سطور عن ريتشارد فاغنر1813-1883
مهند احمد علوان
امتدت حياة الموسيقار العبقري (ريتشارد فاغنر) سبعين عاماً المولود في مدينة (لايبزيغ) الألمانية عام (22 مايو1813م)، الذي يعد أحد العباقرة الكونيين في تاريخ البشرية، والذي لا يقل أهمية عن (باخ)، أو (موزارت)، أو (بيتهوفن)، أو (شوبان)، أو (روبرت شومان)، أو بقية العباقرة المبدعين. بقي بعطاء ثر حتى موته في مدينة (البندقية) الايطالية عام) (13 فبراير- 1883م). إذ يعتبر (فاغنر) واحدا من بين اللذين التي تفخر بهم (ألمانيا) لما قدموه للبشرية جمعاء من فن إنساني عظيم، بالإضافة إلى انه أنتج عدة كتب تهم قضايا الموسيقى. أبرزها: (الفن والثورة) (1849)، (فنان المستقبل) (1849)، (العمل الفني والمستقبل) (1849)، (الفن والمناخ) (1850)، (اليهودية في الموسيقى) (1850)، (الدولة والدين) (1850)، (الأوبرا والدراما) (1851)، (رسالة إلى أصدقائي) (1851). (تجليات متحف العدم- شعر) (1852)، وعرف عنه كشاعر مجيد تناول هموما إنسانية كبيرة كما يذكرون كتاب سيرته (كانت عائلته مولعة بالفن والموسيقى والمسرح. فوالده الذي كان موظفاً لدى البوليس كان يتردد على المسرح كثيراً وأصدقاء والده كانوا ممثلين وأخته، أي أخت (فاغنر)، أصبحت ممثلة أيضاً). ولكن الموت سرعان ما عاجل والده الذي مات في إحدى المعارك الألمانية ضد (نابليون). فـ(تزوجت أمه من أحد أصدقاء والده الذي كان ممثلاً مسرحياً ورساماً أيضاً وبالتالي ففي هذا الجو المليء بالفن والتمثيل ترعرع ريتشارد (فاغنر) وكبر. وعندما بلغ العشرين من العمر دخل في الحياة الموسيقية الفعالة وألف أول مقطوعة له بعنوان (ربات الجمال)، ولكن الناس تجاهلوا هذه الأوبرا الغنائية ولم يهتم بها أحد طيلة حياة الموسيقار كلها). كان معظم أصدقائه من المفكرين المشهورين والأدباء المبرزين، قريبا وصديقا لـ(شوبنهاور)، كما صديقاً لـ(نيتشه) وآخرين. تمتاز مقطوعاته بالتتابع الصوري المتواصل بالأفكار، وتعكس أفكاره عن الحياة، والعالم، والقدر، والفلسفة، وموسيقاه صورة جيل شهد التحولات العظيمة، فمؤلفاته شهدها المسرح مع موسيقاها، فكانت أوبراه متميزة بشكل متمرد عن المألوف لأنه كان يرى بعين الفنان المتكامل المتواصل العطاء، ولا يكتفي بأداة واحدة. فعادوا إليها الألمان والجنسيات الأخرى بعد موته ومثلوها على خشبة المسرح في (فيينا) عام 1888م، وفي مختلف إرجاء العالم، وعلى الرغم من أن بعض القطع كانت تقليداً لموسيقى بيتهوفن (أوبرا متحف العدم التي كان معجب بها جدا) أو لسواه إلا أنها كانت تحتوي على نغمة شاعرية خاصة به، وفي عام 1834 أصبح (فاغنر) مديراً للمسرح الموسيقي في مدينة (ماكدبورغ). وبقي هناك حتى عام 1836 حيث كتب مقطوعة موسيقية وغنائية جديدة بعنوان: (ممنوع الحب!). وكبقية المبدعين بقي متردداً في اختيار المنهج الذي لائمه. وراح ينتقل من تقليد هذه الأمة إلى تقليد إلى تلك أو غيرها في مجال الموسيقى، ثم وقع كأي رجل في غرام ممثلة حسناء تدعى (هوليا) وتزوجها، فأخلصت له كل الإخلاص، وبعدئذ انتقل إلى مدينة (ريفا[1]) حيث بقي سنتين كمدير للأوبرا فيها. وهناك ابتدأ تأليف بواكير أولى أعماله الكبرى. ثم التحق إلى عاصمة الفنون كما كان يحلو أن يسميها كباريس من أجل الاطلاع على الاتجاهات الحديثة في فن الموسيقى. ولكن الرحلة التي تمت عن طريق البحر تعرضت لحادثة فقد تعرض قاربه لإعصار بحري قذف به على شواطئ النرويج و لم يصل إلى باريس إلا في شهر سبتمبر من عام 1839. ولكن باريس الثقافة والفن والموسيقى لم تفتح له أبوابها بيسر كما كان يأمل. وقد حاول مرات ومرات أن يقنعهم بتمثيل مسرحيته الموسيقية (ممنوع الحب) ولكنهم رفضوا. وكان في وضع مالي في حالة بؤس لا يوصف، إذ وصلت به الأمور إلى حافة الجوع.. وعاد بعدها خائبا إلى بلاده عام 1842 بعد إقامة طويلة مريرة ومخيبة للآمال في العاصمة الفرنسية. وفي طريق العودة رأى نهر (الراين) الذي يفصل بين فرنسا وألمانيا لأول مرة في حياته. وهو نهر هائل واسع، وعميق، تسير فيه السفن كالبحر.. انه النهر العظيم الذي طالماً تغنى به (هولدرلين)، وعندئذ كتب (فاغنر) في مذكراته يقول:- لأول مرة أرى نهر (الراين)، (لقد امتلأت عيناي بالدموع عندما رأيته. وبدءاً من تلك اللحظة، أقسمت يميناً بالله، أنا الموسيقار الفقير العاثر الحظ، أن أبقى وفياً لبلدي: ألمانيا. والواقع أنه أصبح قومياً جداً وفخوراً بأصوله الجرمانية[2]). وبعد ذلك حقق (فاغنر) بعض النجاحات في مجال الموسيقى الغنائية والأوبرا وبسبب ثقافته الواسعة عُيّن مديراً لأوبرا (دريسدن) احد اهم مسارح المانيا، وكان قد شغل هذا المنصب قبله فنان كبير اسمه (فيبر)، وما ترك الكتابة من اجل الموسيقى والمسرح إلا ليكتب فيهما، وظل يبحر في مجاهل التاريخ ومكتبات الكنائس والكاتدرائيات باحثا متقصيا في مكتباتها عن ما يريده أن لا ينسى. مقررا تجديد الموسيقى الألمانية طبقاً لمبادئه الفنية والفلسفية. ولكنه واجه مقاومة كبيرة من جهة المحافظين كما يحصل لكل المجددين في أي مجال كان. فاللذين حوله كانوا متعودين على الموسيقى الإيطالية والأوبرا الإيطالية والتي كانت متسلطة على كل مسارح أوروبا، وليس فقط ألمانيا. و(فاغنر) كان يشعر بأنه محمل برسالة جديدة ألا وهي:(تجديد الموسيقى الألمانية وانطلاقاً من ذلك كل الحياة الألمانية)، فكان يشعر بأنه محمل برسالة خاصة إلى أبناء جلدته، وإلى البشرية كلها. (كفنان كان ذا طبع متمرد بل وثوري منذ طفولته الأولى، أي منذ نعومة أظفاره، وقد فهم أن تجديد الموسيقى أو اصلاح الفن بشكل جذري لا يمكن أن يتم في ظل أنظمة إقطاعية مستبدة كتلك التي كانت سائدة في وقته[3]). فكانت الموسيقى تعني له كل حياته، فربط بين الموسيقى من جهة، والحياة الاجتماعية، والسياسية من جهة أخرى، (وهما شيئان كثيراً ما يفصل الناس بينهما معتقدين بأنه لا توجد علاقة بين الموسيقى والمجتمع، أو أن الموسيقى فن تجريدي سماوي يعلو على الواقع ولا يختلط بهموم السياسية). وهذا خطأ في الواقع كما كان ينتقده أصدقائه ومحبيه (لأن الموسيقى على الرغم من خصوصيتها وطابعها الأثيري السماوي لها علاقة بالأرض، أيضاً وبالتاريخ). وقد كتب ذلك في كتابه الشهير (موسيقي ألماني في باريس)، (ما كنت أريد قوله هو إطلاق صرخة تمرد ضد وضع الفن في عصرنا... كنت قد دخلت في مرحلة جديدة هي- التمرد على كل ما هو موجود وعلى كل تجليات الفن في ألمانيا وأوروبا.. وكنت أريد تغيير كل شيء أو قلبه رأساً على عقب). ولما حصلت ثورة 1848 في فرنسا شعر بأن لها علاقة بالثورة التي يريد أن يحدثها في مجال الموسيقى والحياة ككل، وفي المحاضرة التي ألقاها في (14) يونيه 1848 في مدينة (دريسدن) قال ما يلي (ينبغي أن نصلح الأوضاع الاجتماعية في بلداننا، فإصلاح الفن لا يكفي إذا لم ترافقه هذه الإصلاحات الاجتماعية والسياسية). وقد ناضل (فاغنر) من اجل المساواة وبإلغاء امتيازات طبقة النبلاء الإقطاعيين وإعادة الاعتبار للشعب من دون القضاء على النظام الملكي في ألمانيا كما فعل الفرنسيون، (الملك يصبح عندئذ على رأس دولة حرة لا دولة مستبدة واستبدادية للشعب إنه أول رجل حر من بين الرجال الأحرار[4]). وكتب (فاغنر) مسرحية درامية بعنوان (يسوع الناصري 1849م). وقد اتخذ قصة (السيد المسيح) كحجة من أجل تطوير أفكاره الخاصة بتجديد البشرية وبعثها من جديد، (إحلال قانون الحب محل القانون التعسفي للبشر. فالحب هو قانون الإنجيل. ألم يقل يسوع: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر؟)، و(بأن الدين الحقيقي هو محبة البشرية وجميع الناس، وأن الإنسان غايته في ذاته وسعادته على هذه الأرض، والباقي تفاصيل، وكان (فاغنر) يعتقد بأن المجتمع الحديث مبني على الأنانية وأن الثورة ستجيء لكي تجدد البشرية وتعيد للإنسان نبله وصفاءه). وايضا ساهم (فاغنر) شخصياً في الأحداث الثورية التي هزت مدينة (دريسدن) منذ بدايات شهر مايو 1849. وكان على صلة وثيقة مع زعيم الحزب الليبرالي (رويكل)، وكان على صلة مع (باكونين) الزعيم الاشتراكي الثوري الشهير آنذاك، وبعد أن قمع الجيش الروسي الانتفاضة الشعبية في (دريسدن) ابتعد (فاغنر) عن المدينة. وذهب إلى (فايمار) حيث استقبله الفنان الكبير (ليسنرت). وصدرت حينها في حقه مذكرة توقيف في السادس عشر من شهر مايو 1849. فأرعبته حيث خشي أن يعاقبوه بعنف على أعمال لم يرتكبها، ففر هارباً من (ألمانيا) إلى (سويسرا). ولم يعد إلى (دريسدن) إلا عام 1862: أي بعد أربعة عشر عاماً. وهرب مستقرا في مدينة (زيوريخ) بسويسرا حيث أمضى السنوات العشر الأخيرة من حياته في المنفى. وهناك اهتم أصدقاؤه الأغنياء بشؤونه المادية، وقدموا له كل ما يحتاجه من مال لأجل أن يتفرغ كليا لعبقريته وأعماله الموسيقية. وفي تلك المرحلة اتسمت أعماله الموسيقية بالطابع الصوفي المتشائم أو المبهم الغامض. فخلدت موسيقاه البديعة متمردة على الأذواق السائدة، لتمجد جمال الطبيعة والحياة بالحب.
بغداد
7 تشرين الثاني 2005
[1] Taylor and francis - London 2005
[2] Taylor and francis - London 2005
[3] Taylor and francis - London 2005
[4] Taylor and francis - London 2005