٠٨‏/٠٤‏/٢٠٠٦



رواية العطر لباتريك زوسكند

واقعية كضربٍ من الخيال

محمد الأحمد

من دون شك بأن بطل رواية (العطر) البديعة لـ(باتريك زوسكيند) هي شخصية متخيلة، مخترعة، ولا يمكن أن تكون حقيقية، بالرغم من أنها عاشت بيننا، وما كساها مؤلفها إلا لحماً ودماً وموقفا، فصرنا لن ننسها أبداً، لأنها شخصية فاعلة، وخارقة قد أسبغ عليها المؤلف أوصافا لا يمكن أن تنطبق على إنسان، (وإذا كان اسمه اليوم قد طواه النسيان، على نقيض أسماء نوابغ أوغاد آخرين، مثل دوساد، سانت جوست، فوشيه، أو بونابرت[1])، لأجل أن تبقى تعيش بيننا تتحدى النسيان، وتتحول إلى كائن قد عاش على هذه الأرض وترك أرثا عظيماً، بأفعاله، كما أي شخص حقيقي قد ولد ومن بعد حياة حافلة قد مات. (أنا الوحيد الذي أدرك مدى جماله الحقيقي، لأنني أنا من أبدعه- الرواية[2]) شخصية بقيت تثير الإعجاب، وتمضي بقارئها كأنها تأخذه مسحورا، وبقيت كشخصية روائية بقيت مكتسية بثقافة المؤلّف الذي ولد عام 1949م، حيث بدأ موسيقيا فاشلا، وأصبح فيما بعد صحافيا ناجحا، درس التاريخ في جامعة ميونخ 1968-1974م، كتب مسرحية (عازف الكونترباس) مونودراما في فصل واحد في عام 1981م اصدر رواية العطر عام 1985م، وفاز عام 1987م بجائزة غوتنبرغ، (يعيش حاليا في باريس متفرغا لكتابة السيناريوهات السينمية)، و (العطر) رواية مشوقة لا يمكن لقارئ ما تركها، أو نسيانها، واغلب أحداثها تحلل الطبيعة البشرية بكل تفصيل، كونها حوت خصائص سردية مثيرة، والمؤلف عاد بها إلى تاريخ 17-7 -1738م، يوم مولد بطلها صاحب الأنف الأسطوري بتحسسه للروائح (جان بالتيست غرنوي) في مزبلة نتنه، من أزقة باريس الخلفية، (في أكثر أماكن المملكة بأسرها زخماً بالروائح- الرواية- ص 7)، وُلد من أم عاملة (صبية في منتصف العشرينيات من عمرها، والتي مازال جمالها باديا- الرواية[3])، وقد تركت أخوته (كما فعلت في الحالات الأربع السابقات[4]) دون رجعة تحت طاولة تنظيف السمك، امرأة في فقر مدقع، بائسة، تعمل في شارع قذر، حيث تعمل على تنظيف فضلات السمك، وكان في نيتها أن تتركه هناك مع الفضلات كي يموت، ويُلقى في النهر مع النفايات. أدى ذلك إلى افتضاح أمرها، ساقها إلى المحكمة، فالإعدام تحت المقصلة. أما الطفل المسخ (كان قبيحا، ولكن ليس إلى درجة أن يرتعد الإنسان من بشاعته- الرواية[5])، تنقل بين المرضعات اللواتي كنّ يتركن دون أسف عليه لما يبثه فيهن من شعور بالتقزز لجشعه المفرط في رضع الحليب، فلم تقبل به إلا مرضعة بائسة، كانت لا تشم، ولا تشعر بما حولها، قبلت به انتحارا، وكل ذلك لا يضفي على الشخصية بأنها حقيقية، شخصية اجترحت بذكاء بالغ، شحّ نظيرها في الروايات العالمية، حيثُ أمضت الرواية في انف قارئها فعلا قرائيا، وليس عبر عينيه، فإطار الرواية التاريخية هو القرن الثامن عشر، ومساحتها الرئيسية هي الروائح بشكل عام والعطور بشكل خاص، معتمداً المؤلف على مرجعية علمية متخصصة بصناعة العطور في ذلك الزمن، وتراكيبها، والمواد الأولية لها ومقادير الخلطات، وسارت الحكاية تجول في الطبيعة مقارنة بما يشمه الأنف من مزارع الزهور، وسردت درساً لجغرافية باريس البراقة، ومختلف المناطق الفرنسية التي سارت عليها أحداث روايته.‏ شخصية (غرنوي) منعزلة، مبدعة، متأملة، مكتشفة، ساعية إلى اكتشاف المجهول، ولكنها ليست غامضة إلى الحد الذي يتصوره العديد من النقاد فهي مثيرة للإعجاب، حيث يشدنا الراوي إليها منذ اللحظة الأولى، ويعطينا دفقا طيبا من المعلومات المتواصلة والمتجددة، دون مقدمات في عالم العطور، والزهور، وكيفية تفكيك المزيجات، والعودة بها إلى أصولها، إضافة إلى كيفية استخلاص أذكاها، وخلطات عجيبة بعضها متوفر أن لم يكن هنا، فهو يوجد هناك، فالشخصيات والأحداث والأماكن والمشاعر والمواقف ترسمها روائحها، وكأنه لم يبق كتابا في زمانه عن العطور إلا واطلع عليه، ولم يكن قد ترك تركيبا لعطر ما، إلا والمؤلف قد جربه، عملا، أوشمّاً، (فلم يعد يشم الخشب فحسب، بل أنواع الخشب، كالاسفندان والبلوط والصنوبر والدردّار، والدرّاق، كما بدأ أنفه يميز بين الخشب العتيق والطازج والهش والمتعفن والطحلب، بل بين أنواع الحطب وكسراته وفتاته- ص27)، وقد استعاض عن العين المبصرة بالأنف الدقيقة الشم التي أصبحت راوٍ يصف أدق التفاصيل، وأعمق المشاعر، وأعقد المواقف، وأكثرها غرابة.‏ حيث لا يعرف من الأشياء التي حولها سوى رائحتها، وأصبح بذاكرة روائح يقارن بها الحيوات المحيطة به أجمعها (فلقد قضى ليالي طويلة أمام الأنبيق محاولاً بأي طريقة كانت بواسطة التقطير التوصل إلى روائح طيبة جديدة، لا يعرفها العالم بعد في شكلها المركز هذا، إلا أنه لم يتوصل إلاَّ إلى بعض الزيوت لنباتات سخيفة، أما نبع تصوراته الغني الذي لا ينضب، فقد بقي مستغلقاً عصياً، لم تخرج منه أية قطرة لرائحة محسوسة، وخاصة تلك التي كان يحلم بها، وعندما أدرك مدى فشله سقط مريضاً حتى كاد أن يموت- الرواية).‏ من اجل أن يعطي القارئ موضوعية (غرنوي) المثيرة للجدل حيث تركه بلا رائحة تدل على شخص البطل، وهذا ما أبقاه غريبا غير مستدل عليه، في هذا الجو الخانق الموبوء بالروائح الزنخة المتعفنة، مخلفا الرعب في نفسه لأنه لا يستدل إليها من خلال رائحتها، بمعنى انه لا يعرف موقعه فيما يريد أن يعرف، (وضع سبابته ووسطى يسراه تحت انفه وتنشق عبر ظهريهما. شمَّ هواء الربيع الرطب المبهر برائحة الشقائق، لكنه لم من إصبعيه أي شيء قلب كفه وتشمم باطنها، أحس بدفئها، ولكنه لم يشم شيئا، شمَّر أكمام قميصه الممزق ودفن انفه في باطن كوعه، كان عارفا بان هذه النقطة التي تفوح منها الرائحة الخاصة بكل شخص، لكنه لم يشمَّ شيئا، كانت المفارقة مذهلة، فهو (غرنوي)، القادر على شم رائحة أي إنسان على مسافة أميال لا يستطيع شم نفسه- الرواية[6])، فيشعر به كل من رأى (غرنوي) يشبه شبحا، كون مؤلف قد أوجده كيانا بلا رائحة على الإطلاق، (خامرهُ إحساس غريب أن هذه الرائحة الطيبة هي المفتاح لعالم الروائح الطيبة الأخرى كلها- الرواية).‏ كان يشم كل شيء حتى بصمات الإنسان، فالبصمة عنده، تعرق الأصابع، وما تتركه (حياته حتى الآن كانت لا أكثر من وجود حيواني غارق في ضباب كثيف يغلف معرفته بذاته، لكن هذا اليوم بالتحديد هو الذي جعله يدرك أخيراً هويته الحقيقية، أي أنه عبقري، لا ريب في ذلك، وأن لحياته معنى ومقصداً وهدفاً ومصيراً علوياً، هو ببساطة تثوير عالم الروائح، وأنه الوحيد في العالم الذي يمتلك الوسائل لتحقيق ذلك، أنفه ذو الحساسية المتميزة، ذاكرته الخارقة، والأهم من كل ذلك عبق فتاة شارع (دي ماريه) المدموغ في ذاكرته والذي كانت صيغته السحرية مشتملة على كل ما يحتاجه لخلق رائحة رائعة، أي خلق عطر الرقة، القوة، الدوام، الجمال المتنوع المرعب الذي لا يقاوم، لقد وجد بوصلة حياته القادمة- الرواية).‏ لقد وجد (غرنوي) على هذه الطبيعة وفق منطق متسلسل هي التي أوصلت مؤلفه إلى هذه القناعة بهذه الطبيعة الأعجوبة وافتقاده للرائحة البشرية، تمخض عنها قدرة عجيبة أخرى هي حاسة الشم الخارقة، فيشم العالم كله، والعالم كله لا يشمه هذه القدرة الخارقة على الشم وتمييز أدق الأشياء من روائحها جعلته كمن يرى بأنفه متخطياً الجدران والأبواب المغلقة، ما دام لا يحتاج إلى عينيه في التعرف على الموجودات، بواسطة أنفه العجيب، وحاسة شمه الخارقة جعلته، شفافاً، يود معرفة ما سيمكنه معرفته بأنفه كقارئ (إلا أنها لم تكن تشبه الليمون الحلو أو الكبّاد، ولا المرّ، أو أغصان القرفة أو البتولا أو الكافور، أو إبر الصنوبر، ولا مطر أيار، أو ريح الجليد، أو ماء النبع. كانت رائحة دافئة، ولكن ليس كدفء الياسمين أو النرجس ولا كدفء النارنج أو السروّ أو المسك، وليس كدفء خشب الورد أو الزنبق الملون ذي الأوراق السيفية- الرواية).‏ وبقيت الحكاية تتحكم في مساحة الرواية لتضم تشويقاً إضافيا إلى التشويق المعرفي، (أخبره بالديني أن هناك عدة طرق من بينها هرس الأزهار بالزيت أو الدهن وهي أكثر جودة من التقطير. وأن منطقة غراس في الجنوب مشهورة بهذه الطرق)، لان المبدع قد صنع من بطله أنموذجا تراجيديا، متميزا، يتعاطف معه من يقرأه، ويكون القراء متعاطفين مع بطله على حد سواء فمن بعد أن كبر قليلا قذفت به المرضعة (مدام غايار) إلى دبّاغ يُدعى (غريمال) ظنا منها بأنه ذا فأل سيء فتسبب في انقطاع عنها الدفعة السنوية من قبل الدير، وراح يعمل صغيرا جدا في حرفة خطرة جداً، حيث سلخ جلود الحيوانات المتفسخة.‏ بقي بطل الرواية معذبا، ومعدما لا يبغي سوى المسار خلف ما يبهجه، وحيث لا يبهجه سوى الرائحة، وبقيت الروائح وفرزها كل أمانيه.. (كان يعمل أربع عشرة ساعة يومياً، عملاً تعافه الأنفس، وتكلّ عنه سواعد الرجال الأشداء. لكنه كان يقاوم الأمراض ومشقة العمل بصبر عجيب، حتى عندما أصيب بالجمرة الخبيثة نتيجة عمله في المدبغة وظن (غريمال) أنه ميت لا محالة، قاوم المرض، ونجا منه بعد أن ترك على وجهه ورقبته ندوباً زادته بشاعة- الرواية).‏ وكأي بشر حقيقي عرف الحب، والمرأة، وبواسطة انفه أيضا، فللحب رائحة جذبته وقلبت موازينه، وصارت لديه أمنية أن يمتلك تلك الرائحة، فـ(المرة الأولى التي شمّ فيها أنفه رائحة لطيفة طيبة، شعر بقلبه يتعذب هذه الرائحة كان لها خاصية منعشة: هذه الرائحة، التي تتبعها أنف (غرنوي) كانت رائحة فتاة في الرابعة عشرة، وامتلاكه لرائحة الفتاة دفعة لخنقها وتشمم جسدها كاملاً حتى الثمالة كي لا يضيع منه شيء من عبقها، ومنذ هذه اللحظة عرف (غرنوي) طريقه- الرواية)، و قد ابتدع أيضا الراوي شخصية معادلة لـ(غرنوي)، عندما أهله للعمل عند أشهر صانع عطور في باريس هو (بالديني) الذي كان يعاني من منافسة عطار آخر صنع عطر (الحب والروح) الذي لقي رواجاً عظيماً. لكن (غرنوي) استطاع ان يكسب الثقة التامة بمعرفته كشف سرّ هذا العطر وتركيبته، وأن يستخرج ذات العطر (الحب والروح) بل إنه أجرى عليه تعديلاً فأنتج عطراً يفوقه روعة، وهذا ما أعاد لـ(بالديني) سمعته وجعله يستخدم (غرنوي) في معمله كي ينتج له عشرات العطور المبتكرة التي أذهلت الناس وجعلتهم يتسابقون على شرائها.‏ وفي الوقت نفسه كانت غاية (غرنوي) من العمل عند ه هو معرفة أسرار صنعة العطور كيفية استخلاص رائحة معينة، وتحويلها إلى عطر، أما التراكيب، فإن ذاكرته الشميَّة قادرة على التميز وتفكيك الروائح المزيج، ولك ما تعلمه عند بالديني لم يكن ليشبع نهمه، فقد كان مشغولاً بالتفكير في كيفية استخلاص الرائحة بطريقة غير العصر والتقطير، فتجربته معه كانت لشبه برحلة (غرنوي) إلى الجنوب وصولاً إلى مدينة (غراس)، وعمله عند (مدام أرنولفي) في ورشتها للعطور وتجريبه لاستخلاص الروائح بواسطة الدهون تشكل الجزء الأكثر موضوعية وفق منطوق الرواية، حيث جعله يبتكر عدة عطور تحدث تأثيرات مختلفة في الآخرين، فهذا عطر (الاستعطاف) الذي يوحي للآخرين بأنه يستحق العون والمساعدة، وذاك عطر (النفوّر) يدفع الناس للابتعاد عنه، وذلك عطر يُشعر الآخرين بأنه في عجلة من أمره، وهكذا... تمهيداً لتركيب العطر الذي يحلم به ويجعل الآخرين يموتون حباً به، الذي ارتكب من اجله خمس وعشرين جريمة، ضحاياه من العذراوات اللائي لم يتجاوزن الرابعة عشرة وقد حققه، وحقق به موته، فقد تمكن ان يغير وجهة الرأي العام به، ومن قاتل سفاح في أعين الناس إلى صديقا حميما، ومحبوبا من قبل الجميع، و من فرط هيامهم به وبرائحته الذكية، تلقفوه إلى حد تقطعت أوصاله بين أيدي مريديه، وضاعت أشلائه بين الناس، والرواية لم تمت كونها، أحيت على الورق بطلاً روائيا، قد فتح باباً لن تغلق بموت الشخصية، أو بموت مؤلفها.. ‏

‏03‏ نيسان‏، 2006

www.postpoems.com/members/alahmed


[1] ص5 – ترجمة نبيل الحفار- 2003م الطبعة العربية الثالثة صادرة عن دار المدى .

[2] ص 236

[3] ص 7

[4] ص 7

[5] ص 25

[6] ص 129


mu29@hotmail.com

محمد الماغوط (1943-2006م)

بقلم: محمد الأحمد

يشغلُ (الماغوط) أهم الدراسات المهتمة بالشعر الحديث، لأنه اهتم بقضايا عصره؛ شعره كما نسمة هواء باردة تخلل أيامنا العربية القائضة، فقد كتب الشعر من رحم جديد، ولم يستطع احد ما أن يزاحمه على تفرده. الشعر عنده حياته التي لا يستطيع أن يحملها اقلّ مما يجب أن تحتمله الحياة، لغته عذبة تصل كالخط المستقيم إلى هدفها وكأنها رصاصة مصوبة لن تحيد، يعتني كثيرا بموسيقاها، وكأنه من كثرة حبه لسماع الموسيقى يظنوه انه احد دارسيها، او احد العازفين، يتحدث بإسهاب عن (بتهوفن) و(موتزارت) و(جايكوفسكي)، ويعطي أراء متميزة بهم وكأنهم مجاليه في الشعر، والحياة، كما له أراء متميزة في الشعراء الأعلام، فمثلا (يرى محمود درويش غير صادق)، و(نزار قباني بائعاً على باب الله)، و(البياتي موهوماً بالمطاردة رغم أنه لم يدخل مخفراً في حياته)، و(ادونيس يكتب طلاسم)، وأيضا يظن أن أغنية فيروز (كيفك إنت) تساوي كل شعر (البحتري). وحين تقابل (الماغوط) تجده يجلس في المقاهي المعدمة يدخن أرذل أنواع السجائر، ولكنه سوف يحدثك كأستاذ جامعي ملمّ بما درس في الشعر الإنساني قاطبة، على الرغم من انه لم يحمل مؤهلا دراسياً سوى الابتدائية، فانه بشعره تحول إلى ظاهرة بليغة، وعلامة بارزة في الشعر الحديث، شاعر أحب الأيام التي ثقلت على المثقف، وكتبها كما أحبّ الإعجاز اليومي، شاعر الأرصفة المهجورة، والأزقة المتعرجة، والدم والدمع والجراح والتسكع، وحين يسأل عن المقاهي التي في بلدته فانه سوف يسرد بحب عن أشهر ما يميز المقاهي التي يرتادها، حيث لم يبق مقهى في مكان إلا وقد جربه، وعرف فيه ابرز شخصياته المتواضعة، فهو مبدع كبير، تتداخل مفرداته من بساطة اللذين يجلس إليهم، ويتداخل مع همومهم، لأنه صاحب الهم نفسه، حيث شعره يدل عليه بأنه مبدع لدرجة الظاهرة، وصادق حدّ الحدة، يعرف الهجاء فقط، ويعيش مع المتعبين والمهمومين. ويقول بان مرجعيته اللغوية القران، ولا يجيد أية لغة أخرى، غير العربية اليومية، ومرجعيته الذهنية هم الذين يشاكونه في المقهى ويشاركونه شاي المقاهي المحروق، ولا يمكنه الكتابة يوما ما لم يطلع الرصيف، ويشم دخانه، ويتلذذ بالضجيج كأي (بوهيمي) متصعلك. فهو الشاعر الذي يمتد شعره فوق الأزمنة، ويطالها بلمة أصابعه عندما يمسك القلم، ويدون صورا، وليس كمن يكتب؛ انه ينحت بأزميل دقيق، ومفرداته دقيقة، لا يمكن استبدالها إلا بالمفردات التي هو أبدعها، قال عنه (حنا مينة) يوما: (محمد الماغوط يغزل في جنون الشجاعة، الشعر شجاعة، وفي المبضع الأصيل، الجارح، بفقء الدمامل النتنة، المدودّة، ثم في ترف اللفظ، يعطي اللفظ جمالاً فاتكاً، ويعطيه أيضاً راحة حنوناً، يمسح على القلوب الكليمة من الأسى، حاملاً إليها في القنوت رجاء، وفي الإظلام نوراً وفي اليأس أملاً وللبراءة من وجع الفاقة والمرض موعداً منظوراً في الزمن آتياً لا ريب فيه)، وقد حضر (الماغوط) في ضمير القارئ العربي، لان وجد في تجربته الحقيقة التي لم يعد غافل عنها إلا إعلام السلطة، والذي بقي يطبل بعيدا عن ما يشغل الشارع، كون الإعلام يسير وفق ما يرومه منه السائس، وابتعد (الماغوط) عن المجاراة والمحاباة، سواء بشعره، مسرحه، مسلسلاته التلفزيونية، أو حتى أفلامه التي عمل عليها لأجل أن يأكل، ولم يكن يحب أية سلطة، ولم يسعى لأجل أن ينال رضا أي حاكم، أو ملك، رغم شهرته التي ملأت آفاقنا المحلية والعالمية، ومن الجدير بالذكر بان الفنان (دريد لحام) هو من اشترى له مسكنا، من بعد أن طارده الفقر والإملاق، وقبل أن يفوز بجائزة العويس الثقافية، وقد استحقها بجدارة، يذكر انه قال؛ عندما تسلم الجائزة (ما أحلاك أيها الشاعر الشقي تحمل الدولارات بيديك وتدعكها بأصابعك! إنها المكافأة المادية التي أتت متأخرة ولكنها أتت أخيراً). وشعره تقرأه مرة تلو أخرى، وتشعر بأنك تقرأه للمرة الأولى، فهو شاعر قادر دوماً على صدم قارئه، فاستطاع أن يحتل مخيلة من يقرأه، مستوفيا له الاستنتاج بعد الآخر، شاعر محتكم على أسباب جراحه البليغة، محولا إياها إلى عموم البشرية جمعاء، (تجربة سهلة وغير معقدة، وأسراره الجميلة غير مغلقة ولغته بسيطة ولكن ممتنعة طبعاً، لأنها لغته هو، لغته الشخصية النابعة من مزاجه الحاد، ومن جسده وروحه، من إحساسه الدائم بخيبة الضحية في عالم بلا رحمة، وفي حياة بلا عزاء). بقي حتى أيامه الأخيرة قارئا نهما، ويقرا ما يقع تحت يديه، ومحافظا على تألق جملته المتجددة، وكأن شعره كتب لليوم محتج، ورافض، غاضب ورقيق، وحشي وشفاف.. شاعر قادر على مواجهة الشيخوخة. ولد في (حماة) عام 1943، وفي شبابه هو يذكر الطرفة التالية: أدعى أنه (دكتور) فنشرت له مجلة (الآداب) أول نص شعري عنوانه (غادة يافا)، وكان يفتخر بان بلا شهادة جامعية، وانه كان متطوعا في سلك الشرطة، حيث عمل رئيسا لتحرير إحدى الإصدارات التي كانت تصدر أيام ذاك، و(الماغوط) حين يتحدث إلى احد فانه يهمين عليه ويشده بكثافة معلوماته، ويعطي بلا توقف في أسلوب رصين، وبصوت تحسه صاف رغما عن الدخان الذي يحشرجة بسعال يخضه خضاً، حتى تدمع عينيه، نظرته ثاقبة تخترق محدثه، لا تشبه إلا صاحبها، في (حزنه) و (فرحه)، في فجاجته ولطافته، في بدويته وحضريته. بقي (الماغوط) الرجل القادر على إثارة الأسئلة في الشعر أكثر من الأسئلة الموجهة إليه ليجيب عنها، يستشرف بان له تأثيراً في الأجيال التي تلته والأجيال التي تتلو بعضها بعضاً. شاعر مجيد يحول الكلام العابر إلى قصائد راسخة جلدة، متحدية، لا تعطي نفسها إلا لمن يصغي إليها بمهابة قدسية.

أهم مؤلفات محمد الماغوط

· حزن في ضوء القمر- شعر (1959)، غرفة بملايين الجدران- شعر (1960)، العصفور الأحدب- مسرحية 1960، المهرج - مسرحية عام 1998، الفرح ليس مهنتي- شعر (1970)، ضيعة تشرين- مسرحية (1974)، شقائق النعمان- مسرحية، الأرجوحة- رواية 1974، غربة - مسرحية (1976)، كأسك يا وطن- مسرحية (1979)، خارج السرب- مسرحية (1999)، حكايا الليل- مسلسل تلفزيوني، وين الغلط- مسلسل تلفزيوني، وادي المسك - مسلسل تلفزيوني، الحدود- فيلم سينمائي، التقرير- فيلم سينمائي، سأخون وطني- مجموعة مقالات (1987)، سياف الزهور- نصوص (2001).

مختارات

· (مدينتي محجبه، ولكن بالياسمين)، (عندما أكون جائعا، لا اكتب بل أقاتل)، (مثلما يقال أن السياسية هي فن الممكن هكذا هو الشعر أيضاً فن الممكنات عِبْرَ التأويل، الترميز، الإيقاع و المخيلة و مُوحيات أخرى لا نهاية لها)، (الشاعر لا يتلون حسب الفصول، إنه يملك إستراتيجية شعرية حتى و أن مات هكذا على أريكته آخر أخباري مثل أولها)، (إنني مثل رومل أقاتل على عدة جبهات: الشعر/ المسرح/ الصحافة/ الأصدقاء/ الأعداء، خائضاً حتى الركبتين، في مستنقع الفقر و الفقراء) (الأسنان فائض قيمة أو إنتاج يجب أن تزول و قد حقق لي القضاة العرب هذه الأمنية باستجواب واحد) ، (كنت بذيئاً بالسليقة، ثرثاراً بالفطرة، و في عالم تنازعه أوتار شوبان، واكلة لحوم البشر، كلما قضى أحد خصيانه بسبب التعذيب، صار الخبز و السيف، والتغوّط محور الشر في حياتي، قبل أن تدخل هذه العبارة أبواب البيت الأبيض و البنتاغون، تشبث بموتك أيها المغفل !!)

‏05‏ نيسان‏، 2006

mu29@hotmail.com