كنتُ شيوعياً
كتاب صدر حديثاً في دار الجمل للشاعر الراحل بدر شاكر السيّاب. الكتاب عبارة عن سلسلة مقالات كان نشرها الشاعر الرائد في جريدة الحرية البغدادية عام 1959. هذه المقالات التي جاءت علي شكل اعترافات كانت نُشرت تحت العنوان نفسه باستثناء الحلقات الإحدى عشرة الأخيرة التي حملت كل حلقة منها عنواناً خاصاً بها من أصل أربعين حلقة. أما معدُّ هذه الحلقات للنشر في كتاب فهو وليد خالد أحمد حسن الذي ورد اسمه داخل الكتاب وليس علي غلافه.
تبدو مقالات السيّاب في هذا الكتاب وثيقة مهمة من جوانب عديدة. هي وثيقة سياسية في الدرجة الأولي لمرحلة في تاريخ العراق الحديث تمتد من حكم نوري السعيد إلي حكم عبد الكريم قاسم. ثم هي وثيقة شخصية لتجربة الشاعر في الحزب الشيوعي العراقي من جهة ووثيقة علي شخصية السيّاب الصادقة من ناحية و المتطرفة من ناحية أخري في إطلاق الأحكام وتعميمها. وربما كانت هذه الملاحظة الأخيرة التي سيكتشفها القارئ متأتية من كينونة السيّاب الشعرية، تلك الكينونة التي لا تقبل الحلول الوسط ولا ترتضي بالسكوت عن المظالم أو تمرير الأخطاء. ولهذا لا يتواني الرجل في اتهام الشيوعيين أينما وُجدوا بالجبن والقسوة والإجرام والسرقة وخداع الجماهير، مثلما يتهم أخاه الصغير بالنقص بسبب موت والدته وبسبب رأسه الطويلة التي كان الجيران يعيّرونه بها. (السيّاب نفسه لم يكن جميلاً). في كل حال، هذه استنتاجات سيكولوجية قد لا تعني إلا المهتمين بها وإن كانت تكشف جانباً من البنية النفسية لرائد قصيدة التفعيلة وأحد أبرز الشعراء العرب في العصر الحديث.
من الحلقة الأولي يكشف السيّاب أن سبب معركته مع الشيوعيين الذين انتمي إليهم ثماني سنوات شخصية. لقد بدأت خلافاته معهم علي ذرائع بسيطة وفردية قبل أن تتحول إلي معركة تطال جانباً من المنظومة الفكرية للشيوعية والكذب السياسي والقومية العربية وموقف الأحزاب الشيوعية من قيام دولة إسرائيل عام 1948، ولا سيما الحزب الشيوعي العراقي، ثم موقف الشيوعيين العراقيين من القوميين العرب والوطنيين العراقيين. هنا بدا الرجل كمن يكّفر عن ذنبه تجاه فترة انتمائه إلي الحزب الشيوعي وتجاه قوميته العربية التي بدت متأصلة فيه وتجاه الإسلام الذي عدّه من أفضل الأديان مثلما اعتبر محمد أفضل الأنبياء، وإن كان الشاعر كتب شعراً في المسيح كما في قصيدته الشهيرة المسيح بعد الصلب (بالطبع يرد ذكر المسيح والمسيحية في الكتاب). أياً يكن، يكشف السيّاب في هذه الاعترافات عن شخصية قومية ودينية ظهرت من خلال شعره كما في المومس العمياء وكما في تأثراته بشعراء علي صلة بالدين أمثال إليوت وإيديث ستويل وعزرا باوند (إذا أخذنا في الحسبان أبعاد هذا الأخير الكونفوشيوسية إضافة الي القومية ـ الفاشية في شعره). وهذه المواقف مبثوثة علي مدار الكتاب ولا تحتاج الي جهد لاكتشافها ولا سيما في تصريح الشاعر بذلك: إننا ندافع عن قوميتنا وديننا وتقاليدنا وتراثنا . لهذا تراه ينتقد الأديان القديمة في سياق نقده للشيوعية مثل ديانة البابليين الذين لم يعرفوا الخلود بعكس النبيين المسيح ومحمد (وهنا لا بدَّ من مساءلة الشاعر عن الفراعنة الذين آمنوا بالحياة بعد الموت وعن جلجامش السومري وبحثه الملحمي عن ماء الخلود وعشرات الديانات القديمة من مرحلة ما قبل الميلاد). وعليه، لا يتواني في وصف كارل ماركس بـ اليهودي التائه أو اليهودي القذر قاسي القلب الذي ألّف ـ يدفعه حقده وحسده وتعصبه اليهودي وما قرأه في التوراة ـ كتاباً سمّاه رأس المال ، هذا رغم زعم السيّاب أن ماركس ادعي اعتناق المسيحية، ورغم كتابات ماركس العديدة في نقد الدين، ورغم أهمية رأس المال ككتاب اقتصادي يثير إعجاب الرأسماليين أنفسهم. كما يهاجم لينين اليهودي الذي ثار علي الثورة التي قام بها البرجوازيون فأنشأ حكماً، الإنسان فيه كالآلة لا يفكر ولا يحس إلا وفق نظام يُفرض عليه . وبسببٍ من قوميته العربية يشبّه السيّاب الشيوعيين بالقرامطة والشعوبيين، أي الفرس الذين كان لهم نصيب كبير من الشتائم سواء كانوا فرساً قوميين أم شيوعيين من أتباع حزب تودا الذي تآمر بحسب الشاعر علي الشعب عام 1952 حين حذرت جريدة شهباز الشيوعية الحكومة الإيرانية آنذاك من مؤامرة أميركية قذرة لقلب الحكم... فذكرت أسماء المتآمرين وفصّلت خططهم ، مما أدّي إلي إعدام العديد من المواطنين ومن بينهم 732 ضابطاً شيوعياً. والأكثر مدعاة للجدل أن السيّاب رغم كل هذا الهجوم علي الشيوعيين يمدح الرئيس عبد الكريم قاسم من جهة، مثلما يمدح مكارثي في حملته علي الشيوعيين الأميركيين التي أدّت إلي سجن المئات منهم في الخمسينات من القرن الماضي، وهي فترة سوداء في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأميركية في موضوع الحريات، بالقول: إن مكارثي أشرف بألف مرة من كثير من الذين يعتبرهم الشيوعيون قادة كباراً ومفكرين عظماء .
والحال، لم يتوقف هجوم الشاعر علي الأحزاب الشيوعية أينما حلّت وعلي القادة الشيوعيين أينما كانوا، بل يتعدي ذلك إلي الشعراء والأدباء الشيوعيين. هكذا يصبح ناظم حكمت شاعراً تافهاً وكذلك كونستانتين سيمونوف وبابلو نيرودا وصولاً إلي مواطنه عبد الوهاب البياتي الذي يخصص له حلقة ساخرة شأن غيره من هؤلاء الشعراء: لقد قرأت شعراً لكثيرين من الشعراء الشيوعيين من ناظم حكمت وبابلو نيرودا وأراغون وماو تسي تونغ والشاعر السوفياتي سيمونوف، فوجدته سخيفاً. ولكنني كشيوعي وكعنصر في الحزب كنت ملزماً بالدفاع عن هؤلاء الشعراء والادعاء بأنهم أعظم شعراء العالم، وان شاعراً سخيفاً كناظم حكمت هو أعظم من الشاعر الإنكليزي العبقري اليوت أو إيديث ستويل... . كما يخصص ست مقالات عن رواية جورج أورويل 1984 قارئاً هذا العمل الفني المفتوح علي تأويلات عدة علي أنه نقد للدول الشيوعية بما يشبه الجزم. لكنَّ السيّاب الذي توفي باكراً (عام 1963 علي ما أعتقد) لم يتسنَ له العيش إلي يومنا ليري أن رواية أورويل لا تنطبق فقط علي الأنظمة الشيوعية وإنما علي الأنظمة الليبرالية وإن كانت الآليات والأدوات مختلفة (من الجيد التذكير هنا بكتاب هربرت ماركوز الإنسان ذو البعد الواحد الذي نقد فيه المجتمعات الغربية، وهو كتاب نُشر في الستينات علي أي حال)، مثلما أيضاً لم يتسنَ للسيّاب العيش إلي فترة حكم الأنظمة القومية ليعرف أن السياسة في العالم العربي علي وجه الخصوص تتجاوز شكل النظام وبنيته أحياناً لتصبح نتاجاً للبنية الاجتماعية أو للمجتمع الأبوي، وإن كان الكلام هنا لا يبرر إطلاقاً مساوئ الأنظمة العربية وما أحدثته من تشوّهات في المجتمعات العربية. هكذا يريد السيّاب في معركته تلك أن يجرّد الشيوعيين من كل إنجازاتهم: في السياسة والأخلاق، في الأدب والفن، في الاقتصاد والاجتماع. وهذا تطرف لا يمكن الركون إليه وإن صدر من شاعر في مستوي السيّاب. ولهذه الغاية اتهم الشيوعيين العراقيين بالسرقة والقتل (مجازر كركوك) والانحلال الأخلاقي (ولا سيما النساء) والاغتصاب (كما فعل أحد القياديين الكبار مع الرفيقة اليهودية مادلين مير) والخداع والكذب. ويعترف السيّاب قبل أن يعمل الشيوعيون علي طرده من وظيفته في التدريس بمؤامرة علي حدِّ زعمه، بأنه مارس مع عمه وأخيه وعدد من أقاربه مثل هذا الكذب والخداع حين راحوا يعدون الفلاحين بتملّك الأراضي والرفاهية بعد الانضمام الي الحزب الشيوعي العراقي والانقلاب علي حكم نوري السعيد. كما كتب عدداً من القصائد الحمراء التي كان يرسلها إلي الرفيق المحامي حمزة سلمان ليقرأها في حفلات الصهيونية نيابة عنه. وكانت تلك القصائد باعتراف الشاعر تافهة يرثي لنفسه الآن لأنه كتبها، رغم أنها كانت تحظي بالإعجاب الشديد والتصفيق المدوّي . كما يعترف السيّاب أنه أثناء ترجمته المقالات من الصحف السوفياتية كان يحرّف مقالات ترجمها عن الصحف الأميركية والإنكليزية حتي تصبح وكأنها منقولة من صحيفة شيوعية . هذا وساهم مع أقاربه في توزيع منشورات صهيونية آنذاك وذلك تحت الشعار الذي رفعه الشيوعيون العراقيون أثناء نكبة فلسطين نحن اخوان اليهود ، مهاجمين حرب العرب في فلسطين والتي وصفوها بـ الحرب القذرة لمجرد تأييد المعسكر الشرقي لقيام دولة إسرائيل . وهنا لا بدَّ من الإشارة إلي مهاجمة السيّاب لقيادات الحزب الشيوعي العراقي التي كانت في غالبيتها من الدين اليهودي أمثال يهودا صدّيق، ساسون دلال، إبراهيم يوسف زلخة، ناجي شميل وعدس، واصفاً هؤلاء بـ الخونة .
في كل حال، غلبت علي مقالات السيّاب هذه لغة فضائحية حيناً وكيدية حيناً آخر. ليس في الكتاب سجالات سياسية بالمعني العميق للكلمة ولا نقاشات فكرية كتلك التي كانت رائجة في زمانه. وهذان مأخذان علي شاعر حداثي وفرد انخرط في العمل الحزبي مدة ثماني سنوات. لقد كان السيّاب كما أسلفت يثأر لطرده من وظيفته ولموقف الشيوعيين من قصيدته الشهيرة المومس العمياء ، مثلما كان يقوم بفعل تطهري إزاء قوميته ودينه في آن. وإلي هذا المأخذ غالباً ما بني الشاعر آراءه ومواقفه وانطباعاته واستنتاجاته علي نظرة ذاتية أو علي حادث فردي أو علي رواية شفهية، مطلقاً تعميماً من جرّاء ذلك علي الشيوعيين ليس في العراق فحسب وإنما في العالم أجمع.
يبقي أن نشر هذه المقالات كما وردت في جريدة الحرية عام 1959، يُسقط عليها راهنية الماضي. ويمكننا أن نصوغ هذه الفكرة بسؤال يحتاج فعلاً إلي جواب: هل كان السيّاب سينشر هذه المقالات في كتاب كما هي الآن بين أيدينا بعد مرور نحو نصف قرن علي كتابتها من دون الأخذ في الاعتبار ما تراكم من أحداث وحقائق طوال هذه الفترة؟
كتاب صدر حديثاً في دار الجمل للشاعر الراحل بدر شاكر السيّاب. الكتاب عبارة عن سلسلة مقالات كان نشرها الشاعر الرائد في جريدة الحرية البغدادية عام 1959. هذه المقالات التي جاءت علي شكل اعترافات كانت نُشرت تحت العنوان نفسه باستثناء الحلقات الإحدى عشرة الأخيرة التي حملت كل حلقة منها عنواناً خاصاً بها من أصل أربعين حلقة. أما معدُّ هذه الحلقات للنشر في كتاب فهو وليد خالد أحمد حسن الذي ورد اسمه داخل الكتاب وليس علي غلافه.
تبدو مقالات السيّاب في هذا الكتاب وثيقة مهمة من جوانب عديدة. هي وثيقة سياسية في الدرجة الأولي لمرحلة في تاريخ العراق الحديث تمتد من حكم نوري السعيد إلي حكم عبد الكريم قاسم. ثم هي وثيقة شخصية لتجربة الشاعر في الحزب الشيوعي العراقي من جهة ووثيقة علي شخصية السيّاب الصادقة من ناحية و المتطرفة من ناحية أخري في إطلاق الأحكام وتعميمها. وربما كانت هذه الملاحظة الأخيرة التي سيكتشفها القارئ متأتية من كينونة السيّاب الشعرية، تلك الكينونة التي لا تقبل الحلول الوسط ولا ترتضي بالسكوت عن المظالم أو تمرير الأخطاء. ولهذا لا يتواني الرجل في اتهام الشيوعيين أينما وُجدوا بالجبن والقسوة والإجرام والسرقة وخداع الجماهير، مثلما يتهم أخاه الصغير بالنقص بسبب موت والدته وبسبب رأسه الطويلة التي كان الجيران يعيّرونه بها. (السيّاب نفسه لم يكن جميلاً). في كل حال، هذه استنتاجات سيكولوجية قد لا تعني إلا المهتمين بها وإن كانت تكشف جانباً من البنية النفسية لرائد قصيدة التفعيلة وأحد أبرز الشعراء العرب في العصر الحديث.
من الحلقة الأولي يكشف السيّاب أن سبب معركته مع الشيوعيين الذين انتمي إليهم ثماني سنوات شخصية. لقد بدأت خلافاته معهم علي ذرائع بسيطة وفردية قبل أن تتحول إلي معركة تطال جانباً من المنظومة الفكرية للشيوعية والكذب السياسي والقومية العربية وموقف الأحزاب الشيوعية من قيام دولة إسرائيل عام 1948، ولا سيما الحزب الشيوعي العراقي، ثم موقف الشيوعيين العراقيين من القوميين العرب والوطنيين العراقيين. هنا بدا الرجل كمن يكّفر عن ذنبه تجاه فترة انتمائه إلي الحزب الشيوعي وتجاه قوميته العربية التي بدت متأصلة فيه وتجاه الإسلام الذي عدّه من أفضل الأديان مثلما اعتبر محمد أفضل الأنبياء، وإن كان الشاعر كتب شعراً في المسيح كما في قصيدته الشهيرة المسيح بعد الصلب (بالطبع يرد ذكر المسيح والمسيحية في الكتاب). أياً يكن، يكشف السيّاب في هذه الاعترافات عن شخصية قومية ودينية ظهرت من خلال شعره كما في المومس العمياء وكما في تأثراته بشعراء علي صلة بالدين أمثال إليوت وإيديث ستويل وعزرا باوند (إذا أخذنا في الحسبان أبعاد هذا الأخير الكونفوشيوسية إضافة الي القومية ـ الفاشية في شعره). وهذه المواقف مبثوثة علي مدار الكتاب ولا تحتاج الي جهد لاكتشافها ولا سيما في تصريح الشاعر بذلك: إننا ندافع عن قوميتنا وديننا وتقاليدنا وتراثنا . لهذا تراه ينتقد الأديان القديمة في سياق نقده للشيوعية مثل ديانة البابليين الذين لم يعرفوا الخلود بعكس النبيين المسيح ومحمد (وهنا لا بدَّ من مساءلة الشاعر عن الفراعنة الذين آمنوا بالحياة بعد الموت وعن جلجامش السومري وبحثه الملحمي عن ماء الخلود وعشرات الديانات القديمة من مرحلة ما قبل الميلاد). وعليه، لا يتواني في وصف كارل ماركس بـ اليهودي التائه أو اليهودي القذر قاسي القلب الذي ألّف ـ يدفعه حقده وحسده وتعصبه اليهودي وما قرأه في التوراة ـ كتاباً سمّاه رأس المال ، هذا رغم زعم السيّاب أن ماركس ادعي اعتناق المسيحية، ورغم كتابات ماركس العديدة في نقد الدين، ورغم أهمية رأس المال ككتاب اقتصادي يثير إعجاب الرأسماليين أنفسهم. كما يهاجم لينين اليهودي الذي ثار علي الثورة التي قام بها البرجوازيون فأنشأ حكماً، الإنسان فيه كالآلة لا يفكر ولا يحس إلا وفق نظام يُفرض عليه . وبسببٍ من قوميته العربية يشبّه السيّاب الشيوعيين بالقرامطة والشعوبيين، أي الفرس الذين كان لهم نصيب كبير من الشتائم سواء كانوا فرساً قوميين أم شيوعيين من أتباع حزب تودا الذي تآمر بحسب الشاعر علي الشعب عام 1952 حين حذرت جريدة شهباز الشيوعية الحكومة الإيرانية آنذاك من مؤامرة أميركية قذرة لقلب الحكم... فذكرت أسماء المتآمرين وفصّلت خططهم ، مما أدّي إلي إعدام العديد من المواطنين ومن بينهم 732 ضابطاً شيوعياً. والأكثر مدعاة للجدل أن السيّاب رغم كل هذا الهجوم علي الشيوعيين يمدح الرئيس عبد الكريم قاسم من جهة، مثلما يمدح مكارثي في حملته علي الشيوعيين الأميركيين التي أدّت إلي سجن المئات منهم في الخمسينات من القرن الماضي، وهي فترة سوداء في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأميركية في موضوع الحريات، بالقول: إن مكارثي أشرف بألف مرة من كثير من الذين يعتبرهم الشيوعيون قادة كباراً ومفكرين عظماء .
والحال، لم يتوقف هجوم الشاعر علي الأحزاب الشيوعية أينما حلّت وعلي القادة الشيوعيين أينما كانوا، بل يتعدي ذلك إلي الشعراء والأدباء الشيوعيين. هكذا يصبح ناظم حكمت شاعراً تافهاً وكذلك كونستانتين سيمونوف وبابلو نيرودا وصولاً إلي مواطنه عبد الوهاب البياتي الذي يخصص له حلقة ساخرة شأن غيره من هؤلاء الشعراء: لقد قرأت شعراً لكثيرين من الشعراء الشيوعيين من ناظم حكمت وبابلو نيرودا وأراغون وماو تسي تونغ والشاعر السوفياتي سيمونوف، فوجدته سخيفاً. ولكنني كشيوعي وكعنصر في الحزب كنت ملزماً بالدفاع عن هؤلاء الشعراء والادعاء بأنهم أعظم شعراء العالم، وان شاعراً سخيفاً كناظم حكمت هو أعظم من الشاعر الإنكليزي العبقري اليوت أو إيديث ستويل... . كما يخصص ست مقالات عن رواية جورج أورويل 1984 قارئاً هذا العمل الفني المفتوح علي تأويلات عدة علي أنه نقد للدول الشيوعية بما يشبه الجزم. لكنَّ السيّاب الذي توفي باكراً (عام 1963 علي ما أعتقد) لم يتسنَ له العيش إلي يومنا ليري أن رواية أورويل لا تنطبق فقط علي الأنظمة الشيوعية وإنما علي الأنظمة الليبرالية وإن كانت الآليات والأدوات مختلفة (من الجيد التذكير هنا بكتاب هربرت ماركوز الإنسان ذو البعد الواحد الذي نقد فيه المجتمعات الغربية، وهو كتاب نُشر في الستينات علي أي حال)، مثلما أيضاً لم يتسنَ للسيّاب العيش إلي فترة حكم الأنظمة القومية ليعرف أن السياسة في العالم العربي علي وجه الخصوص تتجاوز شكل النظام وبنيته أحياناً لتصبح نتاجاً للبنية الاجتماعية أو للمجتمع الأبوي، وإن كان الكلام هنا لا يبرر إطلاقاً مساوئ الأنظمة العربية وما أحدثته من تشوّهات في المجتمعات العربية. هكذا يريد السيّاب في معركته تلك أن يجرّد الشيوعيين من كل إنجازاتهم: في السياسة والأخلاق، في الأدب والفن، في الاقتصاد والاجتماع. وهذا تطرف لا يمكن الركون إليه وإن صدر من شاعر في مستوي السيّاب. ولهذه الغاية اتهم الشيوعيين العراقيين بالسرقة والقتل (مجازر كركوك) والانحلال الأخلاقي (ولا سيما النساء) والاغتصاب (كما فعل أحد القياديين الكبار مع الرفيقة اليهودية مادلين مير) والخداع والكذب. ويعترف السيّاب قبل أن يعمل الشيوعيون علي طرده من وظيفته في التدريس بمؤامرة علي حدِّ زعمه، بأنه مارس مع عمه وأخيه وعدد من أقاربه مثل هذا الكذب والخداع حين راحوا يعدون الفلاحين بتملّك الأراضي والرفاهية بعد الانضمام الي الحزب الشيوعي العراقي والانقلاب علي حكم نوري السعيد. كما كتب عدداً من القصائد الحمراء التي كان يرسلها إلي الرفيق المحامي حمزة سلمان ليقرأها في حفلات الصهيونية نيابة عنه. وكانت تلك القصائد باعتراف الشاعر تافهة يرثي لنفسه الآن لأنه كتبها، رغم أنها كانت تحظي بالإعجاب الشديد والتصفيق المدوّي . كما يعترف السيّاب أنه أثناء ترجمته المقالات من الصحف السوفياتية كان يحرّف مقالات ترجمها عن الصحف الأميركية والإنكليزية حتي تصبح وكأنها منقولة من صحيفة شيوعية . هذا وساهم مع أقاربه في توزيع منشورات صهيونية آنذاك وذلك تحت الشعار الذي رفعه الشيوعيون العراقيون أثناء نكبة فلسطين نحن اخوان اليهود ، مهاجمين حرب العرب في فلسطين والتي وصفوها بـ الحرب القذرة لمجرد تأييد المعسكر الشرقي لقيام دولة إسرائيل . وهنا لا بدَّ من الإشارة إلي مهاجمة السيّاب لقيادات الحزب الشيوعي العراقي التي كانت في غالبيتها من الدين اليهودي أمثال يهودا صدّيق، ساسون دلال، إبراهيم يوسف زلخة، ناجي شميل وعدس، واصفاً هؤلاء بـ الخونة .
في كل حال، غلبت علي مقالات السيّاب هذه لغة فضائحية حيناً وكيدية حيناً آخر. ليس في الكتاب سجالات سياسية بالمعني العميق للكلمة ولا نقاشات فكرية كتلك التي كانت رائجة في زمانه. وهذان مأخذان علي شاعر حداثي وفرد انخرط في العمل الحزبي مدة ثماني سنوات. لقد كان السيّاب كما أسلفت يثأر لطرده من وظيفته ولموقف الشيوعيين من قصيدته الشهيرة المومس العمياء ، مثلما كان يقوم بفعل تطهري إزاء قوميته ودينه في آن. وإلي هذا المأخذ غالباً ما بني الشاعر آراءه ومواقفه وانطباعاته واستنتاجاته علي نظرة ذاتية أو علي حادث فردي أو علي رواية شفهية، مطلقاً تعميماً من جرّاء ذلك علي الشيوعيين ليس في العراق فحسب وإنما في العالم أجمع.
يبقي أن نشر هذه المقالات كما وردت في جريدة الحرية عام 1959، يُسقط عليها راهنية الماضي. ويمكننا أن نصوغ هذه الفكرة بسؤال يحتاج فعلاً إلي جواب: هل كان السيّاب سينشر هذه المقالات في كتاب كما هي الآن بين أيدينا بعد مرور نحو نصف قرن علي كتابتها من دون الأخذ في الاعتبار ما تراكم من أحداث وحقائق طوال هذه الفترة؟