١١‏/٠٩‏/٢٠٠٦


نجيب محفوظ

محمد الأحمد
خسارة كبيرة، توقف نجيب محفوظ عن الانتاج القصصي والروائي.. خسارة شاخصة سوف تبقى علامة بارزة في مسيرة الادب العربي.. نجيب محفوظ كالمتنبي كالسياب وكالماغوط وربما اعظم بكثير وكثير جدا من اي عبقري/ اديب في تاريخ العربية… خسارة لايمكن القول بها كانها خسارة وحسب.. خسارة باهظة، واليم عظيم… لقد اخترع (الجبلاوي) ووصفه وصفا حقيقيا اكثر مما وصفه غيره من صناع الكلام… وكان فليسوفا حاجج الفكر العربي في ابجدياته على لسان شخوصه، واقترح سبلا للإرتفاع به عاليا، كتب الرواية الكلاسكية كالثلاثية، وغيرها واثبت بانه كاتبا في مصاف العالمية، ولكانت جائزة (نوبل) باطلة لو لم تفتخر بانها اعطيت لواحد كالعملاق (نجيب محفوظ)، وكتب الرواية التاريخية فاعاد كتابة التاريخ المسكوت عنه، كـ(عبث الاقدار)، و(رادوبيس) وغيرها، وكتب عن تاريخ الحارات وكشف اسرارها الدفينة، (الحرافيش)، وكما كتب الرواية الذهنية كـ(الشحاذ)، وغيرها، ومن يقرا رواية (الف ليلة وليلة) يجده قد كتب جديدا عظيما لم يأخذ حقه من الدرس، بالرغم من ان نجيب محفوظ قد استطاع ان يعبر الرقيب العربي بلغة جزلة شفافة بليغة.. فلم يمت عبقري الرواية وعملاقها في العالم اجمع، و سوف يعيش محفوظاً ابدا… لانه سوف يقرأ مجددا، اذ توقف عن الكتابة ليس اكثر، ولكنه سوف يقرأ آلاف المرات.وتبقى رواياته على الدوام حديثة ومعاصرة.
 Posted by Picasa
عبد الرحمن مجيد الربيعي
يكتب
عن
نجيب محفوظ


امام الموت نقف برهبة، بعضنا يبكي والآخر تحتقن دموعه في قلبه. ومهما قطع المرء من سنوات وهو يتنفس هواء الله فان هذه اللعبة الغامضة المسماة الحياة لا بد لها من خاتمة. يتساوي كل الاحياء امامها، الصعلوك والامير، يتأمل المرء البشر وهم يملؤون الشوارع والمقاهي، ويضجون بالحياة وتضج بهم. وعندما يري ما هم عليه من حفاوة بالشباب والمال وربما الجاه يدرك في الان نفسه وبدون اي تعسف ان كل هؤلاء الذين يراهم لن يكونوا بعد مئة عام مثلا، سيذهبون كل الي قبره ويخلون اماكنهم للاولاد والاحفاد، وهكذا تمضي اللعبة وكأن الحياة مارست معنا خدعتها ثم مدت لسانها لنا ومضت.حديث الموت هذا يلح علي كثيرا، ما معني ان تكون اليوم بكامل عافيتك وغدا تحت التراب؟ هذا المشهد تكرر امامي آلاف المرات حتي اصابني التحجر بعد ان قفزت مرحلة الخوف الي تقبل الآتي ابتعد ام قرب!ورحيل نجيب محفوظ استطرادا لما اسلفت كان متوقعا ليس يوم الاربعاء 30 آب (اغسطس) من عام 2006 بل قبل هذا بكثير حتي قبل ان ينغرس خنجر الغدر في عنقه من احمق محتقن اعترف امام القضاة بأنه نفذ ما اريد منه وانه لم يقرأ الرواية مثار الجدال اولاد حارتنا ولا اي رواية اخري له.لقد عاش هذا المبدع بارادة وعزم نادرين، اصيب مبكرا بمرض السكري فانتصر عليه بانضباط كامل في الطعام والمشي والاعتدال. كأن الرسالة الابداعية التي ادرك بحدسه العجيب انها عهدته وحده دون ابناء جيله هي التي جعلته واقفا ليكتب. وهذا ما كان. وانا هنا لا اريد ان ابخس الآخرين قيمة ما انجزوه، ولكن الاستثناء المحفوظي هو في هذا الامتداد المتواصل والاضافات الحية.قرأت نجيب محفوظ مبكرا جدا، منذ الابتدائية حيث كنا في ذلك الزمن لا نملك الا ان نقرأ حيث القراءة المتعة الممكنة فلا تلفزة ولا سينمات تقدم افلاما جيدة، حتي الراديو لم ينتشر بشكل واسع واذاعة بغداد لا تبث الا ساعات معدودة كل يوم ثم توقف بثها حتي اليوم التالي.قرأت محفوظ بالتزامن مع اعمدة الثقافة العربية في مصر كطه حسين والعقاد وسلامة موسي، ومع محفوظ قرأت بعض معاصريه امثال احسان عبد القدوس، السباعي، محمد عبد الحليم عبدالله، وغيرهم الا انه كان الاستثناء بينهم اذ ان قصصه ورواياته لا تسلمك الي الحلم والوهم بل الي اليقظة والمجابهة وتأخذك الي حيث النبض الساخن للحياة.كتبوا عنه كثيرا حتي لا يمكن ذكر عدد الكتب التي صدرت عنه، ليس في مصر فقط بل وفي كل البلاد العربية واصبح ضيفا دائما علي البرامج الدراسية في المعاهد الثانوية والجامعات وكتبت عنه اطروحات عديدة، اي ان نجيب محفوظ قد رأي ثمار الشجرة المهيبة التي غرسها بل وتمتع بهذه الثمار ومع كل هذا لم يغادره تواضعه العجيب الذي عرفته منذ اول لقاء لي به في مقهي ريش عام 1975 حيث كان يخصص وقتا للقاء الادباء الشبان ولا يهمل اعمالهم التي يهدونها له. وكم يزهو الاديب الشاب عندما تأتيه شهادة منصفة منه، واعترف لكم ان هذا ما حصل لي عندما اهديته روايتي البكر الوشم فجاء ليحدثني والآخرين عنها.واقول ان محفوظا بقدر ما يتعلم الشبان منه فهو ايضا يتعلم منهم، يصغي اليهم، يتعرف علي هواجسهم، يتظاهر بانه شارد عنهم، ولكنه كان يصغي اليهم، يتجدد بهم، يعرف الي اي مسار تمضي الاحداث. وعندما يكتب فانه يواصل دور الشاهد الابدي علي ما يجري. وبذا اصبحت رواياته وكأنها تاريخ مصر الحديث قبل ثورة يوليو 1952 الي ايامنا هذه حتي انه اخذ يوثق الاحداث الكبيرة التي شكلت منعرجات في تاريخ مصر مثل اغتيال انور السادات في روايته يوم قتل الزعيم .وقد علمنا نجيب محفوظ كيف نحتفي بالمكان. نتوقف عنده، نعيد تشييد ما تهدم منه فينهض من جديد روائيا. واذكر انني في زيارتي الاولي لمصر السبعينيات ترافقت مع اخي الروائي جمال الغيطاني الي عالم نجيب محفوظ، ازقته وحواريه وابطاله الذين تجددوا بالآتين من نسلهم او المصطلين بهمومهم اذ كانت رؤية هذا العالم بما فيه مطلبي الملح من زيارة القاهرة.لم يكتب محفوظ من مسافة وبعين سائح بل كتب بروحية الذائب في هذه الجموع في دورانها المفزع في احشاء مدينة لا يدري المرء كيف تستوعب اكثر من خمسة عشر مليونا! كما لا يدري المرء كيف استوعب ادق ايقاعاتها وهواجسها هذا الروائي الراصد الحكيم!يمكن القول ايضا ان نجيب محفوظ هو روائي المدينة بامتياز، وروائي الطبقة المتوسطة بشكل خاص اذ انه ابنها وصوتها، وجد نفسه يجوب احد احيائها الشعبية حيث ولد وقريبا من سيدنا الحسين الذي صلي علي جثمانه فيه بناء علي وصيته.وحاول محفوظ ان يمزج بين العلم والدين واجدا الصلة بينهما في ملامح وسلوكيات ابطاله، ورغم تناوله للموضوعات الساخنة كالسجن السياسي والتعذيب الا انه لم يعرف الانتماء السياسي بمعناه الحزبي واحتفظ دائما بمسافة بينه وبين التعامل السياسي المباشر.كما انه لم يعرف السجن السياسي او اتخاذ مواقف حاسمة مما يجري، وهو بشكل وآخر ظل ضمن السياق الرسمي دون ان يقاطعه او يوقع البيانات ضده ولم يحصل هذا الا مرة واحدة بتأثير من توفيق الحكيم كما ذكر ضمن اجواء مؤسسة الاهرام الصحافية وحيث استطاع الاستاذ محمد حسنين هيكل ان يجمع عددا من الكبار ليكتبوا فيها، امثال الحكيم والدكتورة بنت الشاطئ ويوسف ادريس ومحفوظ وآخرين.ذكر محفوظ مرة انه موظف لدي القصة لذا كان يكتب بانتظام وبعدد معين من الساعات، فالرجل لا تعرف حياته الفوضي، بل النظام والنظام الصارم المفزع، من اليقظة الي النوم الي السيكارة وفنجان القهوة والذهاب للعمل او التمشي.عندما رأيته للمرة الاولي في ريش التي مضي عهدها ذاك بعد الانفتاح الساداتي وغادر محفوظ جلسته الاسبوعية فيها انتبهتُ الي انه لا يدخن السيكارة الا بعد ان ينظر الي ساعته، ولا يطلب فنجان قهوة باشارة متفق عليها بينه وبين النادل الا بعد ان ينظر الي ساعته ايضا. وعندما ينتهي الوقت المحدد للمقهي ينهض مغادرا. واذكر انني توجهت له بسؤال حول هذا الانضباط الذي يناسب العساكر لا المبدعين بما فيهم من نزوات وفوضي وعصيان وخروج. وكانت في سؤالي لهجة الاستغراب فما كان منه الا ان اجابني بأن هذا الانضباط الذي تراه ما هو الا غطاء لفوضي الداخل. وقد نشر الحوار في مجلة الاقلام العراقية في منتصف السبعينيات.كان الوجه الذي نراه من محفوظ في العمل والمقاهي والشارع يقابله الوجه الآخر الذي شكل حياته الخاصة التي ظلت احداثها ضربا من التوقعات والتخمينات حتي حصوله علي نوبل فاقتحم بيته من الزوار والصحافيين ورأوا زوجته وبنتيه وكيف يعيش ولم تكن هذه الحياة معروفة الا لدي القلة.وربما كان الحوار الطويل الذي اجراه معه الناقد رجاء النقاش ونشره في كتاب اشبه بسيرة ذاتية له حيث اعترف بين ما اعترف به ان عالم الليل والعوالم والعوامات والسكر والحشيش عاشه بنفسه وبكل ما فيه وعندما كتب عنه كتب من موقع العائش والعارف وليس المراقب.محفوظ قدم لنا مكتبة روائية كاملة. وكأنه لم يكن وحده من كتبها بل كان جهد ورشة كاملة من الكتاب، واعتقد ان اعماله الروائية حوت ذري مهمة مثل الثلاثية والشحاذ والكرنك واولاد حارتنا وصولا الي العمل الروائي الاستثنائي ملحمة الحرافيش فأحلام فترة النقاهة التي كان يدونها في ذاكرته ثم يمليها علي من يكتبها له بعد ان عجزت يده عن ذلك اثر طعنة الغدر من ذلك الفتي المحتقن عماء وغباء.نجيب محفوظ هو مدونة الرواية العربية في رجل وهذا الحكم لا ينال من الجهود السابقة او الموازية او اللاحقة وهي جهود كبيرة بدون شك.رأيته آخر مرة في العوامة الشهيدة التي اصبحت ملتقي محبيه معه حفاظا علي امنه وسلامته قبل عامين تقريبا واثناء انعقاد مؤتمر الرواية العربية وعندما وقعت عليه عيناي احسست ان حجمه قد صغر عن المرة السابقة التي شاهدته فيها وصافحته وقبلته بعد حصوله علي جائزة نوبل عام 1988 وكنت احد المدعوين لحضور الاحتفال الذي اقامه الرئيس مبارك علي شرفه في القصر الجمهوري.بدا لي في آخر لقاء وكأنه ايقونة نادرة، وجودها الجميل وحده يجعلنا نحس بالامان رغم انه لم يكن يرانا او يسمعنا جيدا ومع هذا كانت ذاكرته حية، وعندما اوصل له اخي يوسف القعيد اسمي رحب بي وسألني بود: فين اراضيك يا عبد الرحمن؟ فقلت: تونس وردد عبارته الشهيرة: (يا خبر)، احسست وقتها انني احلم بأن اراه ثانية وهذا ما كان.سلام الله عليك يا أبانا في حياتك وموتك، وثق ان لك ابناء شرعيين خرجوا من صلب عطائك، ومن مدرسة ابداعك ولن يمارس احد معك جريمة قتل الأب ابدا، أبدا، فأب مثلك نتباهي بالانتماء إليه.
 Posted by Picasa