٠٢‏/٠٨‏/٢٠٠٧


مـأزق المثقفيـن العراقييـن
الأصوليون أكثر قدرة على التكيّف مع العصر
سعد محمد رحيم
أجهز انقلاب (ثورة) 14 تموز 1958 (العسكري) على التيار الليبرالي الناشئ في العراق، دفعة واحدة، فأطاح بالدستور الدائم والحياة البرلمانية والحزبية، وحرية التعبير والصحافة، وهذه كلها لم تكن بأحسن حال، فكانت لها ثغراتها وأمراضها المستعصية، وتستند إلى أرضية سياسية واجتماعية قلقة وهشة، وجاء انقلاب 17 تموز 1968 (العسكري) ليجهز على التيار اليساري على دفعات، لا بالفتك بالحزب الشيوعي العراقي فحسب، بل بتصفية الخط اليساري القومي، حتى داخل تنظيم حزب البعث، ممهداً من حيث احتسب القائمون به، أو لم يحتسبوا لصعود التيار الديني الأصولي بتشعباته الطائفية. وحين سقط نظام صدام حسين، ودخل العراق عهد الاحتلال ومرحلة إعادة بناء الدولة على أسس ديموقراطية، كما يشاع، استيقظ العراقيون، ولا سيما المثقفين منهم، على حقيقة الضعف المريع للتيارين (الليبرالي واليساري) في الساحة السياسية العراقية. وهكذا أصبحت شريحة المثقفين عزلاء ومكشوفة الظهر، وتكاد تكون بلا سند سياسي واجتماعي. وباستعارتنا الاصطلاح من القاموس العسكري يمكن القول ان هذه الشريحة فقدت عمقها الاستراتيجي، محلياً وعالمياً، هي التي كانت مدعومة، أو على الأقل تشعر بذلك، من قبل ثلاث قوى رئيسة تستمد نسغها منها، هي:
1ـ اليسار العالمي مجسداً بالكتلة الاشتراكية والحركة اليسارية في الغرب وحركات التحرر في العالم الثالث. وقد وهن هذا اليسار كثيراً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي وتراجع حركة اليسار، عموماً، في أوروبا الغربية، وفشل برامج التحديث والتنمية والبناء والإصلاح السياسي والاجتماعي التي بشرت بها حركات التحرر في معظم بقاع العالم الثالث.
2ـ الطبقة الوسطى، أو البرجوازية المحلية الناشئة، التي تحدرت منها نسبة واسعة من شريحة المثقفين، والتي أفرزت، في الغالب، التيارين الآنفي الذكر (الليبرالي واليساري). هذه الطبقة جرى التنكيل بها خلال العقدين الأخيرين فأُفقرت وهُمشت وهاجرت من أبنائها، إلى خارج البلاد، الملايين.
3ـ الأحزاب ذات التوجه اليساري والليبرالي. فبعد أن كان المثقفون يشتغلون تحت المظلة الحزبية، أو بدعم مباشر أو غير مباشر من أحزاب معينة، قومية وشيوعية، وإذا بهم، بعد شحوب بريق تلك الأحزاب وانكفائها، يجدون أنفسهم في عزلة وضيق، كما لو أن سفنهم التي وراءهم احترقت فيما هم أضاعوا دليلهم الذي يرشدهم في المفازات المظلمة.
في مناخ كهذا، وأمام وقائع دراماتيكية مأساوية، وبعضها مخزية، يعيشها العراق الآن، يتخلق المثقف الهلامي الحائر والمصدوم، وبعبارة الدكتور حيدر سعيد (المقهور) بديلاً عن المثقف الحزبي. هذا المثقف تشوش ذهنه وتثقل روحه أسئلة وخواطر شتى، لا يعثر على إجابات لها، فتزيده إحباطاً ويأساً وإحساساً بالعجز والهامشية. فما الذي يمكنه فعله عدا الاستمرار بالاستغراق في عالم المثل والأوهام، وصب اللعنات على هذا وذاك، والحنق على الواقع الذي لم يتحول على وفق ما كان يشتهي؟!
أسئلة:
هل المطلوب، الآن، من شريحة المثقفين، أداء وظيفة تتجاوز النطاق الثقافي والإبداعي؟ وبوضوح أكثر؛ هل على المثقفين، الدخول مباشرة إلى معترك السياسة بعدّة الثقافة؟ وإلى أي مدى؟ هل عليهم توسيع حدود تجربتهم بعدّهم أفراداً في المجتمع ومنتجين لمادة ثقافية في الوقت نفسه؟ أم أن المسألة تفرض شيئاً أكبر، تفرض مأسسة للفعل والإنتاج الثقافيين؟ أتراهم (هؤلاء المثقفين) يمتلكون الاستعداد والإرادة والقدرة والمستلزمات ليتفاعلوا ويؤثروا من خلال مؤسسة أو مؤسسات طابعها ثقافي ولها امتداد في الحقل السياسي؟ هل باستطاعتهم أن يتحولوا إلى جماعة ضغط (لوبي) يحسب السياسيون حسابها، ويمكن للمجتمع، أو فئات منه، التعويل عليهم؟ وكيف؟ وهل المناخ العام، السياسي والاجتماعي والأمني، يوفر لهم الشروط والأرضية اللازمتين لتحقيق مثل هذا الأمر؟ وإذا اتفقنا أن طرق المثقفين وأساليبهم التي استخدموها في المرحلة الكولونيالية وعهد الاستقلال والحكم الوطني وزمن الحرب الباردة لم تعد تجدي في ظرفنا الحالي العاج بتناقضاته وصراعاته المعقدة وتحولاته السريعة فهل بمقدورهم (أي المثقفين) اجتراح طرق وأساليب ووسائل وأفكار واستراتيجيات تتوافق مع المتغيرات الصادمة، وأحياناً اللامعقولة، في بلدهم، ومع معطيات عصر العولمة والقطبية الواحدة وما بعد الحداثة؟ والسؤال الأهم، في هذا السياق، ماذا يريد المثقفون على وجه التحديد؟
ثم؛ هل ثمة هواجس مشتركة وحس مشترك، ومعاناة مشتركة، ومصالح مشتركة، وأفكار وتصورات مشتركة بالحدود الدنيا تجعلهم نسيجاً واحداً، أم أنهم ليسوا سوى (أنوات) مبعثرة يخضعون لاعتبارات وانتماءات ومصالح متباينة، وأحياناً متضادة، ولا يجمعهم جامع سوى الاشتغال في الحقل الثقافي والإبداعي؟
هذه الأسئلة وغيرها تضغط على أذهان كثر من المثقفين الذين يتملكهم اليوم شعور بالإحباط والمرارة، إذ يرون مراتع طفولتهم والأمكنة التي أسست ذاكرتهم، فضلاً عن أحلامهم وآمالهم، وأكاد أقول أوهامهم، تنهار وتُخرَّب أمام أعينهم من غير أن يستطيعوا فعل شيء. فواحدة من مآزق المثقفين الكثيرة هي أنهم مهددون في ذاكرتهم التي هي الجزء الأهم من رأسمالهم.
مثقفو الداخل والخارج
ليس من السهل إلغاء ذلك التباين المركب داخل مجتمع المثقفين العراقيين وقد جرى تقسيمه على وفق معيار البقاء في البلاد أو مغادرتها لتشيع تسمية (مثقفو الداخل ومثقفو الخارج)، أي بين من عاشوا داخل العراق إبان عهد صدام حسين وبين من تشردوا في المنافي، وحيث يبدو الأمر مفتعلاً من زاوية ما يتكشف عن تمظهرات وإفرازات من زاوية أخرى. فذلك التباين الذي قد يطال طرق الرؤية والمعالجة الفنية والفكرية وأشكالها وزواياها، يتخطاه إلى المزاج والوضع النفسي وجانب من القناعات، حتى ليكاد يحدث شرخاً في خريطة ثقافتنا المعاصرة، وعند بعضهم يتعمق ذلك الشرخ إلى حد مريع. وإنْ كنت أعتقد أن أحد أسبابه الرئيسة، فضلاً عن أسباب موضوعية كثيرة، يعود إلى سوء الفهم بين الطرفين أكثر من أي شيء آخر. وتتصل بالمعضلة السابقة معضلة مستجدة تتمثل في خروج عدد آخر، غير قليل، من المثقفين الذين حسبوا على مثقفي الداخل لأسباب أمنية أو سياسية أو معيشية فيما عاد عدد قليل (جداً) من المثقفين المنفيين إلى بلادهم، وهذا ما يضفي على خريطتنا الثقافية تعقيداً جديداً، أو قل فراغاً جديداً. فمساحة أخرى من الساحة تُخلى، يوماً بعد آخر، نتيجة الهجرة والهرب والتصفيات الجسدية. مساحة أخرى سرعان ما يندفع لاحتلالها جيش من الديماغوجيين وأنصاف الأميين والشعاراتيين وأشباه المثقفين والانتهازيين ومن لف لفهم، ناهيك عن الأصوليين المتعصبين الذين يمعنون فتكاً بتاريخ ثقافتنا ورموزها ومنجزها.
أما إنكار حدوث مثل هذا الشرخ الذي يضاف إلى شروخ أخرى تسببت بها صراعات الأحزاب والتيارات السياسية منذ نصف قرن أو أكثر، فهو، كما أحسب، من الأخطاء المؤذية. وللأسف ليس من الموضوعية وصف الشروخ والصراعات التي تتخذ عند بعضهم بعداً طائفياً أو عرقياً أو إيديولوجياً متطرفاً، بالتنوع الذي هو سمة كل بيئة ثقافية صحية وحية ومنتجة، بل ان الأمر لا يتعدى كونه نوعاً من التشرذم والتمزق واللاانسجام داخل تكوين شريحة المثقفين. فانعكاس تداعيات وإفرازات الصراعات السياسية والاجتماعية وإعادة إنتاجها داخل ذلك التكوين يفصح عن هشاشة وضعف وأمراض متوطنة، وعدم نضج مؤس، وبطبيعة الحال هناك استثناءات، لكنها غير قادرة على تغيير الصورة غير السارة بشكل مؤثر وحقيقي.
وبعد خروج المثقف الذي عاش في الداخل من خانق العهد السابق حيث المحرّم السياسي إلى مناخ آخر كان طابعه الحرية الواسعة، وأكاد أقول المنفلتة في البدء، نراه يختنق، راهناً، بمحرمات أشد ضراوة، حرّاسها بعض المؤسسات الدينية والاجتماعية، وبعض الجماعات التي لا تتتقن غير صناعة الرعب والموت.
مفارقة ما بعد حداثية!
ثمة مفارقة غريبة نلمسها في علاقة المثقفين الذين يدّعون التقدمية ويبشرون بالتحديث وبعالم ما بعد الحداثة وأحياناً بالعولمة مع عصرهم وعالمهم الذي يدافعون عن قيمه ومنجزه التقني والعلمي والثقافي والإبداعي، سواء بقبوله على علاته أو بروح نقدية. ويقفون ضد أولئك الأصوليين الذين يعادون التحديث والتقدم ويبشرون بالعودة إلى شكل للمجتمع والدولة يعتقدون أنه كان فاعلاً قبل قرون طويلة وبالمقدور استعادته الآن. والمفارقة هذه تتجلى في شعور المثقفين بالاغتراب في مجتمعهم وعصرهم وعدم قدرتهم على استخدام وسائله وأساليبه وتقنياته بفاعلية في نشر قيمهم وأفكارهم، فيما ينجح الأصوليون في هذا الجانب مستخدمين منجزات ما بعد الحداثة من ميديا ووسائط اتصال واستراتيجيات مبتكرة لتسويق معتقداتهم وأفكارهم والتبشير بنمط الحياة الذي يبغونه. أي ان الأصوليين باتوا أكثر حذاقة ومرونة في التكيف مع متغيرات العصر بما يدعم أهدافهم فيما يخفق المثقفون (الحداثويون) في عملية التكيف هذه. ففي الوقت الذي يتواصل الأصوليون مع شبكة الإنترنت، في سبيل المثال، مؤسسين مواقع خاصة لهم، لا تعد ولا تحصى، ويظهرون بالعشرات على القنوات الفضائية يومياً، نجد أن كثراً من المثقفين ما زالوا لا يتقنون التعامل مع جهاز الكومبيوتر وشبكة الإنترنت، ونادراً من يظهر منهم على الفضائيات لطرح وجهة نظره وأفكاره. فضلاً عن عدم استثمار تلك التقنيات في التواصل في ما بينهم بالطريقة التي تجعل منهم قوة ثقافية لها سلطتها في الحقلين السياسي والاجتماعي. في الوقت الذي تتم عملية الدخول الفعّال إلى الحقل السياسي والثقافي، اليوم، في أرجاء العالم المختلفة، عبر بوابة ثورة المعلوماتية والميديا.
صحيح أن الأفكار الأصولية تجد مرتعاً لها وقبولاً وسط الفئات الأقل ثقافة وتعليماً في الغالب وأنها تستفيد من انتشار أمية القراءة والكتابة والأمية الثقافية والأمية المعلوماتية، إلاّ أن هذا لا يسوّغ بأي حال إخفاق المثقفين، (وهم رسل التقدم والتحديث مثلما يدّعون)، في أن يكون لهم صوتهم المؤثر في الوسط الاجتماعي والسياسي. ولهذا لا يأبه رجال السياسة بما يقوله ويكتبه المثقفون في ما يحسبون حساب رجال الدين والدعاة وشيوخ الطرق الصوفية ورؤساء القبائل الذين غدوا فاعلين اجتماعيين وسياسيين مؤثرين أكثر من غيرهم.
وصحيح أيضاً أن سياسات العهود السابقة قد وسّعت من مساحة الأمية والجهل، وهذه المساحة تجعل من الديماغوجيين والشعاراتيين وأصحاب الأصوات الجهورية أكثر جاذبية وتأثيراً بينما لا يجد صوت المثقف العقلاني/ النقدي الهادئ والعميق صدى واستجابة. وإذ ظهرت شخصيات أصولية وعشائرية لها بعض المواصفات الكارزمية، لم تفرز الشريحة المثقفة العراقية، خلال العقود الأخيرة، من بين أفرادها، مثل هذه الشخصيات التي تكون لها حضورها وسطوتها الإعلامية والاجتماعية. فمع غياب المؤسسة الثقافية النشيطة والشخصية الكارزمية التي يمكنها تقديم خطاب ثقافي حضاري جديد يعكس النزوع العام للشريحة نفسها، و(مشروعها). (مع وضع كلمة مشروعها بين قوسين، لما تثيره من التباس في الذهن يُحيل إلى تراث المشاريع الفاشلة التي تبناها المثقفون في القرن العشرين، وربما منذ منتصف القرن التاسع عشر). أقول؛ مع هذا الغياب المزدوج يستحوذ على المثقف العراقي، اليوم، شعور باليتم والقهر والضياع.
فوضى العالم والبلاد
المثقفون، الآن، في موقف الذهول، فالعالم حولهم يتغير بسرعة هائلة ومجنونة، ويبدو للوهلة الأولى وكأنه ينقاد إلى الفوضى ويصعب التحكم به وإدارته، فهو عالم يتحول إلى قرية كونية صغيرة بفضل وسائل الاتصالات والإعلام الحديثة ويحقق فتوحات جبارة في الميدان العلمي والتكنولوجي من جهة، فيما يطبعه العنف والصراعات المحلية والدولية والتعصب والفوارق الطبقية غير المسبوقة في سعتها وحدتها وظلمها البيّن، وانتشار الأمية والجهل من جهة ثانية. أما داخلياً (عراقياً) فيبدو المشهد أكثر تناقضاً وتعقيداً وقتامة حيث المعطيات والمتغيرات والصراعات تتلاحق وتتداخل حد الفوضى ليقترب المشهد في جانبه الدموي من حدود الكارثة إن لم يكن قد تجاوزها. وفي مشهد كهذا يمكن تخيل صورة المثقف كائناً حائراً وعاجزاً عن الفهم، ومن ثم عن الفعل، يضرب أخماساً بأسداس، ويحس أنْ لا حول له ولا قوة، مهمشاً، لا يكاد يعرف موضع قدمه، ويكاد يفقد الثقة بنفسه، وأحياناً، إنْ لم تأخذه العزة بالإثم، قد يعترف بهذا كله. هذا المثقف لم يستطع بعد إنتاج خطاب ثقافي يستجيب لمقتضيات العصر ويرتقي إلى مستوى التحديات التي تواجهه وتواجه بلده. والذريعة أن ما يجري لا يترك له فرصة لالتقاط أنفاسه، والتأمل بروية وعمق، بفرض أن شرط إنتاج خطاب حقيقي هو توفر مثل تلك الفرصة، وهنا يتجلى واحد آخر من مظاهر مأزقه. ومع غياب الخطاب تتعثر مبادرات التنظيم المؤسساتي والعمل المشترك، فيما تُقابل المبادرات من أية جهة كانت لجمع المثقفين المشتتين في إطار منظم بالشكوك حيث تتلبس القومَ، في كل مرة، شياطين نظرية المؤامرة.
وحتى هذه الساعة، أخفق المثقفون في إيجاد آليات وتقاليد ولغة حوار، بعضهم مع بعض، وكأن كلاً منهم ينفخ في قربته الفارغة ولا يأبه للآخرين، وهم بهذا إنما يعكسون حالة حوار الطرشان التي تسم علاقة القوى السياسية العراقية في ما بينها، فيما يُقتل العشرات في كل يوم، في طول البلاد وعرضها.
ولأن المثقفين يشعرون بالعجز والفشل يصب بعضهم جام غضبهم على القوى الخارجية الاستعمارية والإمبريالية، ويلتفت بعضهم الآخر إلى المجتمع الذي يصفونه بالأمي الجاهل والمتخلف الذي لم يفهم خطابهم، ويمارس بعضهم الثالث جلد الذات من خلال اتهام المثقفين أنفسهم بما أصاب البلاد والعباد وتقريعهم وتحميلهم المسؤولية، جزءاً أو كلاً. فيما يرمي بعض قليل إلى مراجعة التجربة السابقة برمتها برؤية نقدية تاريخية عميقة وصريحة، ومواجهة الذات بشجاعة ومن غير مواربة، أو بعبارة أخرى إخضاع هذه الذات (الفردية والجماعية) معتقدات وممارسات، أي مجمل التجربة الفكرية والسلوكية لها، إلى التحليل والتفكيك النقديين، قبل الإقدام، أو على الأقل مع ولوج معترك الفعل الثقافي والسياسي على أرض الواقع. وهؤلاء، كما أشرنا، للأسف، قلة قليلة، ولكنهم مصممون حيث يتسع نطاقهم ودائرة تأثيرهم يوماً بعد يوم، وإنْ كان ببطء. فهل لنا أن نتفاءل؟

غياب الزمن ومتن الحكاية في قصص زمن ما كان لي..
بلاســـم الضاحي

تمهـــــــــيد :
ساهمـــــل الظواهـــــــر المتمـــــيزة إبداعيـــــــا، بقصد، والموزعـــــــة بحضـــــــور مــــهم على مساحات، النصوص واشــــــتغل على ما أجــــده منخفضا فنيا، منطلقا من النص، مســــتفيدا مــن مفــــردة ( الزمن )، التي وردت في عتبـــة العنـــوان والتي تشـــظت إلى عناوين ثانوية فرضت هيمنتها كبؤرة دلالية تقود القارئ.. للدخول من خلالها نحو ماهيات النص .
الانعكاسات الذاتية على النص :
ربما لمزاملتي ومعرفتي الشخصية بتفاصيل حياة القاص المثابـــــــــر(محمد الأحمد) وجدت ما أنتجته تجربة (زمن ما كان لي) انعكاسات شخصانية والتقطات ذاتية في قص الواقع دون أن ينقله إلى ما هو متخيّـل يثير أسئلة جمالية ومعرفية تطرحها تقنيات القص وتوصلها لبلوغ غاية النص. فتعمد منذ بواكير كتاباته الأولى إلى جعل نصوصه حاضنة للسيرة الشخصية وظل بهذا الاتجاه معتمدا على إثارة ذاكرته لإنتاج نص (استرجاعي) يمرره إلى المتلقي عبر أفعال وحكايات تحركت في حيزه الشخصي، محاولا تأسيس علاقات افترضها على إنها تحمل مفارقات الواقع ، لم ينجح في تحويلها إلى علامات تؤشر بدائلها ، فظل متمسكا بـ (المرأة) على إنها بؤرة يتمركز فيها الواقع بكل مكوناته ، ليوجه سؤاله الذي يفترضه في متقعرات وهمية في حكاياته (المسطحة) خافيا إخفاقاته في هذا التقعر الوهمي الذي اختاره للعبور نحو تسويق نصوصه بنشرها منفردة سرعان ما تكتشف هذه اللعبة إذا ما اجتمعت هذه النصوص في مدونة واحدة. ففي معظم نصوصه نجده يفتتح عالمه بالمرأة وذلك بحشد الحكاية وتسطيرها مستفيدا مما احتفظت به ذاكرته التي تتحرك في دائرة مغلقة مركزها المرأة دون أن تنفتح إلى فضاءات أخري فظلت كتاباته (سيرة موضوعية، ذاتية) لكنها ليست سيرة مدونة بخط تأريخي تنقل تفاصيل سيرة شخصية منظمة مما أحالنا إلى تشابه وتكرار شخصياته في نمطية شخصية واحدة هي شخصية المؤلف عبر أفعالها وتجاربها أو طروحاتها التي تحوله إلى راوي للحدث دون أن يتدخل في تحريك خطوطها المستقيمة نحو رسم أشكال جديدة تطرح رؤاها داخل النص المحكوم بذاتية المؤلف ودون أن يسهم ـ المؤلف ـ في صياغة حيوية لدور الحدث فظلت شخصياته مطابقة لما تعكسه مرايا الذات نحو الورق ...... (كنت أقول لعصفورتي الوديعة/ عيناك ص22)، (كنت امشي طويلا وراءها/ خفة زمن ص28)، (شاخصا بعيني بقيت أتابع تدحرج السنين الثقيلة على وجهها/ زمن مضى ص31)، (بقي بين يدي شعر رأسها المنسدل بطراوة ندية / زمن الأبيض البرئ ص34)، (ما هكذا يا كريم دع المرأة/ ما آل إليه ص 64)، (اكتب إليك التماسا/ زمن بارز ص 72)، ( يرخي عليّ الزمن سدوله / فاصلة زمن ص 81)، (تترقرق ضحكتها على بياض التذكر/ روى بعض ما لم يرو بعض ص 89)، ( لم أكن أتخيله فحسب بل أراه / زمن علبة الحليب الفارغة ص 98)، (ما عليّ إلا أن أهول ما أتخيل، واجعلها مشوقة بما يجعلها تغريها ، ترغبها بالبقاء عندي / بقية زمن ص 113)، (كان الليل ممتدا عليّ بلا ملل / زمن الابن ص 120)، (يشدّ عليّ الهواء الساخن/ رئيس سابق لم اعرفه ص 125)، ( كنت قبل اليوم في زمن آخر/ زمن ما كان لي ص 135 )
العنـــــــــــــــوان :
تنطوي عتبة العنوان الموسومة (زمن ما كان لي) ـ والتي تشظت الى عناوين ثانوية بواقع (20) عنوانا من ضمن (24) عنوانا كل ما احتوته متون المجموعة ـ على تركيز مفردة (الزمن) الذي يتجه نحو دوائره الثلاث ـ الماضي، الحاضر، المستقبل ـوالتي انضوت تحت مديات المعنى الفيزياوي للزمن دون أن يحدث ـ العنوان ـ حضورا بصريا مهما يمكن تخيله ضمن المتون النصية التي انضوت تحت (زمن ما كان لي) وذلك ما غييب الإيقاع البصري الذي يشبع فضول المتلقي عند انزياحه نحو المتن الذي غييب مستقبلاته البصرية واشتغل على الإيقاع الذهني الغير سهل على آلية التخيل بإظهاره من خلال آليا القص العاجزة عن ابداع جملة قصصية مكتنزة تنتج إيحاءات تحيط بالحدث والفعل إحاطة شاملة تفعّل أدوات التصوير وتزيد من الفاعلية الذهنية المستقبلة بسبب الإحالة إلى ذاتية محطة (ما كان لي)، فحدد بذلك زمن الزمن بفعله الماضي الناقص (كان) فاوجد له زمنه المحصور في (الاسترجاع) الذي شكل المتون كلها وجعلها بؤرة محصورة في هذا الزمن وبذلك جاءت العناوين الثانوية في سياقات الزمن الماضي دون الإشارة للفعل الماضي في تكوينها الصوري ( المكتوب)، وثمة احتمال آخر، قد يكون - زمن ما قد كان لي - وهب انه يفتح نحو حرية مزوجة للقراءة، وبهذا قد كرر كمبدع للعبة ابداعية لن اتطرق اليها. لاستقطاب أو الجذب الذي يصنعه العنوان الرئيس والمنساب إلى تشجيراته الثانوية يأتي من حاجة الناص إلى تعميق الصلة بين الرئيسي والثانوي بمحاولة لشد أواصر المتلقي وجلب انتباهه باتجاه التنويعات التي تدور في فلك هيمنة مفردة (الزمن) المتشظية والتي غيبت مهمة التشظي بابتعاد العنوان عن دوائر الأحداث على اعتبار ـ العنوان ـ يرسم مسارا إلى المتلقي نحو المتون ويفسر ما يحكى له من خلال معرفة الهواجس التي تبثها النصوص باتجاه التلقي واستثمارها كبؤرة أو بوصلة استدلال يجوب بها جغرافية المتون والتي أراد لها القاص ـ عن وعي ـ أن تنزلق من الغلاف نحو المتن كعلامات فارقة تدعو القارئ للتوقف عندها قبل أن يدخل إلى النص. يصاب المتلقي بخيبة كبيرة حينما لا يجد ثمة علاقة تدعوه للوقوف عندها أثناء تجواله في مسارات النصوص. هذه ( اللعبة ) شكلت علامة سلبية ضد الكاتب لعدم وجود دلالة لأيقونة الزمن تجد مدلولها داخل النص استثني من هذا التعميم نص (زمن الأبيض البرئ) التي وظفت الزمن لصالح سير الحكاية و( زمن بحجم الأفق)ـ التي سأتخذ منها أنموذجا اسقط عليه افتراضاتي ـ التي مارس فيها (الأحمد) لعبة (شعرنة العنوان) من خلال تركيب ألفاظ توحي بغرائبية تقترب من غرائبية تراكيب الحداثة الشعرية وأراد لها أن تتحول إلى علامات ورموز تحمل دلالاتها المفترضة ( زمن فارغ للشمس، هل الشمس وحدة زمانية أم وحدة مكانية ؟ هي وحدة لقياس الزمن تتوالد منها الأيام وتتعاقب منها الفصول، زمن ضوئي مأهول بسيول ضوئية متواصلة منذ شروعها ، ليس فيها فجوة تؤشر حسابها الزمني التقليدي في السبق أو التأخير انما زمن افتراضي تخيلي يساوي وحدة ضوئية على افتراض الغاء زمنية الشروع والوصول والأعتماد على تواصل الأنبعاث الضوئي ، فهو يساوي صفر افتراضي على انه لايعي ذاته . وهي مكان يحسب بعده ضوئيا، مكان بمكوناته المادية ومقوماته الجويولوجية، مكان مأهول بأرواحنا وخيالاتنا حسب، مكان غير مكتشف فهو يساوي صفر افتراضي على انه لايعي ذاته . ومن العنوان الذي يوحي بتساوي الهيمنة الزمانية والمكانية كونهما يشتركان بمصدر مصنّع واحد هو ( الشمس ) نخلص من ذلك الى : زمن فارغ للشمس = زمن فارغ للنص ، مكان فارغ للشمس = مكان فارغ للنص .
ولأجراء تطبيقات تأويلية من المتن نقتطع الآتي :
1 – المروي عنه (مات) زمانه صفر ومكانه صفر لأنه غير مأهول وغير مكتشف حسبما افترضنا .
2 – ( اخترت احد المقعدين الفارغين ) / زمن المقعدين ومكانهما = صفر على وفق ما افترضناه
3 – ( قالوا : - بانه ترك مالا كثيرا ، قلت : - ما نفع ما تركه / الزمان صفر المكان صفر .
4 – ( قالوا : - ( أية سطوة كان يملك ؟ قلت : - جرده الموت منها / الزمان صفر ، المكان صفر .
5 – ( كانت الشمس استقرت في المقعد الفارغ ) / زمن فارغ للشمس ( العنوان ) = زمن فارغ للمقعد ( المتن ) .
بطولة العنوان = الشمس ، بطولة المتن = الموت . وكلاهما لا يعيان ذاتهما ، المتلقي هو الذي يعي هذه الكينونة ويقوننها اذن الشمس = الموت كلاهما فراغ خارج الزمن المحسوب وخارج المكان المأهول لذا صار المتن ( فراغ ) حالة ( ميتا زمانية ، ميتا مكانية ) . لقد استفاد القاص من الغاء الحدود مابين ( ظاهرية ) الواقع العيني المحسوس و ( شطحات ) الخيال حيث انتج نصا محاكا من نسج هذا الواقع الحسي مع الخيال ، نصا لا يعتمد على النسق الحكائي ولا على البلاغة اللغوية بقدر ما يستفيد من اللعب والمراوغة في كلاهما معا لأنتاج جملة شعرية تحتمل التأويل بعد ان تحقق غرائبيتها غير المتناسقة في التأليف للوهلة الأولى فتجد لها اكثر من موقع لأدهاش المتلقي واستقبال النص لفك هذه الرموز واعادة تركيبها من جديد بتأويلات مخلقة من لدن المتلقي قد لا يجدها غيره وهذا يؤشر نجاح النص الذي يزدهر وينفتح الى عدة مستويات للقراءة . لذا ارى القاص وفق جدا في الوجازة والتركيز والتدبير المرمز لصياغة نص يسري فيه نفس شعري ولغوي خاص لألتقاط الأزمة المنتجة للنص خارج مكونات النص بهدم الحواجز الزمانية والمكانية والحكائية بفعلها التقليدي لمكونات القص المعروفة في سياقات التاليف بعيدا عن السرد التقليدي المستهلك وهذه مشكلة القاص ( محمد الأحمد ) كونه يعتمد على ميكانزم التطور الداخلي للحدث وليس على الحدث نفسه وقوانين بناءه القصصي في المساحات النصيّة وهذه السمة لا تقتصر على هذا النص فقط وانما تمتد على عموم كتاباته لذلك تجد من يعارضها او يقف ضدّها. الصدمة أو الدهشة التي يحدثها هذا النص القصير ليس في نهاية الحدث كما هي خصيصة اساسية تسود معظم القصص القصيرة بل نجدها في (فعل) بنية النص، غير مكتوبة ولا تحقق تشخيصها المرئي، طافية في تخوم النص، لا تـفقد قوتها من العنوان حتى السطر الأخير وبذلك خرج من دائرة النهايات التقليدية واحالتها الى المتلقي ليضع افتراضاته من خلال تأثير عموم النص في توليد نهاياته بمعنى الغاء (المتوقع ) والأستسلام الى ( الواقع ) الذي يؤثر به سياق النص على المتلقي ، بمعنى آخر قدرة النص على الأنتقال من ( أناه ) الى ( أنا ) المتلقي ، من هذا كمتلقي اقترحت عدة نهايات منها وجدت روحي تقرأ الفاتحة على روحها بعد ان حضرت المراسيم واستمعت لأحاديث المعزين واجابت عنها كما في حوارات المتن ، اذن زماني صفر ومكاني صفر ، هذه النهاية اقترحها ( المسكوت عنه ) في النص . بقي ان اقول شيئا يحسب لصالح (زمن فارغ للشمس) كونه نصا قصصيا قصيرا جدا فنحن الآن في عصر الزمن المحسوب والمقنن والمحكوم بوحدات الوقت وتفاصيلها الدقيقة التي تفرض هيمنتها على يومنا بقوة امام هذا التدفق الكبير من آليات النشر المرئية والمسموعة والمقروءة والتي لم تترك لنا وقتا فائضا لقراءة المطولات من على شاشات الأنترنيت مثلا من هنا ارى ضرورة انتباه كتاب الأنترنيت الى عدم الأطناب والأطالة والأهتمام بالنص القصير المكثف الممتع والمفيد مراعاة لأستفادة القارئ من سيف الوقت.
الزمـــــن :
عند (الأحمد) ينحصر في استرجاعاته الماضوية ( ما كان لي ) بسبب إخفاقات هيمنت على تطلعاته فأغلقت نوافذه وتركته يتخبط ضمن مساحة ضيقة ، مظلمة لا يرى غير نفسه بها وظل مشغولا في كيفية الخروج منها فنجدة قد تمحور في شخصتين (هو) ـ القاص ـ الذي يعيش على هامش التذكر مع ( هي ) التي توّلد هذا الهامش فظل يدور في فلك ( توالد الذاكرة ) الذي اعتمده كـ (شاشة ) للانعكاسات الذاتية المكررة والتي ذهبت بنا إلى اعتبار هذه النصوص تعمل بمشترك واحد وكأنها عمل روائي غير اننا نجدها تبث إشعاعاتها إذا ما أفردنا كل نص لوحده . نثر مفردة ( الزمن) على عتبات العناوين الثانوية لعبة استفزازية ، تنشيطية مارسها المؤلف على المتلقي قسرا معتقد إنها بؤرة الانطلاق نحو فتح آفاق آخر لقراءة هذه النصوص على إنها نصوص زمنية صادقة مع زمنها الذي يتماها مع حكاية المتون مستفيدا من حضور الزمن في الذاكرة الإنسانية على النحو الذي يعمّق اهميتة في الموضوع الذي استغنى مؤلفه عن الأدوات البصرية في إيصاله إلى المتلقي وذلك بتكرار مفردة الزمن على نحو يثير الفضول والتشبث بها دون أن يجد أثرا لذلك فيما سطره فاتعب مفردة الزمن وضعفت في أن تؤدي دورها الاستفزازي التنشيطي الذي افترضه المؤلف بانزلاقها من الغلاف إلى المتن .
غاب عن ذهن ( الأحمد ) ان الزمن يوجد في وسطين :
1 ـ وسط فيزياوي/ فيزيقي/ محسوب/ كما يحياه الآخرون / ويحياه المبدع خارج زمنية الإبداع / تقني يمكنه أن ينتج معارف ...
2 ـ وسط متفاعل مع الخيال / ميتافيزيقي / غير محسوب / ينتج ابداع غير مألوف ، مذهل ، مفاجئ ، مدهش / لايحياه غير المبدع لحظة الإبداع ويساوي صفر .
الذي أجده إن الكاتب ظل يشتغل في زمنه الفيزياوي لذلك لم ينتج لنا سوى ما ينتجه هذا الزمن .
الثيـــــمة :
ربّ قائل يقول ( ان كل حكاية هي نسيج جامع بين الواقعي والمتخيل ) نقول نعم هذا صحيح ـ إلى حد ما ـ لكن لكي تتحول هذه الحكاية إلى أدب يفترض إضفاء خصائص فنية وفكرية على واقعها أثناء عبورها إلى النص وتجري عليها إسقاطات وإضافات كما يفعل رسام ( البورترية ) مقارنة مع ما يفعله ( الفوتوغرافي ) . ( الحكاية ) لازمة مهمة في القص شرط ان يحولها الكاتب إلى أدب ولا يبقي عليها للقص فقط والوسيلة لتحقيق ذلك هي تنشيط اللغة لتأخذ حيزها المهم في الأداء وعدم ( أسلبة ) اللغة داخل بنية القص كما حدث في ( زمن ما كان لي ) لعدم تدخل الكاتب في إحداث متغيرات في هذه البنية وممازجتها مع الخيال على اعتبار ان الأدب ابن الخيال . مثل هذا يجب ان ينحصر عند ( الأحمد) في تجاربه المبكرة وقبل ان يفترض انه يمتلك سطوته على آليات القص والذي لم نجده في مدونته السابعة ـ كما دونته ببلوغرافيا الغلاف لذلك عليه ان يبحث عن مخارج من شرنقة هذه الإشكالية وينتقل من مرحلة الناقل للحكي إلى مبدع ومكتشف ومخترع له وان يغادر ضواغطه الشخصانية التي مارست وحدانيتها وهيمنتها والتي جعلت الحكاية تقوم بمهامها لوحدها وشخوصها تصل إلى نهاياتها كما تشتهي دن ان يتدخل صانعها على اعتبار ان السرد وبكل أشكاله تتدخل فيه ( الصناعة ، الحرفوية ) .
الكفاءة الإنشائية / التأليف :
ان توظيف التقنيات السردية وتطعيمها بلغة شعرية تنهض بوظائف تعبيرية مهمة داخل النص (الحديث) والانتقال من المعنى القاموسي للمفردة إلى المعنى الأدبي الذي يستطيع منه المتلقي ان يستحضر المعنى الصوري المتوالي الذي يتبنى القاص إيصاله إلى المتلقي بتقنيات التأليف ويبقى للمتلقي ان يستقبله على نحو حسن للنظر إلى أهمية النص من خلال ما تراصف من مفردات على بياضات الورق ولنأخذ بعض نماذج تأليف الجملة السردية عند الأحمد ... ( ذات صباح ما وفي مكان ما نهض من فراشه الوثير ، إذ خنقه العرق المتصبب من جبهته بعد ان سالت قطرات وصارت في انفه ص20 )، ( كنت امشي طويلا وراءها في المدى كله انهج طريقها كله ص 28 )، (الصمت كان شاغلا كالجدار الأصم والليل يمتد من خلاله ص 50 )، (يقفون أمامك في متسع الوقت الضيق ص 53 )، (تأتيه صاحبة العينين الخضراء ص61 ) العينين الخضراء ؟؟؟؟، (وكأنه كان يتحدث إلى معه بقيت وحدي استمع إليه بكل تركيز ص 69 )، (وبعينيك الغائرين كعين تمثال ص73 )، (بطيبة قلب يقدم لهم ما لم يتمكنه الناكرين ص 77 )، ( أقمت في الزمان مكانا وفي المكان زمانا فلم أر أكثر خسة من الخيانة ص 79 )، (مرتجا كأنما نقيضا متصارع مع نقيضه ص81 )/ ( كلهم يحملون القصة إلى غير ما ينبغي عليه ان تكون عليه القصة ص 139 )، والقائمة تطول في إيراد تراكيب غريبة تنم عن ضعف الكاتب في صياغة جملة ناجحة لا سيما إذا ما عرفنا ان لكل جنس أدبي خصائصه وتراكيبه ومفرداته في الصياغة اللغوية لذلك اختلفت الأنماط والأجناس الأدبية وعليه ظل كل جنس يحتفظ بخصائصه ( البنائية ) حتى لو تداخل مع جنس آخر فالسرد مثلا له بنيته اللغوية المميزة ونكهته السردية التي تظل وحدة مميزة من وحدات تشكله البنائي .
هوامـــــــش :
ثمة إحساس (وهمي) أوّل عليه الأحمد في (زمن ما كان لي) ذهب فيه إلى ان منجزه قد استوفى شروط وجوده فلجأ إلى (التجريب) باتجاه اجتراح تجربة كتابية زعم انها (تجديد) كما أشار بيانه المدون على هامش قصته التي حملت عنوانها المجموعة (فينبغي علينا ككتاب .. ان نجدد بأدواتنا الكتابية لنلحق بالركب الحضاري المتوقع ص 135) واعتبر هذا النص دعوة تحليق وتجاوز لكتاباته السابقة نحو تأسيس سياقات يتعاطى معها من جديد لإثبات اسلوب جديد في استثمار معطيات الحداثة قبل ان يجهز أدواته بمنظومة وعي حدا ثوي وإيجاد مساحة مرنة قابلة للحياة والتوالد، مغايرة لمدوناته السابقة مقترحة سلطة جديدة توجه الخطاب الجديد بما يلاءم مخيلة الحداثة وآلياتها .. غير اننا لا نلمس في نصه المقترح نحو التجريب ما زعمه في تامين موجهات تؤمن لخطابه السير دون تعثر فظل حبيس نزعته الشخصية على مستوييها (السلوكي) و (الكتابي) ولم يستطع الإفلات من قبضة التقليد والمحاكاة مع الأسلاف وبقيت قوة الدفع تراوح بين المرئي والمرئي ، بين الموجود والموجود المختلف دون ان ينجح في تحويل ( الكم) إلى ( كيف) حتى لو كانت من داخل الـ ( أنا) بعد ان ينتزع أشكالها التقليدية فظل يعيد حرث ما حرثه غيره من قبل معتقدا ان الحداثة ( خربشة الذاكرة القديمة أو إعادة تنظيمها) متناسيا موجهاتها ودلالاتها الفكرية والجمالية التي غمرت الفكر الجديد وفعّلت فعله متجاوزة حدود واطر القوننة وأحكامها المتعسفة لذلك ظلت (تجريبيته) تكرر قديمها دون ان تبتكر أسئلة جديدة تجد معها أجوبتها المدهشة .... وفي عودة إلى نصه التجريبي المزعوم نجد بالإجابة عن سؤال ملح إجابة صريحة عن مصداقية زعمه السؤال هو: لو لم نجد الإشارة الهامشية التي أوردها بيان الدعوة نحو التجديد، هل نجد بهذا النص مغايرة واضحة عن اقرأنه المدونة ضمن المجموعة من تطورات فنية في عناصر تكوينه كالشكل، المضمون، التكنيك، المعمار، اللغة، السرد، الشخوص، الثيمة، الزمان، المكان، الاستفادة من الأجناس الأدبية الأخر؟؟؟ أجد ان البيانات والزعم بأنها تعد وسيلة لنقل كاتبها من موقعه الحقيقي إلى مواقع متقدمة في خارطة الإبداع الإنساني .
النهايـــــــات :
نجد ان شخصيات الأحمد القصصية تصل إلى نهاياتها الواقعية دون ان يفرض عليها شروطه الفنية ويتدخل في رسم سلوكياتها التي تقودها إلى مصيرها الفني وليس الواقعي على اعتبار ان النص الأدبي ليس هو الواقع إنما الواقع هو المادة التي يبنى منها النص لذلك أجده لا يمتلك ناصية النص وقيادته وموجهاته بسبب ضعف أدواته اللغوية المرتبكة الفاقدة لقدرة التوصيل المنقول مع مؤثراته إلى مخيلة المتلقي الذي يعيد تشكيله إلى صورة متخيلة، بمعنى آخر لم يستفد القاص من (الصناعة) اللفظية ومهام اللغة في بث متعة فنية تؤدي دورها المهم في بنية النص على اعتبار ان المرسل يولـّد وظيفة تعبيرية أو انفعالية مركزها نقطة الإرسال والمرسل إليه تتولد عنه الوظيفة الافهامية بما تقتضيه من فضاءات الدوال التي تحيل المُتخيل إلى الواقع .
الخاتمـــــــة :
إضافة إلى ما تقدم أضيف ان الأحمد أراد ان يؤكد حضوره ألذكوري فحاول توظيف موضوعة المرأة في السرد كوسيلة لفرض سلطة الذكور جسديا ليحول المرأة إلى خطاب أيدلوجي مقموع، ممنوع في الواقع مباح في فسحة الخيال دون ان يحيل المرأة إلى مفهوم ( شهوي) من خلال المرور بمفاتنها. مع كل ذلك تظل (زمن ما كان لي) مجموعة مهمة وجديرة بالقراءة والاهتمام بما أضافته إلى المشهد القصصي العراقي من نصوص تكاد تقترب من الاكتمال الفني فهي نصوص دافئة حميمة تعطي نفسها إلى القارئ من أول مطالعة لها، رغم اني جهرا تعمدت النيل منها، متغاضيا عن الكثير من جمالها الابداعي الذي اشار اليه غيري من المتذوقين.
إشارة :
1 ـ زمن ما كان لي/ قصص/ محمد الأحمد/ دار الشؤون الثقافية/ العراق/ بغداد/ الطبعة الأولى 2007