٢٧/٠٦/٢٠٠٦
قصة قصيرة
عنقود الكهرمان
بقلم : كُليزار أنور
رنّ الجرس في ساعةٍ متأخرة .. رنينه يشرخ هدوء الليل .. أصمت بإصغاء .. يرن مرةً أخرى .. قلتُ لنفسي : مَن سيأتينا في هذهِ الساعة المتأخرة .. تحركتُ بتمهل ، فقد يكون ما أنا فيه مجرد تخيل .. ويرن للمرة الثالثة .. أُوقظ زوجي الراقد بجانبي :
_ خالد .. خالد .. أحدهم يدق جرس الدار .
_ ليسَ هناك أحد .. نامي !
غطى رأسهُ وعاد إلى نومهِ . ويرن من جديد .. خرجتُ من الغرفة .. أنرتُ ضوء الصالة .. فمنطقتنا أمينة ، ولا داعي لأي خوف .. وفتحتُ الباب .. امرأة ورجلان .. المرأة سلمت عليَّ أولاً وبعدها الرجلان .. وبادرت السيدة :
_ هل تسمحين أن ندخل ؟
خجلتُ أن أقول لها : " مَن أنتم " وبشكل لا إرادي مددتُ يدي إلى الجهة اليمنى لأسمحَ لهم بالدخول ، فقد يكونون أقارب زوجي !
ودخلت هي قبلهم .. وبعدها الرجل الأول .. انحنى نحوي بطريقةٍ وديةٍ ، فحركتُ له رأسي بتودد رداً بسيطاً على تحيتهِ الجميلة .. أما الثاني .. مد كفه لمصافحتي .. وترددتُ بعض الشيء قبلَ أن أمدّ له كفي .
جلسَ الرجلان في صدر الصالة والمرأة وقفت إلى جانبي لتجلس حيث أجلس .. فقلتُ بكرم : أهلاً وسهلاً.
وبعد تردد لم أستطع إخفاؤه أو تبريره :
_ لأوقظ لكم خالداً .
فردت السيدة بطيبة :
_ لا تقلقيه ، فنحن زواركِ .
بنظرة تحمل الشك والتساؤل معاً تطلعتُ إليها .. وشعرتُ بنوع من الخوف .. إذن ، هم ليسوا أقاربه كما ظننت .. ياربي .. ماذا يريدون مني في هذا الليل ؟ .. ومَن يكونون ؟ .. فأنا لم أفعل شيئاً !
نهضت لأقوم بواجب الضيافة على الأقل .. فدعتني السيدة للجلوس ! بدأت أنفاسي تضيق وأحسستُ بانقباضٍ مرعب .. اضطربت عندما حدقتُ في عينيها .. وربما توقف القلب عن النبض في تلك اللحظة .. وقفتُ مدهوشة وكأني نسيتُ كل شيء ! عيناها تلمع ببريقٍ أحمر .. شعرتْ بخوفي فقالت بهدوء :
_ نعلم انهُ وقتٌ متأخر ، لكننا لا نستطيع أن نزوركِ في النهار .
الخوف تشعبَ إلى كل جسمي بقشعريرة برد .. وبومضةٍ رأيتُ قافلة من صور الجان تعبر مخيلتي ، لكن تبادر إلى ذهني في الحال – كما قرأنا عنهم – ان الجن ليسوا كالبشر .. نظرتُ إلى الرجلين .. عيناهما تلمع بنفس البريق .. تمالكتُ نفسي بعض الشيء ورديت بصوت خافت يكاد يسمع :
_ بماذا أستطيع أن أخدمكم ؟
رفعَ إليّ – الرجل الذي حياني – وجهه .. وقال :
_ بالحقيقة نحنُ قصدناكِ في خدمة .. ولأننا نعرف طبيعة مجتمعكم ، فقد جلبنا معنا امرأة لكي تطمئني .. ولكي تسمحي لنا بالدخول .
لم أستوعب ما كان يقوله من الرعب الذي سيطر عليّ .. فقاطعته:
_ اسمح لي .. مَن أنتم ؟ .. وماذا تريدون مني ؟
نهضَ الرجل وتقدم باتجاهي وجلس بجانبي :
_ اطمئني ، فقد قصدناكِ بخير .
لم أجب مؤثرةً الصمت .. وأكمل بعدما شعرَ بأنهُ استطاع أن يُهدئني :
_ سيدتي .. أنتِ كاتبة راقية جداً بنظرنا .. وكنا نقرأ ونتابع لكِ في مجلة " اليوم " روايتكِ " عنقود الكهرمان " وكما تعلمين نشرتِ الجزء الأول فقط .. والثاني لم يُكمل .. لماذا ؟
_ أجئتم في هذا الليل لتسألوني هذا السؤال ؟
_ نحنُ لسنا من الأرض .
حينَ قالها أردتُ أن أصرخ . دقات قلبي تزداد وترتفع .. تقرع في رأسي كناقوسِ كنيسةٍ قديمة .. ترتجف يداي .. ويجف فمي .
انصرفت عيناه عني بعدَ أن كان يُحدق فيّ ملياً .. اقتربت السيدة أكثر مني .. وأحسستُ بملامسة فخذها لفخذي .. ووضعت يدها على كتفي :
_ أرجوكِ .. اهدئي .. واطمئني .. لسنا هنا لنضركِ .. بل بالعكس .
فجاوبتُ بحدة :
_ بكل بساطة .. المجلة أُغلقت !
فردَ الرجل الثاني من مكانهِ :
_ والجزء الثاني موجود لديكِ ؟
_ بالتأكيد .
_ زيارتنا من أجلِ هذا .
وتقدم هو أيضاً .. ووقفَ أمامي ، فقلت :
_ وضحوا لي أكثر ؟
_ ما نشرتهِ هنا كان يُنقل إلى مجلةٍ أخرى لدينا .. وأنا رئيس تحريرها .
قاطعتهُ بابتسامة :
_ وهل تنشرونها بالعربية ؟
فابتسم لابتسامتي :
_ لا .. بلغتنا !
وجدتُ نفسي عاجزة عن التعبير بصدق عما أشعر بهِ وأُريد قولهُ .. شعرتُ أن عينيّ اغرورقت من شدة التأثر لهذا الفرح المفاجئ ! .. وذلك الخوف المرعب تبدد إلى فخر وزهو لا يوصفان .. فأكمل :
_ لدينا مندوبون في الأرض ، وهم يقومون بترجمة الأعمال الجيدة .. وروايتكِ لاقت الاستحسان لدينا .. وبعدَ أن انقطعت توقفنا نحن أيضاً عن تكملتها .. والغريب .. وصلتنا رسائل كثيرة – بالآلاف – تطلب تكملة الجزء الثاني .. ولم ندرِ ماذا نفعل ؟!
_ أتعرفون .. مر على انقطاعها أكثر من سنة .. ولم يسأل عنها أحد هنا .
_ انها رواية من طرازٍ خاص !
أحسستُ بالإشراق ينبع من أعماقي .. فنهضت .. ودخلتُ غرفة المكتب .. وأخرجتُ من الدرج الجزء الثاني والثالث من روايتي " عنقود الكهرمان " .. وضعتها في ظرفٍ أبيضٍ كبير .. وكتبتُ عليهِ بخطٍ واضح : " إلى قرائي أينَ ما كانوا " !
قدمتُها للسيد فابتسم حين قرأ تلك العبارة على الظرف .. وصافحني بقوة هذهِ المرة .. وسألني :
_ كم تطلبين ؟ قولي ما شئتِ وسيكون لديكِ ؟
_ لا شيء .. إنها هديتي لقرء غرباء يسألون عني .
فتقدمت السيدة نحوي .. وأخرجت علبة حمراء من جيبها .. علبة ما رأيت بجمـالـها
وتصميمها البارع :
_ هدية متواضعة جداً لك .
وضعتها على الطاولة القريبة منها ..صافحوني .. وخرجوا وبقيتُ أنتظر لأعرف كيفَ سيغادرون ! .. ابتسمت .. وابتسامتها لم تظهر سوى في عينيها .. لم تُغير تعابير وجهها .. فقط أضاءتها .. وكأن نوراً نبع من داخلها فأضاء وجهها .. وقالت :
_ أرجوكِ .. اغلقي الباب .
قبلتُ رجاءها وعدتُ إلى الصالة .. فتحتُ العلبة ، فتلألأ ما بداخلها وسطعَ أمام عينيّ .. سحبتُ السلسلة فتدلى منها " عنقود من الكهرمان " !
www.postpoems.com/members/gulizaranwar
عنقود الكهرمان
بقلم : كُليزار أنور
رنّ الجرس في ساعةٍ متأخرة .. رنينه يشرخ هدوء الليل .. أصمت بإصغاء .. يرن مرةً أخرى .. قلتُ لنفسي : مَن سيأتينا في هذهِ الساعة المتأخرة .. تحركتُ بتمهل ، فقد يكون ما أنا فيه مجرد تخيل .. ويرن للمرة الثالثة .. أُوقظ زوجي الراقد بجانبي :
_ خالد .. خالد .. أحدهم يدق جرس الدار .
_ ليسَ هناك أحد .. نامي !
غطى رأسهُ وعاد إلى نومهِ . ويرن من جديد .. خرجتُ من الغرفة .. أنرتُ ضوء الصالة .. فمنطقتنا أمينة ، ولا داعي لأي خوف .. وفتحتُ الباب .. امرأة ورجلان .. المرأة سلمت عليَّ أولاً وبعدها الرجلان .. وبادرت السيدة :
_ هل تسمحين أن ندخل ؟
خجلتُ أن أقول لها : " مَن أنتم " وبشكل لا إرادي مددتُ يدي إلى الجهة اليمنى لأسمحَ لهم بالدخول ، فقد يكونون أقارب زوجي !
ودخلت هي قبلهم .. وبعدها الرجل الأول .. انحنى نحوي بطريقةٍ وديةٍ ، فحركتُ له رأسي بتودد رداً بسيطاً على تحيتهِ الجميلة .. أما الثاني .. مد كفه لمصافحتي .. وترددتُ بعض الشيء قبلَ أن أمدّ له كفي .
جلسَ الرجلان في صدر الصالة والمرأة وقفت إلى جانبي لتجلس حيث أجلس .. فقلتُ بكرم : أهلاً وسهلاً.
وبعد تردد لم أستطع إخفاؤه أو تبريره :
_ لأوقظ لكم خالداً .
فردت السيدة بطيبة :
_ لا تقلقيه ، فنحن زواركِ .
بنظرة تحمل الشك والتساؤل معاً تطلعتُ إليها .. وشعرتُ بنوع من الخوف .. إذن ، هم ليسوا أقاربه كما ظننت .. ياربي .. ماذا يريدون مني في هذا الليل ؟ .. ومَن يكونون ؟ .. فأنا لم أفعل شيئاً !
نهضت لأقوم بواجب الضيافة على الأقل .. فدعتني السيدة للجلوس ! بدأت أنفاسي تضيق وأحسستُ بانقباضٍ مرعب .. اضطربت عندما حدقتُ في عينيها .. وربما توقف القلب عن النبض في تلك اللحظة .. وقفتُ مدهوشة وكأني نسيتُ كل شيء ! عيناها تلمع ببريقٍ أحمر .. شعرتْ بخوفي فقالت بهدوء :
_ نعلم انهُ وقتٌ متأخر ، لكننا لا نستطيع أن نزوركِ في النهار .
الخوف تشعبَ إلى كل جسمي بقشعريرة برد .. وبومضةٍ رأيتُ قافلة من صور الجان تعبر مخيلتي ، لكن تبادر إلى ذهني في الحال – كما قرأنا عنهم – ان الجن ليسوا كالبشر .. نظرتُ إلى الرجلين .. عيناهما تلمع بنفس البريق .. تمالكتُ نفسي بعض الشيء ورديت بصوت خافت يكاد يسمع :
_ بماذا أستطيع أن أخدمكم ؟
رفعَ إليّ – الرجل الذي حياني – وجهه .. وقال :
_ بالحقيقة نحنُ قصدناكِ في خدمة .. ولأننا نعرف طبيعة مجتمعكم ، فقد جلبنا معنا امرأة لكي تطمئني .. ولكي تسمحي لنا بالدخول .
لم أستوعب ما كان يقوله من الرعب الذي سيطر عليّ .. فقاطعته:
_ اسمح لي .. مَن أنتم ؟ .. وماذا تريدون مني ؟
نهضَ الرجل وتقدم باتجاهي وجلس بجانبي :
_ اطمئني ، فقد قصدناكِ بخير .
لم أجب مؤثرةً الصمت .. وأكمل بعدما شعرَ بأنهُ استطاع أن يُهدئني :
_ سيدتي .. أنتِ كاتبة راقية جداً بنظرنا .. وكنا نقرأ ونتابع لكِ في مجلة " اليوم " روايتكِ " عنقود الكهرمان " وكما تعلمين نشرتِ الجزء الأول فقط .. والثاني لم يُكمل .. لماذا ؟
_ أجئتم في هذا الليل لتسألوني هذا السؤال ؟
_ نحنُ لسنا من الأرض .
حينَ قالها أردتُ أن أصرخ . دقات قلبي تزداد وترتفع .. تقرع في رأسي كناقوسِ كنيسةٍ قديمة .. ترتجف يداي .. ويجف فمي .
انصرفت عيناه عني بعدَ أن كان يُحدق فيّ ملياً .. اقتربت السيدة أكثر مني .. وأحسستُ بملامسة فخذها لفخذي .. ووضعت يدها على كتفي :
_ أرجوكِ .. اهدئي .. واطمئني .. لسنا هنا لنضركِ .. بل بالعكس .
فجاوبتُ بحدة :
_ بكل بساطة .. المجلة أُغلقت !
فردَ الرجل الثاني من مكانهِ :
_ والجزء الثاني موجود لديكِ ؟
_ بالتأكيد .
_ زيارتنا من أجلِ هذا .
وتقدم هو أيضاً .. ووقفَ أمامي ، فقلت :
_ وضحوا لي أكثر ؟
_ ما نشرتهِ هنا كان يُنقل إلى مجلةٍ أخرى لدينا .. وأنا رئيس تحريرها .
قاطعتهُ بابتسامة :
_ وهل تنشرونها بالعربية ؟
فابتسم لابتسامتي :
_ لا .. بلغتنا !
وجدتُ نفسي عاجزة عن التعبير بصدق عما أشعر بهِ وأُريد قولهُ .. شعرتُ أن عينيّ اغرورقت من شدة التأثر لهذا الفرح المفاجئ ! .. وذلك الخوف المرعب تبدد إلى فخر وزهو لا يوصفان .. فأكمل :
_ لدينا مندوبون في الأرض ، وهم يقومون بترجمة الأعمال الجيدة .. وروايتكِ لاقت الاستحسان لدينا .. وبعدَ أن انقطعت توقفنا نحن أيضاً عن تكملتها .. والغريب .. وصلتنا رسائل كثيرة – بالآلاف – تطلب تكملة الجزء الثاني .. ولم ندرِ ماذا نفعل ؟!
_ أتعرفون .. مر على انقطاعها أكثر من سنة .. ولم يسأل عنها أحد هنا .
_ انها رواية من طرازٍ خاص !
أحسستُ بالإشراق ينبع من أعماقي .. فنهضت .. ودخلتُ غرفة المكتب .. وأخرجتُ من الدرج الجزء الثاني والثالث من روايتي " عنقود الكهرمان " .. وضعتها في ظرفٍ أبيضٍ كبير .. وكتبتُ عليهِ بخطٍ واضح : " إلى قرائي أينَ ما كانوا " !
قدمتُها للسيد فابتسم حين قرأ تلك العبارة على الظرف .. وصافحني بقوة هذهِ المرة .. وسألني :
_ كم تطلبين ؟ قولي ما شئتِ وسيكون لديكِ ؟
_ لا شيء .. إنها هديتي لقرء غرباء يسألون عني .
فتقدمت السيدة نحوي .. وأخرجت علبة حمراء من جيبها .. علبة ما رأيت بجمـالـها
وتصميمها البارع :
_ هدية متواضعة جداً لك .
وضعتها على الطاولة القريبة منها ..صافحوني .. وخرجوا وبقيتُ أنتظر لأعرف كيفَ سيغادرون ! .. ابتسمت .. وابتسامتها لم تظهر سوى في عينيها .. لم تُغير تعابير وجهها .. فقط أضاءتها .. وكأن نوراً نبع من داخلها فأضاء وجهها .. وقالت :
_ أرجوكِ .. اغلقي الباب .
قبلتُ رجاءها وعدتُ إلى الصالة .. فتحتُ العلبة ، فتلألأ ما بداخلها وسطعَ أمام عينيّ .. سحبتُ السلسلة فتدلى منها " عنقود من الكهرمان " !
www.postpoems.com/members/gulizaranwar
خبر عن صدور كتاب جديد
صدر عن دار الشؤون الثقافية العامة في وزارة الثقافة مجموعة قصصية بعنوان (عنقود الكهرمان) للكاتبة (كليزار أنور). كما صدرت للكاتبة مجموعة قصصية (بئر البنفسج1999م)، و رواية (عجلة النار 2003) وتسرد الكاتبة ضمن مجموعتها الجديدة (عنقود الكهرمان 2006م) عدد من القصص القصيرة التي تعبر عن الوجدان الإنساني وتحاكي المشاكل الاجتماعية والثقافية بإطار أدبي ولغة شاعرية رصينة.. يقع الكتاب بـ88 صفحة ومن القطع المتوسط.
المراوحة بين السردي والشعري في العراق
ألم المشهد وسحر الكتابة إبراهيم سبتي
اطلق ستاندال على القلة القارئة مصطلح القلة السعيدة . ويرى اخرون ، بان احدى السمات البارزة للادب الحديث ، هي اصراره على ان يظل فن الاقلية .. ولا يعدو هذا الرأي ، سوى تجسيد للصدع القائم بين الكاتب ـ الاديب ـ والآخر المتلقي . ان كل الاحداث الساخنة التي تجري ، ستكون مخزونا ثر لا شك للمدون الاديب ..
فاليومي من الاحداث التي تعصف بالبلاد ، في اولويات أي كاتب . فاما ان يوظفها داخل نص ابداعي من شعر او قصة او في مقالة يدنو فيها من محاذير واسوار السياسة ، او يكتبها كسيرة او مذكرات بعد حين .. ولا يمكن تجاوز هذه المحن ، مالم تصنف تاريخيا ، تصنيفا يجعل الادب المدون فيها ادب محنة .
والادب المعني هذا ، ليس من الممكن المرور به على عجالة او دون اكتراث بعد ان يؤول الوضع الى الانفراج وتصير المحن ولحظات الخراب تاريخا . ففي تلك اللحظة يجب التوقف عنده وتامله ودراسته لانه أرخ لمرحلة هامة من فصول البلاد . وحسب ليفي شتراوس فأن التاريخ يغدو جانبا من الحاضر عندما تستعيده الذاكرة ..
ومما نتج عن حالة البلاد حاضرا، فأن الذائقة تبدو انها تمر بانكماش ملحوظ وهي حالة يمكن ان تتحول فجأة الى اولى اهتمام المتلقي الذي يشعر ان كل شيء عاد طبيعيا .. فالقاص والمتلقي ، كلاهما يبحثان عن فضاء القراءة والابداع المناسب ، ان تيسر الحصول عليه .
وكم من روائع ادبية فاتت على الاغلب من الناس وهم لايستطيعون قراءتها لهذا السبب اوذاك .
ولايمكن ان يتغافلوا مع الوقت او يخادعونه ، لكي يمارس كل منهم فعل القراءة الممتع الذي رافقنا طيلة سنوات شغفنا وولعنا بقراءة المترجمات الروائية والشعرية ..
وفي أي بلاد وبمراجعة سريعة ، نجد ان كتابها قد ارخوا لبعض من احداثها العاصفة كجزء من سيرتها . لان سخونة اللحظات لايمكن ان تذهب باستيحاء دون ان تذكر كما اللحظات السعيدة التي تتفجر كالبالونات لخفتها وبالتالي لا تحتفظ لها الذاكرة بأي شيء .. وحسب محددات التاريخ المدون ، فان كل مرحلة تعد مفصلا هاما لتكوين الارث الحكائي لذلك التاريخ ومن ثم فان الارث سيبقى محفوظا في المدونات كجزء من صيرورة البلاد ومفاصلها عامة . وهكذا تصنع سخونة الاحداث ادبا مختلفا في كل معاييره ومستوياته . وحتى نتاكد من هذا الحكم ، نجد ان الادب الحالي ، قد نأى بنفسه عن المرحلة الحاضرة بكل تفاصيلها من تدمير وتحطيم وخراب وقهر وضغوط اخرى .. الا ما قل من محاولات اكدت الجانب المتعب من تاريخ البلاد والذي كان نتيجة حتمية للتغيير الذي اصاب الدولة واجهزتها برمتها .
وظل كل مايكتب من الادب بتنوع اجناسه ، ادبا لا نشم فيه رائحة المرحلة بحقيقتها وصراحتها وحيث تحولت بعض الاشياء إلى صور مضببة.
ولان الكاتب والاديب لايختلفان عن المؤرخ المختص في صناعة المدونة التاريخية ، فأنهما قد يتفوقان باستخدام الحس التعبيري المعبر عن عمق وفداحة الفاجعة ومايترتب عليها باستخدام لغة توثق ما جرى ويجري او المناورة الكتابية التي نطلق عليها ادبيا ـ التاويل ـ أي ان ( الامر كله امر لغة ) كما يقول لاكان . ومنه تتحدد العلاقات مع العالم السردي او الشعري في مجمله . فكان لابد من وجود قاريء محنة وكاتب ايضا ، كل يعبر عن غاياته ، ضمن مساحة بوح محددة شكلا وجنسا.
الكل يريد التعبير عن مايدور ، ولكن كيف له ان يتحاور مع بوحه لحظة هيجان حقيقية يمر بها ؟
كل الاجوبة ستكون عبارة عن سياق بحثي استقصائي واصرار على التحدي
رغم ان الجميع امام خراب واحد .. خراب الذائقة بفعل ارهاصات الحياة اليومية ، او بفعل التجاذبات أي كان مزاجها .
وفعل القراءة افتراضا هو سلوك يومي يمارسه الفرد ، لايتم الا بتوفر شرطها المهم ـ المتلقي ـ ولأن القراءة حسب اوكتوفيوباث هي اكتشاف السبل المؤكدة التي تقودنا الى نفوسنا ، فان الزمن لايمكن ان يعود قرن او نصفه لكي يجلس القاريء لقراءة مطولات دوستويفسكي او غوغول او تولستوي او محفوظ او مناظرات و مشاكسات سارتر .. هذا لايمكن حدوثه الان مطلقا ، ذلك ان القفزة التقنية في الاتصالات والدهشة التي تصعق الانسان مع كل جديد في عالم ينتج روبوتا كل ثانية !! يتعذر فيها وجود حميمية قرائية مع المدون أي كان توجهه و بعض الدول تعتبر ان احدى ركائز تحضرها هو مدى الاقبال على شراء الصحف وليس الاعمال الادبية ..
فاين نجد قارئا متحفزا للقراءة الموضوعية الصادقة وهو يعكس المزاج السعيد ليجلس بضع ساعات من اجل رواية او دراسة نقدية مطولة مع ان بعض المدارس النقدية تؤكد على مشاركة القاريء مع الكاتب في انتاج النص او كما يعتقد رولان بارت بأن يقوم القاريء بالاسهام في وقائع النص ؟..
والسؤال يجر الى آخر .. من يكتب عن المحنة عملا ادبيا تقليديا او حداثويا فيه كل مقومات النص ؟
اننا على يقين بان القاريء النموذجي قد لانجده اليوم امام مشهد الفواجع والمصائب ، فهو يحاول ان يجد البدائل عن الادب باللجوء الى السياسة ، التي تجيد وضع المصائد والاغواءات وتعرف كيف تسحب البساط من تحت الاهتمامات الاخرى وجعل نسبة المتابعين في ازدياد مضطرد ، وحيث ان الانسان يميل بطبعه الى سماع معسول الكلام والخطب النارية ، فانه كمن يبحث بين ثناياها عن ماء بارد وسط اتون النيران الهائجة .. وسينجلي الغبار عن صوت جريء لبعض الكتاب الذين كان همهم نقل الحقيقة في مدوناتهم وكما يعبر عنهم اوكتافيوباث في كتابه ـ الصوت الآخر : انه صوت الكآبة المنعزلة والقصف ، صوت الصمت والصخب ، الضحك والتنهدات ، الحكمة المجنونة والجنون الحكيم ، والهمسات الحنون في غرف النوم وهدير الحشود في الساحات . وان تسمع الصوت يعني ان تسمع الزمن ذاته .
ناصرية
ألم المشهد وسحر الكتابة إبراهيم سبتي
اطلق ستاندال على القلة القارئة مصطلح القلة السعيدة . ويرى اخرون ، بان احدى السمات البارزة للادب الحديث ، هي اصراره على ان يظل فن الاقلية .. ولا يعدو هذا الرأي ، سوى تجسيد للصدع القائم بين الكاتب ـ الاديب ـ والآخر المتلقي . ان كل الاحداث الساخنة التي تجري ، ستكون مخزونا ثر لا شك للمدون الاديب ..
فاليومي من الاحداث التي تعصف بالبلاد ، في اولويات أي كاتب . فاما ان يوظفها داخل نص ابداعي من شعر او قصة او في مقالة يدنو فيها من محاذير واسوار السياسة ، او يكتبها كسيرة او مذكرات بعد حين .. ولا يمكن تجاوز هذه المحن ، مالم تصنف تاريخيا ، تصنيفا يجعل الادب المدون فيها ادب محنة .
والادب المعني هذا ، ليس من الممكن المرور به على عجالة او دون اكتراث بعد ان يؤول الوضع الى الانفراج وتصير المحن ولحظات الخراب تاريخا . ففي تلك اللحظة يجب التوقف عنده وتامله ودراسته لانه أرخ لمرحلة هامة من فصول البلاد . وحسب ليفي شتراوس فأن التاريخ يغدو جانبا من الحاضر عندما تستعيده الذاكرة ..
ومما نتج عن حالة البلاد حاضرا، فأن الذائقة تبدو انها تمر بانكماش ملحوظ وهي حالة يمكن ان تتحول فجأة الى اولى اهتمام المتلقي الذي يشعر ان كل شيء عاد طبيعيا .. فالقاص والمتلقي ، كلاهما يبحثان عن فضاء القراءة والابداع المناسب ، ان تيسر الحصول عليه .
وكم من روائع ادبية فاتت على الاغلب من الناس وهم لايستطيعون قراءتها لهذا السبب اوذاك .
ولايمكن ان يتغافلوا مع الوقت او يخادعونه ، لكي يمارس كل منهم فعل القراءة الممتع الذي رافقنا طيلة سنوات شغفنا وولعنا بقراءة المترجمات الروائية والشعرية ..
وفي أي بلاد وبمراجعة سريعة ، نجد ان كتابها قد ارخوا لبعض من احداثها العاصفة كجزء من سيرتها . لان سخونة اللحظات لايمكن ان تذهب باستيحاء دون ان تذكر كما اللحظات السعيدة التي تتفجر كالبالونات لخفتها وبالتالي لا تحتفظ لها الذاكرة بأي شيء .. وحسب محددات التاريخ المدون ، فان كل مرحلة تعد مفصلا هاما لتكوين الارث الحكائي لذلك التاريخ ومن ثم فان الارث سيبقى محفوظا في المدونات كجزء من صيرورة البلاد ومفاصلها عامة . وهكذا تصنع سخونة الاحداث ادبا مختلفا في كل معاييره ومستوياته . وحتى نتاكد من هذا الحكم ، نجد ان الادب الحالي ، قد نأى بنفسه عن المرحلة الحاضرة بكل تفاصيلها من تدمير وتحطيم وخراب وقهر وضغوط اخرى .. الا ما قل من محاولات اكدت الجانب المتعب من تاريخ البلاد والذي كان نتيجة حتمية للتغيير الذي اصاب الدولة واجهزتها برمتها .
وظل كل مايكتب من الادب بتنوع اجناسه ، ادبا لا نشم فيه رائحة المرحلة بحقيقتها وصراحتها وحيث تحولت بعض الاشياء إلى صور مضببة.
ولان الكاتب والاديب لايختلفان عن المؤرخ المختص في صناعة المدونة التاريخية ، فأنهما قد يتفوقان باستخدام الحس التعبيري المعبر عن عمق وفداحة الفاجعة ومايترتب عليها باستخدام لغة توثق ما جرى ويجري او المناورة الكتابية التي نطلق عليها ادبيا ـ التاويل ـ أي ان ( الامر كله امر لغة ) كما يقول لاكان . ومنه تتحدد العلاقات مع العالم السردي او الشعري في مجمله . فكان لابد من وجود قاريء محنة وكاتب ايضا ، كل يعبر عن غاياته ، ضمن مساحة بوح محددة شكلا وجنسا.
الكل يريد التعبير عن مايدور ، ولكن كيف له ان يتحاور مع بوحه لحظة هيجان حقيقية يمر بها ؟
كل الاجوبة ستكون عبارة عن سياق بحثي استقصائي واصرار على التحدي
رغم ان الجميع امام خراب واحد .. خراب الذائقة بفعل ارهاصات الحياة اليومية ، او بفعل التجاذبات أي كان مزاجها .
وفعل القراءة افتراضا هو سلوك يومي يمارسه الفرد ، لايتم الا بتوفر شرطها المهم ـ المتلقي ـ ولأن القراءة حسب اوكتوفيوباث هي اكتشاف السبل المؤكدة التي تقودنا الى نفوسنا ، فان الزمن لايمكن ان يعود قرن او نصفه لكي يجلس القاريء لقراءة مطولات دوستويفسكي او غوغول او تولستوي او محفوظ او مناظرات و مشاكسات سارتر .. هذا لايمكن حدوثه الان مطلقا ، ذلك ان القفزة التقنية في الاتصالات والدهشة التي تصعق الانسان مع كل جديد في عالم ينتج روبوتا كل ثانية !! يتعذر فيها وجود حميمية قرائية مع المدون أي كان توجهه و بعض الدول تعتبر ان احدى ركائز تحضرها هو مدى الاقبال على شراء الصحف وليس الاعمال الادبية ..
فاين نجد قارئا متحفزا للقراءة الموضوعية الصادقة وهو يعكس المزاج السعيد ليجلس بضع ساعات من اجل رواية او دراسة نقدية مطولة مع ان بعض المدارس النقدية تؤكد على مشاركة القاريء مع الكاتب في انتاج النص او كما يعتقد رولان بارت بأن يقوم القاريء بالاسهام في وقائع النص ؟..
والسؤال يجر الى آخر .. من يكتب عن المحنة عملا ادبيا تقليديا او حداثويا فيه كل مقومات النص ؟
اننا على يقين بان القاريء النموذجي قد لانجده اليوم امام مشهد الفواجع والمصائب ، فهو يحاول ان يجد البدائل عن الادب باللجوء الى السياسة ، التي تجيد وضع المصائد والاغواءات وتعرف كيف تسحب البساط من تحت الاهتمامات الاخرى وجعل نسبة المتابعين في ازدياد مضطرد ، وحيث ان الانسان يميل بطبعه الى سماع معسول الكلام والخطب النارية ، فانه كمن يبحث بين ثناياها عن ماء بارد وسط اتون النيران الهائجة .. وسينجلي الغبار عن صوت جريء لبعض الكتاب الذين كان همهم نقل الحقيقة في مدوناتهم وكما يعبر عنهم اوكتافيوباث في كتابه ـ الصوت الآخر : انه صوت الكآبة المنعزلة والقصف ، صوت الصمت والصخب ، الضحك والتنهدات ، الحكمة المجنونة والجنون الحكيم ، والهمسات الحنون في غرف النوم وهدير الحشود في الساحات . وان تسمع الصوت يعني ان تسمع الزمن ذاته .
ناصرية
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)