٣٠‏/٠٥‏/٢٠٠٦

الذكرى الثالثة والأربعين لرحيل شاعر تركيا
ناظم حكمت بشَّر بالحياة ودافع عن الحرية
غزاي درع الطائي
العيش جميل يا صاحبي
(إذا لم أحترق أنا
ولم تحترق أنت
ولم نحترق نحن
فمن ينير الدرب أمام الآخرين
) ..
كلماتك هذه، يا ناظم حكمت، شقَّت طريقها إلى قلوب الملايين من البشر في مختلف بقاع العالم كما يشقُّ البرق السحاب، ولا غرابة في ذلك، فالشعر العظيم له من الجاذبية ما يجعله قادرا على لمِّ شمل البشرية حول أهداف الحرية والحب والسلام، والكلمة الطيبة والصادقة والفاعلة قادرة على جمع الخيِّرين حولها، في كل زمان وفي كل مكان .
كان عليك أن تختار ما بين أن تكون كنارا يردِّد الكلمات التي يريد منه الآخرون ترديدها، أو أن تكون بلبلا، واخترت أن تكون بلبلا لكن دون قفص، ولذلك كان عليك أن تعاني الملاحقة والتهمة والاعتقال والسجن والنفي والغربة، وأكبر نفي لك كان نفي قبرك، الذي ما زال هناك في مقبرة فوفوديفيتشيه في موسكو، بعد أن رفضت السلطات التركية أن تُدفن في أرض بلدك بالرغم من أن وصيتك كانت تنص على ذلك، فمتى تعرف الأرض التركية أن لها قبرا في موسكو عليها استرجاعه واحتضانه ؟ .
كنت يا ناظم حكمت غريب الدار، وما زلت غريب القبر، وفي الدنيا من الغرائب ما يستغربها الأموات لكن لا يستغربها الأحياء، وهذه غرابة في الغرابة .
لم تطعن أصدقاءك من الخلف، هذا ما قلته، وكنت تنال خبزك بعرق جبينك، وهذا ما أكَّدته، وكنت صادقا في ما قلته، وهذا ما استنتجناه، وفي الوقت الذي كانت فيه السلطات التركية تلاحقك وتضيِّق عليك مجال القول والنشر، كانت دواوينك الشعرية تجد طريقها السري إلى المنازل التركية منزلا بعد منزل لتتداولها الأيدي والقلوب بحب وتقدير، وأنت قلت عن نفسك بطريقة سريالية أخّــاذة (كتبت من الأشعار ما يوازي سنة كاملة من الأمطار)، وقلت والمرارة تملأ فمك (طُبعت كتبي بأربع وثلاثين لغة، ولكنني ممنوع في تركيا .. محرَّم في اللغة الأم) ، وقال عنك الشاعر التركي المعروف (اورهان لي) معلِّقا على غزارة إنتاجك الأدبي على الرغم من الاضطراب الذي كان يحيط بك والرياح التي كانت تعصف بك من كل اتجاه (ناظم حكمت : آلة طابعة !)، وقيل عنــك (ناظم حكمت ثالث اثنين : دانتي وشكسبير) ومن قال عنك هذا القول كان منصفا حقا، ولعله قلَّل بقوله هذا من الظلم الذي لحق بك دون وجه حق .
أحببت الحياة، وكنت تردِّد : (العيش جميل يا صاحبي)، وبعد ذلك ليس من الغريب أن يكون أحد عناوين رواياتك (ما أحلى العيش)، أما الموت فلم يشغلك ولم يأت على خاطرك، وأنت تعلم أنَّ ..
(الموتى لا يشغلون أكثر من سنة
ناسَ القرن العشرين)،
كنت تنظر باستنكار إلى ما يحصل للإنسان على يد أخيه الإنسان، فتصيح :
(الأرض نحاس
السماء نحاس
هيا اصدحوا بأغنية شاربي الشمس
هيا فلنصدح معا ..لنصدح)،
وحين سئلت عن جذورك، قلت : (إن جذوري تضرب عميقا في تراب وطني)، وحين سئلت عن أجمل ما سمعته من أصوات، قلت : (إن أجمل ما سمعته من أصوات / صوت طفل يسأل عن النجوم / وهو ينام على ركبتي / في ليلة صيف)، وقلت عن قوَّتك : (قوَّتي في هذه الدنيا الواسعة / ناجمة عن كوني لست وحيدا / فقلبي يخفق مع أبعد نجم في السماء) .
أما الوطن، فهو شيب في الشَّعر وخطوط من الهموم تعلو الجبين :
(يا وطني يا وطني
اهترأت قبعتي التي اشتريتها من دكاكينك
وتقطَّع حذائي الذي حمل تراب شوارعك،
آخر قميص اشتريته من تركيا
صار مقطَّع الأوصال منذ زمن،
يا وطني لم يبق لديَّ منك
سوى سوط الشيب في شَعري،
وما عندي منك غير خطوط من الهموم
تعلو جبهتي
يا وطني يا وطني) .
الميلاد والموت
وُلد الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت في 7 شباط 1902م، في ضاحية من ضواحي اسطنبول اسمها (سلانيك)، ولم يعد إلى مسقط رأسه أبدا (لأنه لا يحب العودات) كما يقول عن نفسه، كان من عائلة ارستقراطية ثرية ومثقفة، فجـدُّه (ناظم باشا) كان يكتب القصائد الصوفية والدينية باللغة التركية العثمانية، التي كانت الكلمات العربية والفارسية فيها تصل إلى 75% منها، وكان أبوه (حكمت باشا) مديرا عاما للمطبوعات، كما كان قنصلا في هامبورغ بألمانيا، ومديرا في الخارجية التركية، وواحدا من أبرز قياديي حزب الاتحاد والترقي، أما أمه فكانت رسامة، وكانت شغوفة بالشعر والأدب، كما كانت تجيد الفرنسية بطلاقة وذات اطلاع واسع بالثقافة الفرنسية وتحب قراءة أشعار لامارتين، وقد تعلَّم ناظم حكمت الفرنسية من أمه .
كتب ناظم حكمت قصيدته الأولى عندما كان عمره (13) عاما، وكان عنوانـها (حريق)، وقد كتبها بعدما رأى بأم عينيه حريقا شبَّ في المنزل المقابل لمنزل عائلته وحوَّله من منزل جميل وعامر إلى رماد متطاير، فتملَّكه الفزع، وكانت تلك القصيدة، وفي الرابعة عشرة من عمره كتب قصيدته الثانية إثر موت خاله في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى .
ومع احتلال الحلفاء مدينة اسطنبول، توالت قصائد ناظم حكمت ضد الاحتلال، وأخذ ينشر قصائده في كبريات الصحف التركية، وفي عام 1920م عَبَر إلى الأناضول واشترك في القتال الدائر هناك، معلنا انتماءه إلــى (جبهة النضال القومي في الأناضول) التي كان يقودها (أتاتورك)، ويُروى أن (أتاتورك) استمع في تلك الفترة إلى قصيدة كتبها ناظم حكمت وسجَّلها بصوته على اسطوانة، وعبَّر عن إعجابه بمضمون تلك القصيدة التي كانت تحمل عنوان (الصفصاف الباكي) وبيَّن أن من شانها إثارة الحماسة في نفوس المقاتلين .
بعدها سافر ناظم حكمت إلى موسكو لغرض الدراسة الجامعية، وهناك درس الاجتماع والاقتصاد خلال السنوات الممتدة ما بين 1921م و1924م، وحين عاد من موسكو، عمل في الصحافة، وشارك في تحرير العديد من الصحف والمجلات مثل (المصور، المطرقة والمنجل، الضياء، والوجود)، وأخذ ينشر قصائده الجديدة في مجلة (التنوير)، وأصدر العديد من الدواوين الشعرية والمسرحيات، وقد كانت لقصائده التي نشرها خلال الأعوام التي تلت عودته من موسكو أصداء واسعة في جميع الأوساط، وإضافة إلى عمله في الصحافة عمل في المطابع، وفي الاستوديوهات .. في مجال ترجمة الأفلام السينمائية، وحين كان يقوم بترجمة فيلم عن احتلال الحبشة، أضاف من عنده على الترجمة (الفاشية تسير في شوارع اسطنبول)، وقام بتغيير بعض مضامين العبارات التي ترجمها، منها ما جاء على لسان القـــائد (هانيبال) وهو يخطب في جنوده ليذكِّرهم بفضل الحضارة الرومانية على الحضارة الإفريقية، فجعله يقول (أيها الجنود الرومان، إنكم في إفريقيا لتمتصوا دماء المغلوبين والضعفاء، فامضوا إلى القتل والسلب وانتهاك الأعراض)، وفي عام 1928م تم اعتقاله ولم يُطلق سراحه إلا في عام 1935م، وفي عام 1938م مُنح جائزة السلم العالمي، وفي ذات العام حُكم عليه مرة أخرى بالسجن لمدة (28) عاما، قضى منها ما يقرب من (13) عاما في سجون تركيا المختلة، وكانت التهمة الموجهة إليه هي تحريض جنود البحرية التركية على التمرد عن طريق قصائده التي وجدوها معهم، وخاصة ملحمـــة (الشيخ بدرالدين) التي نُشرت عام 1936م، وهي عن فلاح تركي ثائر على الحكم العثماني في القرن التاسع عشر، إضافة إلى عدم رضا السلطات التركية عن قيامه بفضح الفاشية التي كان خطرها يتصاعد، الأمر الذي أحقد الرجعية التركية عليه، ولم يخرج من السجن إلا في عام 1950م، وما كان ذلك الخروج ليتم لولا الحملة الدفاعية الكبرى التي قام بها أدباء ومفكرون ومثقفون أتراك وعالميون، عبر العالم، من أجل إطلاق سراحه، ومن الذين شاركوا في تلك الحملة : برترند راسل، جان بول سارتر، بابلو بيكاسو، بابلو نيرودا، لويس أراغون، وغيرهم، وكانت الحملة مشفوعة بإضراب ناظم حكمت عن الطعام وهو تحت ظروف صحية صعبة، ونشير هنا إلى أن الصحافة التركية ومعها الصحافة العالمية راحتا تضغطان بإلحاح من أجل تحقيق إطلاق سراحه، واستمر الضغط إلى أن أُجبرت الحكومة التركية على إصدار العفو العام عن المحكومين السياسيين ومنهم ناظم حكمت .
وبعد إطلاق سراحه، لم يمكث ناظم حكمت طويلا في بلاده، بسبب المضايقات التي راح يتعرض إليها على يد السلطات، ففر عام 1951م على متن قارب مع صديق له إلى رومانيا فموسكو، وأدى ذلك إلى صدور أمر بنزع المواطنة التركية عنه بالاستناد إلى تهمة الخيانة التي وُجِّهت إليه إثر فراره، وأمضى حكمت في موسكو وفي عدد من دول أوربا الشرقية بقية حياته .
ولقد ظل ناظم حكمت خلال السنوات الممتدة ما بين خروجه من السجن عام 1950م ووفاته في 3 حزيران 1963م، حاملا قضية وطنه وهموم الإنسانية في قلبه وضميره، ومواصلا مسيرة عطائه الشعري والمسرحي على ذات الطريق الذي عرفه العالم كله به .
ومن الجدير بالذكر أن ناظم حكمت زار القاهرة عام 1962م بدعوة من اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا في مؤتمره الثاني، وطلب في تلك الزيارة مشاهدة مدينة بورسعيد التي صمدت إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م وردَّت المعتدين على أعقابهم، وكتب هناك قصيدة عن بورسعيد باعتبارها رمزا لمقاومة الغزاة، كان بطلها عامل مصري نحيل وصغير اسمه (منصور) .
الإبداع الأدبي لناظم حكمت
يُعدُّ ناظم حكمت من أعظم الشعراء الأتراك، ومن أبرز شعراء العالم في القرن العشرين، واسمه يُذكر إلى جانب الشعراء العمالقة من أمثال : بابلو نيرودا وغارسيا لوركا ولويس أراغون ومايكوفسكي وغيرهم، وهو إضافة إلى كونه شاعرا : كان كاتبا مسرحيا وروائيا وقاصا وكاتب مقالات ومترجما ورساما، وكان يستحق جائزة نوبل للآداب بكل جدارة لكنه رحل دون أن ينالها .
له أكثر من (15) ديوانا شعريا، وقد صدرت أعماله الشعرية الكاملة في بلغاريا في (8) مجلدات، وله ملاحم شعرية عديدة منها ( الشيخ بدرالدين) و(تارنتا بابو)، وله (15) مسرحية منها : الجمجمة، يوسف وأخوته، الشهرة، أمام الموقد، المحطة، سيف ديمقليس، جوهر القضية، رجل غريب الأطوار، أنا إنسان، وله أيضا ثلاث روايات منها (ما أحلى العيش)، و(4) كتب تضمنت مقالات ودراسات في الأدب والفن والفكر والسياسة، ومجموعة قصص قصيرة للأطفال والفتيان .وقام ناظم حكمت بترجمة العديد من الأفلام السينمائية عن اللغتين الفرنسية والروسية، كما ترجم الجزء الأول من رواية (الحرب والسلام) لتولستوي، وكتب السيناريو للعديد من الأفلام السينمائية .
وقد احتفلت اليونسكو في عام 2002م في الذكرى المئوية لميلاده، وأقيمت ندوات كثيرة في بلدان عديدة عن ناظم حكمت في تلك المناسبة .
 Posted by Picasa
قراءة في قصة أحماض الخوف لجليل القيسي
توظيف الخيال للتعبير عن الواقع
تحسين كرمياني


بات النص الأدبي يشكل هوية سرّية للكاتب،كونه يتوارى في تضاعيفه أو يتخذ من الشخصيات أقنعة لتمرير أو لتحرير ما يؤرقه من هموم أو طروحات فكريه،وليس من السهولة بمكان الوصول إلى الغايات والمداليل ما لم يتم احتواء النص عبر الحفر فيه من عدة جوانب،والكل يدرك أن النص مهما كانت إجناسيته ـ شعراً أم نثراً ـ هو نزيف ذاكرة اكتوت بنيران معرفة صادمة تتقاطع مع ما يجري على أرض الواقع والنص ـ هو افراز لجراحات تولدها التوترات الحياتية والأزمات النفسية،هذه الجوانب لم تهملها التحليلات النقدية النفسية،كون الظروف المحيطة بالكاتب هي الحاضنة لإفرازات العقل، لابد للكاتب من أرضية تحمل بذور أفكاره وتخصبها قبل دفعها إلى سطح الواقع ومهما حاول للنأي من واقعيته تراه يغور فيها ويضيف إليها ،أن دليل الولوج إلى أي نص إبداعي يقترح استحضار جملة أمور،بيئة الكاتب..زمن كتابة النص ..توجهاته الفكرية..أسوق هذه السطور قبل قراءة قصة(أحماض الخوف)للكاتب القصصي والمسرحي البارع(جليل القيسي )لما طوت من نهج مشفّر خلاف ما عودنا عليه في قصصه المنتجة خلال السنوات الأخيرة، كان يسرج عربة خياله ويمخر عباب المتاهات بحثاً عن أسماء سكنت ذات يوم في ذاكرته من خلال موسوعية قراءاته،جرّاء حرصه وانتمائه النبيل لهذين الجنسين الأثيرين وخبرته الثرّة وثقافته الموسوعية وأسفاره ومغامراته وعدم التنازل عن منهجيته التناظرية واللجوء إلى الخيال للتعبير عن الواقع،فهو يستدرج تلك الأسماء التي دفعت بذاكرته إلى إقامة جحيم أسئلة ما يزال يبحث عن أجوبتها عبر محاولاته التجريبية،ليقيم معها علاقات جدلية لا تخلو من مبارزة معرفية لدفع الجنسين على مياه هادئة صوب ما يراه محطة إبداع.
في هذه القصة نجد القاص يمرر نداءً مشفراً ورغم فنيّتها المتعالية عن الكثير من قصصه،جاءت كرسالة محسوسة تنزف بمعاني وتجليات ذاتية تبتغي لفت انتباه الزملاء،زملاءه .

مشارف الحياة
تبدأ القصة(قبل أن يهبط الظلام بدقائق )وهي إشارة تعني الكثير فالوقوف على مشارف الظلام يقابله وقوف الكاتب على مشارف الحياة ،خصوصاً وهو يتذمر من عزلته ومتاعبه الصحية ونسيانه من قبل رفاقه كما يصرح في كل محفل (هيفاء تنتظر الحبيب،سماء ترسل وابل المطر،مشاجرة ما بين رجل مهلهل الثياب وشاب،قطتان تتغزلان،الرجل يقتل الشاب،تستجيب هيفاء لطرقات الباب بلهفة،الرجل يداهمها،يقتلها،ترعد السماء،تموء القطط،طرقات تتواصل على الباب)يتبادل القاص الدور مع شخصية(هيفاء)كون المرأة أكثر فاعلية وحساسية بسبب تكوينها الفيزيولوجي،وهي أكثر ديناميكية لتوظيف الجسد لصالح التعبير،أختار(هيفاء)لتكون لسان حاله وحمّلها همومه وأفكاره وأرادها وسيلة اتصال مع من يعنيهم،ثمة إشارة تحمل دلالة(ألقت نظرة هادئة حزينة إلى السماء)هي نظرات الوداع لمن يحتضر وهي نظرات ألم لزمن يغادر،زمن تجلت فيه حياة حافلة بالمجد والرفقة، تقول(هيفاء):(بمجرد أن أسمع صوته أغفر له هجرانه )يمنح الكاتب فرصة المغفرة رغم دنو الظلام،وهي كناية عن الموت ، في وقت(أصبحت المدينة في قبضة الظلام)وتردد(هيفاء)للاستعانة بالهاتف هو تردد الكاتب وتمسكه الأخلاقي وعدم اللجوء إلى بث ما يسكنه من جراء التهميش والنسيان علناً.

اختيار النص
يختار النص الأدبي لتمرير رغبته،طالما القاص لديه جواز مرور لنزف حياته من خلال شخصيات مؤهلة أن تكون البديلة ومستعدة أن تذهب إلى الجحيم من أجل الكاتب،فهو يرغب أو يحدوه الأمل في عودة الأدباء لمعاودة الاتصال به وتسليط الضوء على ما أنجزه(قبل أن يهبط..)ملك الموت،ومثلما يتوارى القاص خلف(هيفاء)نجده يصرّح بذلك(غير أنها بكبرياء أنثى مجروحة المشاعر تصورت أن مبادرتها هذه تعني ضرباً من الاستسلام )وهي إشارة لما ذهبنا إليه بخصوص رفضه المكاشفة العلنية بما يسكنه من رغبة ملحة،ولكن من المعلوم أن المرأة أسرع نفاداً للصبر،وهل يعني أن القاص الذي تماسك وحافظ على هاجسه..؟؟بدأ صبره يتهشم..!!أن تردد(هيفاء) هو تردد القاص ويمكننا الاستدلال بما تقوله (كيف أفهم أعماق هذا الأديب الغامضة)يمنح القاص الشخصية المحتملة فرصا استقلالية للتعبير عن نفسها إذا أرادت،من خلال الجملة أعلاه،تعلمنا من خلال قصص الكاتب أنه ينشطر إلى شخصيتين،شخصية يستحضرها من الماضي ويتلبسها أمام شخصيته الواقعية،أحياناً ينشطر إلى شخصيتين سواء متناقضتين أم متناغمتين شخصية أنثوية وأخرى ذكورية،كذلك يفعل في(أحماض الخوف )حين يكون هو الحبيب القادم وهو(هيفاء)المكتوية بنيران الانتظار، والحبيب الذي يعنيه،صفوة زملائه في التخصص المهني،يبحث عنهم (جليل القيسي)ويراهم كما تصرح به(هيفاء)بغموض أعماقهم كون زمنه السابق تجلى بصور حياتية ووشائج باتت مفقودة في زمن صار في قبضة الشجارات العلنية والموت السهل وبمساندة مطر لا يستحي من محو اثر الجريمة،في القصة تتفاعل الدراما وفق إيقاع موسيقي وتنسجم مع التوتر المتنامي لـ(هيفاء)وهي رغبات ما قبل الموت،كون حلاوة الحياة لا تكتشف إلاّ أوان الضيق والأزمات الحادة،نكتشف جملة شهوات تتعاضد لرسم الفضاء القصصي الملغوم ـ شهوة امرأة تريد الاتصال بالحبيب،شهوة رجل يبغي القتل،شهوة سماء تريد تفريغ (مائها) لإخصاب الأرض،شهوة قطط تريد دحر البرد المتدفق في عروقها،شهوة ليل يزحف لقهر النهار.

نزعة الاتصال
ووراء هذه الشهوات لابد من شهوة مقصودة ،هي شهوة الكاتب والتي دفنها داخل النص لاعتبارات فنية،وترد جملة(لم يقبل الحب كل هذا الذل)ما الذي يعنيه الكاتب بـ(الذل)وهل الإهمال والإغفال في اعتباراته المهنية ككاتب له زملاء يساوي( الذل )فمحكومية العزلة آيلة للاحتضار واحتدام الرغبات دفعت إلى رغبة الاتصال عبر الهاتف قبل الأحجام عن ردة الفعل السريعة،وما مراقبة (هيفاء)للشجار و إلتماعات نصل المدية إلاّ مراقبة القاص لما يجري من تدهور في العلاقات وتهميش لمن نذر نفسه ووهب عصارة حياته لصناعة الفرح للآخرين،وغالباً ما يلتجأ القاص للمفارقات كي يحافظ على التوتر الفني ولهفة قارئه،وهذه المفارقات هي جماليات قصص الكاتب عبر مسيرته الحافلة بالإبداع ،ابتداءً بـ(صهيل المارة حول العالم )مروراً بـ(زليخا البعد يقترب)و(في زورق واحد)وليس آخرها(مملكة الانعكاسات الضوئية)وفحوى معظم حوارياته ومسرحياته( هيفاء) تهرع استجابة لنقرات على الباب وكلها لهفة أن الحبيب قد وصل اخيرا،والقاص يدرك استحالة تحقيق رغبته وهو يائس من احتمال عودته إلى ذاكرة الزملاء،لذلك يستعين بالمفارقة ويجعل(هيفاء)تصطدم بـ(الرجل) المهلهل الثياب القاتل،وهو انسجام إيقاعي ما بين الظلام الذي أرخى سدوله والموت الذي اغتصب جسد الشاب وانتهاء وقود شهوة (هيفاء)المتمثلة كما أشرنا(محكومية العزلة) للقاص وانتهاء السماء من شهوتها ،هذه التراجيديات صنعت ما يبرر النص وتحويله إلى نص إخباري يشبه إلى حدٍ ما مدوّنة قصدية تنذر بكارثية المستقبل والأسباب كما أشار إليها حسياً لا صراحة في(أحماض الخوف)ومن المعلوم أن ملك الموت يستلم الأمانة برفق وتأن لاعتبارات غيبية،نجد القاص يرسم المشهد التمهيدي للموت أيضاً(هيفاء)تسبح في واديٍ والرجل يبغي استكمال مشروعه التدميري،ويبقى الســـــؤال هل هذا الفاصل يتكافأ مع حوار الموت مع الجسد،تسـقط (هيفاء)في فلك الموت وبنفس آلة القتل التي فتكت بالشاب الذي يساوي براعم الحياة الجديدة والزمن الجديد الذي يبغي إزاحة أغلال الماضي ونجد انتصار الماضي يتواصل على كل ما هو قادم طالما هناك فتور وإهمال وتغافل من لدن الناس تجاه بعضهم بعضا وكان القاص ممن مسه الحيف رغم استعداده المتواصل لإعطاء المغفرة لمن يأتي إليه ولو بعد حين،وموت(هيفاء)موت الرغبة،والتخلص من(هيفاء)من قبل القاتل،هو التخلص من شاهد عيان والذي يساوي القتل المتعمد لإبداع المبدعين وهي طريقة متفشية تتناصر ـ ربما بوعي أو بلا وعي ـ أقلام لإهمال نتاج كاتب ما كي يطويه النسيان،نجد الفواصل المتلاحقة عند المشهد الختامي للقصة هي قيامة جنائزية ـ البرق والرعد ـ مواء القطط ـ رنين الجرس ـ هيفاء..هيفاء.. ـ أليست هذه تشبه حفلات التأبين وراء المبدعين بعد نسيــــــانهم في الحياة ..؟ وهل بــــات التأبين أشبه برمي جمرات السخرية على الجسد ، لقد ظل المبدع(جليل القيسي)أميناً أبياً لمحبوبته(القصة القصيرة)لا مكترثاً بالمجاملات وظل يشق متون الورق كي يوصل(صهيله.. )إلى العالم في زمن بات الإبـــداع سلعة يتلاعب بها كل من هــــب ودب،وما(أحماض الخوف)إلاّ واحدة من القصص التي تؤكد حضور القاص في قلب المشهد الحياتي رغم ما يجري من تهميش وإلغاء للمبدعين،هكذا قرأت القصة وهكذا شعرت بالشفرات السرية استنادا لما رصدته من معاناة الكاتب وعساني لم أحد عن رؤية الآخرين..!!

**)أحماض الخوف ) قصة ـ جليل القيسي ـ الأديب / العدد (2 ) كانون الأول ـ 2003 .
 Posted by Picasa

رياح التغيير
معطيات الواقع السياسي الإقليمي والدولي تشير بأنه لابد للعقل السياسي أن يمتلك زمام المبادرة في احتواء الإشكاليات التي تطفو علي السطح ، من خلال رؤية وبصيرة ثاقبة في تحديد سلم الأولويات التي تتعاطي من خلالها الأطراف الأخري المناهج الإستراتيجية وذلك في رسم الأسبقيات والضرورات التي تشكل حيزا فاعلا لحماية مصالحها المتعددة. لذا فان فن تعاطي الأزمات . يتطلب علما راقيا من الاستنتاجات المنطقية التي تبتعد في أحيان كثيرة من مصطلح الفعل ورد الفعل في استيعاب خطورة الموقف التي تسعي الأطراف الأخري بغية تأجيج جملة من العوامل المتداخلة في أبعادها المرسومة . والتي تؤثر في المسارات العامة التي تنتهجها القيادات السياسية . وهي ترسي عوامل المعرفة والاستغلال الأمثل للتكنولوجيا الحديثة ، بغية توفير حصانة ذاتية للدولة والمجتمع. وذلك من خلال إرساء عوامل التوازن الإقليمي المشروع بين كل الأطراف بعيداً عن سياسة الاحتواء وفرض الوصايا علي الآخرين . لذا فان الملف الإيراني لا يشكل خطرا حقيقيا للآخرين إلا بمديات تدركها الأطراف الأخري . بان إيران تجاوزت الخطوط الحمـــر في امتلاكها لمشروع " الطاقة النووية " وهذه الظاهرة ربما تشكل حالة من الضبابية في عدم فرز حقائق الواقع الحقيقي الذي تعيشه الشعوب وهي تبحث مجدداً عن آليات متقدمة في سلم العلم المعرفي المتعدد الأوجه. وإزاء ذلك ... لابد للقيادة الإيرانية وهي صاحبة حنكة ودراية وخبرة في فن قيادة السلطة إن لا تنساق كثيراً وراء التهديدات الأمريكية لان هذه الأساليب في معاييرها الحقيقية جزء من الحرب النفسية. وأمريكا وخلال تاريخها الحديث تبحث عن مصالحها دون الأخذ بالحسبان الضرورات الأخري. وطالما هناك رؤية متزنة تستوعب مديات وخطورة الموقف والتحسب إليه جيداً . والتعامل مع العالم بروح تمتلك الشفافية والدبلوماسية الهادئة التي تشكل جوهرا أساسا في علاقة إيران بالمجتمع الدولي . وإتباع لغة حوار هادئة مع دول الخليج العربي التي تشكل اغلبها امتدادا جغرافيا لإيران. من خلال خطاب شفاف يوحي بان هنالك ضمانات تاريخية تحكمها عوامل وثوابت الحقوق الأساسية للشعوب. من خلال المواثيق الدولية في حل الإشكاليات بين الدول علي أساس احترام الخصوصية والحقوق السيادية لكل الأطراف. الجانب الآخر: إذا كان المجتمع الدولي يسعي إلي جعل منطقة الشرق الأوسط خالية من أسلحة الدمار الشامل لابد من إعادة ترتيب الكثير من الأوراق التي تساعد في رؤية مستقبل امن لكل الشعوب بعيداً عن احتواء الإرادات. والوصايا علي الآخرين.
عبد الجليل تركي الشاطي - بغداد
 Posted by Picasa

نجـــــــــــــمــــــــــــــــــة
محمد علوان جبر
في الزقاق المقفر ، سار الثلاثة يتقدمهم الرجل البدين المتكور في رداء رصاصي احكمه علي جسده ليتقي برد الصباح ، كانت المرأة تمسك بيد ابنها ، والرجل يراقب حركة ابنته وحفيده الذي كان يتعثر كثيرا في سيره ..." - حالما نهضْت اتجهتْ نحو فراشي .. صاحت حينما تعثرت في قائمة السرير الخشبي الذي كنت انام فيه وكدت اسقط .. تسميني ياولدي ..واحيانا تسميني حبيبي . لمْ اكنْ اعرف ماذا تعني بهاتين الكلمتين او حتي الكلمات التي اسمعها من جدي وهو يصرخ بها انه لايعرف كيف يتكلم .. هناك الكثير من الفرق بينه وبين امي .. ولااعرف لماذا هما متعلقان ببعضهما بهذا الشكل اذ لايفترقان..كنت كلما انهض احس بالبرد الشديد فتقترب مني وحينما اشير الي فمي تصيح .. ايها الشره وهي تدس قرص الخبز في يدي..و تسحبني بخطوات سريعة في محاولة للحاق بجدي الذي يسبقنا دائما في الخروج .. "2يسمونني نجمة ، لم أكن نجمة أبداً ، قبل وفاة امي ايقنت ان ثمة امورا كثيرة تحدث حولي .. تجري بايقاعات لم اكن اعرف مداها ابدا .. بدأت بالحرب وانتهت بالحرب ايضا ، كان زواجي يشبه الصدمة اوصدفة اسرع من نيزك ، اخترق ايامي برهة واختفي ، اذ ودعته وانا مذهولة من الغارات التي كانت تشنها الطائرات علي المدينة ، حمل حقيبته وهو يرتدي الخاكي ، ولم اعد اتذكر من شكله سوي وداعه لي امام الباب الذي اوصدته عنوة بعد ان ابتلعه صمت الشارع فجرا .3لااعلم لماذا تتبعني كظلي هي وابنها الذي يتعثر كثيرا .. تتبعني .. تتبعني .. انها دائما خلفي ، لاتترك لي ايما فرصة حتي لكي اتكلم .. انها تقدم الطعام لي وتبعد كل الاشياء الحادة التي تسبب لي الرعشة في اصابعي وفي اعلي بطني .. انها تمنعني من الكلام او الصراخ .. لكني انقاد اليها n لااعلم لماذا - اتذكر انها ابنتي نجمة .. ولااعلم اين ذهب زوجها حميد .. - العريف حميد -.. اين ذهب وتركها تلاحقني .. هي وابنها المتعثر في سيره والذي يخرج لي لسانه .. انه يضحك مني ..حتي وانا اشد ازرار حذائي .. وكلما تطلعت في وجهه ، كان يغمض عينا ويفتح اخري وهو يشير بأصبعه القذر نحو وجهي .. لااعلم ربما يريد ان يقول ، ان لي عينا واحدة ، انه يسخر مني ، دائما احسه يسخر مني ، سواء بتعمده السير البطيء لكي اضطر الي انتظارهما هو وامه..او بتعمده التحديق المباشر في وجهي ..- أين حميـــــد .... ؟اسأل نجمة لمرات ، واضطر ازاء صمتها ولامبالاتها الي ان اصرخ .. واعيد السؤال لمرات واراها تكتفي بالبكاء .. انها تبكي .. واحسها تسخر مني مثل ابنها الهمجي ..- عودي الي البيت اذن .. الان !لكنها تتجاهل دعواتي .. وصراخي ، وتحث خطاها تتبعني هي وابنها اينما اذهب .. اراقبها وعيني السليمة تذرف ماء .. وان شيئا ما يعتصر صدري الذي يعلو ويهبط .. وتبدأ نجمة نواحها اذ تقترب مني وتمسح وجهي بمنديل ازرق وتمرراصابعها في شعري وصدرها يعلو ويهبط .. انها تفعل مثلي .. تربت علي كتفي كما تربت علي كتف ابنها - المنغولي - هكذا يسميه كل من يشاهده ولااعرف مامعني هذه الكلمة .. كان حينما يري نجمة تقترب مني يتنحي جانبا ويشيرباصبعه الضخم الي اتجاهات في الافق لااعرف لماذا يفعل ذلك . ونمضي انا ونجمه وهي تجر الولد نحو طرقات تؤدي الي طرق اخري .. ندور في دوامات المدينة ، ونعود ليلا الي البيت .. حيث اهمد في فراشي ويبدأ الولد اللعين بالشخير وفمه مفتوح .4هل نواصل العواء ياابي في شوارع نعرفها وتعرفنا ، طرق نمر بها كل يوم .. ونبدأ بالدوران فيها .. نطرق اسفلتها .. وانت تشق الافق بعين واحدة ، وعين اخري اطفأتها الحرب .. تسير بسرعة ولاتترك لنا فرصة التقاط انفاسنا انا والصبي .. تتقطع انفاسنا ونحن نجري خلفك .. وتبدأ بالدوران في تلك الدوائر المغلقة علي فهمي وفهمك .. اذ تصب اللعنات منهمكا تماما في الهذيان المتواصل .. وتلقي في اوج دورانك المعهود اسئلتك الغريبة .. تسألني من اكون .. اذ تنساني وتسأل عن حميد .. اه كم اتمني ان يعود حميد .. لااعلم هل يحق لي ان اتساءل عن عودة حميد الذي قيل لي انه مات في الجبهة .. هكذا بهذا المعني المغلق .. مات حميد في الجبهة ولم يتسني لنا ان نوصل جثته اليكم .. هكذا بهذه البساطة .. اتمني .. وهذا شيء لايعني احدا سواي والصبي الذي ولد بعد رحيل حميد بشهرين .. اتمني ان يجيبك احد ما علي اسئلتك ياابي فانا لااملك اجابات .. علك تقتنع بشيء ..اجابات لاسئلة عني وعن عينك التي فقدتها في الحرب الاولي .. او الوسطي او الاخيرة .. لم اعد اعرف لكنك تسأل دائما لماذا انا بعين واحدة .. واتجاهل صراخك الذي يعلو ويجذب المارة حولنا .. من يعرفك يكتفي بالالتفات الي مصدر الصراخ ويمضي دون اهتمام . اما من لايعرفك فيبقي متسمرا في مكان قريب .. وربما تتشكل حلقة منهم حولنا وانت تواصل الصراخ دون ان تلتفت الي توسلاتي او امتعاضي .. تواصل القاء الكلمات التي يضحك لها الجميع الا انا .. تقول انك لم تنهل من المدينة شيئا ما وانك لم تزل كما انت منذ دخولك اليها اول مرة تمتصك كالاسفنجة تمتص وتمتص دون ان تعرف موقع خطاك ، وحينما لاتجد من يصغي اليك تعود الي طوافك وانت تصرخ .. كان للبارود روائح اقسي من صباحات المدن التي لاتتوقف عن الانهماك باشيائها .. وكان لسع النار يشبه موجة تتصاعد علي كتف موجة .. كان هذا منذ زمن طويل .. لااعلم لماذا انسي ، وقد تتساقط الصور كالمطر الذي اسمعه ينقر سقف المنزل حينما ندخله انا وانت والصبي .. الصبي يفزع من صوت المطر وانا احاول ان اميز بين مايحدث الان ونحن وسط الغرفة المعتمة متقابلين لايكلم احدنا الاخر ، والريح تصفر وهي تضرب السقف الذي يئن .. وكذلك الصبي يئن .. وانت تئن .. حتي نهمد بالتدريج .5لم يبق لي الا نجمة و ( سلام ) ابنها المنغولي .. لااعلم من اسماه .. ربما حميد الذي اختفي منذ زمن طويل .. كان يلبي كل حاجاتها اما اليوم فلا احد سواي - لقد كبر سلام ولم يزل كما ولد .. لايتكلم .. بل يطلق اصواتا يعلن فيها عن حاجاته .. ونجمة المسكينة التي لاتستطيع التخلي عنه وعني .. انها تتبعني اينما اذهب في رحلتي الشاقة بحثا عن شيء ما ضاعت ملامحه في ثنايا تلك الاشياء التي سقطت مع السقوط الاول للضمادات والاجسام الغريبة من رأسي - هأ .. هأ .. .. اجسام غريبة تغزو رأسي وتحاصر مخيلتي وذاكرتي التي تشظت وبات حضورها باهتا احيانا .. بل دائما .. تقول لي نجمة اني في لحظة انسي اسمها واسألها عمن يكون هذا الطفل الكبير الذي لايفارقها .. وتقول اني حالما يغادرني الوهن الذي سببته الاجسام الغريبة اخرج كالمجنون ابحث عن شخص ما لااعرف اسمه .. واسير صامتا وعيناي تجوبان في الزوايا ، والشوارع التي اظنها تؤدي اليه .. اصرخ ( لاتفزع .. لاتهرب .. سأجدك اذا ماامتدت تلك الومضات في رأسي الذي تسكنه - اجسام غريبة - اقصد اذا ماتركت تلك الاجسام فسحة أي فسحة مهما كان حجمها او شكلها علي سطح جرح بحجم الكف في اعلي رأسي .. سأجدك حتي وانا علي هذه الحال .. اقصد .. بعيني الواحدة ) اعلم انها خلفي اينما اذهب تراقب هشاشة وجودي .6-هوبي عبد الرزاق .. معوق حرب من الدرجة الاولي - جثة - تسير .. قدم واحدة وعكازة واحدة .. عين واحدة وزجاجة تشبه العين محشورة في تجويف والام مبرحة من فتحة بحجم الكف في قرن رأسه الايمن .. بمعني رأس بلا فروة .. شعر مزروع علي عجينة تنخسف وتعتدل مع تنفسه .. صعودا او هبوطا .. سيره متعرج .. يعلن حضوره اليومي في الشوارع من خلال عكازة - هذا ماكتبه شخص ما في بطاقة تعريف تخص ابي، بعد خروجه من المستشفي الذي رقد فيه قرابة العام. وفي ورقة اخري عثرت عليها في جيبه . -اصابة في الرأس نتيجة جرح غائر في الجمجمة مما ادي الي دخول اجسام غريبة في رأسه ولااحد يستطيع ان يتكهن بما حدث في عقله من تلف او موت . ربما يصاب بنوبات تؤدي به الي الجنون المطبق .. اوالانفصال التام عما حوله لكنه سرعان مايعاود حالته الطبيعية حالما يصاب بالارهاق الكامل- . وفي احيان كثيرة كنت اتذكر اهتمام حميد به بعد ان اصيب كنت وامي اكثر الاخرين قلقا عليه لاننا نعلم انه في مكان تحول الي مرجل .. وكانت الانباء تؤكد سخونة المكان اعلمنا حميد ان ابي بعيد عن الخطر .. لكن الاشارات كانت تصلنا قوية يؤكدها المذياع وهو يبث المارشات العسكرية وكذلك مرور التوابيت وطوابيرالسيارات التي تشق الافق محملة بالجنود وهم يلوحون للمارة المتحلقين حول مداخل ومخارج المدينة .. ولم يكن وجود حميد الا منقذا لنا وحينما طال غياب ابي كنت ابثه قلقي لكنه كان يربت علي كتفي " - نامي صغيرتي سيصل ابوك .. سيظهر .. " وكان ظهوره اكثر صدماتنا سخونة حينما وصلنا الخبر انه يرقد في مستشفي .7انظر الي هؤلاء الناس المتحلقين حولنا .. انهم ينظرون الينا بجمود يشبه وجه جدي حينما يصمت .. احيانا تسميه امي - بابا - واحيانا تصرخ في وجهه - اسكت هوبي - حينما يسمع كلمة - هوبي - يصمت ، ويبقي جامدا كوجوه من يتحلقون حولنا ، ولكنه يدير وجهه كلما التقت عيناه بعيني ، ويبقي يردد كلمات اسمعها بوضوح مثل " معتوه ابن معتوه" انه لايبالي باحد ، ويأخذ اقراص الخبز من يد امي ويلتهمها .. حينما يتحرك فكه وهو يزدرد الطعام تتحرك كل اجزاء رأسه بدءاً من الحفرة في فروة شعره وصولا الي العين الزجاجية التي تبقي جامدة تحدق في مكان واحد .. بحركة رتيبة صعودا وهبوطا .. وتجلس امي في ركن قرب الجدار الذي يفصل المقهي حيث يبقي هو يحوم حولها ..وهي تراقبه ويقول انه لم يعد يفهم لماذا تمنعه من الجلوس في المقهي او تتركه علي الاقل يتسكع امام واجهات المتاجر الكبيرة التي تبيع كل شيء . يحدق في الزجاج يبحث عن انعكاس صورته فيها ..واقترب منه وافعل مثله .. اطالع صورتي واراقبه اراه يمسد شعره باصابعه ويبتسم وافعل مثله وامد يدي لاتأكد من وجود الزجاج امامي واخرج لساني له ولامي ولبقية من ضوء اراه يطل من بعيد . لكني كلما اتطلع في وجه جدي وهو يطالع اشياء كثيرة .. ربما هو الوحيد الذي يراها .. اراه منهمكا بالحديث معها لم اكن اعرف هل كان يحدثني ام يحدث امي او يحدث الضوء الذي نراه يلوح من بعيد لكن في اعماق السطح اللامرئي للزجاج، وكلما حاولت ان اعرف اعجز عن ذلك فانهمك في محاولة لمعرفة السبب الذي يجعله يهتز بعنف .. اهتزازات تشبه الارتعاشات التي تنتابني حينما اتطلع في اعماق الليل نحو السقف وهو يئن من السقوط القوي للمطر ، اذ ابقي ارتعش طوال الليل كما يفعل هو كلما يقف امام الزجاج حيث اري مياه كثيره تنحدر من عينه الوحيدة
 Posted by Picasa