الجوهر الساكن والاداء الحي
المعرفة بين الخيال
والتجريب والحقائق الواقعية
عقيل مهدي يوسف
قد نختلف عند تقويمنا للجهود العلمية لهذا الباحث او ذاك في جدواها لخدمة واقعنا الفكري والاجتماعي او نميز الاضافة من الاجترار، والعقيم من المنتج النافع، على وفق تصورات محددة، لتلك الجهود ولو بعد حين من تتالي الحوادث والايام عليها. يبرز اسم زكي نجيب محمود من بين أبرز العقول المهمة التي خدمت الحقيقة من طريق خاص مميز هو (الوضعية المنطقية) التي حمل لواءها في اواخر القرن الماضي هذا الفيلسوف الرائد. وفي كتابه (نافذة على فلسفة العصر) اختزل لنا تاريخا من الافكار وتراه راغبا في تنمية التفكير الناقد، نابذاً القواعد الشائهة، والزائفة، التي تذهب بالجهود كلها الى آفاق مسدودة، بشرط الا نفهم من دعوته بانها نفعية مبتذلة ترى في الكلمة قوة (براكماتية) ذرائعية، تحجب عنها تلك القيمة الروحية المثلى، والملهمة.
وعلى طريقته يميز زكي نجيب الكائنات البشرية الكادحة من المستهلكة او كما يسميها، النملية، التي تكدس الاوراق لا النحلية التي تنتج عسلاً من رحيق الطبيعة، والمجتمع وقف (فرانسيس بيكون) (1561- 1626) ضد المعالجة اللفظية للعالم، في كتابه (أطلنطس الجديدة) وخلص الى ان العلم قوة، واداة لتغيير البيئة وتحقيق اغراضنا فيها . كان العلماء في الغالب مثل العناكب ينسجون النسج من اجوافهم، يثرثرون وهم لايقدمون ولايأخرون وكان العلم الطبيعي خيالاً يتخيلونه لا واقعا يعيشونه وحين جاء العلم التجريبي صار الخيال علما وعملا . هنا انبثق الاشتغال على استنباط القواعد، التي تثبت لنا ان بمقدور الماء ان يرويك من ظمأ او يقضي عليك بالغرق فيه، النار تنضج لك الطعام والنار تدلع الحريق المدمر. وفق هذه النظرة التجريبية الجديدة، انتقلت صورة الدنيا من رؤيتها اشياء وكائنات لها جواهرها الثابتة الى رؤيتها على انها علاقات. اختفى مايمكن تسميته بالنفاق الثقافي، عند الانسان في طريقة التعبير عن انتمائه الى العصر، ولم يعد مقبولاً، ان تعاصر زمانك (بظاهر) اللفظ، وتعارضه (بباطن) الايمان . جاليلو وازن ، بين الاذهان والاعيان، او بين الصفات الاولية، وهي في الاشياء ذاتها وبين الصفات الثانوية التي تخص آراءنا نحن ، هذه المقابلة بين الصفات قادت (ديكارت) ليميز بين الذات من جهة، والطبيعة من جهة اخرى، فالذات فكر خالص، والطبيعة امتداد خالص. وليحسم العلم الحديث هذا الاشكال، فيرى ان ليست هناك طبيعة وهنا عقل!! بل اصبحت الطبيعة والعقل كلاهما من نمط واحد، هو الاحداث او قل الحركة التي تتبدى بها الذرات المكونة للطبيعة والعقل معا لذلك تدرسها تخصصات علمية مختلفة: فيزياء ، فسيولوجيا، سايكولوجيا. وانتهى هوسرل الى ان ليس هناك بعثرة بين ماهو داخلي وخارجي اخذا على ديكارت، قوله (انا افكر) من دون ان يذكر لنا في اي شيء يفكر؟ لان التفكير بغير شيء يتعلق فيه ضرب من المحال فادراكي (لوردة حمراء) وامتزاجي بها في كيان واحد ساعة (الوعي) بها، ليس فيه ماهو (اولي) و (ثانوي) ليس فيه (موضوعي) و (ذاتي) لانه لحظة حية لاتقبل التحليل ليس في العالم الخارجي (وردة) تبعث موجات ضوئية يقابلها في الذهن صورة لها ترجمت الموجات الضوئية الى لون احمر، ليس الامر هكذا بل ان وعيي بهذا الجزء من العالم الخارجي حقيقة متصلة، فالاشياء حقائقها هي ظواهرنا في وعينا وليست هي بكومات من الصفات يتكوم بعضها فوق بعض في صندوق اسمه (عقل). الانسان يواجه الطبيعة على وفق علاقة اساسية، تقوم بين العارف بموضوع معرفته، علاقة العقل بالمعقول . ان تسلسل الاحداث تصنع تاريخ الظاهرة، لا جوهرها المزعوم. فباتت الذرة كهارب دوارة في افلاكها حول نواة، وليست كتلة صماء ويمكن تطبيق النظرة العلمية على الفن نفسه، ولو اخذنا المسرحية او العرض لوجدناه انماطاً من حركة ، وأنساقاً من علاقات وأطراً من بناء. انك لاتنتظر لترى موضوع المسرحية المعينة ومضمونها الفعلي لتقول انها مسرحية. بل يكفيك انها قد صبت في الاطار المعلوم الذي هو، شكل ، المسرحية، كما نعرفه او كما نريده.
اي ان طريقة البناء هي التي تحدد حقيقة واقعية او فكرية. والبنية تقع في صميم المنهج العلمي وعلى هيكلها يقوم الجبل، والانسان والقطعة الموسيقية، التي قد تتعدد ظروف عزفها، بل قد تتفاوت اجادة العزف في كل مرة، لكننا نظل نقول عنها انها قطعة موسيقية بعينها في جميع الحالات، لان البنية الصوتية واحدة. مسرحية (هاملت) تكون هي نفسها مكتوبة في كتاب ويشاهدها جمهور مختلف تبقى هويتها بالرغم من هذا التعدد. حدث المنعطف الجديد في طريقة معرفتنا للعالم، فانتقلنا من ادراكنا لجواهر الاشياء، الى طرائق بنائها وادائها لوظائفها، وفق ذلك البناء.
النهج التجريدي
كنا نستخرج صوراً شكلية للمنطق الذي نظن ان تفكيرنا العلمي، يسير على نهجه ونعتقده الواقع! ويأتي (برتراند رسل) ليرى في منطقه الجديد، ان العلاقات لا الحقائق المتعلقة بالاشياء، هي التي ان تم احكامها تملأ اطار تلك العلاقات بأي شيء تريد، لانها تخص منطقا رياضيا ويسير (هوايتهد) في النهج التجريدي، الرياضي نفسه، حين يرى ثباتا وتغيراً في اطار الانسان العام، وفي الحوادث العارضة وان قيام الاطار الرياضي النظري المنطقي امر لامندوحة عنه، لتضع فيه كل حادثة ترد في مجرى الخبرة المباشرة ويراد فهمها والا كيف تفهم حادثة، منتزعة من محيطها؟!
الفلسفة تمنحنا ذلك الاطار الفكري العام، الذي نضع فيه احداثا متناثرة لنفهمها حق الفهم. افلاطون بحث في العالم القديم (اليونان) عن مثل ثابتة، خالدة، حصل هذا في القرن الرابع ق.م. ويأتينا (سانتيانا) في القرن العشرين، ليذهب الى وجود عالم (للماهيات) فيه افكار عما يمكن حدوثه، وعالم (للوقائع الفعلية) فيه ماحدث حقاً. و(هوايتهد) يسبق لديه القانون الرياضي، وجود الشيء، الذي يسير بمقتضاه، اي ان الصور في عالم الممكنات ان هي الا صيغ رياضية مجهولة الدلالة، حتى اذا صب فيها هذا (الشيء) المادي او ذاك اكتسبت به دلالة معينة محددة. وخلافه عن افلاطون انه لايفصل بين عالمين مثالي وواقعي بل يشتق صورة الرياضية من كائنات واقعية فعلية . اذ ليس الا هذا العالم بكائناته ثم يجيء عقل الفيلسوف فيستنبط من كل كائن (صورته الرياضية) ويظل يضم الصور الرياضية بعضها الى بعض، حتى يتكون له المبدأ الاول، الذي يصاغ عالم الاشياء بمقتضاه. ويفرق (كاسيرر) بين المدركات العقلية في فروع العلم المختلفة، للرياضيات مدركات العدد للطبيعة مدركات المكان والزمان والطاقة ويخلص في كتابه (الجوهر والاداء) الى ان حقيقة الانسان ليست في جوهر ساكن، بل في اداء حي فعال. العقل، قدرة تعرف كيف تختار الاشياء فتوازن بينها لان العقل حقيقة فاعلة قبل ان يكون جوهراً قائما بذاته. تستوعب الصور الرمزية عند كاسيرر ليس العقل فقط بل الاسطورة والفن والدين. قال كانط لقد ايقظني (ديفيد هيوم) من سباتي الفكري لانه يقول ان سقوط الحجر للاسفل هو ما دلتنا عليه مشاهداتنا الحسية ولاعلاقة له بالعقل، اي يمكن افتراضا ان يرتفع الحجر الى الاعلى لا الى الاسفل، لو كانت (الحواس) بمشاهداتها هي وحدها ابواب (العلم الطبيعي) لوجب ان تنتهي الى النتائج التي خلص اليها (ديفيد هيوم) لكن الامر خلاف ذلك، فالحواس تأتينا بالمادة الخام من أحاسيس تصل الينا خليطا من طريق العين والاذن والجلد وغيرها، ولو وقف الامر عند هذا الحد لما كانت (معرفة) لكن وراء الحواس عقلا مجهزا بمقولات وقوالب تنصب فيها مادة الاصابات فتكون بذلك علما كما تنسق حروف المطبعة فوق صفحات الكتاب على نسق معلوم، فتصبح معاني، وليست حروفاً مفككة ويخلص كانط ان للمعرفة، احساسات تأتي من خارج، ومقولات عقلية تنظم تلك الاحساسات وهي من داخلنا لولا الاحساسات لظلت المقولات، فارغة من المضمون، ولولا المقولات لظلت الاحساسات، بلا معنى معقول.
ويحدد (البراكماتيون) حقيقة الفكرة لا في مقوماتها، بل ماتستطيع ان تفعله في دنيا الاشياء. فالفكرة (اداة) تطلب لما تؤديه، وليست هي كالصورة الفنية ننظر اليها في ذاتها. وفي ختام رحلته المعرفية يتأمل (زكي نجيب) واقعنا العربي، فيرى ان طائفة من رجال الفكر فينا، ملأوا شرايينهم بثقافة غربية خالصة، فكان وجودهم بيننا وجوداً (جغرافيا) وجوارا مكانيا فقط، واما ان يشاركونا في الوجود الزماني الذي يصل يومنا بأمسنا فهذا يستحيل عليهم ودعوته لاتخلو من مرارة يكابدها المثقف العربي الجاد وربما يجاري د. زكي نجيب آراء عصره في انسلاخ (الانتليجنسيا) المثقفة العربية عن واقعها وكأن السدود هي التي تحجز الفكرة الغربية عن الفكرة الشرقية، وهذه اشكالية خاضت في مظانها عقول عربية مرموقة لمعرفة الحد الفاصل بين الاصالة والمعاصرة او بين العربي والآخر. والقضية برمتها تتعلق في معرفة الكيف الذي تؤدي فيه الامانة الفكرية الخاصة بالنخبة المثقفة للناس أجمعين حسب قنوات تواصل حقيقية ترفد ظمأنا الى الحرية والتحضير والمعرفة ومغادرة البداوة، والسلوكيات المريضة التي لاتتناغم مع تطلعات مجتمعاتنا نفسها يقول زكي نجيب محمود ان في الوطن العربي : (افكاراً مبعثرة لكنها هوامل لاتجد الشوامل التي تجمعها وتصهرها وعذرا من ابي العلاء في كتابه (الهوامل والشوامل)!!
المعرفة بين الخيال
والتجريب والحقائق الواقعية
عقيل مهدي يوسف
قد نختلف عند تقويمنا للجهود العلمية لهذا الباحث او ذاك في جدواها لخدمة واقعنا الفكري والاجتماعي او نميز الاضافة من الاجترار، والعقيم من المنتج النافع، على وفق تصورات محددة، لتلك الجهود ولو بعد حين من تتالي الحوادث والايام عليها. يبرز اسم زكي نجيب محمود من بين أبرز العقول المهمة التي خدمت الحقيقة من طريق خاص مميز هو (الوضعية المنطقية) التي حمل لواءها في اواخر القرن الماضي هذا الفيلسوف الرائد. وفي كتابه (نافذة على فلسفة العصر) اختزل لنا تاريخا من الافكار وتراه راغبا في تنمية التفكير الناقد، نابذاً القواعد الشائهة، والزائفة، التي تذهب بالجهود كلها الى آفاق مسدودة، بشرط الا نفهم من دعوته بانها نفعية مبتذلة ترى في الكلمة قوة (براكماتية) ذرائعية، تحجب عنها تلك القيمة الروحية المثلى، والملهمة.
وعلى طريقته يميز زكي نجيب الكائنات البشرية الكادحة من المستهلكة او كما يسميها، النملية، التي تكدس الاوراق لا النحلية التي تنتج عسلاً من رحيق الطبيعة، والمجتمع وقف (فرانسيس بيكون) (1561- 1626) ضد المعالجة اللفظية للعالم، في كتابه (أطلنطس الجديدة) وخلص الى ان العلم قوة، واداة لتغيير البيئة وتحقيق اغراضنا فيها . كان العلماء في الغالب مثل العناكب ينسجون النسج من اجوافهم، يثرثرون وهم لايقدمون ولايأخرون وكان العلم الطبيعي خيالاً يتخيلونه لا واقعا يعيشونه وحين جاء العلم التجريبي صار الخيال علما وعملا . هنا انبثق الاشتغال على استنباط القواعد، التي تثبت لنا ان بمقدور الماء ان يرويك من ظمأ او يقضي عليك بالغرق فيه، النار تنضج لك الطعام والنار تدلع الحريق المدمر. وفق هذه النظرة التجريبية الجديدة، انتقلت صورة الدنيا من رؤيتها اشياء وكائنات لها جواهرها الثابتة الى رؤيتها على انها علاقات. اختفى مايمكن تسميته بالنفاق الثقافي، عند الانسان في طريقة التعبير عن انتمائه الى العصر، ولم يعد مقبولاً، ان تعاصر زمانك (بظاهر) اللفظ، وتعارضه (بباطن) الايمان . جاليلو وازن ، بين الاذهان والاعيان، او بين الصفات الاولية، وهي في الاشياء ذاتها وبين الصفات الثانوية التي تخص آراءنا نحن ، هذه المقابلة بين الصفات قادت (ديكارت) ليميز بين الذات من جهة، والطبيعة من جهة اخرى، فالذات فكر خالص، والطبيعة امتداد خالص. وليحسم العلم الحديث هذا الاشكال، فيرى ان ليست هناك طبيعة وهنا عقل!! بل اصبحت الطبيعة والعقل كلاهما من نمط واحد، هو الاحداث او قل الحركة التي تتبدى بها الذرات المكونة للطبيعة والعقل معا لذلك تدرسها تخصصات علمية مختلفة: فيزياء ، فسيولوجيا، سايكولوجيا. وانتهى هوسرل الى ان ليس هناك بعثرة بين ماهو داخلي وخارجي اخذا على ديكارت، قوله (انا افكر) من دون ان يذكر لنا في اي شيء يفكر؟ لان التفكير بغير شيء يتعلق فيه ضرب من المحال فادراكي (لوردة حمراء) وامتزاجي بها في كيان واحد ساعة (الوعي) بها، ليس فيه ماهو (اولي) و (ثانوي) ليس فيه (موضوعي) و (ذاتي) لانه لحظة حية لاتقبل التحليل ليس في العالم الخارجي (وردة) تبعث موجات ضوئية يقابلها في الذهن صورة لها ترجمت الموجات الضوئية الى لون احمر، ليس الامر هكذا بل ان وعيي بهذا الجزء من العالم الخارجي حقيقة متصلة، فالاشياء حقائقها هي ظواهرنا في وعينا وليست هي بكومات من الصفات يتكوم بعضها فوق بعض في صندوق اسمه (عقل). الانسان يواجه الطبيعة على وفق علاقة اساسية، تقوم بين العارف بموضوع معرفته، علاقة العقل بالمعقول . ان تسلسل الاحداث تصنع تاريخ الظاهرة، لا جوهرها المزعوم. فباتت الذرة كهارب دوارة في افلاكها حول نواة، وليست كتلة صماء ويمكن تطبيق النظرة العلمية على الفن نفسه، ولو اخذنا المسرحية او العرض لوجدناه انماطاً من حركة ، وأنساقاً من علاقات وأطراً من بناء. انك لاتنتظر لترى موضوع المسرحية المعينة ومضمونها الفعلي لتقول انها مسرحية. بل يكفيك انها قد صبت في الاطار المعلوم الذي هو، شكل ، المسرحية، كما نعرفه او كما نريده.
اي ان طريقة البناء هي التي تحدد حقيقة واقعية او فكرية. والبنية تقع في صميم المنهج العلمي وعلى هيكلها يقوم الجبل، والانسان والقطعة الموسيقية، التي قد تتعدد ظروف عزفها، بل قد تتفاوت اجادة العزف في كل مرة، لكننا نظل نقول عنها انها قطعة موسيقية بعينها في جميع الحالات، لان البنية الصوتية واحدة. مسرحية (هاملت) تكون هي نفسها مكتوبة في كتاب ويشاهدها جمهور مختلف تبقى هويتها بالرغم من هذا التعدد. حدث المنعطف الجديد في طريقة معرفتنا للعالم، فانتقلنا من ادراكنا لجواهر الاشياء، الى طرائق بنائها وادائها لوظائفها، وفق ذلك البناء.
النهج التجريدي
كنا نستخرج صوراً شكلية للمنطق الذي نظن ان تفكيرنا العلمي، يسير على نهجه ونعتقده الواقع! ويأتي (برتراند رسل) ليرى في منطقه الجديد، ان العلاقات لا الحقائق المتعلقة بالاشياء، هي التي ان تم احكامها تملأ اطار تلك العلاقات بأي شيء تريد، لانها تخص منطقا رياضيا ويسير (هوايتهد) في النهج التجريدي، الرياضي نفسه، حين يرى ثباتا وتغيراً في اطار الانسان العام، وفي الحوادث العارضة وان قيام الاطار الرياضي النظري المنطقي امر لامندوحة عنه، لتضع فيه كل حادثة ترد في مجرى الخبرة المباشرة ويراد فهمها والا كيف تفهم حادثة، منتزعة من محيطها؟!
الفلسفة تمنحنا ذلك الاطار الفكري العام، الذي نضع فيه احداثا متناثرة لنفهمها حق الفهم. افلاطون بحث في العالم القديم (اليونان) عن مثل ثابتة، خالدة، حصل هذا في القرن الرابع ق.م. ويأتينا (سانتيانا) في القرن العشرين، ليذهب الى وجود عالم (للماهيات) فيه افكار عما يمكن حدوثه، وعالم (للوقائع الفعلية) فيه ماحدث حقاً. و(هوايتهد) يسبق لديه القانون الرياضي، وجود الشيء، الذي يسير بمقتضاه، اي ان الصور في عالم الممكنات ان هي الا صيغ رياضية مجهولة الدلالة، حتى اذا صب فيها هذا (الشيء) المادي او ذاك اكتسبت به دلالة معينة محددة. وخلافه عن افلاطون انه لايفصل بين عالمين مثالي وواقعي بل يشتق صورة الرياضية من كائنات واقعية فعلية . اذ ليس الا هذا العالم بكائناته ثم يجيء عقل الفيلسوف فيستنبط من كل كائن (صورته الرياضية) ويظل يضم الصور الرياضية بعضها الى بعض، حتى يتكون له المبدأ الاول، الذي يصاغ عالم الاشياء بمقتضاه. ويفرق (كاسيرر) بين المدركات العقلية في فروع العلم المختلفة، للرياضيات مدركات العدد للطبيعة مدركات المكان والزمان والطاقة ويخلص في كتابه (الجوهر والاداء) الى ان حقيقة الانسان ليست في جوهر ساكن، بل في اداء حي فعال. العقل، قدرة تعرف كيف تختار الاشياء فتوازن بينها لان العقل حقيقة فاعلة قبل ان يكون جوهراً قائما بذاته. تستوعب الصور الرمزية عند كاسيرر ليس العقل فقط بل الاسطورة والفن والدين. قال كانط لقد ايقظني (ديفيد هيوم) من سباتي الفكري لانه يقول ان سقوط الحجر للاسفل هو ما دلتنا عليه مشاهداتنا الحسية ولاعلاقة له بالعقل، اي يمكن افتراضا ان يرتفع الحجر الى الاعلى لا الى الاسفل، لو كانت (الحواس) بمشاهداتها هي وحدها ابواب (العلم الطبيعي) لوجب ان تنتهي الى النتائج التي خلص اليها (ديفيد هيوم) لكن الامر خلاف ذلك، فالحواس تأتينا بالمادة الخام من أحاسيس تصل الينا خليطا من طريق العين والاذن والجلد وغيرها، ولو وقف الامر عند هذا الحد لما كانت (معرفة) لكن وراء الحواس عقلا مجهزا بمقولات وقوالب تنصب فيها مادة الاصابات فتكون بذلك علما كما تنسق حروف المطبعة فوق صفحات الكتاب على نسق معلوم، فتصبح معاني، وليست حروفاً مفككة ويخلص كانط ان للمعرفة، احساسات تأتي من خارج، ومقولات عقلية تنظم تلك الاحساسات وهي من داخلنا لولا الاحساسات لظلت المقولات، فارغة من المضمون، ولولا المقولات لظلت الاحساسات، بلا معنى معقول.
ويحدد (البراكماتيون) حقيقة الفكرة لا في مقوماتها، بل ماتستطيع ان تفعله في دنيا الاشياء. فالفكرة (اداة) تطلب لما تؤديه، وليست هي كالصورة الفنية ننظر اليها في ذاتها. وفي ختام رحلته المعرفية يتأمل (زكي نجيب) واقعنا العربي، فيرى ان طائفة من رجال الفكر فينا، ملأوا شرايينهم بثقافة غربية خالصة، فكان وجودهم بيننا وجوداً (جغرافيا) وجوارا مكانيا فقط، واما ان يشاركونا في الوجود الزماني الذي يصل يومنا بأمسنا فهذا يستحيل عليهم ودعوته لاتخلو من مرارة يكابدها المثقف العربي الجاد وربما يجاري د. زكي نجيب آراء عصره في انسلاخ (الانتليجنسيا) المثقفة العربية عن واقعها وكأن السدود هي التي تحجز الفكرة الغربية عن الفكرة الشرقية، وهذه اشكالية خاضت في مظانها عقول عربية مرموقة لمعرفة الحد الفاصل بين الاصالة والمعاصرة او بين العربي والآخر. والقضية برمتها تتعلق في معرفة الكيف الذي تؤدي فيه الامانة الفكرية الخاصة بالنخبة المثقفة للناس أجمعين حسب قنوات تواصل حقيقية ترفد ظمأنا الى الحرية والتحضير والمعرفة ومغادرة البداوة، والسلوكيات المريضة التي لاتتناغم مع تطلعات مجتمعاتنا نفسها يقول زكي نجيب محمود ان في الوطن العربي : (افكاراً مبعثرة لكنها هوامل لاتجد الشوامل التي تجمعها وتصهرها وعذرا من ابي العلاء في كتابه (الهوامل والشوامل)!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق