٠٣‏/٠٥‏/٢٠٠٧

ادونيس -
هذا الغُبار الأميركي

- 1 –

في قرطبة، ليلةَ 21 نيسان (ابريل) الماضي، حضرت في مسرحها الكبير «باليه فلامنكو» لفرقة «باليه فلامنكو الأندلسية» بإدارة كريستينا هويوس، المغنّية وراقصة الفلامنكو المشهورة. وهذا العمل الفنيّ كلّه مُستوحىً من ديوان لوركا «رومانسيرو جيتان» (الدّيوان الغَجَريّ).

كانت سعادتي تلك اللّيلة كبيرةً وغريبة: فقد اختلطَ عليّ الأمر. لم أعد أميّز، فيما أشاهد الباليه بين ما يُسمّى فَرحاً أو عرساً، وما يُسمّى حزناً أو مأتماً. وبَدا الموتُ كأنّه السّحر الذي يفتح الأبواب المغلقة. وبدتِ الحياةُ كأنّها غيمةٌ لا تحلو ولا تتوهّج إلاّ إذا أَمطرت بُكاءً.

وامتزجت في أعماقيَ الأندلسُ بالنّشوة التي يولّدها رقص الفلامنكو، وبالغبطة التي تنبعث من شعر لوركا: عَبقُ التّاريخ الفنّي الأَندلسي، ذائباً شاهِداً، في رقص الفلامنكو كما يفصح عنه الجَسَدُ الإنسانيّ البديع. وفي الشّعر كما يتفجّر في لغة لوركا.

وهي سعادةٌ أعادتني الى العهد الذي تعرّفت فيه على شعر هذا الشاعر. تذكّرت كيف كان يُخيّل إليَّ في أثناء قراءتي أَنّ ثَمّة أصواتاً لأشخاصٍ غير مرئيين تحيط بي، وأُصغي إليها، تنبعث من شعره:

هل الحقلُ هو الذي ابتكر الثّور؟

- البقرة، في كلّ حالٍ، هي التي ابتكرت قَرْنَيْ الثّور.

- كانت الفتاة التي تحبّني، تنتظرني دائماً في مكانٍ عالٍ، لا يبعد عن حدود السّماء إلاّ بضعَ خطواتٍ من بيتها.

- في الحبّ، اكتشفتُ أنّ للقمر سُلطاناً عليَّ، أنا أيضاً. وأنّ لِلَّيل أبواباً ونوافذَ لا يفتحها إلاّ لمن يعرفُ كيف يُقيم عروشه الحميمة الخاصّة في المخيّلة، وفي الأحشاء وشهَواتِها.

- انظر كيف تكنسُ العاصفةُ الغبار عن الدّروب الى الحبّ.

- كان الخريفُ، ذلك الخريف أعمى. غير أنّه، قبل رحيله، سَلَّم على بيتِ لوركا في غَرْناطة، وملأَ الحقولَ حَوله بخطوطٍ هندسيّة كان يرسمها بريشة الرّيح.

- هل تعرف من أين يجيء هذا اللّيلُ الى قرطبة، حامِلاً هذه الرّائحةَ مِن الحبّ والشّعر والجِنّ؟

- 2 –

قَبل هذه اللّيلة العالية في «مسرح قرطبة الكبير»، كنت قد زرْتُ أكثر من مرّةٍ، الجامعَ – الأعجوبة الهندسيّة – الفنيّة: جامع قرطبة. توقّفت، بخاصّةٍ، عند عبقريّة اليّد، مقرونةً بعبقريّة المخيِّلة.

باللاّشكل، يتمّ البحث، إسلامياً، عن المَعنى.

بالشّكل، يتمّ البحث، مسيحيّاً، عن المعنى.

في فضاءٍ واحدٍ – مكانٍ واحد.

لا تترددُ العين الفنيّة لحظةً في انحيازها الكامل الى اللاَّشكل ذلك أنّ المادّة فيه تبدو حركةً بلا نهاية. ويبدو فيه المعنى أفقاً بلا حدّ.

اللاَّنهاية هنا لا ترسمها المخيّلة وحدّها. لا يرسمها التوهّم. المادّة نفسها هي التي تفجّرها. وترسمها أبجديّة الحجر.

كأنّ الجامع، في هذا المنظور، سماءٌ على الأرض. ولهذه السّماء أبراجٌ، ولها أقواسٌ وأَعمدة. هكذا يبدو كمثل كوكبٍ من الأجنحة. ويبدو ما أُدخِلَ عليهِ من «أشكالٍ» باسم الكنيسة، كأنّه حشدُ أقفاصٍ وأغلالٍ. إنّها أشكالٌ – إضافاتٌ في غير مكانها – «جسداً»، و «روحاً». وما أبعدَها عن بَهَاءِ المسيح.

- 3 –

قرطبة هي، بالنسبة إليَّ، فَنّ. ولم يبقَ للحضور العربيّ – الإسلاميّ فيها، أيّ مَعنى عظيم، خارجَ الفنّ.

ربّما لهذا شغلتني، على نَحوٍ خاصّ، في أثناء إقامتي في قرطبة، بضعة أيّام، مسألة «الجسم» الإنسانيّ، منظوراً إليه، بوصفه «فَنّاً». وكان رقص الفلامنكو سبباً مباشراً في إثارة هذه المسألة.

لماذا يبدو «الجسمُ» في الثقافة العربية – الإسلامية، مرذولاً؟ لماذا «يُدَمَّر» يوميّاً، باستخفافٍ واحتقارٍ، وعلى نحوٍ منظّم، بشكلٍ أو آخر؟

هكذا «نفكّر» كما لو أنّ الجسم غيرُ موجودٍ – لا واقعاً ولا رَمزاً. وهو ممّا أدَّى الى عدم الاكتراث بخسارتهِ، أو موته. بل مِمّا أَدّى الى أن يُصبح قتلهُ مزِيّةً. أقتلُ الجسم: إذاً، أنا موجود!

لا أهميّةَ، في هذه الثقافة، لهذ الشيء الذي هو «جسم» الإنسان وترجمة ذلك، عمليّاً، هي أنّه لا معنى، ولا قيمة للوجود، وجود الشّخص، في العالم، أو في «الدّنيا» وفقاً للتعبير العربيّ. هكذا «يُقتلُ»، اليوم، بين المحيط والخليج، كأنه مجرَّدُ «مادّةٍ» تافهة: لا علاقة لها بالحبّ، والأمومة، والأبوّة، والصّداقة، والفنّ. كأنّه مجرَّدُ لُعبةٍ: يُقطع رأسُها، لِسانُها. تُنتزَعُ عيناها تُحوّل الى لُغمٍ. تُداسُ بالأقدام. بمتعةٍ، ولذّة.

من أين يَجيء هذا الفصلُ بين الشخص وجسمه؟ من أين تجيء هذه النّظرة الى الجسم كأنّه مجرّدُ آلة، أو مجرَّدُ وظيفةٍ بيولوجيّة؟

وكيف يَغيبُ، أو يُغيَّبُ النظرُ اليه بِوصفه، على العكس، «عمودَ» الإنسان؟ الإنسانُ غيرُ موجودٍ إلاّ بِفَضلِ جسمه. بجسمه يُعبِّر عن ذاتيّتهِ، وعَمّا هُوَ بين الأجسام. فالعلامة الأولى على وجود الإنسانِ هي جسمه. ففي «قَتْلهِ» تُقتل «ماديّة» اللّغة، وماديّة الثقافة: لا يبقى إلاّ اللَّغْو!

هكذا يبدو أن احتقارَ الجسم ليس، في عمقه، إلاّ احتقاراً للإنسان نفسه.

- 4 –

يكفي، أيها الحاضِرُ العربيّ، أن «تَنسى» قرطبةَ – الجسمَ والفنّ - يكفي أن «تكتب» تاريخكَ بالقَتْل.

يكفي أن تَلتصقَ بهذا الآخر الأميركي حَتّى أنّك تكاد أن تبدوَ أقلَّ من ظِلّ.

وانظر الى الخريطة العربيّة – الإسلامية: جسمّها كوكبٌ ضخمٌ، لكنّ صوتَها صوت عصفورٍ يكاد أن يختنق.

وفكّر: يكاد ألاّ يكون في الرّياح التي تهبّ على هذه الخريطة، أو تهب فيها، غيرُ الغبار الأميركيّ.