أسئلة العراق الثقافية
خالد سليمان
لوصف الواقع الثقافي العراقي الراهن قد لا نحتاج سوى إلى الواقع ذاته، ذلك ان أي وصف أو سرد تاريخي، رغم القبول به كمنطق خلفي للأحداث، ينقصه شكل أداء اللاعبين الجدد في رسم العراق اليوم. ولإيجاد صورة واضحة عن العراق بين تاريخيته المزدوجة في رحم الكولونيالية والعروبة ومكوناته الطبيعية، وبين حاضره المشدود بثقافة الأقوام والطوائف والمذاهب الخارجة المتحررة ضمناً من دهاليز <البعث السوداء>، يجدر بنا البحث عن آليات إنتاج الثقافة. فأية صورة عن العراق الراهن ثقافياً، ترتهن على فعالية القوى الإجتماعية الجديدة في شكل ظهورها على الأقل. يمكننا القول ان الأسئلة التي تضع الثقافة في أُفق تأجيل دائم، هي ذات الأسئلة التي تضع المستقبل على فكرة إستقدام ملزم على الشروط الإجتماعية الجديدة المتمثلة في قيم إعادة تجميع الطائفة أو المذهب في دائرتي السياسة والدين. ولايمكننا بالتالي الحديث عن اية فعالية مفترضة للثقافة العراقية من دون ربطها بالسياسة <الترميزية> الحالية التي تعتمد بالدرجة الأُولى على واقع أُبتذل فيه شرّ الماضي والحاضر لدرجة الإستقواء بجميع الوسائل المتاحة. هذا لا يعني بالطبع ألقاء اللوم على <لعراق الإجتماعي> بقدر ما هو سؤال عما يحتويه هذا الجسم التاريخي في تناقضاته من ملامح تحرير آخر من حقبة الظلم. فالعراق لم يتحرر من الظلم برأي، ذلك انه تعرض لأشنع مباغتة يومية من القتل والتنكيل بعد تحريره من حكم البعث. بين هذا وذاك نحتاج إلى رؤى جديدة لتفسير العلاقة بين العنف الذي يلف العراقيين اليوم وبين ثقافتهم أو ثقافاتهم بالأحرى. هناك من يلجأ إلى كلاسيكيات عراقية في وصف العنف والوطنية ويقدم تعريفات مدرسية لحال الثقافة العراقية وصورها العكسية والتابعة للمجموعات الإجتماعية. في ذات السياق والحاجة الملحة للبحث عن أسباب غياب ثقافة فعالة في حياة العراقيين، يحاول الكثير من الكتاب العراقيين حصر الثقافة في الحقول الأدبية والفنية والفكرية ولا يبقى السجال الثقافي بالتالي سوى ظاهرة كلامية في المقاهي أو على الصفحات الثقافية. أما الثقافة الفعالة فهي تلك التي تنظم المجتمع وتحرضه وتنزله إلى الشارع. اليوم وفي العراق، يتحكم رجل الدين بملايين من الناس ويحرّك فيهم مشاعر الغضب والفرح والإنفعال من خلال دمج الشعار الديني المتمثل في <القدسي> مع الشعار السياسي المكشوف للموافقة والطعن معاً. ويحتكم رجل الدين إلى سيكولوجية الناس من خلال احتكامه بالرموز الثقافية وحيويتها وديناميكيتها. إذاً هناك ثقافة عراقية تتجسد في الحياة اليومية للناس وفي معتقداتهم وآرائهم ورؤاهم المختلفة للأشياء، وللثقافة هذه جذور تاريخية ودينية وإجتماعية وسياسية وجغرافية أيضاً . ولكن هل بإمكان المثقف، والسياسي أيضاً تأثيث الشارع بالقدر ذاته من القوة؟ أية ثقافة تشكل نواة الفعالية المطلوبة لإرتقاء المسؤولية من <الكلام> إلى التداخل والمشاركة في الشأن اليومي ، ولا نتكلم هنا عن ثورة ثقافية ولا مفاهيم راديكالية كما يريدها <الثوريون المبتذلون>. ما نريده هو التحرر من ثقافة <الأتيكيت> والبحث عن ثقافة عضوية تشمل المفردة اليومية في حياة المواطن ومحاولة جعل الكلمة واقعاً مرئياً ومحكياُ وفق تناقضاته وإشكالياته ومعوقاته ومتطلباته المتمثلة بالخبز والأمن والكرامة. أية ثقافة عراقية الآن؟ وأية ثقافة عراقية غداً؟ الثقافة العراقية اليوم، هي ثقافة التصادم مع الماضي والراهن، ذلك ان تحرير البلد من عصر البعث لم يؤد إلى تحريره من مفردات العنف والتنكيل. وللسبب ذاته نرى ان هناك شرخاً واسعاً بين القوى الإجتماعية الجديدة إذ تستقوي كل واحدة منها بقوتها ونفوذها ورموزها، وبين الواقع المسمى بال<الإنتقالي>. ولئن تواجه الثقافة العراقية اليوم سلطات موقعية دينية ومذهبية وقومية، تترتب عليها إحتمالات المقايضة والترويض ايضا، ذلك ان جميع الحقول الإعلامية والصحافية والأكاديمية تخضع للسلطات ذاتها، يجدر بنا قراءة مشهدنا الثقافي وفقاً لآليات <الوقع الجديد> وتداعياته النكوصية إن صح التعبير. لنتذكر هنا اعتراف <غونتر غراس> بعد مرور ستة عقود على مشاركته في <قوات الحماية> النازية التي لم يعرف حينها حتى معنى هذه المنظمة السرية الألمانية التي ارتكبت أخطر جرائم أثناء الحرب العالمية الثانية. انه إعتراف خطير ويأتي من رجل مهم ليس في الثقافة الألمانية فحسب بل في الثقافة الأوروبية، ذلك انه يعيد إلى الأذهان أعتم مرحلة في تاريخ أوروبا والعالم. ويشارك غراس في إعترافه هذا، في بناء ثقة متأخرة بين ذاكرة ضحايا <الهولوكوست> وذاكرة <الجلادين. ويرجع الفضل في كسر هذا الصمت وإعلان المشاركة في أخطر منظمة نازية إلى المراحل التي تلت الحرب الكونية الثانية في أوروبا إذ تميزت بالمصالحة الإجتماعية والثقافية والسياسية. فلولا تلك المراجعة النقدية في حياة الأوروبيين بعد الحرب على مستوى الفكر والسياسة والثقافة، لما تمخض عن جميع تلك الجرائم إعتراف كهذا برغم إخفائه ستون عاما. في العراق، لاتزال المنظمات السرية البعثية <شغّالة> في جعلها للقتل روتيناً ولازال هناك مثقفون وكتاب يخططون لعودة البعث من المقاهي العربية. تزامناً مع هذا دخلت القوى الإجتماعية الجديدة التي تخوض الصراع على السلطات الموقعية قبل الحلم ب<بغداد>، دخلت في صراع لا تخلو ملامحه من عناصر التنكيل بالذات. بين هذا وذاك، نفتقد لمصالحة وهدوء قد يصبحان مخاضاً لإعتراف طويل، إعتراف نكتب فيه كتاب <الوصمة> العراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق