٢٧‏/٠٩‏/٢٠٠٦

سرطان البروستاتة الغامض

د.بهجت عباس



يُعَرّف السّرطان بصورة عامّة ومختصرة بأنّه نوع من الأمراض أو الخلل المُتميّز بانقسام الخلايا غير المُسَيطَر عليه نتيجة ( التَّدخّـُلِ ) في المواد الجينيّـة للخلية. هذه الخلايا لها القدرة على غزو الأنسجة الأخرى، إمّا بالنمـوّ المباشر إلى النّسيج المُجاور أو بزرعها إلى الأماكن البعيدة عن موقع الإصابة عن طريق الانتشار بواسطة مجرى الدّم أو اللمف. يحدث السرطان في أيِّ خلية من الجسم ويتميّز عادة بنتوء أو ورم في ذلك النسيج أو العضو. على أنَّه ليس كل ورم خبيثاً، فإذا بقي في مكانه ولم يغزُ الأنسجة المجاورة أو البعيدة، فهو ليس ذا خطراً ويسمّى ورماً (حميداً). وطريقة تشخيص السّرطان تعتمد على نوعه. ومعالجته، وخصوصاً في بدايته، تتمّ بالجراحة (استئصاله)، بالمواد الكيميائية أو بالإشعاع أو بمزيج من كلّها. والعلاج في بدايته قبل انتشاره قد ينقذ المريض من الموت. أما أسبابه فهي (تشوّه) الدنا DNA – المادة الجينيّة – في الخلية نتيجة مواد كيميائية معيَّـنة، تعرّض لإشعاعات أو إصابة ببعض أنواع الفيروسات أو وراثة خلل جيني. تستطيع التقنية المتطورة الحديثة تشخيصه ومن ثمّ اتخاذ الإجراء اللازم للعلاج. ولكنَّ ثمّة سرطاناً حيّـر الأطبّاء والباحثين عن تشخيصه فكان علاجه، سواء أكان سرطاناً ذا خطر أو لم يكنْ، الدّواءَ بالكيّ. وهذا باهض الثّمن للمريض صحيّاً ومادياً وفي كثير من الحالات لا يحتاج إليه أبداً، وهو سرطان البروستاتة.

فما هو هذا السّرطان ؟

البروستاتة غدة جهاز التناسل في الذَكر تشبه الجوزة شكلاً وحجماً وتقع تحت المثانة وأمام الشّرج محيطة بالجزء الأول من مجرى البول Urethra. ولذا فهي في موقع معقّد حسّاس جدّاً. تنتج البروستاتة سائلاً ثخيناً يكون جزءً من المني وتحتاج في عملها إلى هورمون التستوستيرون الذي يُنتَج أغلبه في الخصى.
السوائل التي تفرزها هذه الغدة ضرورية للحيامن (خلايا الذكر الجنسية)، فهي (السوائل) تغـذّي هذه الحيامن وتنشِّـطها، كما أنَّ الحيامن تمـرّ ُمن خلال قناة البروستاتة إلى مجرى البول.
تتكاثر خلايا البروستاتة مع تقدم العمر فيتضخّم حجمها. ومن هنا تبدأ المشكلة، إذ قد يكون هذا التضخم (حميداً) أو (خبيثاً). وهذا الأخير يعتمد على عوامل عدّة: فهو عادة يكون في الرجال المتقدّمين في العمر، حيث وُجِد أن 70% من سرطان البروستاتة يقع في رجال بلغوا الخامسة والستين من العمر أو تجاوزوه. ثمّ إنَّ العِرقَ يلعب دوراً، فحسب تقرير جمعية السّرطان الأمريكية أنَّ الأمريكان السّود لهم احتمال 50% للإصابة به أكثرَ من الهنود الحمر والأسيويين. ولتأريخ العائلة دور أيضاً، فمن كان له أخ أو أب مصابٌ به، فهناك احتمال كبير أن سيكون نصيبه الإصابة أيضاً. أما الغذاء فمهمّ، حيث الغذاء الغنيّ بدهن حيوانيّ يكون الأخطر. أما عدد المصابين به حسب تقرير الجمعية المذكورة فهو حواليْ 180 ألف رجل أمريكي يصاب به سنوياً 29% من كلِّ أنواع السَّرطان. أما في بريطانيا فالمصابون به سنوياً يتجاوزون 30 ألف رجل. وإنَّ حواليْ 16% من الرجال (1 من كل 6 رجال في أميركا) يصيبهم السّرطان في حياتهم. أما النوع (الحميد) والذي هو تضخم بروستاتة دون سرطان، فإنّ 50% من الرجال في أميركا بين 60 و 70 عاماً لديهم هذا التضخم وتزداد النسبة هذه فتصل إلى 90% لمن هم بين 70 و 90 عاماً.
سرطان البروستاتة قد يبقى في البروستاتة فبهذا يكون بطيء النمو، وقد ينتشر إلى العقد اللمفاوية المجاورة والعظام والمثانة والشرج وبقية الأعضاء ويبقى فيها كسرطان (بروستاتة) وليس كسرطان (عظام) مثلاً. أما علاماته فهي:
- التبوّل في أوقات مستمرة وخصوصاً في الليل.
- صعوبة البَدء في التبوّل وضبط التبول.
- عدم القدرة على التبوّل.
- جريان ضعيف أو متقطّع للبول.
- ألم وحرقة في التبوّل.
- دم في التبوّل أو منيّ.
- تصلّب ( تخشّب) أو ألم في أسفل الظهر، الحوض أو أعلى الفخذين.

ولكن بعض هذه العلامات قد يكون لأمراض أخرى، كإصابة جرثومية أو تضخّم بروستاتة (حميد) والطبيب هو الذي يشخصها، فعلى المريض مراجعة طبيبه عند شعوره بمثل هذه الأعراض.
و سرطان البروستاتة لا يُسبب أيَّ ألم في أوله.

ولكنَّ هناك بروتيناً تنتجه خلايا البروستاتة فقط يُـعتَمـد ُعليه لتشخيص سرطان البروستاتة في الوقت الحاضر، ولكنّه خادع في كثير من الحالات وهو:

بروتين البروستاتة الخاص Prostate Specific Antigen (PSA)

تنتجه خلايا البروستاتة بصورة طبيعية ويكون فيها، ولكنْ تظهر كمية صغيرة منه في مجرى الدّم تتباين حسب عمر المريض وحسب تضخمّ البروستاتة (حميدها وخبيثها) وحسب إصابتها جرثومياً. وقد يكون الرجل بهذه الحالات الثلاث أيضاً.
أيّدتْ منظمة الغذاء والدواء الأمريكية استعمال تركيز هذا البروتين في الدم مع اختبار حجم البروستاتة بالإصبع لتشخيص سرطان البروستاتة في الرجال الذين تجاوزوا الخمسين عاماً. ولكنْ هل وقف الأمر عند هذا الحد؟ لم يقفْ. لأنَّ هذه الفحوص لا تثبت أو تنفي عدم وجود السّرطان، ولكنَّ الطبيب يأخذ هذه المعلومات ليواصل تشخيصه لهذا السّرطان.
يُدخل الطبيب إصبعه المُزيّت في مؤخّرة المريض ليرى فيما إذا كان ثمّة نتوء/ورم في البروستاتة. ولكنَّ هذا يُعطي إشارة أو علامة فقط على أنَّ شيئاً ما موجود. ثمّ يُرسل دم الشخص لمعرفة تركيز البروتين PSA.
يُحسَب هذا التركيز بنانوغرام (نغ) في كل ّ مليلتر دم. ( الغرام الواحد يساوي مليار نانوغرام، أو بليون بالحساب الأمريكي ). هذا الجزء الصّغير جداً يكون قياسه غير دقيق في أكثر الأحيان.
اختلف العلماء عن كمية هذا البروتين الطبيعية الموجودة في الدم، فمنهم من وضع الحد الأعلى بما لا يتجاوز 4 نغ/مل. وهم هنا يشكلون الغالبية. هذه النسبة هي المأخوذ بها حالياً في التحليل المختبري. ولكنَّ البعض منهم وضع النسب التالية لهذا البروتين لمعرفة درجة الخطأ في البروستاتة:
1. من 0 – 2.5 واطئ.
2. من 2.5 – 10 مرتفع قليلاً أو متوسطاً.
3. من 10 – 19.9 مرتفع نوعاً ما.
4. 20 أو أكثر مرتفع جداً.
وآخرون وضعوا الرقم 4 كحد أعلى للتركيز الطبيعي وما بعده حتى 9.9 ما يدعو إلى الإنذار والحذر والرقم 10 فما فوق ما يجب اتخاذ الإجراء الفوري.

والحقيقة أنْ لا مستوى طبيعياً أو غير طبيعي يمكن الاعتماد عليه، ولكن الأكثر ارتفاعاً هو أكثر احتمالاً للسّرطان. فهناك ما يُسمّى بالموجب الكاذب False Positive عندما يكون مستوى PSA عالياً ولكنْ ليس ثمّة سرطان. فقد وُجِد أنَّ 25-30 في المائة من الرجال الذين هم بتركيز عال ليس لديهم سرطان. أو ما يكون السّالب الكاذب False Negative عندما يكون هناك تركيز طبيعي ولكنَّ السّرطان موجود. أكثر هذه السّرطانات بطيئة النمـوّ، فقد توجد في البروستاتة لمدة عشرات السّنين، دون خطر أو أذى، قبل أن تتطور إلى عنيفة وسريعة. ولكنَّ ثمّة معاييرَ تؤخذ بنظر الاعتبار. فمثلاً:
سرعة تزايد الـ PSA في فترة زمنية معينة، ستّة أشهر مثلاً، يعطي إنذاراً إذا كانت الزيادة درجتين أو أكثر. والزيادة السنوية التي لا تزيد عن 0.75 درجة قد تكون مقبولة ولكن المريض يوضع تحت الإشراف والمراقبة.
وبعض العلماء من وضع عامل العمر أيضاً في نسبة تركيز البروتين في الدم. فمثلاً
الرجال الذين تقل أعمارهم عن الخمسين يجب ألاّ يتجاوز التركيز عندهم عن 2.4، بينما يكون تركيز 6.5 مقبولاً لمن تخطّى السبعين. ولكنَّ كثيراً من الأطباء لا يوافقون على هذا الأمر.
بقيت هناك نسبة مستوى البروتين إلى حجم البروستاتة، وتسمى بكثافة الـ PSA
وهذا أيضاً لا يؤخذ به كثيراً. إذ قد يكون سرطان مع تضخم البروستاتة أو بدونه.
ولكنَّ بعض العلماء استنبط نسبة أخرى، هي نسبة الـ PSA الحرّ Free PSA (غير المرتبط ببروتين) إلى المجموع الكلي للمرتبط وغير المرتبط. (حيث يوجد PSA طليقاً ومرتبطاً ببروتين في الدم). فإذا كانت هذه النسبة أكثر من 25% ( أيْ أن الطليق موجود بكية كبيرة) فهو دليل على وجود تضخم ( حميد )، وإذا كانت النسبة أقل من 15% فهناك احتمال لوجود السّرطان. أما إذا كانت النسبة أقلَّ من 7% فالاحتمال كبير، وهذا ليس مؤكَّداً أيضاً. ولم يبق إلا أخذ نسيج حيٍّ من البروستاتة للفحص. وفي بعض الحالات قد تُخطئ الإبرة من التقاط العينة من ورم موجود فعلاً في البروستاتة، ولذا ليس مؤكّداً أن ليس ثمّة سرطان إذا كانت النتيجة سلباً، فتعاد العملية مرة أخرى أو أكثر تباعاً للحال، خصوصاً إذا كان الـ f PSA ( الطليق ) واطئاً. أما إذا كانت النتيجة إيجاباً فيكون لازماً اتّخاذ العلاج المناسب للتخلص منه وخصوصاً إذا كانت درجة Gleason (وجود خلايا شاذة بترتيب غير طبيعي) مرتفعة.
وهنا يتّضح أن المريض قد يعاني من نتائج عملية التخلص من (سرطان) البروستاتة (غير الموجود) وهو ليس بحاجة إلى ذلك، إذا كان السرطان بطيئاً لا خطر منه.
وقد تبيّن أنَّ 20% من الرجال الذين لهم PSA بين 2.5-4 وُجِد سرطان لديهم،
وانَّ 55-65 في المائة ممّن لهم PSA بين 4-10 لا سرطان لديهم. وعلى العموم إذا كان الـ PSA أكثر من 10 فالاحتمال قويّ جدّاً إن لمْ يكنْ مؤكّداً بأنَّ ثمة سرطاناً.
وهنا يمكن القول إنَّ سرطان البروستاتة سرطان غامض صعب تشخيصه، فبالشكّ واليقين يُمكن أن يصل مرحلة الخطر، فيفوت الأوان. وقد تكون تضحية التخلص منه، سواء أكان سريعاً أو بطيئاً، أمراً لازماً في الوقت الحاضر.
على أن هناك أملاً يجعل المصاب بتضخم البروستاتة يعرف فيما إذا كان ثمة سرطان، وإنْ كان، أ سريعاً مما يجب إزالته مع عواقب ومساوئ جانبية، أو بطيئاً يهمل فلا عواقب يتحملّها، إذا وُضع الجين المُكتَشف حديثاً في حيّز التنفيذ بعد نجاح التجارب عليه حالياً. هذا الجين المسمّى E2F3 أ ُكتشِفَ في 14 حزيران سنة 2004 في الأبحاث التي أجراها البروفيسور كولِن كوبر في معهد أبحاث السّرطان في لندن بالاشتراك مع البروفيسور كْـرِيسْ فوستر من جامعة ليفربول ، فوُجِدَ أنه يقع على الكروموسوم 6. وينتج بروتيناً من عائلة E2F، هذه العائلة تلعب دوراً حاسماً في السيطرة على دورة الخلية وتؤثر على فعل البروتينات مُثبِّطات السرطان. وفي نشرة منظمة الجينوم البشري HOGO في 26 أكتوبر 2005 وُجِدَ أنَّ هذا الجين يتضاعف كثيراً ويُفصِح ( ينتج بروتيناً) في سرطان المثانة المتنامي وهذا ما يُعطي خلايا الورم تعزيزاً للتكاثر بتنشيطه تشعّـباً للأورام السرطانية. وفي هذا الصّدد يُشبِّه د. كوبر السّرطان البطيء بالقطّة والعنيف (السّريع) بالنِّمر. أما كيف يُستخدَم هذا الجين لمعرفة السرطان بطيء النمو الذي لا يحتاج إلى اتخاذ إجراء لإزالته ( حيث يستطيع المُصاب به العيش معه بسلام طيلة حياته)، والسرطان سريع النمو الذي يجب أن تُتَّـخذَ إجراءات فوريّة لاستئصاله، فتتلخص بعمل ترتيبات (تصفيف) دقيق للنسيج الحيّ Tissue Microarrays (TMAs) المأخوذ من البروستاتة بواسطة الإبرة عبر مجرى البول، وعمل مقاطع من هذا النسيج تشبه رقعة الدّاما Checkerboard لمعرفة البروتينات المتعددة التي تصنعها الجينات المشاركة في سرطان البروستاتة، وتبيان العلامات الفارقة. وهو كما جاء في رسالة من معهد أبحاث السرطان في 6 أيلول 2006 إلى كاتب هذه السطور جواباً على سؤاله ( في عام 2005 طوّر الفريق " فريق البحث – الكاتب" هذه التقنية لكشف ضراوة علامات سرطان البروستاتة. يعمل العلماء في المعهد بدون كلل لاستحداث اختبار دقيق لسرطان البروستاتة و حصلوا على تقدم هام خلال السنين القلائل الماضية، ولكنْ استحداث اختبار لا يزال يستغرق بضع سنين.) هل سيستطيع هذا الفريق أو غيره النجاح في هذه المهمة التي ستكون ولا ريب اختراقاً كبيراً لخلاص من يشكون من قلق تعقيدات تضخم البروستاتة وعواقبها النفسية والجسمية في السّنين القلائل القادمة ؟ هذا ما سنراه في المستقبل القريب الآتي.
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: