١٢‏/٠٣‏/٢٠٠٨


سحر النص وأسراره ..
كبار الكتاب كيف يكتبون وكيف يبدعون..!!
تحسين كرمياني

في (كبار الكتّاب كيف يكتبون )* تستوقفنا حالات تدفعنا لطرح جملة أسئلة يمكن اختزالها في ..هل حقاً ينحدر المبدع إلى دهاليز الحياة وأقبيتها كي يشكل علاقاته الكتابية مع الحياة والزمن ..؟؟ ربما تتوالد أسئلة أُخر لا تدور خارج فلك هذه المعضلة والتي باتت تشكل من أساسيات الإبداع كما يشاع في سيّر وحوارات جهابذة الأدب،حتى بات لدينا قناعة ترفض النقاش أن العملية الإبداعية تشكل مع التطرف علاقة متواشجة،فلا إبداع بدون جنون،عجائب وغرائب تأخذنا إلى تفاصيل مضحكة مبكية في آن واحد،أحدهم لا يكتب ما لم يضع عقرباً داخل زجاجة أمامه،وأرجو أن لم تنتبه (جمعية الرفق بالحيوان) واتخاذ موقفاً عدائياً من الكاتب واعتبار كتاباته ساديّة،ما بال ذلك الذي لا ينجز روايته ما لم يحتس عشرة آلاف فنجان قهوة بالتمام والكمال،يا لحظ بائع البن الذي يسكن بجواره،أمّا الرواية عند كتّابنا لا تستغرق سوى جلسة أو جلستين أوان توفر التيار الكهربائي وربما ليس لديه الوقت للمراجعة كون الأخطاء والهنات هناك خبير متمرس يتكفلها يمتلك الحق في غربلة النص وقص ما لا يروق له أو يخالف ذوقه الخاص،كثيرون يسرحون بخيالهم قاتلين ساعات من التأمل والغور في مسالك وعرة ربما تكفي لإنتاج نص لو تم توظيفها بشكل عفوي بدلاً من هذا الشرود العقيم بحثاً عن أساليب تطرف غير مسبوقة والتي هي حسب اعتقاداتهم خيول سماوية ستأخذهم إلى الرفوف الأمامية وتحشرهم في كتاب لاحق ربما عنوانه لا يبتعد عن (كتّابنا هكذا يكتبون)،يقولون أن محمد خضير كتب (في درجة 45 مئوي )داخل المطبخ ومهدي عيسى الصقر يكتب بقلم الرصاص،وأحمد خلف لا يكتب إلاّ فجراً ولي صديق ألححت عليه السؤال عن سبب توقفه عن كتابة القصص قال: بتوقف الحرب جفّت ذاكرتي..!! العباقرة يتصرفون بعفوية وفطرة دون اللجوء إلى افتعال أو اختلاق أزمات كي ينزفوا قراءاتهم للواقع ومجريات الأحداث،ولدينا رصيداً مرصوداً يتواجدون دائماً أينما يلتم شمل كوكبة كتّاب،من أسمالهم من تقليعات موضويّة عبارة عن ملاقحة ما بين مستوردات يتم تعديلها حسب المزاج ودرجة انحراف العقل عن الواقع،متناسين أن الكتابة بالدرجة الأساس نتاج قراءات مقدسة للحياة وأن ممتهنيها لهم روح لا تترجل عن صهوة جواد التواضع ونكران الذات،وأنهم ألغوا ما لهم من طموحات شخصية لنيل المكاسب،وظلّوا داخل وحل الحياة للتغني،(يفغيني يفتشنكو) رفض وزارة الثقافة السوفيتية و(شيركو بيكه س) استقال من وزارة الثقافة في أقليم كوردستان كونهما عرفا أن السياسة آفة تغتصب منابع الجمال وتكتسح حيثما تكون هناك بقعة حرية،رغم كونهما من أبرز شعراء جيليهما،(يفغيني) في ستينات القرن المنصرم و(شيركو) في حاضر الشعر الكوردي،والكل يعرف أن النص لا يدرك حاسة المتلقي ما لم يتشرب بدم الكاتب ويغتذي من مرارة صبره وينضج ـ على مهل طبعاًـ على لهيب معاناته وأن كانت شخصيّة لكنها معاناة جمعية واقعية نتاج تصادمات متواصلة ما بين أحلام الإنسان وأصحاب السيادة،فالنص العقلاني متجرد من أمراض الذات وشطحات اللاوعي يلج إلى المخ بلا تكليف مثلما يهبط زلال الماء إلى بطن العطشان،ما بال أحدهم يجهر أينما يفتح باباً للجدال عن مهنة الكتابة ودوافعها في زمن بات البشر مثل القصب لا هو ينفع ولا هو يضر في يومنا هذا يحصده منجل الإرهاب بيسر مثلما تنتج رواياتنا ويحصدها منجل النسيان،هذا الـ(أحدهم ) يتباهى انه لا يكتب ما لم يثمل وحين سأله ناقد غير معروف: منجل الإرهاب حصد المسكرات من أرصفة الشوارع فمن أين تأتي بها..؟؟ قبل أن يكشف الغطاء عن سره حرر قهقهة ساد جرائها صمت مهيب داخل المقهى،تبين أنه يسكر على شخير زوجته وأطفاله،يتنفس رائحة جوعهم ويصل دائماً بسرعة البرق إلى مناطق الحرمان المتنامية فيهم،هناك يلقي بمرساته وينهل من أناشيد عذاباتهم قبل أن يكتب ملاحمه،يالها من لحظة سادية لاستدراج ربة الإلهام من اجل(فلته)كتابية،ينضد ويقوم كل يوم بتوزيع نسخ معدودة على زملاء يجاملونه من باب الاستحياء وربما خوفاً كونه يدفع ثمن شاياتهم كل يوم،أمّا ما يدور سراً فيما بين مستلمي النصوص المستنسخة جملة ثابتة:مازال أخينا يسبح في بركة الخواطر العمودية..!! مرض الإبداع لدى البعض دفعهم اللجوء إلى وسائل كفيلة تنقلهم صوب الأسرار الخفية للكتابة،يؤرقهم ليل نهار هاجس التحليق مع ماركيز ورامبو ودستوفسكي وأن أمكن السيّاب وذلك أضعف احتمال،فالتطرف بات باب الولوج إلى ما يسكنهم وأنها تعويذة لا مناص،فما بال شاعر يعترف أنه لا يكتب إلاّ في الصيف،خلته يقضي الشتاء على أبواب الأطباء جراء نزلات البرد المتواصلة مذ صرنا بلد البرمجة،واختفاء الوقود رغم أننا نركب سفينة لا تمشي على الماء،لأنها تبرك على النفط كما يبرك بعير مكموم الفم على كومة شعير،كاتبنا الصيفي وكما يحلو للبعض من روّاد ذلك المقهى أن يسميه الموسمي،حتى قال له واحد من الشلّة أن يضمن نصوصه بالثلج لاختفائه والرقي كي لا يتعب الناقد من فك مغاليق نصوصه،وقال أيضاً كي تتفرد بنهج غير مسبوق،وأن تغدو شاعر الفقراء كونهم ينالون ما هو مفقود داخل ملحمياتك الصيفية،هل باتت النصوص فواكه تتلون بمناخات الكاتب وتكتسب نكهتها من طوبوغرافية المكان وترتدي حلل المواسم،لم لا الشجرة تأخذ وتنتج كذلك الكاتب يأخذ وينتج،الفواكه تريح الجسد كذلك النص الدسم يريح الجسد،وقديماً قيل :ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ..!!وقيل أيضاً : في البدء كانت الكلمة..!! ولا نستبعد جدلية التفاعل العصيب ما بين الكاتب وحياته،فهو أبن واقع يشاركه جمع في تكوينه،له ما لهم ولهم ما له من ظاهريات ومخفيات،ومهما نزف فهو ذات النزيف المحتدم وراء سدود الذات للكل،يختلف عنهم كونه اهتدى ـ بفعل موهبة ـ إلى منافذ تحرير النزيف المتراكم،كان من الممكن أن يلتجأ الناقد إلى مناطق علم النفس لتحليل النصوص كونه الحاضنة لكل أرق ونبض مغاير وزفير غير منتظم،وحده علم النفس يوصل الباحث إلى بؤرة النزف،ويفرز ما هو مفتعل عن ما هو كوني ونبيل،أنا شخصياً أقمت الحد بالدليل الباتر على شاعرنا الصيفي كما أسميته،وجدته صادقاً فيما ذهب أليه،وكانت مصادفة لحظة وجدته يرتكن رغم لهيب آب في ظل شجرة يوكالبتوس،كان في لحظة تلصص،خلته في انتظار فتاة،قبل أن يجذبني مشهد عامل ينثر رذاذ الأسمنت على حائط أملس،سرعان ما دق جرس الذهن وتناثرت تلك الأوراق التي كان يوزعها أو ينشرها من بعد توسل على صفحات ثقافية لصحف توزع معظمها مجاناً كونها تعود لجهات تدعي أنها مستقلة رغم فضائحية ميولها والأسماء الواضحة والتي تتبنى إدارة وتحريرها،لقد توصلت إلى قناعة أن صاحبنا يستنسخ عينياً قصائده،وسر تعلقه بقصيدة(الأسمنت)عفواً قصيدة(النثر)وكان جوابه يوم النقاش معقولاً لحد ما،تحدث عن سر العلاقة الواقعية والصورية ما بين الحائط والورقة،ليس هناك ثمة فارق ما بين نثر الأسمنت على الحائط وبين نثر الكلمات على الورق،المهم إظهار براعة في الصياغة وكيفية دس الوهم داخل الكلمات المتراصة،مما يغري الناقد ويحفزه إعلان النفير والغوص بما يمتلك من مؤهلات نقدية قديمة وما أستل من حاضر النقد المستورد كي يفك الألغاز ويعبد الشوارع معلناً عن فرادة فوق العادة،لا ينكر أحد أن لكل كاتب أسلوبه وله الحق أن يستدرج ما هو مناسب وخادم من كلمات وأن ألتجئ إلى السجع أو تشظية اللغة كي يستفز المخيلة ويفوّت إخفاقاته أو عثراته وهو يسحل الثيمة إلى بر الأمان،ففي عالم الكتابة كل شيء ممكن وجائز طالما النشر غير مقيّد،فهناك من يجد أن التلاعب بأعصاب القارئ جزء من العملية الإبداعية،وهناك من يعتقد أن قارئ اليوم لا يبحث عن السلسلة الرابطة للأحداث،يمكن أن نرص الكثير من مشاهد التطرف داخل علبة متواضعة،هؤلاء بطبيعة الحال عجزوا أن يأتوا بشيء،وأضاعوا دروب السابقين،وظلّوا يلتجئون إلى مناطق توليد التطرف لفرض أنفسهم داخل الفرن الثقافي،وليس يغيب عن بالهم كلمة(أنا)وهم يجهلون أن الكتابة هي النور الخفي لجذب الحواس إلى منابت الحقيقة وهي أيضاً التوهج الدائم لروح العصور المتلاحقة وأنها سر تواصل فاصل الإنسانية وعدم ذبول شجرة الجمال رغم شراسة خصومها،وتبقى الكتابة أيضاً،مصابيح لإنارة متاهات المستقبل،سمعت ذات جلسة أن قاصاً كثير الكلام وكثير الكتابة أيضاً،لا يكتب كما يدعي إلاً بعد أن يلقي نظرة على العالم،إن كان حقاً ما يقول،فهو قاص مثابر وحريص ويرغب أن يتناول أحداث زمنه كونه شاهداً ومنذراً إن جاز التعبير،لأن الكتابة هي تأشير النقائض وتنوير الحقائق،وأن أسرار الحياة بحاجة إلى متابعة ميدانية كي تنضج الأجوبة وتأتي بلسماً مداوياً،ولكن صاحبنا كان لديه وجهات نظر استلها من دفتر تسكعاته الخيالية،فهو لا يهمه ما يجري من ملابسات وطواحين مؤامرات وتدمير للروح الفطرية لدى البشر،لا يرغب أن يتابع الأخبار أو يقرأ الصحف،بل وجد وسيلة لم يسبقه سابق أليها،ففي كل ليلة يعتلي سطح المنزل،بعد أن يعم الظلام وتهدأ الشوارع تحت محنة عدم التجوال ليلاً،هناك ابتنى لنفسه غرفة،أشرف هو بنفسه على هندستها،وبذل مجهوداً خيالياً في بناءها كي تكون مقارنة لما يحمل من أفكار تجديدية ستدفع قصة البلاد صوب المسار الصحيح من بعد طويل معاناة وتلاطم تحديثات دفعت بذائقة القارئ إلى النفور والتعتيم،يقول أنه جعل في كل حائط نافذة،وشرخ نافذة خامسة في سقف الغرفة،ما أن يجلس على كرسيه الدوّار حتى يقوم بتدوير خمسة عتلات فتفتح النوافذ معاً،ورفض حين طرحوا عليه فكرة تحوير العتلات إلى منظومة تعمل بضغطة زر،من باب عدم التقليد والابتعاد عن اللجوء إلى أفكار الآخرين،تمسك بفكرته كونها تحسسه أنه يطير كلما قام بالتدوير،وسرعان ما يغدو ـ على حد قوله ـ كاميرا في الفضاء المتنائي يرصد ما هو مخبوء أو ما يجول في ذهن كل نائم،ويوم سؤل عن منفعة النافذة الخامسة،ضحك وقال : مهبط ربة الإلهام ..!!ليس هذا فحسب فهو أبتكر وسيلة جديدة لشحن الذاكرة وتفعيل الهواجس وتأهيلها لخدمة النص،يرتقي سطح الغرفة وفي جحيم الظلام يرسل بصره عبر عدسات ناظور (6 ×36) حصل عليه يوم(الفرهود)يرى العجب قبل أن يهبط ليدون ما رأى حتى شاع عنه أنه رأى ذات ليلة الشمس تتلفع بعباءة وتتجول بين النجوم،قابلوه بالضحك وقابلهم بإلقاء(دولكة)ماء على أحجار الدومينو،بطبيعة الحال لم يزعل تعود أن ينسى كل خلاف بعد ثوان،لأن لا جمهور لديه سواهم،من حق الخيال أن ينفلت من سكة الراهن ويجترح مسالك ومتاهات لتكوين أرضية جديدة لا تخرج من فلك العقلانية،وربما البحث عن فضاءات تستوعب الحاضر المر وتدفن الجواهر بعيداً عن عيون ترصد للقبض على كل جملة تمرر عربة فيها حقائب حقائق،ولكن ليس للحد الذي يدفع الخيال لتأسيس دهاليز وتهدم القلاع لبناء أكواخ،وكل ثوب فضفاض لا يتناسب مع جسد الإبداع،هكذا قرأنا تاريخ الفن،ورحنا ننسج على نوله ما يؤرقنا من أفكار وآراء،صحيح أن لكل كاتب زمنه وثقافته،وله روافد ترشه بالآلام وهناك تضادات مع ميول أصحاب السيادة،تتعارض سلباً أو إيجاباً مع طموحات الناس،تنبثق الرؤى وتنهار سدود الاعتراضات وينبري القلم ليجابه في رحلة الدفاع عن التناقضات،منهم من يختار المنافي أوطاناً بديلة،ومنهم من تفترسه حراب السلطة،وهناك دائماً الرهط البائس الذي يستسلم للسائس يغتني وهو جالس،فما بال كاتب معرف يدعي أنه ما يكتبه في ليل الخمر لا يمحيه النهار،وآخر لا يبدأ بكتابة الرواية ما لم يستحم بماء بارد حتى ولو كانت السماء تمطر ثلجاً،كون الماء البارد يشعره أنه يعيش في بلدان الحريات وكان يقصد أوربا،ومنهم من نقل هوسه إلى الشارع،نراه يتأبط حفنة مجلدات نفيسة بطبيعة الحال هو لم يقرأها،يريد أن يراه جلساء مقهى(الشاه بندر)ولم يغب عن باله يوماً أن يغفل المقاهي الأخر،يمنح(الزهاوي وحسن عجمي)ساعتان كل جمعة كون الأدباء منقسمين حسب الأجيال،وهناك متطرف يتباهى بحقيبته الدبلوماسية وهو ينوء بحملها،كل جمعة يبكر الحضور،وقبل أن يخلد إلى زاويته المجابهة لباب الدخول،يغربل الكتب المنثورة على طول الشارع المفضي إلى المقهى،حتى سمع أحدهم ذات يوم من بائع كتب وهو يضرب يداً بيد ويقول: (إجه الفيلسوف وراح يخربط التصفيط..!!)وكان يشير إلى صاحبنا صاحب الحقيبة العملاقة،تلك الحقيبة ظلّت مثار حسد كونها كما ذهب البعض لا بد أن تحتوي نصوص أو كتب دسمة في وقت بات الأديب لا يشرب الشاي لأن(المائة دينار)كل ما في جيبه أجرة الرجوع إلى المنزل،لكن الأيام دائماً تأتي بما لم تزود،سرعان ما عرف الجميع أن هذا لم يكن سوى كاتباً سكراباً،لأن فضولياً لم يحتمل تبجحاته النظرية ونقاشاته الحداثوية قرر أن يفتض السر وأستغل دخوله ذات يوم إلى تواليت المقهى،فتح الحقيبة وصاح:أخوان صاحبنا صيدلية متنقلة..!!حقاً كانت الحقيبة ملآى بصنوف من أدوية لأمراض مزمنة،سكر وضغط الدم وداء الشقيقة ومفاصل وربو وهلوسة ومعدة وفياغرا..الخ،وماذا يعني أن يتسلح أحدهم بجملة نظارات،واحدة تتدلى من رقبته بسلسلة نسائية وواحدة بيده داخل محفظة مذهّبة وثالثة داخل جيب قميصه،ونراه حين يخرج يستبدل الذي على عينيه وحين يقرأ يلتجئ إلى نظارته المتدلية من رقبته،يجدر بنا أن نسأل ونقول: هل يتوجب على الكاتب أن يتشبه أو يقلد أصحاب الطقوس السادية،لماذا ينسلخ من واقعه ويلقي بثوب ماضيه ويحاول أن يتجرد من تراثه ويتزحزح عن بني جلدته،فالإبداع لا يأتي من فراغ،والنص الأدبي يكتسب هوية الكاتب،درجة ثقافته وصفاته الأخلاقية،ويخطئ من يظن أن النص هو نتاج اللاوعي،فكل نص يستند على مرجعيات حقنها الكاتب المثابر عبر سلسلة متداخلة من قراءات واعية ومعاناة حياتية ومتقلبات سياسية وتصادمات في الرؤى والأفكار،فالمعادلة هي من شطرين،النص الخارج من فرن الذهن في لحظات فقدان الصلة بلحظة الكتابة،قد تأتي من باب اللاوعي،ولكن لن يكتمل النص ما لم يقم الذهن نفسه بمراجعته والوقوف على درجة عقلانيته،أنه تسليط مجهر الوعي لفحص النص،فإعادة قراءة النص هي قراءة نقدية وبالتالي يكون الكاتب أوّل ناقد يتناول عمله،لأن النص لن يطرح إلى سلة الزمن ما لم يشذب ويهذب من التوحشات كما يفعل بالعروس ليلة زفافها،وعلينا أن ننظر إلى النقد على أنه قانون الوعي وانضباطه،فلم كل هذا التطرف في الشكل واللجوء إلى كوابيس لا تصلح لمناخاتنا ولا تحابي أمزجتنا،يمكننا أن نأتي بما يصلح لعصرنا الراهن،وربما ينفع للعصور التالية،لو روّضنا أفكارنا وتصاهرنا مع تراثنا وحررنا ما نحمل من أفكار بعفوية بعيدة عن تشنجات الحداثة ومتاهات تأويلاتها ونبذ ضرورة اللحاق بركب العالم،فالعالم بدأ ينحدر ثقافياً ويسلك الدروب الموصلة إلى حضارتنا،انظروا ماذا فعل (باولو كويهلو) بالرواية العالمية،أنّه وجد الطريق إلى أعماق حضارتنا وجاء بنص صغير الحجم كبير الأثر واعتلى رف الرفوف في ذاكرة الأدب الإنساني،انظروا إلى(سيد الخواتم)فلم الأفلام،لم ذهل العالم وهو ينتعش في عصر الفضائيات والإنترنت بمنظر الخيول والسيوف والسحر،روايات وأفلام هي مسروقة من تراثنا ومن تحت أنظارنا،صارت قناديل للغرب،ويبقى السؤال قائماً:هل خلق الكتابة يستوجب إثارة الغرائز والحواس..؟؟أو عقم الذاكرة وإفلاس العقل وربما تشوش الخيال تدفع بالباحث عن الإبداع افتعال أزمات نفسية وإثارة كوابيس مختلقة كتعويض لابد منه لإثبات الوجود في عصر لا يستقر فيه عقل على رأي،وكل نص مريض يدل على عدم صحوة كاتبه،فالكتابة يا عشاق التطرف لا تأتي إلاّ لحظات الصحو وفيضان الثقافة ووجود عيون لا تنام مع الرغبة الصادقة والاستعداد التام لقول كل ما يقترحه العقل ولو كانت في الأفق تلوح أنشوطة وجلاد،ربما وجد البعض أن التطرف نوع من حرب سرية مستحدثة ضد السلطة،وهو الشيء المناسب والحاسم ضدها،لكننا نجد أن معظمهم طبلوا مع المطبلين ونالوا ما نال أصحاب الأبواق اللئيمة من مغانم أدبية،فليس في نصوصهم المتواضعة شيء يتباهون به يوم ما بعد كنس الظلام وتحرير الكلمة من سجن الجلاد،ومن تاريخ الأدب عرفنا أن كل تجربة ذاتية نجمت عن صراع ما بين ظالم ومظلوم،والكاتب العقلاني عرف كيف ينسج ويغزل ضفائر النص ويجعله مادة خام لكل العصور،ومن يستطلع راهن الحياة لا يركن لقرار،في كل لحظة تتوالد شرارات كافية لقدح الذهن وتفعيل الذاكرة لتنزف،فالتداخل السرطاني للبشر ووسائل الاتصال السريع،دفعت بثقافات تخريبية تنتهك الجذور وتؤسس لحياة قادمة وملوثة،فلا اللحية المسترسلة ولا ارتداء الأسمال المهلهلة ولا نثار الأسمنت المتطاير ولا الغرف المزاجية والنظارات أو نوعية القلم والورق تنتج ما هو يدوم ولا بوسعها أن تستدرج ربة الإلهام،وعلى الكاتب أن يدرك أنه واحد من جوقة أمناء العصر،وقلم من جملة أقلام تدوّن سير التاريخ،والخطاب الوجداني لا يحتاج إلى أجواء خارقة أو فضاءات كابوسية كي يتحرر،وعلى هوّاة التطرف أن يعلموا أن الإبداع وصفه البير كامو (أن يعيش المرء مرتين) فكيف لا يكون عيشتهم الثانية سراباً محض،طالما أنهم يهيمون في كوابيس وأوهام حياتهم الأولى..
• كبار الكتاب كيف يكتبون ـ ترجمة كاظم سعد الدين ـ منشورات دار المأمون..
***