ويعرفون(كمال)جيداً ولهم معه حيوات،يمكننا أن نقول أن(كمال)هو(سعد)وهذا ما يشير إليه الراوي(ص 50)/كما أن مدام بوفاري هي فلوبير/يستند على شخصيات يعرفهم،متواضعون متسامحون،لهم ذاكرات عفوية،ما زالوا يتمسكون بفطرتهم وبساطتهم يعيشون في مكان لم يبرح تلقائيته الأولى،مما كسبت الرواية صفة الشعبية،وسمحوا بدورهم بدراية أو بلا دراية الراوي اللجوء إلى جملة أساليب في تناول التفاصيل المتشعبة لماضي(كمال)العاشق والحالم والمغامر،هذه الأساليب طوّعت الأشلاء المبعثرة لخلق فضاء روائياً حفلت بشاعرية دفعت الرواية بمسار غير ملتو إلى أمام،أعتمد على سرد متداخل،تارة يمتد وطوراً يتقلص،تارة يندفع وأخرى يرتد،مما جعل القراءة لاهثة،وجاء كبديل لابد منه عن الإغراء وحافظ على عدم إملالية النص من جهة أخرى،ربما أقترب أو بالأحرى استفاد(سعد)إلى حدٍ ما من مقولة(كولن ولسن)/الأسلوب التوثيقي هو الترياق الكامل للرومانسية/.حسناً فعل حين تجنب السرد الأفقي كونه رحلة مستقيمة في صحراء إن جاز الوصف،ليس ثمة مجال للوقوف أو الرجوع،متاهة ما بعدها متاهة،هذا الفاصل يحيد عنه الراوي بطريقة ماكرة وخادمة لخلق نصه الحافل بالأغراء والتوتر،يلتجأ إلى رسائل(كمال)وحاجياته في صندوق قديم حافظ على يد الكاتب على رائحة(كمال)وكل أحلامه المؤجلة،براءته،مغامراته الغرامية،ما عشق من كتب،قد تكون مقاربة متوازنة وعلانية من قبل الراوي،فاللجوء إلى الذاكرة وما هو راقد فيها من مواقف وذكريات،تقابل اللجوء إلى صندوق يحوي الأشياء الغامضة والسرية،في ذلك الصندوق يتم العثور على أشلاء رواية لم تكتمل،كانت رغبة صادقة ووثابة قمعها الزمن ومنح الفرصة لـ(سعد)البديل الممكن لاستكمال المشروع الحلمي لـ(كمال)،فالرواية مكتوبة أصلاً في الزمن لكن فصولها متناثرة في أمكنة وذاكرات ما تزال متواجدة أو وثائق غير ممحية،أنها تشبه إلى حد ما عملية لصق أجزاء صورة ممزقة،البارع وحده من يرجع الأصل بفراسته ومثابرته،تبدأ اللعبة الروائية بعملية لملمة الجذاذات المتناثرة،عبر لغة صادمة أحياناً تنزلق في سياحة شعرية لتحميل المتن جواً رومانسياً،كون الثيمة تعالج حلماً غاطساً في رحاب علاقات عاطفية وإنسانية حفلت بعفويتها،ومن خلال جملة محمولات ينثرها الراوي في بقع يجدها محطات ضخ الروح لقطار رحلته،بإمكان الدارس أن يستنتج أن(سعداً)هو(كمال)،(من خلال زج طروحاته بخصوص كتابة الرواية غالباً ما تتمرد شخصيات الروايات على مؤلفيها وتصبح صعبة السيطرة عليها)(ص13)ويضيف في(ص26)(المهم هي الطريقة..طريقة الكتابة..الأسلوب)لنرى ما الذي يقوله(كولن ولسن)(الأسلوب يهتم بنفسه عندما يعلم الروائي ما يريد قوله)لنعد إلى(سعد)ما هو دافعه لكتابة هذه الرواية(لأثبت أن كمالاً قد عاش)(ص12)ويؤكد رغبته(استناداً إلى أية قواعد للصيغة يمكنني أن أبتكر كمالاً في رواية)(ص17)تتولد لدينا رغبتان متداخلتان،رغبة(كمال)لكتابة رواية،ورغبة(سعد)لكتابة رواية أراد(كمال)كتابتها،يقترح(سعد)(كمال)النول الذي ينسج حوله رداء رغبته،رغب الراوي أن ينفرد أو يتخلص من فكرة تحقيق رغبة(كمال)لكتابة رواية كي يعيش أبداً كما جاء في مستهل الرواية،(يمكنني أن أبتكر كمالاً في رواية)بيد أنه سرعان ما وجد نفسه يلهث بحثاً عن كل تفاصيل حياة(كمال)الذي بعث جذوة الشرارة ووزع أشلاء حلمه في أمكنة متيسرة الغوص فيها،لا تلين عريكة الراوي،يجتهد لإثبات كينونته وصنعته الروائية(كيف يكون الأمر مع شخصية حقيقية)(ص13)محاولة لإقناعنا أن العمل السردي يتطلب اللجوء إلى الخيال واجباً إلزامياً لصناعة فنية العمل وسحريته،والرواية المفعمة بروح الخلود كما هو مألوف لا تحقق شعبيتها من واقعيتها السطحية،لابد من صنعة محكمة ولمسات فنية تبعث نشوة الانسجام وتجذب الحواس وتستفزها،لابد من فواصل إقناع،موجبات صراع ونتائجها العقلانية،أن تشكل مع المتلقي وسيلة اتصال لا مرئي وحوار ودود،أن تمنح أجوبة لأسئلة قابعة في ذات القارئ الولهان،ثمة حالة غالباً ما يغيبها أو يقصيها الروائيون في الكثير من أعمالهم،حالة توازن الأضداد والنقائض،فالحياة كما هو معروف قائمة على شطرين متكافئين،حرب وسلام،ليل ونهار،خير وشر،بعث وموت،أنثى وذكر،صدق وكذب،يبقى فاصل الجذب بين الطرفين هو المحرك الأساس لديمومة الحياة وجماليتها،لكل فعل رد فعل يساويه قوة ويعاكسه اتجاهاً،كيف لم يلتفت الروائي لهذا الفاصل الحيوي وتوظيفه كحق عن مشروعية الحياة وسر انبعاثها وتجديدها،كثيرة هي الروايات التي فشلت كونها سارت على مسلك أمين،هاملة الجانب الجاذب الموازن والخادم لتفعيل النص وشحنه،فزج شخصيات مضادة تمنح فرص متكافئة لخلق حوارات تحاول هدم فكرة الروائي،شخصيات تعاكس وتخاصم،تفند وتقصي،تخلق صراعات جانبية تحاول إرباك أو عرقلة إيصال الفكرة،مما تفتح أمام المتلقي حلبة صراع،ما بين راوي يريد إقناعه وآخر يخلق أجواء مشوشة له،فالرواية هي(دعني أخبرك ما يحصل)كما هو مشاع،ينتظر المتلقي النتيجة النهائية مشدوداً،كي يضع النص في موقعه المناسب،هنا أيضاً بإمكان الراوي أن يجد فرص متوفرة للمراوغة للتخلص من مطبات وعراقيل الشخصيات المضادة،والتي وجودها ملح لابد منه لتعقيم الرواية من الروتين والملل،وربما فرصة مناسبة لدفع المتلقي ليكون طرفاً مشاركاً أو حكماً على ما يجري،ومساحات أوسع لتبرير المواقف وقيادة سفينة الثيمة عبر مسالك متشعبة هي في النهاية ترسيه في بر الأمان،هذه الفواصل دفعت روايات كبار الكتاب نحو خلودها،روايات دستوفسكي وتولستوي وفولكنر وهمنغواي وكازانتزاكس،كانت حافلة بصراعات فكرية بين شخصياتها،منحتنا فرص ممتعة لنكون مشاركين مستفيدين،(سعد)لم يلتجئ إلى هذا الفاصل،يقترح أسلوباً متناوباً مقتضباً مبتوراً أحياناً،سريع التحول من وإلى،بين ماض مغر يجذب ورغبة تستعر كلما اندفعت الرواية صوب متاهات ومقتربات من ميراث(كمال)،هذا الأسلوب منح الرواية فرص قراءات متوالية هندسية،قبل تكوين الجواب النهائي حول(تحقيق الرغبة)في (غسق الكراكي)،هذا ما يطرحه الروائي(لذا فأن هذه الرواية ستبقى تكتبني ما حييت)(ص150)يزرع الكاتب عدة كاميرات ويستنفر ذهنه،كاميرا لرصد حياة(كمال)كاميرا متنقلة تبحث عن حوارات وعن أسرار دفنتها الطفولة في نهر مدينته أو في ظل أشجار البساتين وربما في طوايا الجدران،كاميرا تطارد رسائله،تلك الأسرار الأكثر شخصية،ويولي الحريق اهتماما ملحوظاً كون الحياة عبارة عن حرائق متلاحقة مشعلها ووقودها الإنسان،لا فرق الرغبة تساوي الحريق لكل مبرراته وأسبابه،كما للنهر دلالته في الرواية كونه دافن أسرار،وكان لـ(كمال)مع رفاقه في أزمنة متباعدة رغبات جرفته النهر في قيظ الظهيرات اللاهبات،كل مكان ممكن أن أحتفظ بشيء ولو برائحة أو كلمة وربما همسة انفلتت من بين شفتيه،صار هدفاً مغرياً لـ(سعد)وهو بطبيعة الحال لا يريد كتابة سيرة مختزلة،أو رواية عابرة،يريدها رواية حياة وحلماً قائماً تؤكد أن(كمالاً)أو(سعداً)قد عاش،التفاصيل الحميمة تزيد من ضراوة النص وتدفعه إلى الأمام،(كمال)باعث شهوة الكتابة هو خارج الزمان والمكان،لم يترك سوى خطوط كافية لتحقيق رغبة،رغبته أو رغبة من يحقق رغبته وربما رغبة من يبغي قراءة رواية،(غسق الكراكي)رواية رغبات،رواية بوليسية،رواية تحري،رواية رحلة بحث عن حالم كبير خنقه ظرف طارئ،رواية رحّال يسافر عبر طرق شائكة،يرغب أن يحقق رغبة،فالرواية كما أشرنا مأمونة مصانة مفاتيح الولوج إلى أسرارها متروكة،وحده(سعد)أمتلك الشفرات السرية،وراح ينقب بطريقته النادرة كي يرتق المعطف الذي أراد(كمال)ارتداؤه كي يخلد،لا فرق إذاً لدى الطرفين،سواء حمل الغلاف أسم(كمال)أو(سعد)فالمتن يحرره الراوي،(كمال)يسرح ويمرح في خياله،يتدخل في أوقات حرجة ليدس معلوماته عن سبل إنقاذ الرواية الحاضرة من مخالب التكرار والهامشية،فهو لديه رغبة سواء لتحقيق رغبة(كمال)أو رغبته الخاصة،حول نظرية كتابة الرواية الحديثة،من خلال أسلوبه المتقافز كما ألمحنا،ليس بالضرورة أن تكون الرواية مدونة،هناك من ترك حياة ملحمية تسرطنت في الأذهان ومضت من جيل لجيل تنتقل شفاهاً،قبل أن يزحف عصر التدوين ويأسر تلك الملاحم في أقفاص الورق ويجردها من التشظي المتنامي عبر الأجيال،قد تتغير الكثير من موجبات الشرارة الدافعة لخلق التوتر،مما يجد الراوي نفسه في دوامة شكوك،قد يغير من فكرته أو رغبته،(ما أعنيه هو أن كمالاً مثلنا جميعاً،كانت له أخطاؤه وشطحاته وخطاياه)(ص26)يمنح الكاتب شخصياته حرية وطرائق تعبير دون أن يتكفل هو التعبير عن ما يريده،لا يجبرهم أو يحملهم أفكاره كما يفعل البعض من كتاب الرواية،يبيح لهم قول ما يبغون قوله حتى لو كانت خارج حساباته الروائية،فهو مشحون بجملة أسئلة،تشكل لديه أرهاصات لا يريد البت بها،وفق قناعاته أنها تربك نمطية السرد وانسيابيته وبالتالي يرتبك الإيقاع،يتجنب الخوض في مستنقع المفاجآت،كنت أرجو أن لا يهرب من ذلك،طالما الروائي عليم بما هيأ من دروب خلاص وسبل إقناع،(السؤال هم ضاغط في النفس،ولو كان متاحاً الجهر بأسئلتنا كلها لكان العالم غير هذا العالم،السؤال يغوي أسئلة أخرى)(ص104)هل حقاً يخشى الروائي قول الذي في باله..؟؟أم عليه أن يبتكر وسائل ومسالك تجنبه الفخاخ المنصوبة كي يعبر عن فكرته دون ترك الإجابات لتؤرق ذاكرة المتلقي وبالتالي يحرمه من فرصة المتعة المرجوة،أم أن(سعداً)يريد أن يؤكد أن ما يدونه ليس رواية أسئلة انسجاما مع متطلبات مرحلة الكتابة،دفعاً للتأويل المضاد،وهو يدرك أن الباحثين عن الروايات غالباً ما ينشدون محطات تعج بأجوبة للذي يحصل في عالم اليوم،لذلك يدفع عن نفسه بهذه الجملة أنفة الذكر شر المتصيدين في بحار الكلمات بحثاً عن مصابيح الحقيقة،الهم يسكن الراوي ويقلقه لذلك يراوغ ويخادع بتنقلاته،فهو يعلم أنه قادم للتعامل مع أشياء قد لا تسر،لابد من وجود أسرار تخدش حياة(كمال)أو حياته كون العرف السردي يؤكد أن كل شخصية هي إطار واهن للسارد،وهو يدرك أنه أسير مجتمع لم يتحرر بعد من خصوصيات الماضي بعد رغم الفاصل الزمني الطويل،مجتمع لامع بيد أنه لا يتعامل بعملة الصراحة،الكاتب يريد أيضاً أن يبعد الأذى عن شخصية(سارة)أيضاً،وهذا ما يدفعنا أن نمسك بشخصيات حقيقية لما تزل حاضرة لذلك يخشى(سعد)البوح بكل ما هو سر أو له خصوصية معينة تخرق الفضاء الأخلاقي كما تحسب له قبل الخوض في رحلته،(سارة)شخصية مهمة وشاهدة للكثير من أسرار(كمال)و(سعد)يشعر بتأنيب ضمير حين يكتشف أن الأسئلة تحدث خدشاً لها(أكون قد دفعتها إلى دائرة التعذيب)(ص104)تأكيد واضح على أن(سعداً)هو(كمال)،وإلا كيف عرف أن أسئلته ستحدث ما تحدث لها،يترك(سارة)وفي لوحاتها الكثير من أجوبة وتفاصيل ودودة مزجتها برغباتها عبر تلاوين عاطفتها،تعبير واضح عن إيروسيتها،عن تمازج رغباتهما الجنسية،هنا لابد لنا أن نترك(سارة)(غسق الكراكي)ونبحر قليلاً باتجاه(سارة)(جون فاولز)في رائعته(امرأة الضابط الفرنسي)لنكتشف أنها أيضاً أسيرة ماضي يكويها،ماض حافل بأسرار مؤرقة،هذه الأسرار دفعها للعزلة في مجتمع صارم يفسر الأخلاق وفق قواعد تحرسها مخالب لا ترحم،ونجد أن الروائي(فاولز)هو من سبق(سعد)في شحن روايته بخصوص نظرية الكتابة الروائية وتوضيح قناعته بالأسلوب المقترح لبناء هرم النص،وهو يقول(أنني أعلم أن سارة في سياق واقعية روايتي ما من شانها أن تكفكف دموعها وتميل إلى أسفل وتقدم فصلاً في الاعتراف)ويقول(ص126) أيضاً(أن نساء عصريات من مثل سارة موجودات ولم أفهمهن قط)،كلتا(السارتان)تحملان أسرار شخصيتين عسكريتين غابا أحدهما برحيل عبر البحر وآخر بالحرب،ولنا حول هذا الآتونين وجهة نظر لاحقة،ما الذي دفع(سعد)إلى هذه المغامرة إذاً،إذا كان دافع(فاولز)هو تبرير عمل إنساني نبيل تطور بفعل ظرف طارئ إلى عمل خادش للحياء في عصر التقاليد الصارمة لمجتمع متزمت هو المجتمع البريطاني،فما هو دافع(سعد)لكتابة(الغسق)واتخاذ شخصية رقيقة مماثلة أو مناظرة ولها نفس الدرجة لكتمان ما يسكنها من آلام..؟؟هل كانت مجرد رغبة محض غير مكتملة من الجوانب القدرية..دفعته اللجوء إلى خيال رحب لم يستخدم فلتر التجنب من السقوط في آبار حفرها كتاب آخرين..؟؟أم فقط أراد أن يحقق رغبة(كمال)كما يدعي مستنداً على قواعد اللعبة الروائية كما يصرح بذلك..!!وهل كان يعلم أن(كولن ولسن)حدد الملامح الأساسية لمفهومية الرواية(يمكن اعتبار الرواية طريقة لاكتشاف قوانين العقل البشري من خلال التجربة الفكرية)يقول(سعد)(وأنا أعرض حكاية كمال مع هذا العالم،أجدني إزاء الأسئلة الوجودية الصارخة،أسئلة الذات،والحياة،والحرية،وآخرين،والغربة،والمصير،والموت)(ص105)مرة أخرى يجد الكاتب نفسه محاصراً بأسئلة هي متعلقات يومية لعالم لا يرحم،نستنبط خشيته التوغل أكثر لمناطق الغموض والتي تعطي تفاسير شتى،يكتفي بتلميح دقيق حول هول الأسئلة،فالذات الإنسانية غالباً ما هو رافض وغامض ومناهض وغاضب،والحياة تمزقها مخالب اليأس ومقامع الوحوش،لا حرية بطبيعة الحال،يكتفي بكلمة(صارخة)لينجو من أجوبة الرواية الحديثة المطلوبة والتي هي سباحة في برك الشياطين،يريد(سعد)(تحقيق رغبة)ليس غير،لابد من مغامرة والمغامرة تغوي وتغري وفيها اكتشاف ما هو صادم ومفيد،أو إخماد شهوة ملحة تعمي بصيرة حاملها وتشحنه برغبة أسطورية لتحقيق الهاجس المقلق،يستفيد الراوي من طبيعة لغته،اللغة الموجزة الموحية،لغة تتشرب بالشعرية كونه يتعامل مع رغبات وتفاصيل حياة،وأنها تحافظ إلى حدٍ معقول على إيقاع السرد،بالتالي تغري القارئ قبل أن تدس محمولات الرواية في ذهنه،كلما تندفع الرواية خطوة باتجاه المرفأ،تتكشف أوراق تحتاج لدربة فنية لصياغة قيافة الرواية،يراوغ(سعد)بين ماضٍ يلهث إليه واللجوء إلى مذكرات هي لعنة زمن وهي أجوبة لأسئلة كان يخشاها أو يريد أن يتحاشاها ضمن السرد،أيام معجونة بالنار والقنابل والموت،والروائي العليم،الضابط لأدواته البنائية،ينأى عن السرد المباشر حين يتعامل مع المواضيع الحيوية والتي هي وقائع مرحلة ساخنة،وصناعة أو خلق أي نص إبداعي يتطلب عصا سحرية،هذه العصا هي الرغبة الصادقة كما يقول(كولن ولسن)(سر نجاح الرواية في القرن العشرين تحقيق الرغبة)،لنعد للمذكرات نجدها فواصل إرهاصات تتوالد إزاء مواقف متأزمة،تنتجها الحياة لحظات التوتر ووجود خرق في القوانين،تشكل فقرات متناثرة لحياة(كمال)أو(سعد)قد تدفع هذه الفقرات الرواية باتجاه نغمة(التعبوية)التي لوثت نتاجات مرحلة ساخنة من عمر البلد،ومن خلال قراءة تحليلية نجد أن تعبويتها جاءت إلى حد مناسب مقنعة،من خلال فقاقيع جرأة يضخها الراوي خلال سرده المتقافز،هذا الأسلوب جعلنا نتوزع بين رغبتين،رغبة معرفة حياة(كمال)ورغبة ما يريده(سعد)قوله من خلال تحقيق رغبة(كمال)عالم شاسع خاضه(سعد)وتمكن بعد رحلة موفقة من ابتكار(غسق الكراكي)رواية عراقية فلتت من نمطية ووتيرة التقليد رغم ما طوت من فواصل يمكن تجاوزها،لم يكتف بتحقيق الرغبتين فحسب بل منح فرصة ثمينة للقارئ أن يحقق رغبته بقراءة رواية ممتعة،هي رواية رغبات ورواية تعليمية،تتناظر إلى حد مدهش مع رواية(قصة غريق)لـ(ماركيز)من حيث الغرض،(ماركيز)أيضاً تستعر فيه رغبة الكتابة عن(غريق)يمتلك حياة حافلة بماضٍ عجيب أطلق شرارة لحظة غرقه،وكان قلم(ماركيز)المجداف الذي أبحر عبر مغامرة شيقة لإنقاذ رواية كانت من الممكن أن تضيع،رواية متناثرة دهم بطلها(الغرق)،لا فرق إذاً بين الحرب الذي لاك(كمال)والبحر الذي لاك غريق(ماركيز)،الحرب الذي أسأم حياة(سارة)(سعد)والبحر الذي بدد أحلام(سارة)(فاولز)البحر والحرب كملة قدرية مهولة تم تغير مكان حرف الباء فيه،ومثلما الحياة حريق فهو بحر مجهول أيضاً،البحر والحرب يلتهمان الإنسان كل بطريقة مرعبة وصادمة،لم تبارح الواقعية ذهن(سعد)نراه يلتجأ إلى البساتين والنهر،النخيل،جبهة الحرب،الصندوق،الأصدقاء،الرسائل اللوحات،فالواقعية هي الرحم المنتج لكل عمل إبداعي،بدون مكان لا حياة،وبلا حياة لا تكون هناك تفاصيل حياة أو رواية،وكان موت(كمال)حالة منحت الرواية العافية ودوام (البقاء)،مثلما فعل اختفى (ضابط)(فاولز)أو موت(غريق)(ماركيز)الشخصيات تموت والحياة تتواصل،كون الحياة هي رواية الروايات،ثمة نقطة حيوية تخدش الذاكرة،محافظة المفتاح المعلق في فروة النخلة على بريقه،كما جاء في الرواية،يجعله(سعد) صامداً بوجه أعاصير الزمن وقسوة المناخات المتلاحقة،ربما غاب عن ذهنه أن النخيل أشجار تتعرض لحلاقة إجبارية كل موسم قبيل التلقيح،كيف تمكن مفتاح من معدن لدن قابل للصدأ أن يجابه مواسم لا ترحم من أمطار غير منتظمة ورياح مغبرة وشمس تنقض بوحشية لتلتهم الحديد واللحم،وكيف فلت من أيدي تسلقت لإزالة توحشات السعف،يبقى سؤال المفتاح مفقوداً في ذهنية المتلقي،وسؤال تشابه(السارتين)وتناظر الرغبتين،رغبة(سعد)ورغبة(ماركيز)،ثمة ميزة مهمة تسقط الرواية في سلة الضعف الفني،هي العجالة في الكتابة،غالباً ما يجد الكاتب نفسه أسير حمى لا تدعه يلتقط أنفاسه،يشعر بهم ضاغط يدفعه لتفريغ حمولة ذهنه،الأمر الذي جعل النهايات للكثير من الروايات مبتورة أو ناقصة وربما منفلتة من سحر الإيقاع وخارج الخطوط البيانية لسياق البناء الروائي،أعتقد أن هذا الخطأ الفادح سببه كما أسلفنا هو عدم إشراك شخصيات مضادة تقوي من متانة البناء الفني وتضخ السلامة الفكرية للنص،هذه الرواية توفرت لها فضاءات ساحرة للسياحة لتشكيل الكثير من الأسئلة وحصد باقة إجابات حول إمكانية تعبئة الرواية التعبوية بأشواك تدفع الغاية باتجاه مضاد لهدف إشاعة هذا النمط الروائي أوان المنازلات الحربية،تمكن(سعد)أن يقول أو يصرف غضبه بهذه الطريقة،كونها المسلك الوحيد لقول ما يبغي قوله،أسر لي الكاتب ذات يوم أن(س.م)كان خبيراً لروايته،كان معجباً بها لحد الذهول،وأعلمه بموافقته على طبعها،لكنه تمكن أن يقصم ظهره،حين أجهز على ضربته الغاضبة في نهاية روايته،أزاح جملة كانت حسب قناعته غاية في الأهمية(من الذي قتل كمال،الله أم نحن أم..!!)أراد الكاتب أن يقول أن أصحاب الأحلام النبيلة هم أهداف أكيدة للموت من قبل صناع الشر،في بلد أجهز على كل مصباح تنوير كونه ينير الضمائر النائمة،نجد أن الرواية تحتاج لجزء ثان،طالما أسئلة الكاتب زمن كتابة الرواية ظلت تؤرقه،بإمكان(سعد)أن يفترض أن(كمالاً)لم يمت،كأن الجثة لم تكن جثته،هذه الحالة كانت واقعية وكم من عائلة دفنت جثث محترقة أو أشلاء تجلب ممزقة داخل صناديق غير مسموح فتحها،جثث كانت ليست لأبنائها،وأنها باب مفتوح لميلاد إدانة أخرى ضد طلاب الحرب ومشعليها،عودة(كمال)صحوة ممكنة لميلاد فجر جديد من خلال رحلة أخرى يقوم هو هذه المرة بحثاً عن أصدقاء رحلوا،أمكنة تم أزالتها،مذكرات لاكتها أنياب التغير وسلبيات الحرب،هذا الأمر متروك لـ(سعد)إن رغب تشظي رغبته الأولى منطلقاً من(المبدأ الأساس للإبداع البقاء للأصلح)(كولن ولسن)لقد كان الترياق الكامل للرومانسية في(غسق الكراكي)هو تحقيق الرغبة،وكانت المغامرة هي بحد ذاتها رواية،رغم اعترافه(كلما سعيت إلى لملمة ما يلوح متشظياً ومبعثراً باغتني كمال من حيث لا أتوقع ليطيح بالبناء كله مشكلاً أبعاداً وزوايا وخطوطاً جديدة ومقترحاً تناغماً آخر،وتعاملاً مبتكراً مع عناصر روايته زماناً ومكاناً وفضاء وتفاصيل حياة)(ص111)،يقول أيضاً(لم تنته رواية كمال بعد)(ص150)أليس هذه شرارة أخرى للانطلاق..؟؟أليس لدى الكاتب جملة أسرار أخرى كما يؤكد من خلال لوحات(سارة)أو حين يتجنب خدش حياتها..؟؟يبرر الكاتب من خلال هذه التمريرات الصريحة أنه لم يبغ إلاّ رواية حياة كما يسميها،رواية تساوي العمر وتجعل كاتبها أن يعيش خالداً،(فهل مات كمال)(ص150)يتساءل،أزعم أن(كمالاً)لما يزل يعيش في ذاكرة الكاتب والمتلقي طالما أجوبة الأسئلة ما تزال غير مكتملة وأن الفضاء الروائي يبيح للنص أن يرتدي أجزاء متلاحقة كأن تكون ثلاثية أو خماسية أو سباعية،أن أسئلة الكاتب هي شرارات جاهزة للانطلاق،هذا إلاّ إذا كان(سعد)يبغي أن يترك قارئه في حيرة وتأويل دائمين عبر قراءات متكررة للوصول إلى خيط الرواية السري،من خلال سكوت(سعد)أزمع أنه يريد ذلك..!!
***
غسق الكراكي ـ رواية ـ سعد محمد رحيم ـ دار الشؤون الثقافية العامة ـ 2000
الرواية نالت جائزة الإبداع للرواية العراقية لسنة صدورها.
 Posted by Picasa


باسم عبد الحميد حمودي

النتاج الثقافي النسائي العراقي
في القرن العشرين

محمد الأحمد

على الدوام يتحفنا الباحث العراقي (باسم عبد الحميد حمودي).. حيث يستل الجوهرة النادرة من خضم الرماد، ويجلي عنها كل ما تعلق بها من سخام. فالجواهر على الأغلب تكون قيمتها ليس بجمالها وحسب. بل بشدة صلادتها، وغالبا ما تكون الجواهر مكنونة تحت غمار من المجاهل، فعلى الرغم من إن المجهود الكبير هو القياس في تثمين أي نتاج، فقد وضع الباحث مقدمة قرر فيها خطة سيره بين كم هائل من الكتب، والدوريات.. مدونا منها كل ما يخص الأدب النسوي العراقي.. ونتيجة المهمه الصعبة، قياسا إلى الفترة الواسعة من القرن العشرين، هذا الذي قطعت الإنسانية بنصفه الأخير في إنجاز المطبوع اكثر من أربعين ضعفا مما كانت تنتجنه البشرية، في السابق، وحتى النصف الثاني منه. حيث دخلت التقنية الحديثة الحاسبية، فنقلت العالم إلى حافة حادة في كل جوانب الحياة.. وقع الكتاب في أربع وثمانين صفحة من القطع المتوسط، وصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2001 م.. هو موسوعة القرن للنتاج النسوي العراقي، و قد حوى قائمة يحتاجها الباحث، و يوفر له الجهد.. لانه الكتاب الذي اختصر قوائم كثيرة، وقدم مادته بطبق من ذهب.. فيها ما وسعت إليه الخطوة، وما طالت به اليد.. متحديا زحمة القرن رغم أحداثه الجسام، والتي غيرت مسيرة الفكر إلى مسافات لم تقطعها التقنية مذ الثورة الصناعية بمثل ما قطعتها تقنية العالم الجديد بمصنوعاته ومطبوعاته خاصة. بعد اتسعت رقعة النشر، وتعددت المنابر.. فصار على الباحث التعب الواضح من اجل أن يمر على كل الدوريات والمطبوعات على مختلف المشارب، والمغارب.. حيث (بلغ عدد الكتب المؤلفة للنساء العراقيات بين عامي 1900-2000م، ما مجموعه (527) كتابا – ص79).. وقد تبوب الكتاب وفق الحروف الأبجدية الهجائية العربية، بشكل تصاعدي و وثق بالأسماء المؤلفات و الدراسات والقطع الأدبية.. كل بمؤلفه.. مبتدءا بـ(الآلوسي/ منال)، ومنتهيا حسب التهجئ العربي بـ(الياسين/ ذكرى).. متضمنا اسم الدار التي صدر عنها المؤلف.. والسنة، والمطبعة التي طبع فيها.. فصار الكتاب موسوعة قرن يستنجد بها الباحث، والدارس.. والدليل المختصر لمحتوى مكتباتنا التي تفتقر إلى مثله مكتبات العالم العربي.. خاصة بعد نادت المدارس النقدية محددة عزلة المرأة في العالم، و بقيت تقول بأنها مقصية عن البحث الحقيقي، وان الذكر قد سجل الكتاب بحكم سلطته وجبروته بكل ما يتعلق برجولته. ومن ذلك تكمن أهمية الكتاب، وخطورة إهمال كتاب المرأة.. بعد أن اجتهدت في العصر الجديد لتثبت بان لها كتبا في مختلف الموضوعات، ولها حضورها وفعالياتها في كل الميادين.. خاصة البحثية، وبتفوق عراقي جليل.. فللمرأة العراقية ساحة فكر قويمة من مختلف العلوم، والآداب.. وللعراق العظيم أعلام نسوية مبدعة لا يمكن عبورها في مسيرة الإبداع والتأليف لخصها الكتاب الذي بين أيدينا، ويستحق الإشادة لما فيه من موضوعية فاعلة في المكتبة العربية، والعالمية.. فالكاتب لم يتحف المكتبة، وحسب، و إنما انصف نتاج المرأة، وجمع النثار من الشتات، وكان الكتاب الذي يستحق بموضوعيته كل اهتمامنا..
الخميس، 14 تشرين الثاني، 2002
 Posted by Picasa