١١‏/٠٧‏/٢٠٠٧


ابو نوار ... نعم مات من كنا نحبه...
كتابة: بلاسم الضاحي

بأيام عمرك إلا قليلا ً أعدّ عمري دون أن استثني همسة ً واحدة ً أو قلْ خطوة ً واحدةً ، في آخر همسة ٍ كان قوامك النحيف يذرفها لم أكن أدري إنها آخر خطوة ... قلت : ـ أحبها .... واختفيت على براقك الملّون .. الليل كان قد غادرنا للتو لكن حمرة شفقه تلوّن جرحك الصغير وتخفي دمعة ً كثيراً ما ذرفتها على غيرك ، الحق أقول : لم أكن أدري انك كنت تبكيك وأنت تعدّ حقيبتك البيضاء وتحزم بعض قصائد قديمة ٍ ما أبحت َ بها لغيرنا أقسمت عليّ ثلاثا ً أن لا أفجعها ... حينها ضحكنا وتبادلنا الكؤوس على مهل ٍ ، وقتها كان رفيف الملائكة في سنابله ينتظر آخر همسة نحو الخلود وأنت بمقلتين من ذهب ٍ ترسم دوائر حتفك وتقص للمودة أسرار الليمون وأسيجة الورد ورائحة التراب المرشوش .
بشفتين من سكائر وحقيبة من زجاج تتأبطها عند كل مساء نحو دروب البساتين يعينك الرمان وعريشة العنب التي سرقت طولك وتمددت نحيفة تحت سريرك الملكي سريرك الذي ظلّ منفردا طيلة خمسين دربا كلّ حصادك من البساتين .
حين ينتصف مقامك تترك بقاياك لما تبقى من الليل ، نديمك ( البهرزي ) ( 1 ) ودليلك رائحة القداح كنت تحاورها وتشكوها مشاكسة ذاك النديم .
أعرف .. أعرف ..
أن دروب البساتين لم تعد تسلكها من زمن سبقتك إليها البنادق الملتحية والرصاصات السائبة ، غيّرت مناسمها أقدام الغرباء كنتَ حزينا ، حزينا ولولا صورة كنت قد علقتها على حائط غرفتك الطيني لمت من كمد الفراق .
الحياة بهية ..... كنت تقولها وأنت تستلف ثمن علبة السكائر وتعيد تصفح جرائد الصباح من أقرب كشك مجاني .
يتصفحنك النساء كل صباح
وأصدقاؤك الحميمين يقتلهم ضجر الزوجات وهموم الصغار وأنت تقص أسرار نسائك الجميلات ، ما شكوت يوما شظف العيش ولا انحنت قامتك الفارعة وأنت تجلد شوارع البرتقال ، ترقب قميصَك شبابيك الأحبة فتهامسها من خلف ستائر شفافة ، لكَ درب واحد مثل قلبك الخائن ، كم استبدلت من شبابيك المدينة أما كان لك أن تستبدل قلبك ولو مرة واحدة كي لا يظل مثل ( خريسان ) ( 2 ) يوصلك من المحبة إلى سريرك المنفرد ...... كيف قايضت أقراص النوم بنوم أبدي وأنت لا تحب المقايضة ؟ لِمَ نزفتَ ضوءك على عجلٍ ؟ وهناك ..... هناك ..... لا أحد يعرف وجهك الحريري ’ لا شجرات ( خريسان ) تمد لكَ ظلالها كي تستريح ، لست ( ديالاك ) ( 3 ) هناك ولا ناسك تطفح المحبة منهم قبل الكلام ،
لِمَ قايضت صباحات البهاء بليل طويل ...... طويل ،، بلا صحف ٍ ولا صباحات ولا قصائد ؟
أما ندمت ؟؟؟
على مَنْ ستلقي تحية الصباح إذاً
ولمن تعيد الابتسام
مثلما كنت قبل ليلة من الآن ؟
ليلة شاذة امتطيت بها صهوة قلوب ( بعقوبة ) ( 4 ) ..... بعقوبتك التي صنعتها واعدتَ صياغتها قصيدة قصيدة وحملت صليبها رغم كل شئ .....
وارتحلت بعدما لم يبق في قلبها غرزة إبرة تتسع لحزنك الجديد ، ضمرت سواقي الروح .... وتلاشت هيبتها ،،
ارتحلت ...... !!!
ولم يزل موطنك الذي تحلم فيه جثثا تتأرجح سيقانها وتخب بها الشاحنات ، جثث يهربها الليل نحو شوارعك الأليفة .
أياد من ضباب وجذام تبني لنا بيوت المنافي
وتسمعنا أنين الثكالى
ورائحة شواء القلوب .
كفّ مزاحك ....
وأجّل الرحيل ليس لك َ سوى الرضا ببقعة تتحمل إثم محبتك .
وليس لي سوى أن
أف ..ج ..ع ..ها .... !!!
قبل ان أودعك
بمحبة أهامسك أيها العجول ،،
لماذا أودعت أسرارك تحت عروق البرتقال ؟؟
وأودعت تحت شجر البلوط غفوتك الأبديــــــــــة ؟
ماذا أردت ان تقول ............... ؟؟؟؟؟
أشارات /
1ـ ( ابراهيم البهرزي ) شاعر عراقي معروف صديق ابونوار ونديمه كل مساء
2 , 3 ـ نهران في بعقوبة أحبهما ابو نوار
balasimalthahy@yahoo.com

هل مات أديب أبو نوار
كتابة: محمد الأحمد

تبقى الكلمة عاجزة أمام هذه المحنة، وباطلة أمام هذا الذي يحدث والذي لم يعد يهم أحدا، أبدا، إذ مات الصحافي البعقوبي الشاب (أديب أبو نوار1956-2007م)، فالكل صار اليوم مشغولا بالخلاص من هذا الدمار العظيم، الدمار الذي يجري في مدينة بعقوبة كالسيل العرم، ويجرف معه كل المحتويات الحضارية، ولا يترك منها حتى رمادها، وإذ مات فلان أو فلان، فما عاد في الأمر من أهمية قياسا للذي يجري، وخاصة من كان معنى بالكتابة والإبداع، فالرجل قد مات في سرير الإنعاش، وهو يكتب حساسية الألم، وتورم الدماغ، مات بين أحضان أهله، بعد أن أجريت له سبع محاولات إنقاذ لم تفلح، وما من كلمة تبقت من كلماته دون نشر، وبقيت معانيه معلقة ما بين البستان ودفتر كان يرافقه مدونا فيه مراثيه الواقعية، ورحلاته في المدن النائية، وأيضا قصائد لم تكتمل لأنها احتشدت بالشعر، وخانتها الكلمات.. أي الكلمات التي تبقت عالقة في الذهن، وكانت تأمل أن تخرج بحبه، ويتلوها لأصدقائه غاية في إعجابهم، وليس غاية في نشرها.. كتب المقال، وابدي مهارة، وأبدى شجاعة، وقد عَرَّفَتْ الزمان الغراء قرائها بأغلب ما قال، وما أشار، وما أراد كشفه.. مات وكأنه يقول: - بهرزُ الأسى لن يعود، والعمر لم يعد طويلا، فعلام صبحك يأخذني من فراشي مستباحا بوردك، وشايك؛ لعمري الأمنيات الهائلة لم تكد تلوح في الأفق كما كانت تلوح، والزهر المفترش جانبي طرقاتك كلها، لم يعد إلا متاريس بنادق، رب قفر من الدموع يجري إلى الهاوية.. لكنه لم يقل لي لأنني تركته يذهب إلى مشفاه وحيدا، وبقيت مذنبا تتناوبني الهواجس العاصفة، وحقا كنت أراه للمرة الأخيرة. كان الرجل يتخطى المدينة كل يوم دون خوف برغم الخوف، ويتخطى بآماله الكبار، لأجل يشاركني الشاي وحب الموسيقى، وحب الكلمة، ويشاركني بعض الكتب، التي تطبع أصابعنا المتعرقة بصماتنا على صفحاتها، كنت اقرأ وأنسى، او كان يقرا وينسى او كنت اقرأ ولا انسى، او هو يقرأ ولا ينسى، يذكرني بزهر الرمان البهيج، ومجّ السيجارة على مساحة بحيرة البجع، كان يشاركني حب (فيروز)، ولعنة انقطاع التيار الكهربي، كان يشاركني المدى، وخوف الورقة الفارغة.. كأني كنت أقول له: كيف لي أن أرضى بكل هذا البعد، وحيث لا بعد عنك، يا عمراً كيف انضوت عني ثيابك، يوم كبرنا، وتركتنا نحلم بانجاز كلمات تمنينا قولها، ولم نقلها، هل مضيت بي وحيدا دون أن ادري.. إلى أين؟ أحبتي رحلوا تباعا فرادى وجماعات، يا نوارُ أريكتي وصباح قهوة طريفة بالمشي من المحطة إلى شربتُ الزبيب، الأصدقاء من حولي ينفضون وأنت أولهم، كأني ككل يوم اشتري جريدتي وأمرُّ على الأصدقاء، وأولهم الشعراء، بلحظة كهذه تكدس حزنها وبقيتُ محتقنا بالبكاء، والبكاء لا يأتي، أرى دمعتي في وجه (ابو نوار)، أراها ما بين المكتبة والإشراق، أو بين طوله الفارع ورغبته بان يقطف لي برتقال معلقة ما بين النهر، والنهد النافر في كورنيش (ديالى).. الذي أضحى هو الآخر، فرغا من الماء، كأني كنت أقول للنهر دعني اقرأ وجهك، اقرأ أمانيك، فقد عرفتك كما عرفت نفسي، ويوم رايتك، نظرت في مرآتي.. كان أيضا يحب أن يقرا عن المكان، فكتب بذاكرة سردية كل مكان زاره، منحازا إلى الشعر، ومنحازا الى بقايا الأطلال وبقايا المجد.. لك مني أن أنال رضاك الرضا يا بهرز، يا سلافه اسقيها نعمة النسيان، وإصابتي في الهوى منك نعود رمحا على نار ما بين القلب والقلب مساحة من التوهان وزهر الآس.. كأني أواصل القول: مقامي فيك قمر على هدب يسحُّ بالقداح، ونهر من الأشجان يذيبني بغنائه العذب.. وود حييّا ان يقول: - كيف لي أن أنسى يا بعقوب النسوة الآتيات من فضاء البساتين، محملات بالأقفاص المليئة بالحاصل، و كيف لي ان احترق بالأشواق إليك، رب قصر أو بستان غافل، عن الهوى، فملوك الزمان صاروا بالمسدس، وليس بالمحبة: حين جاءوا كالنعاج، و رحلوا من زمان ليس له بدُّ. فأردت ان أقول، ولم اقل: بعقوبُ الزمان عابث بك اليوم، ام بعقوبُ الهوى عاصف بي اليوم، أبعقوب؟؛ سحرك حبري، ودمعك بستاني، فما حيلتي إن تكدس الماء آسناً في الأنهار، ولاستطعت أن أقول بان الأولاد الذين كانوا صغارا غرر بهم الجهاد لأجل يوم الحساب، وقوافل الأيام تنهب الزمان.. بأحقاد الأولين، وتستنزف الأحلام بالدم بدلا عن الياسمين.. وان أقول: صورنا تحركها حرارة الذنوب التي لم نرتكبها.. لكن الرعد: قلبي ببعقوب معلق، أو ببغداد مربوط، وما بينهما جسر من الموت.. فهذا يقتل لحساب مؤجل، وذلك يقطع الطريق الأمين؛ لم أصبح كل من نعرفهم يتركوننا لوحدنا، نقاس الوحدة، والوحدة تجعنا نموت بأكثر من الموت، وعلام افتح الجريدة يوميا ولم أكن قد صادفت الخبر.. بالامس وجدت نفسي افكر في ما آل اليه المرض، وهو لم يترك حبيبته (بهرز) مسقط راسه على الرغم من خرابها، ووجدته يقول بنفسه لي بان خبر موت (أديب أبو نوار) تناقلته الفضائيات اثر مرض عضال: بصوته الأجش الذي تحشرج بدخان السجائر المتواترة بالقلق الكثيف، بينما كنت أقول لنفسي غير مصدق: هل مات الشاعر الرجل الشفيف؟ كم كنت قريبا منه.. وأنا آخر من يعلم ولا املك قولا في حق ذلك الخبر.
‏الثلاثاء‏، 10‏ تموز‏، 2007