شيفرة دافنشي
الرواية والتاريخ المضاد
ساطع راجي
منذ بدايات الفن الروائي كانت الكتابة فيه قريبة من كتابة التأريخ، فهيمنة الفعل السردي على الحقلين عقدت اواصر العلاقة بينهما، الا ان الفن الروائي انشغل بأستمرار بذلك الجزء الغامض والعفوي والحميمي من الحياة الأنسانية، الجزء الذي لاتقوى منهجيات التدوين التأريخي على التقاطه، او الذي ترفضه الحواضن الرسمية لفعل التدوين التأريخي بما لديها من سلطة(اجتماعية، سياسية، دينية) لتتعاضد مع الفعل الثقافي(التدوين) لتكوين ذلك المزاح عن كتب التأريخ الموسوم بـ( المسكوت عنه) ضمن فعل فني هو الرواية، وعنوان رواية شيفرة دافنشي بحد ذاته يشير عبر كلمة (شيفرة) الى محاولة للتملص من السلطة المتحكمة بالفعل التدويني، لتغدو كلمة شيفرة ذات دلالة مزدوجة تعبر اولا عن مصلحة فئة او جماعة في تمرير معرفة ما الى الأجيال اللاحقة من جهة، ومن جهة أخرى تعبر عن وجود جماعة او فئة مضادة لعملية التمرير المعرفي هذا، هذا الصراع الثقافي_ الأجتماعي ينتج ادوات تواصل بديلة عن الادوات المألوفة، وفي الوقت الذي يراد للمعرفة السرية ان تتجه الى المستقبل فأنها تتخذ من اداة اتصالية قديمة(الرسم) منفذا لها، ولكن عبر الأنبثاث الرمزي في لوحات احد اهم الفنانين المولعين بالبحث العلمي والأبتكارات التكنولوجية ( ليوناردو دافنشي )، لتشتبك حقول الدين والسياسة والعلم واللغة والفن في تشييد المبنى الحكائي للرواية.
الفن والتأريخ المضاد:
تبدو سيطرة مفهوم الجمال كقيمة متعالية تحكم العمل الفني وكأنها تتوارى في رواية (شيفرة دافنشي)، وتعبر شخصيات الرواية اكثر من مرة عن استغرابها من الأهتمام المبالغ به الذي تحظى به بعض الأعمال المشهورة، واولئك الذين يجدون القدرة على فهم هذه الأعمال وتبرير اهميتها، انما يلجأون الى البحث عن تأريخ يكاد ان يكون سريا، لتخرج تلك الاعمال الفنية عن كونها مجرد تحف الى كونها ادوات اتصال محملة بالرسائل التي تريد التمرد على سلطات التدوين ولتخرج عن حيز المسكوت عنه، ان علم الجمال هنا يتوارى لصالح الأتصال، هذا الأتصال الذي هو انهمام ما بعد حداثوي يعيد تأويل مفردات التراث الفني وفقا لمناهجه ونظرياته، فتمنحنا الرواية طريقة جديدة للتعامل مع العمل الفني، حيث تبرز المعادلات التكوينية للعمل الفني بما يعيده الى سياقه الثقافي والطبيعي على حد سواء.
المؤسسة الدينية وأنتاج التأريخ :
تنشغل رواية شيفرة دافنشي بمقاومة التاريخ الرسمي الذي سيطرت الكنيسة على انتاجه، الى الحد الذي مكنها كسلطة اجتماعية وسياسية من اعادة صياغة المسيحية كدين يناسب المؤسسة الدينية التي تمثلها، فقد اطاحت بالرموز والآثار التي تركتها الديانات الآخرى وخاصة ما يتعلق منها بالأنثى المقدسة، وما لحق ذلك من اضطهاد للمرأة حول المسيحية الى دين ذكوري، وفرض سيطرة الرجال على المؤسسة الكنسية، بل تؤشر حوارات الرواية الى ان موقف الكنيسة المسيحية من المرأة انتقل الى المؤسسة الدينية للديانات الأخرى القريبة من المسيحية.
وتمنحنا الرواية فرصة التجول في الأديرة والأسقفيات المميزة في التأريخ المسيحي مثلما تمنحنا فرصة التعرف على موجودات اهم المتاحف، بل وتتيح للقارئ الأطلاع على تلك العلاقة الشائكة بين الدين والفن، وذلك الصراع المسكوت عليه بين العقائد المؤسسية العامة والقناعات والأراء الشخصية للفنان، وبالتالي السرديات المتصارعة التي تعبر عن مواقف ومصالح الفئات والجماعات.
ان مفهوم الدين كما يتجلى في الرواية ليس مجرد الأفكار والعقائد، وانما الأرتباطات والمصالح مما يمهد لتحويل الروابط الروحية الى ارتباطات اجتماعية واقتصادية، تخوض التنافسات والصراعات بهدف السيطرة وفرض الأرادة على العالم وتأريخه.
الأنثى المقدسة:
توضح الرواية ان فكرة الثالوث المقدس هي فكرة ذكورية انتجتها المسيحية لأقصاء العنصر الأنثوي من البنية الفكرية والروحية للعالم، رغم ان العنصر الأنثوي كان أساسيا في الديانات العالمية التي سبقت المسيحية، بل ان الفكر الفلسفي اليوناني كان يرى العالم رباعي التكوين( الماء، الهواء،النار،التراب)، وعندما جاءت المسيحية فرضت فكرة التثليث(الأب، الأبن، الروح القدس) وهي جميعا تكوينات ذكورية ، وعملية الأقصاء لم تكتف بأخـــــفاء او أغفال العنصر الأنثوي بل عمدت الى الحاق الدنس به، في توصـــــيف مضاد للقداسة التي كانت تتمتع بها الأنثى في الديانات القديمة، وعند قراءة النصوص المقدسة فأن اقرب شخصية رابعة يمكن ان تضاف الى الثالوث المسيحي بوصفها مشاركة في سرديات التكوين الديني، فأن هذه الشخــــصية ستكون (الشيطان)، الشيطان الذي نفذ الى العلاقة بين الله والأنسان(الذكر) عبر المرأة، كما في السرديات الدينية المقدسة.
ورواية شيفرة دافنشي هي بحث محموم عن هذا العنصر (الأنثى) في الديانة المسيحية من خلال اللوحات الفنية، وبالتالي تدوين تأريخ قمعها المقدس، وما ألحقته الكنيسة الكاثوليكية من تشويه بالرموز الأنثوية، وما رسخته من فكر جنسوي عنصري سمح بالأطاحة بالدور الثقافي للمرأة، وهو ما يكشف عن سلطة سرديات التأريخ الديني، وقدرته على التحكم بالمجتمعات لزمن طويل، وما يمكن ان يحدثه هذا السرد من تغييرات.
البناء الفني للرواية:
ما يميز رواية شيفرة دافنشي هو نجاح مؤلفها (دان براون) في الجمع بين المضمون النخبوي والمتخصص احيانا وتقنيات السرد التشويقي، ما يشكل انتاجا لسرديات ما بعد الحداثة التي تحرص على استثمار التشويق في اكثر المناطق تعقيدا، فالرواية تقوم على حكاية بوليسية تقليدية تتضمن جريمة قتل واتهامات خاطئة ومن ثم البحث عن الجناة والدوافع، وتحتفظ الحكاية بتوترها السردي من خلال الأختزال الزمني حيث تدور الأحداث في ليلة واحدة، لتسيطر تقنية السرد المشهدي، حيث تكون اللغة في اقصى درجات التقنين، وهيمنة الزمن الراهن هو ما يتيح للأنهمام بالتأريخ ان يكون هاجس الرواية، فالأحداث والشخصيات لا تكون مفهومة الا بأستذكار تأريخها، لذلك تحدث وقفات سردية في الزمن لتتاح الفرصة للسرد الأستذكاري، وهكذا يكون القارئ امام عملية ترميم مستمر للأحداث. ولعل هيمنة الزمن الراهن على الرواية يراد بها الكشف عن خضوع الحاضر والمستقبل لسيطرة الماضي، الذي يدفع بصراعاته ورموزه قدما الى الامام، فخلال ما يقارب الخمسمائة صفحة التي يتم فيها سرد احداث يوم واحد تتدفق الازمنة السحيقة عبر تقنية الاستذكار، فلكل شخص ومكان وشيء تأريخ يحكمه، وحتى في اللحظة التي يشعر فيها القارئ ان السرد تحرر من الماضي يجد ان مايحدث ليس سوى استكمال لوجه آخر من وجوه الماضي.
الأهمية الأساسية لهذه الرواية تكمن في تعبيرها عما يمكن وصفه بـ(روح) مرحلتنا الحضارية الراهنة حيث تشترك الحداثة التقنية والاصولية الفكرية في صناعة الحياة في مختلف انحاء العــــالم، بما يشجع النزعة التأويلية التي تريد اعادة النــــــظر في فهم الحضارات القديمة ونصوصها ورموزها
٠٨/٠٩/٢٠٠٦
محددات العقل الخلدوني
أبعاد وعلاقات بين التاريخ والفلسفة الإجتماعية
حسن صالح علي
تكاد أن تكون العملية السياسية في عملية التنظير المستقبلي ترتفع إلى سُلًم التنظير، لتبتعد عن مستواها الوصفي للإحداث التاريخية مع استعراض الإمكانات والاحتمالات المعروضة فكرياً وآيديولوجيأً، ليبقى التعمّق في الفكر الخلدوني هو التعّرف على المقدمات النظرية في السياسة والاجتماع وبالتالي تأثيرهما المباشر على العمران الإنساني والحضاري، إلا انه يبقى النجاح في مجابهة مثل هذا التحدي مغامرة تتطلب شجاعة. وأن دراسة طبيعة علم العمران لهي دراسة جديرة بالاهتمام، وهي رغم اقتضابها، إلا إنها تعرض للمقابلات الممكنة بين علم العمران الخلدوني، وكل من فلسفة التأريخ والفلسفة الاجتماعية لمن جاء بعده، وأخذ بطريقته، رغم تطوّر الظروف الزمانية والمكانية، في نظرياتهم الاجتماعية، لهذا فمن الطبيعي جداً - في عُرفنا - إن تكون هنالك ثمة فوارق فلسفية بين علم العمران وعلم الاجتماع الحديث عما كان سابقاً. لهذا حدّد ابن خلدون في تفسيره للتأريخ والعمران البشري جملة مؤثرات منها: -
1 . إنّ المجتمع الإنساني ضروري من خلال النظرة التفسيرية للتاريخ .
2 . تحديد المعنى البلاغي في رسم المعنى التعبيري من كلمة العمران .. بأنّه حركة تاريخية ذات أطر اجتماعية (وقائع اجتماعية)، وليس كسرد لأحداث تاريخية متوالية ومتعاقبة . وهذا الأمر كان مدعاة لأبن خلدون في تميز فلسفته عن سابقيه ولاحقيه من المؤرخين والباحثين.
3 . إنّ النظرية الفلسفية عنده هي (إصلاحية اجتماعية)، تعطي مدلولاتها الاجتماعية لتتفق على الطبيعة البشرية في تيسير حياتهم اليومية وبناء الإنسانية.
إن مثل هذه المؤثرات وغيرها من التي سيتم الخوض في غمارها لاحقاً في هذه الدراسة، إنما هي نظرات بعيدة عن السرد التاريخي والإحداث الاجتماعية اليومية في حياة الفرد والمجتمع، فكان ابن خلدون في تميزه هذا شاهداً آخر للوقائع الاجتماعية التاريخية وفق الطريقة الخلدونية . فما نقرأه في كتابات فرانسيس فوكوياما، والتي يأخذ على عاتقه التطور التكنولوجي وبالتالي التنظير السياسي المستند على أسس اقتصادية استقلالية، ومن ثم الاحتفاظ بهيكلية الهيمنة العظمى، ومسك العصا من جميع الأطراف دون منازع، الأمر الذي يعطي مثل هذه التنظيرات محدداتها المستقبلية المختلفة لاستدلال الوقائع الاجتماعية الفلسفية واختلافها في الاستدلال الوقائعي الفلسفي في التنظيرات الخلدونية المتشابهة معها والمختلفة في جوهرها الفلسفي العقلاني، لهذا يقول احمد حسن الزيات في كتابة (تأريخ الأدب العربي) : " أستنبط ابن خلدون فلسفة التأريخ، فسماها طبيعة العمران في الخليقة، وفصلّها في كتابه العبر مستشهداً بالحوادث التاريخية الصحيحة، ومُعطياً الدليل الدامغ في سُداد رأيه، وصدق نظره وانفساح ذرعه في الاستنباط والتعليل .. " فالتأريخ لديه يمثل الحياة الاجتماعية بكل مظاهرها، ومن خلاله تناول العمران البشري (علم الاجتماع)، عن طريق تحليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية كالحركات الدينية والاقتصادية والسياسية والفكرية، مُمثلاً بذلك نقطة تحّول في كتابة التاريخ الإنساني، وفي تأسيسه لعلم الاجتماع فيما بعد (العصر الحديث)، فهّز بذلك الفكر الإنساني العالمي قاطبة بوصفه لقوانين تنطبق على المجتمعات بصورة عامة، ومؤكداً في السياق نفسه، بأن الإنسان لا يعيش إلاّ في مجتمع، وإن عاش فيه فلا بدّ أن يعيش مع شريك مكوناً الشعب، والشعب لابدّ له من العيش على أرض لاحتوائه، ولكي تبقى صيرورة العلاقة بين هؤلاء الناس أو المجتمعات البشرية قائمة على أساس إنساني، فلا بدّ من وجود تعاون بينهم من أجل بناء الحضارة الإنسانية ومن أجل قيام هذا الأساس كان هنالك فارق كبير (فكري وزمني) للقضايا المطروحة في خلفياتها التاريخية مثلاً أو اعتباراتها الدينية ومعطيــــــــاتها الاجتماعية والسوسيولوجية فيحسن بنا حرّياً التصّدي لهــــــــا بإمعــــــان، وتقّصي الحقائق بدقة المعلومة، رغم مشقة المهمة ورويّها.
إفساد البصائر والأخلاق
فإذا كان التعّسف والقهر يقودان إلى " إفساد البصائر والأخلاق"، أي إلى إفساد النفوس - كاحتمال كبير - في نظر ابن خلدون، وكوصف واقعي للإنسانية ودعامة اختباريه عنده. إلاّ إن اجتهاد المفكر الانكليزي (جون ستيوارت أميل) في بحثه " أفضل أنواع الحكم هو الحكم البرلماني" قد أعطى دلالة أخرى في سياق بحثه ضد الحكم الديكتاتوري بأنه يفسد الشعب ويقوده إلى الخمول، فيرميهم في أحضان الخنوع، وهذا الطرح الذي يعرضه ستيوارت هو الطرح نفسه الذي يسوقه ابن خلدون في العصبية . ولكن يبقى السؤال الذي يراود الأذهان هل تبقى هذه الاستقصاءات، الأساس الموضوعي لمطلقية الحكم المتعلق بمقابلة (المفكرين) أم هي بمعزل عن بقاء الإحكام المقابلة وعدها ضرباً من التأويلات العاطفية والتفسيرات، أو التغيرات الأيدلوجية ؟ فما هي نيات كل منهم (المبيتة وغير المبيتة) فيما تؤديه من دور في السيــــــاسة وأدلجتها؟ فكيف يمكننا إثبات مدى عصرية التفكير الخلدوني؟
يمكن الإجابة، من خلال تفكير ابن خلدون في العمران البشري والاجتماع الإنساني نفسه، فهو يعطي دلالات عمرانية واضحة لبعدين أثنين يشير إليهما بطريقة (التلميح) وبخصائص فلسفية: -
البعد الأول: هو البعد السماوي .. من خلال سرد ابن خلدون في المقدمة قوله: " وتمت حكمة الله في بقائه (الإنسان) وحفظ نوعه" . وكذلك قوله: " وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم".
البعد الآخر: هو المفهوم الفلسفي للعمران أي المفهوم السوسيولوجي الاجتماعي .. وهو الأساس الذي يُبنى عليه التعاون فيما بين الإنسان وأبناء جنسه.
لهذا لايخفى على الجميع مدى قوة تأثير الفكر الخلدوني على مفكري العقد الاجتماعي والنظريات التي تلته.
عندما كتب طاهر بن الحسين إلى ابنه عبد الله بعد أن ولاه الخليفة العباسي(المأمون)، الرّقة ومصر وما بينهما، كتاباً مشهوراً عهد فيه إليه وأوصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدينية والخلقية، والسياسة الشرعية والملوكية، وحثَه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك أو سوقة، فلما شاع أمر هذا الكتاب، وأعجب به الناس وزاد انتشاراً بين الأمصار، كان حَرياً بابن خلدون قراءته والاقتباس منه بعد الإعجاب به، آخذاً بأولويات موقفه وموقعه من النظام الفكري العام وفق خصوصيات مهمة منها : -
1 - انه أقتبس من هذا الكتاب فصلاً عنوانه (.. في أن العمران البشري لابَد له من سياسة يُنظم بها أمره ..)، فكانت السياسة العمرانية الخلدونية المنتظمة في المكان الصحيح بين أطراف الفكر الاجتماعي.
2 - بروز دور ابن خلدون في سياسته العمرانية من خلال سياسته العقلية.
إن هذه الإشارات الدينية العامة إنّما تمثل المنطلقات البديهية لرجل عاش في عصرٍ ادى فيه الدين أدوارا مأثورة ومهمات حضارية مرموقة، تكون قيمة الإشارة إليها في بيان الموقع الديني للإنسانية في التربية الأخلاقية رغم استحسان ابن خلدون لها في تقليد المعطيات العصرية والحضارية، ولأنّها لا تتصف بالانفرادية، لان الفلسفة الخلدونية عموماً تدخل في حقل الفلسفة الوضعية كثيرة العناصر إلا إنهّا ذات تنوع في المسائل البديهية فكلامه عن علم التأريخ وعلم العمران البشري لايدخله في عداد مؤسسي فلسفة التأريخ فحسب وإنما في عداد مؤسسي علم الاجتماع وعلم الانثروبولوجيا (علم الإنسان) . فيكون قد سبق (غبريال نارد) في تحليله للظواهر الاجتماعية بالتقليد، وسبق (أميل دوركهايم) بالقول بالقسر الاجتماعي، كما سبق كارل ماركس في قيمة الشيء التابعة للعمل المبذول في إنتاجه. ورغم كل ذلك إلا أن ما ركزّ عليه ابن خلدون في (أهمية العمل البشري من حيث هو القيمة الحقيقية للمجتمع) يكون في تقارب بينه وبين ما ركز عليه (آدم سميث) في هذا الاتجاه من الثنائية التقاربية بما أدلى به دلوه ابن خلدون للمقارنة بين (البدوي والحضري / الريفي والمدني) وثنائية آدم سميث الغربية في (التقليدي والحديث / ما قبل الصناعي وما بعدها) . ولكننا في الوقت نفسه نجد مثل هذه المقارنة مختلفة جذرياً بين (ماكس فيبر) باتجاه (إميل دوركهايم)، وما بين ابن خلدون باتجاه ابن المقفع والطرطوشي . لهذا أراد أبن خلدون عرض الاحتمالات الممكنة أمام قارئيه، وترك لهم حرية الاختيار من بينها، فيكون واقع الفرق بين الفكر الخلدوني وفكر فوكوياما، انه أراد تعميق أسلوب التوجيه بالنصيحة من خلال وضع النبرة بالتوكيد. فتراه يتوجه في أسلوبه وفق محددات استقرائية نحو المستقبل واقتراحه تغيير الواقع ومسوغاته وفق منطق عقلي وليس بمعنى المنطق الآخر (الفوكايامي) الانقلابي الجذري على كل ما هو فطري وبما يطرحه هذا الفكر (الهجيني)، ووفق منطق يخدم به فئة ذات سياسة لها أهداف عسكرية واقتصادية، بينما نرى أبن خلدون ورغم تنظيره هذا إلا أنه ما زال يعطي الخيار الأول والأخير للإنسانية في كيفية نجاحها للبناء الحضاري .
من خلال هذا كله يحق لنا أن نسأل: هل جاء ابن خلدون بمفهوم للطبيعة البشرية ؟ وهل أثر هذا المفهوم في عمارته النظرية بشأن المجتمعات البشرية والحضارية ؟ وكيف يؤثر هذا الفكر في مفهوم التغيير والتطّور في الطبيعة الإنسانية ؟
أن المجتمعات هي ثمرة عمل أبنائها في شروط بيئتهم المحلية والإقليمية والدولية. فنظرية المراحل التاريخية الماركسية المعروفة، إنّما هي تجريد عمومي يمكن عده ترسيما لا علاقة له بالتأريخ الفعلي لأي مجتمع من المجتمعات . لأن الإنسان هو العامل الأساسي في التغيير بوصفه المسؤول عن توفير شروط مثل هذا التغيير، بمعنى أن السببية وموضوعية الحوادث التاريخية لاتحدث بقطيعة مع الجانب الغيبي، على غرار الفكر اللاهوتي المسيحي في العصور الوسطى. لكن ابن خلدون نظر إلى مُجمل أحداث التأريخ الإسلامي في - مشرقه ومغربه - وتحليله ما تضمنه من نظرية (العصبية والدولة) هو فلسفة التاريخ، والتي تدعى وفق الفلسفة الحالية ب (الفلسفة التأملية للتأريخ) أو الفلسفة النظرية . ألا أن مصطلح فلسفة التأريخ كان قد أستعمل أول مرة من قبل الشاعر الفرنسي (فولتير) في القرن الثامن عشر الميلادي، وكأنه قصد بفلسفة التأريخ " دراسة التأريخ من وجهة نظر الفيلسوف" أي دراسة عقلية ناقدة ترفض الخرافات، وتنقّح التأريخ من الأساطير والمبالغات، بمعنى التحليل النقدي للتأريخ . بيد أن ابن خلدون كان قد دعا إلى مثل هذا الاتجاه في مقدمته من خلال نقده لأعمال المؤرخين السابقين، الأمر الذي يجعله أسبق من فولتير في تمثيل مفهوم فلسفة التأريخ النقدية، إذ كانت معالجته لأعمال المؤرخين السابقين، وتحّري مناهجهم، ومدى صدقهم في نقل الأخبار، وأسباب أخطائهم مع تزوير بعضهم لبعض الحوادث والوقائع وفقاً لمصالح ذاتية ومحسوبية . كما أن قيامه بوضع معايير نقدية وتقريرية لإثبات الحقائق التاريخية وهي بمثابة تصحيح للمسارات التاريخية، وكتابة تأريخ صحيح إنما تدعى جميعاً في المفهوم النقدي (الفلسفة النقدية) التحليلية. كما برز في الربع الأول من القرن التاسع عشر الميلادي مفهوم آخر لفلسفة التأريخ، إذ عّرف الفيلسوف الألماني هيغل هذه الفلسفة بأنها : " دراسة التأريخ من خلال الفكر " . مانحاً بذلك فلسفة التأريخ بعداً آخراً، تأملياً مجرداً، وهو بعد يختلف عن البعد التحليلي النقدي لوقائع التأريخ الذي أراده فولتير، ومن قبله ابن خلدون . لهذا نتج عن هذه النظرة إن الإنسان يتحكم في مصيره وأنه لايخضع خضوعاً كلياً للحتمية التاريخية والاجتماعية بل أنه يربط هذه الحتمية بالأهداف التي رسمها بالقيم الأخلاقية والدينية. ولهذا فان المنطق عند ابن خلدون يسوغ إدراجه ما فوق الطبيعي ضمن الثوابت الاجتماعية والتاريخية والثقافية والدينية والسياسية في المجتمع العربي، مما يفضي به إلى نظرة إسلامية، والى حقيقة مزدوجة كما هي على طريقة ابن رشد، أو كما هي على طريقة باسكال، أو أوغست كونت، فتكون كحقيقة تكاملية، بحيث إنه لايلغي من حساباته الصوفية إقصاء تكامل المعرفة عند علماء المسلمين عامة، وإنما متمم لها. فترى ابن خلدون يركز على أهمية اللغة وإبعادها وامتداداتها إزاء المادية (التاريخية) مثلما هي عند أكثرية الغرب. ولأن الإنسان في فكر ابن خلدون يتجلى بأهمية منهجية أساسية بكونها الأساس في بناء المجتمع وتطوره، كما أن التعاون المجبر عليه (الإنسان) هو الذي يؤهّل العمران (وهو أحد الثوابت الأساسية في الفكر الخلدوني)، بما يعطي تعبيراً اصطلاحيا ناضجاً عن الحضارة والاجتماع البشري بشكل عام. فرغم تأكيده أهمية وضرورة اجتماع البشر بما يعطي معناه العمراني . إلا إن هنالك ضرورات تكمن في أساس هذا العمران، الا وهي فهمه (العلمي والحّسي) للعمارة، وكيف أنه تجاوزها كظاهرة اجتماعية، ليدقق فيما هو فيزيائي يؤثر في العمارة، مبيناً بذلك الوشائج القوية التي تربطها مع البيئة والمناخ والمحيط الجغرافي، فكشف من خلال ذلك النقاب عن ظاهرة تأثير العمارة بالمناخ والبيئة، ومبيناً أن للمناخ تأثير في لباس البشر، لا بل في طبائعهم وألوان بشرتهم أيضا .
صياغة عقلية فلسفية
فرغم تصّوف ابن خلدون إلا إنّ فلسفته الفكرية كما يراها محمد عابد الجابري تبقى : " صياغة عقلية فلسفية .. ولأن كل ما يبقى من التصّوف هو التجربة الذاتية " . لهذا نعتقد أن لجوء ابن خلدون إلى آيات قرآنية أو معان قرآنية ، مرده هو ليس تأثير الدين في فكره بقدر ما مرّده أحد أمرين يصعب التكهن والبحث حولهما : -
الأول : تهكم ابن خلدون في أمور الدين ونزعته الصوفية التي تجسدت في نهاية حياته، والتي لا علاقة لها بمكتسباته العلمية الفكرية .
الآخر : هو الإبداعية اللاواعية التي تمّيز بها فكره من ذاتية الإلهام لديه.
من سياق هذه المحددات العقلية الإبداعية للفكر الخلدوني نستطيع بثقة تحديد المعرفة الخلدونية بثلاثة محددات معرفية.
1 - المعرفة العقلية (مادية محسوسة) وتشمل المعرفة النظرية والتجريبية والتميزية.
2 - المعرفة الروحانية (النفسانية)، والتي قد لا تدركها الحواس ليكون مصدرها وحياً .
3 - المعرفة الوسطية ما بين الاتصال الروحاني والاكتساب والتمّرن على كشف حجاب النفس .
لهذا لايمكن صياغة رؤية عقلانية للتأريخ، إلا من خلال اتخاذ موقف بذاته ، والنظر أليه من الداخل كرؤية شمولية وهذه النظرة هي التي تمكن الفيلسوف التاريخي والاجتماعي من النظر إلى الحوادث في ترابطها وتماسكها، وتمكنّه من إسقاط العلاقات السببية بين الحوادث في المستقبل ليتجاوز بعدها حدود توقع المستقبل منتهياً إلى طرح الفكرة المستوحاة واقعياً . ومثل هذه الطريقة في صياغة فلسفة التأريخ إنمّا نجدها في الفكر الخلدوني العقلاني . لكننا نجد طرحا آخر بهذه الطريقة فلسفياً في (نهاية التأريخ والإنسان الأخير) بغاياته الامبريالية لفوكوياما، إنما تعتمد على تنظير تأريخي مزّيف، ما دامت عملية التنظير هذه تتم من منظور وضعي لأن الفكر المنّظر له بما لا يملك مقوماته على أرض الواقع في تصوير غاياته الذاتية والمستقبلية، إنما يقف عائـــقاً أمام أزمة قاتلة للعقل تختلف عن أزمة العقل المنتج للمعرفة الإنسانية في بناء الإنـــــــسان، وبالتالي بناء المجتمع ككل.
أبعاد وعلاقات بين التاريخ والفلسفة الإجتماعية
حسن صالح علي
تكاد أن تكون العملية السياسية في عملية التنظير المستقبلي ترتفع إلى سُلًم التنظير، لتبتعد عن مستواها الوصفي للإحداث التاريخية مع استعراض الإمكانات والاحتمالات المعروضة فكرياً وآيديولوجيأً، ليبقى التعمّق في الفكر الخلدوني هو التعّرف على المقدمات النظرية في السياسة والاجتماع وبالتالي تأثيرهما المباشر على العمران الإنساني والحضاري، إلا انه يبقى النجاح في مجابهة مثل هذا التحدي مغامرة تتطلب شجاعة. وأن دراسة طبيعة علم العمران لهي دراسة جديرة بالاهتمام، وهي رغم اقتضابها، إلا إنها تعرض للمقابلات الممكنة بين علم العمران الخلدوني، وكل من فلسفة التأريخ والفلسفة الاجتماعية لمن جاء بعده، وأخذ بطريقته، رغم تطوّر الظروف الزمانية والمكانية، في نظرياتهم الاجتماعية، لهذا فمن الطبيعي جداً - في عُرفنا - إن تكون هنالك ثمة فوارق فلسفية بين علم العمران وعلم الاجتماع الحديث عما كان سابقاً. لهذا حدّد ابن خلدون في تفسيره للتأريخ والعمران البشري جملة مؤثرات منها: -
1 . إنّ المجتمع الإنساني ضروري من خلال النظرة التفسيرية للتاريخ .
2 . تحديد المعنى البلاغي في رسم المعنى التعبيري من كلمة العمران .. بأنّه حركة تاريخية ذات أطر اجتماعية (وقائع اجتماعية)، وليس كسرد لأحداث تاريخية متوالية ومتعاقبة . وهذا الأمر كان مدعاة لأبن خلدون في تميز فلسفته عن سابقيه ولاحقيه من المؤرخين والباحثين.
3 . إنّ النظرية الفلسفية عنده هي (إصلاحية اجتماعية)، تعطي مدلولاتها الاجتماعية لتتفق على الطبيعة البشرية في تيسير حياتهم اليومية وبناء الإنسانية.
إن مثل هذه المؤثرات وغيرها من التي سيتم الخوض في غمارها لاحقاً في هذه الدراسة، إنما هي نظرات بعيدة عن السرد التاريخي والإحداث الاجتماعية اليومية في حياة الفرد والمجتمع، فكان ابن خلدون في تميزه هذا شاهداً آخر للوقائع الاجتماعية التاريخية وفق الطريقة الخلدونية . فما نقرأه في كتابات فرانسيس فوكوياما، والتي يأخذ على عاتقه التطور التكنولوجي وبالتالي التنظير السياسي المستند على أسس اقتصادية استقلالية، ومن ثم الاحتفاظ بهيكلية الهيمنة العظمى، ومسك العصا من جميع الأطراف دون منازع، الأمر الذي يعطي مثل هذه التنظيرات محدداتها المستقبلية المختلفة لاستدلال الوقائع الاجتماعية الفلسفية واختلافها في الاستدلال الوقائعي الفلسفي في التنظيرات الخلدونية المتشابهة معها والمختلفة في جوهرها الفلسفي العقلاني، لهذا يقول احمد حسن الزيات في كتابة (تأريخ الأدب العربي) : " أستنبط ابن خلدون فلسفة التأريخ، فسماها طبيعة العمران في الخليقة، وفصلّها في كتابه العبر مستشهداً بالحوادث التاريخية الصحيحة، ومُعطياً الدليل الدامغ في سُداد رأيه، وصدق نظره وانفساح ذرعه في الاستنباط والتعليل .. " فالتأريخ لديه يمثل الحياة الاجتماعية بكل مظاهرها، ومن خلاله تناول العمران البشري (علم الاجتماع)، عن طريق تحليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية كالحركات الدينية والاقتصادية والسياسية والفكرية، مُمثلاً بذلك نقطة تحّول في كتابة التاريخ الإنساني، وفي تأسيسه لعلم الاجتماع فيما بعد (العصر الحديث)، فهّز بذلك الفكر الإنساني العالمي قاطبة بوصفه لقوانين تنطبق على المجتمعات بصورة عامة، ومؤكداً في السياق نفسه، بأن الإنسان لا يعيش إلاّ في مجتمع، وإن عاش فيه فلا بدّ أن يعيش مع شريك مكوناً الشعب، والشعب لابدّ له من العيش على أرض لاحتوائه، ولكي تبقى صيرورة العلاقة بين هؤلاء الناس أو المجتمعات البشرية قائمة على أساس إنساني، فلا بدّ من وجود تعاون بينهم من أجل بناء الحضارة الإنسانية ومن أجل قيام هذا الأساس كان هنالك فارق كبير (فكري وزمني) للقضايا المطروحة في خلفياتها التاريخية مثلاً أو اعتباراتها الدينية ومعطيــــــــاتها الاجتماعية والسوسيولوجية فيحسن بنا حرّياً التصّدي لهــــــــا بإمعــــــان، وتقّصي الحقائق بدقة المعلومة، رغم مشقة المهمة ورويّها.
إفساد البصائر والأخلاق
فإذا كان التعّسف والقهر يقودان إلى " إفساد البصائر والأخلاق"، أي إلى إفساد النفوس - كاحتمال كبير - في نظر ابن خلدون، وكوصف واقعي للإنسانية ودعامة اختباريه عنده. إلاّ إن اجتهاد المفكر الانكليزي (جون ستيوارت أميل) في بحثه " أفضل أنواع الحكم هو الحكم البرلماني" قد أعطى دلالة أخرى في سياق بحثه ضد الحكم الديكتاتوري بأنه يفسد الشعب ويقوده إلى الخمول، فيرميهم في أحضان الخنوع، وهذا الطرح الذي يعرضه ستيوارت هو الطرح نفسه الذي يسوقه ابن خلدون في العصبية . ولكن يبقى السؤال الذي يراود الأذهان هل تبقى هذه الاستقصاءات، الأساس الموضوعي لمطلقية الحكم المتعلق بمقابلة (المفكرين) أم هي بمعزل عن بقاء الإحكام المقابلة وعدها ضرباً من التأويلات العاطفية والتفسيرات، أو التغيرات الأيدلوجية ؟ فما هي نيات كل منهم (المبيتة وغير المبيتة) فيما تؤديه من دور في السيــــــاسة وأدلجتها؟ فكيف يمكننا إثبات مدى عصرية التفكير الخلدوني؟
يمكن الإجابة، من خلال تفكير ابن خلدون في العمران البشري والاجتماع الإنساني نفسه، فهو يعطي دلالات عمرانية واضحة لبعدين أثنين يشير إليهما بطريقة (التلميح) وبخصائص فلسفية: -
البعد الأول: هو البعد السماوي .. من خلال سرد ابن خلدون في المقدمة قوله: " وتمت حكمة الله في بقائه (الإنسان) وحفظ نوعه" . وكذلك قوله: " وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم".
البعد الآخر: هو المفهوم الفلسفي للعمران أي المفهوم السوسيولوجي الاجتماعي .. وهو الأساس الذي يُبنى عليه التعاون فيما بين الإنسان وأبناء جنسه.
لهذا لايخفى على الجميع مدى قوة تأثير الفكر الخلدوني على مفكري العقد الاجتماعي والنظريات التي تلته.
عندما كتب طاهر بن الحسين إلى ابنه عبد الله بعد أن ولاه الخليفة العباسي(المأمون)، الرّقة ومصر وما بينهما، كتاباً مشهوراً عهد فيه إليه وأوصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الآداب الدينية والخلقية، والسياسة الشرعية والملوكية، وحثَه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك أو سوقة، فلما شاع أمر هذا الكتاب، وأعجب به الناس وزاد انتشاراً بين الأمصار، كان حَرياً بابن خلدون قراءته والاقتباس منه بعد الإعجاب به، آخذاً بأولويات موقفه وموقعه من النظام الفكري العام وفق خصوصيات مهمة منها : -
1 - انه أقتبس من هذا الكتاب فصلاً عنوانه (.. في أن العمران البشري لابَد له من سياسة يُنظم بها أمره ..)، فكانت السياسة العمرانية الخلدونية المنتظمة في المكان الصحيح بين أطراف الفكر الاجتماعي.
2 - بروز دور ابن خلدون في سياسته العمرانية من خلال سياسته العقلية.
إن هذه الإشارات الدينية العامة إنّما تمثل المنطلقات البديهية لرجل عاش في عصرٍ ادى فيه الدين أدوارا مأثورة ومهمات حضارية مرموقة، تكون قيمة الإشارة إليها في بيان الموقع الديني للإنسانية في التربية الأخلاقية رغم استحسان ابن خلدون لها في تقليد المعطيات العصرية والحضارية، ولأنّها لا تتصف بالانفرادية، لان الفلسفة الخلدونية عموماً تدخل في حقل الفلسفة الوضعية كثيرة العناصر إلا إنهّا ذات تنوع في المسائل البديهية فكلامه عن علم التأريخ وعلم العمران البشري لايدخله في عداد مؤسسي فلسفة التأريخ فحسب وإنما في عداد مؤسسي علم الاجتماع وعلم الانثروبولوجيا (علم الإنسان) . فيكون قد سبق (غبريال نارد) في تحليله للظواهر الاجتماعية بالتقليد، وسبق (أميل دوركهايم) بالقول بالقسر الاجتماعي، كما سبق كارل ماركس في قيمة الشيء التابعة للعمل المبذول في إنتاجه. ورغم كل ذلك إلا أن ما ركزّ عليه ابن خلدون في (أهمية العمل البشري من حيث هو القيمة الحقيقية للمجتمع) يكون في تقارب بينه وبين ما ركز عليه (آدم سميث) في هذا الاتجاه من الثنائية التقاربية بما أدلى به دلوه ابن خلدون للمقارنة بين (البدوي والحضري / الريفي والمدني) وثنائية آدم سميث الغربية في (التقليدي والحديث / ما قبل الصناعي وما بعدها) . ولكننا في الوقت نفسه نجد مثل هذه المقارنة مختلفة جذرياً بين (ماكس فيبر) باتجاه (إميل دوركهايم)، وما بين ابن خلدون باتجاه ابن المقفع والطرطوشي . لهذا أراد أبن خلدون عرض الاحتمالات الممكنة أمام قارئيه، وترك لهم حرية الاختيار من بينها، فيكون واقع الفرق بين الفكر الخلدوني وفكر فوكوياما، انه أراد تعميق أسلوب التوجيه بالنصيحة من خلال وضع النبرة بالتوكيد. فتراه يتوجه في أسلوبه وفق محددات استقرائية نحو المستقبل واقتراحه تغيير الواقع ومسوغاته وفق منطق عقلي وليس بمعنى المنطق الآخر (الفوكايامي) الانقلابي الجذري على كل ما هو فطري وبما يطرحه هذا الفكر (الهجيني)، ووفق منطق يخدم به فئة ذات سياسة لها أهداف عسكرية واقتصادية، بينما نرى أبن خلدون ورغم تنظيره هذا إلا أنه ما زال يعطي الخيار الأول والأخير للإنسانية في كيفية نجاحها للبناء الحضاري .
من خلال هذا كله يحق لنا أن نسأل: هل جاء ابن خلدون بمفهوم للطبيعة البشرية ؟ وهل أثر هذا المفهوم في عمارته النظرية بشأن المجتمعات البشرية والحضارية ؟ وكيف يؤثر هذا الفكر في مفهوم التغيير والتطّور في الطبيعة الإنسانية ؟
أن المجتمعات هي ثمرة عمل أبنائها في شروط بيئتهم المحلية والإقليمية والدولية. فنظرية المراحل التاريخية الماركسية المعروفة، إنّما هي تجريد عمومي يمكن عده ترسيما لا علاقة له بالتأريخ الفعلي لأي مجتمع من المجتمعات . لأن الإنسان هو العامل الأساسي في التغيير بوصفه المسؤول عن توفير شروط مثل هذا التغيير، بمعنى أن السببية وموضوعية الحوادث التاريخية لاتحدث بقطيعة مع الجانب الغيبي، على غرار الفكر اللاهوتي المسيحي في العصور الوسطى. لكن ابن خلدون نظر إلى مُجمل أحداث التأريخ الإسلامي في - مشرقه ومغربه - وتحليله ما تضمنه من نظرية (العصبية والدولة) هو فلسفة التاريخ، والتي تدعى وفق الفلسفة الحالية ب (الفلسفة التأملية للتأريخ) أو الفلسفة النظرية . ألا أن مصطلح فلسفة التأريخ كان قد أستعمل أول مرة من قبل الشاعر الفرنسي (فولتير) في القرن الثامن عشر الميلادي، وكأنه قصد بفلسفة التأريخ " دراسة التأريخ من وجهة نظر الفيلسوف" أي دراسة عقلية ناقدة ترفض الخرافات، وتنقّح التأريخ من الأساطير والمبالغات، بمعنى التحليل النقدي للتأريخ . بيد أن ابن خلدون كان قد دعا إلى مثل هذا الاتجاه في مقدمته من خلال نقده لأعمال المؤرخين السابقين، الأمر الذي يجعله أسبق من فولتير في تمثيل مفهوم فلسفة التأريخ النقدية، إذ كانت معالجته لأعمال المؤرخين السابقين، وتحّري مناهجهم، ومدى صدقهم في نقل الأخبار، وأسباب أخطائهم مع تزوير بعضهم لبعض الحوادث والوقائع وفقاً لمصالح ذاتية ومحسوبية . كما أن قيامه بوضع معايير نقدية وتقريرية لإثبات الحقائق التاريخية وهي بمثابة تصحيح للمسارات التاريخية، وكتابة تأريخ صحيح إنما تدعى جميعاً في المفهوم النقدي (الفلسفة النقدية) التحليلية. كما برز في الربع الأول من القرن التاسع عشر الميلادي مفهوم آخر لفلسفة التأريخ، إذ عّرف الفيلسوف الألماني هيغل هذه الفلسفة بأنها : " دراسة التأريخ من خلال الفكر " . مانحاً بذلك فلسفة التأريخ بعداً آخراً، تأملياً مجرداً، وهو بعد يختلف عن البعد التحليلي النقدي لوقائع التأريخ الذي أراده فولتير، ومن قبله ابن خلدون . لهذا نتج عن هذه النظرة إن الإنسان يتحكم في مصيره وأنه لايخضع خضوعاً كلياً للحتمية التاريخية والاجتماعية بل أنه يربط هذه الحتمية بالأهداف التي رسمها بالقيم الأخلاقية والدينية. ولهذا فان المنطق عند ابن خلدون يسوغ إدراجه ما فوق الطبيعي ضمن الثوابت الاجتماعية والتاريخية والثقافية والدينية والسياسية في المجتمع العربي، مما يفضي به إلى نظرة إسلامية، والى حقيقة مزدوجة كما هي على طريقة ابن رشد، أو كما هي على طريقة باسكال، أو أوغست كونت، فتكون كحقيقة تكاملية، بحيث إنه لايلغي من حساباته الصوفية إقصاء تكامل المعرفة عند علماء المسلمين عامة، وإنما متمم لها. فترى ابن خلدون يركز على أهمية اللغة وإبعادها وامتداداتها إزاء المادية (التاريخية) مثلما هي عند أكثرية الغرب. ولأن الإنسان في فكر ابن خلدون يتجلى بأهمية منهجية أساسية بكونها الأساس في بناء المجتمع وتطوره، كما أن التعاون المجبر عليه (الإنسان) هو الذي يؤهّل العمران (وهو أحد الثوابت الأساسية في الفكر الخلدوني)، بما يعطي تعبيراً اصطلاحيا ناضجاً عن الحضارة والاجتماع البشري بشكل عام. فرغم تأكيده أهمية وضرورة اجتماع البشر بما يعطي معناه العمراني . إلا إن هنالك ضرورات تكمن في أساس هذا العمران، الا وهي فهمه (العلمي والحّسي) للعمارة، وكيف أنه تجاوزها كظاهرة اجتماعية، ليدقق فيما هو فيزيائي يؤثر في العمارة، مبيناً بذلك الوشائج القوية التي تربطها مع البيئة والمناخ والمحيط الجغرافي، فكشف من خلال ذلك النقاب عن ظاهرة تأثير العمارة بالمناخ والبيئة، ومبيناً أن للمناخ تأثير في لباس البشر، لا بل في طبائعهم وألوان بشرتهم أيضا .
صياغة عقلية فلسفية
فرغم تصّوف ابن خلدون إلا إنّ فلسفته الفكرية كما يراها محمد عابد الجابري تبقى : " صياغة عقلية فلسفية .. ولأن كل ما يبقى من التصّوف هو التجربة الذاتية " . لهذا نعتقد أن لجوء ابن خلدون إلى آيات قرآنية أو معان قرآنية ، مرده هو ليس تأثير الدين في فكره بقدر ما مرّده أحد أمرين يصعب التكهن والبحث حولهما : -
الأول : تهكم ابن خلدون في أمور الدين ونزعته الصوفية التي تجسدت في نهاية حياته، والتي لا علاقة لها بمكتسباته العلمية الفكرية .
الآخر : هو الإبداعية اللاواعية التي تمّيز بها فكره من ذاتية الإلهام لديه.
من سياق هذه المحددات العقلية الإبداعية للفكر الخلدوني نستطيع بثقة تحديد المعرفة الخلدونية بثلاثة محددات معرفية.
1 - المعرفة العقلية (مادية محسوسة) وتشمل المعرفة النظرية والتجريبية والتميزية.
2 - المعرفة الروحانية (النفسانية)، والتي قد لا تدركها الحواس ليكون مصدرها وحياً .
3 - المعرفة الوسطية ما بين الاتصال الروحاني والاكتساب والتمّرن على كشف حجاب النفس .
لهذا لايمكن صياغة رؤية عقلانية للتأريخ، إلا من خلال اتخاذ موقف بذاته ، والنظر أليه من الداخل كرؤية شمولية وهذه النظرة هي التي تمكن الفيلسوف التاريخي والاجتماعي من النظر إلى الحوادث في ترابطها وتماسكها، وتمكنّه من إسقاط العلاقات السببية بين الحوادث في المستقبل ليتجاوز بعدها حدود توقع المستقبل منتهياً إلى طرح الفكرة المستوحاة واقعياً . ومثل هذه الطريقة في صياغة فلسفة التأريخ إنمّا نجدها في الفكر الخلدوني العقلاني . لكننا نجد طرحا آخر بهذه الطريقة فلسفياً في (نهاية التأريخ والإنسان الأخير) بغاياته الامبريالية لفوكوياما، إنما تعتمد على تنظير تأريخي مزّيف، ما دامت عملية التنظير هذه تتم من منظور وضعي لأن الفكر المنّظر له بما لا يملك مقوماته على أرض الواقع في تصوير غاياته الذاتية والمستقبلية، إنما يقف عائـــقاً أمام أزمة قاتلة للعقل تختلف عن أزمة العقل المنتج للمعرفة الإنسانية في بناء الإنـــــــسان، وبالتالي بناء المجتمع ككل.
هل أنت مثقف ومن أي المثقفين؟
محمد الدعمي
للمرء أن يباشر عدداً من المفاهيم المهمة وهو يتأمل مسقط، عاصمة للثقافة العربية لعام 2006. من هذه المفاهيم يبرز مفهوم "المثقف"، وهو لفظ فضفاض، ينطوي على غيمية كثيفة يصعب معها تعريف المثقف وتعريف دوره الإجتماعي والسياسي المعاصر، ناهيك عن إن هذه الغيمية هي التي تقف وراء التوظيف المكثف والإعتباطي، وأحياناً اللامسؤول، لهذا اللفظ الملفوف بعشرات الطبقات من الأغلفة والأوراق الخضر واليابسة. إنه لمن الطريف أن يلاحظ المرء هذا الإستعمال المتذبذب والخالي من الأساس التعريفي الدقيق عبر شبكات الإعلام والكتابات الشائعة دون التيقن المجمع عليه حول: من هو المثقف ؟ ومن هو المثقف العربي، على نحو التخصيص ؟
لهذه الأسباب بقي هذا "اللقب الفخري" يطلق إعتباطياً بلا تمييز وبدون أساس للتيقن خاصة عبر عقود القرن الماضي، إمتداداً إلى هذا اليوم الملبد بالغيوم. بيد أن للمرء أن يلاحظ عدداً لابأس به من الأخطاء الشائعة التي تستحق الرصد والمناقشة، خاصة عندما يعجز، شخصياً، عن تقديم تعريف مطلق ومتفق عليه حيال من يستحق هذا اللقب أو هذا الوصف الرفيع.
أثار هذا الموضوع إهتمامي على نحو خاص عندما نوقش قبل مدة موضوع تخصيص "مكافآت" شهرية للمثقفين كنوع من أنواع التعويض عما فاتهم وعما قاسوه عبر العقود الماضية من حيف وعوز.
تبلورت المعضلة، عبر السياق آنف الذكر، عندما لوحظ تقدم عشرات الآلاف من الأفراد بطلبات عدهم "مثقفين"، إذ لم تتحدد قائمة المثقفين بكبار المفكرين وأصحاب الأقلام السيالة والمؤرخين والكتّاب من الشعراء والناثرين الخياليين والواقعيين المهمين، ذلك أن العوز والطموح جعل الجميع يدعي بأنه ينتمي إلى هذه "الطبقة" السرانية. لذا كان القرار الإبتدائي بـ"تكريم" المثقفين قد إصطدم بما لم يكن صانع القرار يتخيله من رقم كمخصصات مالية لهذا المشروع. وكان المعنى النهائي له، بطريقة أو بأخرى، هو أن يستلم كل مواطن شيئاً من كرم الدولة على المثقفين: فإذا لم تكن أنت شاعراً، يمكن أن تقدم نفسك نجاراً أو حداداً، كمثقف؛ وإذا لم تكن أنت روائياً أو كاتباً مفكراً، يمكنك التشبث بأذيال الثقافة عضواً في كورس أو مسؤول إضاءة أو تقديم الشاي للعاملين في المسرح ؟ وهكذا تحول المشروع إلى حالة من العجز الذي بقي كالشفرة الملتصقة في مريء أصحاب الفكرة، برغم حسن نواياهم: هم ليسوا بقادرين على إبتلاعها ولا على قذفها إلى الخارج !
الملاحظ في المجتمعات العربية هو الميل إلى وصف كل من تخرج من الجامعة بأنه "مثقف"، بغض النظر عما إذا كان تخصصه هو في علم الحشرات أو علم الصخور أو التحليلات المرضية. وفي هذا تجاوز واضح لمفهوم المثقف بالرغم من هلاميته وسيولته. وقد ذهب آخرون إلى إنك إذا شئت إستثناء أمثال هؤلاء من صنف المثقفين، فإنك لا يمكن أن تستثني أصحاب الشهادات العليا من هذا "الشرف" الرفيع. بيد أننا لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنرى عبر شاشات الفضائيات أعداداً لا بأس بها من حملة الشهادات العليا وهم يدلون بأقوال وآراء لا تمت باية صلة إلى معنى وجوهر الثقافة؛ بل إنك ربما تبتئس على هذه الشهادات التي لم تؤهل أصحابها للحديث حتى بلغة سليمة تنطوي على إتساق وتناسق فكري منطقي، الأمر الذي يسوغ ما يذهب إليه البعض الآخر من المتابعين إلى أن هناك أعداداً كبيرة من أنصاف المتعلمين، وحتى من الأميين، الذين يقدمون أنفسهم وأفكارهم بطرائق أكثر قبولاً ومنطقية من آخرين دائماً ما يلهجون بألفاظ الثقافة والمثقف، التثاقف والحوار الثقافي. وهكذا يجد النشء والشبيبة أنفسهم أمام صورة مربكة أكثر غموضاً لمعنى الثقافة في عصر الصدامات الثقافية والصراعات الثقافية والحوارات الثقافية: كلها "ثقافية" ولكنها تفتقد المعنى الواضح الملموس !
إن تحديد معيار دقيق للـ"ثقافة" هو من أصعب الأسئلة أو القضايا التي تتطلب الجهد، خاصة وإننا قد شهدنا وتابعنا آراءً كثيرة لدعاة وأدعياء الثقافة من النوع الذي قادنا أو كان سيقودنا إلى كوارث إجتماعية أو سياسية أو حتى بيئية. فهل يستحق هؤلاء أن نطلق عليهم هذا الوصف: هل أن المثقف هو عنصر بانٍ أم هدام ؟
بل إن الأدهى من هذا وذاك يتمثل في إعتقاد البعض أن الثقافة هي صفة عائلية يكتسبها الفرد لمجرد إنتمائه إلى عائلة إشتهرت بالثقافة أو بالعلم، وبذلك نقع في خطأ فادح يصب في عد صفة المثقف "مكافأة" وراثية نطلقها على من نشاء عبر الفضائيات والمقابلات الصحفية على نحو إعتباطي. وقد دهشت قبل أيام من ملاحظة هذا النوع من السلوك عبر شاشة إحدى الفضائيات، إذ تعمدت مقدمة إحدى البرامج إلى توصيف "قارئة فنجان" بالمثقفة الثاقبة، ولست أدري ما مدى درجة تعمق قارئة الفنجان أو قارئة الكف بتاريخ الثقافة والأفكار. قد يقودنا هذا إلى خطأ مفهومي آخر يقول أن الثقافة هي "معلومات" أو كم كبير من المعلومات التي يختزنها الفرد في ذاكرته. هناك شيء من الصحة في هذا الرأي لأن المرء لا يمكن أن يطور جدلاً ثقافياً دون التمكن من كم كاف من المعارف والمعلومات التي تؤهله لأنشطة تبادل الراي وللأنشطة الفكرية المجردة الأخرى، كالمقارنات والمقاربات. بيد أن هذا بمجمله لا يعني أن المعلومات والمعارف تكفي تأهيلاً للمثقف، خاصة مع وجود ذلك الصنف من البشر المفتون بجمع المعلومات وبحفظها ومذاكرتها من الكتب كي يتأهل للمشاركة في "مسابقات" المعلومات من نوع "بنك المعلومات": كثيرون هم هؤلاء الذين فازوا بمثل هذه المسابقات بسبب ما إختزنته ذاكرتهم من معلومات، بيد أنهم لم يشتهروا بتأليف كتاب واحد أو بإسهامة ثقافية كبيرة واحدة. لذا لا يمكن أن يكون الكم المعلوماتي هو شرط المثقف، بالرغم من أنه واحد فقط من الشروط المسبقة لهذه الصفة. لذا يصف الغربيون هذا النوع من المدمنين على القراءة بأنهم bookish ، بإعتبار قراءاتهم الواسعة والمكثفة وعدم قدرتهم على الإسهام في إغناء الحياة.
لقد جرب المفكرون الكبار حظوظهم في تعريف المثقف وتوصيفه بالطريقة التي تقربه من المعنى الدقيق للثقافة. وقد كان أفضل من كتب في هذا الموضوع هو المفكر الإنكليزي "ماثيو آرنولد" Arnold الذي عد المثقفين "نخبة أقلية" في بريطانيا عصره، ملاحظاً أنهم زبدة المجتمع The Cream أو The Elite من الأقلية المتبقية من تتالي العصور The remnant few الذين إستجمعوا تراث الماضي وتفاعلوا مع معطيات الحاضر ليتمكنوا من "اللعب الحر" بالأفكار وبانتاجها والترويج لها. لقد عد آرنولد هؤلاء "أمل الحضارة" أو الإنسانية، المنقذين الذين يتسامون فوق الولاءات الطبقية والفئوية وفوق الرغبات والنزوات الإنسانية البدائية المحدودة، لقيادة المجتمع نحو الخلاص مما يحيق به من مخاطر الفوضى. لذا كان حريا بنا ونحن نناقش الثقافة العربية أن نقرأ كتاب آرنولد الفذ (الثقافة والفوضى) Culture and Anarchy الذي ينبغي أن يزيل الكثير من الغيوم عن أعيننا ونحن نعاين ثقافتنا العربية الإسلامية اليوم بشيء من الأمل.
محمد الدعمي
للمرء أن يباشر عدداً من المفاهيم المهمة وهو يتأمل مسقط، عاصمة للثقافة العربية لعام 2006. من هذه المفاهيم يبرز مفهوم "المثقف"، وهو لفظ فضفاض، ينطوي على غيمية كثيفة يصعب معها تعريف المثقف وتعريف دوره الإجتماعي والسياسي المعاصر، ناهيك عن إن هذه الغيمية هي التي تقف وراء التوظيف المكثف والإعتباطي، وأحياناً اللامسؤول، لهذا اللفظ الملفوف بعشرات الطبقات من الأغلفة والأوراق الخضر واليابسة. إنه لمن الطريف أن يلاحظ المرء هذا الإستعمال المتذبذب والخالي من الأساس التعريفي الدقيق عبر شبكات الإعلام والكتابات الشائعة دون التيقن المجمع عليه حول: من هو المثقف ؟ ومن هو المثقف العربي، على نحو التخصيص ؟
لهذه الأسباب بقي هذا "اللقب الفخري" يطلق إعتباطياً بلا تمييز وبدون أساس للتيقن خاصة عبر عقود القرن الماضي، إمتداداً إلى هذا اليوم الملبد بالغيوم. بيد أن للمرء أن يلاحظ عدداً لابأس به من الأخطاء الشائعة التي تستحق الرصد والمناقشة، خاصة عندما يعجز، شخصياً، عن تقديم تعريف مطلق ومتفق عليه حيال من يستحق هذا اللقب أو هذا الوصف الرفيع.
أثار هذا الموضوع إهتمامي على نحو خاص عندما نوقش قبل مدة موضوع تخصيص "مكافآت" شهرية للمثقفين كنوع من أنواع التعويض عما فاتهم وعما قاسوه عبر العقود الماضية من حيف وعوز.
تبلورت المعضلة، عبر السياق آنف الذكر، عندما لوحظ تقدم عشرات الآلاف من الأفراد بطلبات عدهم "مثقفين"، إذ لم تتحدد قائمة المثقفين بكبار المفكرين وأصحاب الأقلام السيالة والمؤرخين والكتّاب من الشعراء والناثرين الخياليين والواقعيين المهمين، ذلك أن العوز والطموح جعل الجميع يدعي بأنه ينتمي إلى هذه "الطبقة" السرانية. لذا كان القرار الإبتدائي بـ"تكريم" المثقفين قد إصطدم بما لم يكن صانع القرار يتخيله من رقم كمخصصات مالية لهذا المشروع. وكان المعنى النهائي له، بطريقة أو بأخرى، هو أن يستلم كل مواطن شيئاً من كرم الدولة على المثقفين: فإذا لم تكن أنت شاعراً، يمكن أن تقدم نفسك نجاراً أو حداداً، كمثقف؛ وإذا لم تكن أنت روائياً أو كاتباً مفكراً، يمكنك التشبث بأذيال الثقافة عضواً في كورس أو مسؤول إضاءة أو تقديم الشاي للعاملين في المسرح ؟ وهكذا تحول المشروع إلى حالة من العجز الذي بقي كالشفرة الملتصقة في مريء أصحاب الفكرة، برغم حسن نواياهم: هم ليسوا بقادرين على إبتلاعها ولا على قذفها إلى الخارج !
الملاحظ في المجتمعات العربية هو الميل إلى وصف كل من تخرج من الجامعة بأنه "مثقف"، بغض النظر عما إذا كان تخصصه هو في علم الحشرات أو علم الصخور أو التحليلات المرضية. وفي هذا تجاوز واضح لمفهوم المثقف بالرغم من هلاميته وسيولته. وقد ذهب آخرون إلى إنك إذا شئت إستثناء أمثال هؤلاء من صنف المثقفين، فإنك لا يمكن أن تستثني أصحاب الشهادات العليا من هذا "الشرف" الرفيع. بيد أننا لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنرى عبر شاشات الفضائيات أعداداً لا بأس بها من حملة الشهادات العليا وهم يدلون بأقوال وآراء لا تمت باية صلة إلى معنى وجوهر الثقافة؛ بل إنك ربما تبتئس على هذه الشهادات التي لم تؤهل أصحابها للحديث حتى بلغة سليمة تنطوي على إتساق وتناسق فكري منطقي، الأمر الذي يسوغ ما يذهب إليه البعض الآخر من المتابعين إلى أن هناك أعداداً كبيرة من أنصاف المتعلمين، وحتى من الأميين، الذين يقدمون أنفسهم وأفكارهم بطرائق أكثر قبولاً ومنطقية من آخرين دائماً ما يلهجون بألفاظ الثقافة والمثقف، التثاقف والحوار الثقافي. وهكذا يجد النشء والشبيبة أنفسهم أمام صورة مربكة أكثر غموضاً لمعنى الثقافة في عصر الصدامات الثقافية والصراعات الثقافية والحوارات الثقافية: كلها "ثقافية" ولكنها تفتقد المعنى الواضح الملموس !
إن تحديد معيار دقيق للـ"ثقافة" هو من أصعب الأسئلة أو القضايا التي تتطلب الجهد، خاصة وإننا قد شهدنا وتابعنا آراءً كثيرة لدعاة وأدعياء الثقافة من النوع الذي قادنا أو كان سيقودنا إلى كوارث إجتماعية أو سياسية أو حتى بيئية. فهل يستحق هؤلاء أن نطلق عليهم هذا الوصف: هل أن المثقف هو عنصر بانٍ أم هدام ؟
بل إن الأدهى من هذا وذاك يتمثل في إعتقاد البعض أن الثقافة هي صفة عائلية يكتسبها الفرد لمجرد إنتمائه إلى عائلة إشتهرت بالثقافة أو بالعلم، وبذلك نقع في خطأ فادح يصب في عد صفة المثقف "مكافأة" وراثية نطلقها على من نشاء عبر الفضائيات والمقابلات الصحفية على نحو إعتباطي. وقد دهشت قبل أيام من ملاحظة هذا النوع من السلوك عبر شاشة إحدى الفضائيات، إذ تعمدت مقدمة إحدى البرامج إلى توصيف "قارئة فنجان" بالمثقفة الثاقبة، ولست أدري ما مدى درجة تعمق قارئة الفنجان أو قارئة الكف بتاريخ الثقافة والأفكار. قد يقودنا هذا إلى خطأ مفهومي آخر يقول أن الثقافة هي "معلومات" أو كم كبير من المعلومات التي يختزنها الفرد في ذاكرته. هناك شيء من الصحة في هذا الرأي لأن المرء لا يمكن أن يطور جدلاً ثقافياً دون التمكن من كم كاف من المعارف والمعلومات التي تؤهله لأنشطة تبادل الراي وللأنشطة الفكرية المجردة الأخرى، كالمقارنات والمقاربات. بيد أن هذا بمجمله لا يعني أن المعلومات والمعارف تكفي تأهيلاً للمثقف، خاصة مع وجود ذلك الصنف من البشر المفتون بجمع المعلومات وبحفظها ومذاكرتها من الكتب كي يتأهل للمشاركة في "مسابقات" المعلومات من نوع "بنك المعلومات": كثيرون هم هؤلاء الذين فازوا بمثل هذه المسابقات بسبب ما إختزنته ذاكرتهم من معلومات، بيد أنهم لم يشتهروا بتأليف كتاب واحد أو بإسهامة ثقافية كبيرة واحدة. لذا لا يمكن أن يكون الكم المعلوماتي هو شرط المثقف، بالرغم من أنه واحد فقط من الشروط المسبقة لهذه الصفة. لذا يصف الغربيون هذا النوع من المدمنين على القراءة بأنهم bookish ، بإعتبار قراءاتهم الواسعة والمكثفة وعدم قدرتهم على الإسهام في إغناء الحياة.
لقد جرب المفكرون الكبار حظوظهم في تعريف المثقف وتوصيفه بالطريقة التي تقربه من المعنى الدقيق للثقافة. وقد كان أفضل من كتب في هذا الموضوع هو المفكر الإنكليزي "ماثيو آرنولد" Arnold الذي عد المثقفين "نخبة أقلية" في بريطانيا عصره، ملاحظاً أنهم زبدة المجتمع The Cream أو The Elite من الأقلية المتبقية من تتالي العصور The remnant few الذين إستجمعوا تراث الماضي وتفاعلوا مع معطيات الحاضر ليتمكنوا من "اللعب الحر" بالأفكار وبانتاجها والترويج لها. لقد عد آرنولد هؤلاء "أمل الحضارة" أو الإنسانية، المنقذين الذين يتسامون فوق الولاءات الطبقية والفئوية وفوق الرغبات والنزوات الإنسانية البدائية المحدودة، لقيادة المجتمع نحو الخلاص مما يحيق به من مخاطر الفوضى. لذا كان حريا بنا ونحن نناقش الثقافة العربية أن نقرأ كتاب آرنولد الفذ (الثقافة والفوضى) Culture and Anarchy الذي ينبغي أن يزيل الكثير من الغيوم عن أعيننا ونحن نعاين ثقافتنا العربية الإسلامية اليوم بشيء من الأمل.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)