٠٧‏/٠٢‏/٢٠٠٨






ربيبةُ السيد المسؤول
قصةُ قصيرة
محمد الأحمد

بيضاءُ, بيضاءٌ كالثلج, بليغةٌ الأنوثة, ضامرةٌ الخصر، هيفاءٌ القدّ، ذاتُ عينين واسعتين، ونجلاوان بحدّة عالية، تشعان بلمعة ذكية كعيني قطة كأنهما تنيران أية ظلمة. يصعد الدم إلى وجهي كلما كانت تقترب مني.. يفور في ذلك الذي أجهله, يضغطني فلا أحتمل, فأقترب منها أيضاً، مقاوماً كل ما يخيفني، فقد أشاعوا يومها بان احد مسئولي الدولة الكبار آنذاك، كانت علاقته بأمها جد وطيدة، وقد عين من بين الطلبة لمتابعتها، وكنت دائما أتحاش الاقتراب منها، ليس لأني ممتلئ من قصص الرعب التي سمعتها، عن ذلك المسئول الذي وصفوه بأخطر الإمراض السايكوباثية، وكنا نعرف بان يغار عليها كما يغار على أمها، وصرنا نهابها أكثر مما نهابه، كنت أرى بان الاقتراب منها بأي شكل من الإشكال يتركب عليه عواقب وخيمة لا يمكن تفاديها، فكنت دائما اهرب منها، أو التقرب منها رغم أن ترتيب اسمها الأبجدي يجعلها دائما بجانبي، كنت أرى فيها أنوثة طاغية، وأحاول عدم مسّ أصابعها كلما اشتركنا في تمرين (المختبر)، تتعمد الدنوّ فوق رأسي، وتسقط زفيرها في رقبتي، لانتفض ارتجافاً، أراها تتعمد أن تلامسني، فأخاف من احتكاك حلمتيها الجريئتين، وغالبا ما استرق النظر إلى فتحة قميصها خافيا شبقا دفينا بين عينين مفتوحتين خجولتين، فأجن.. إذ غالبا ما تسرحان جريا في هضاب مفرقها المرمري الذي تتيه فيه أذكى العيون..
يومها كانت تدرك باني اضطرب كلما اقتربت مني، وتهدر بي عاصفة تهدني هدّا عنيفا، فتختلط في فمي كل مخارج الكلمات التي انطقها، وتتعثر جملي، وكأني في حضرتها لا اعرف أن أقول، فلا يستقر لي تنفسي، وكأني كنت قد وصلت إليها من بعد ركض كثير، ولكني كنت على يقين بأنها تسعد كثيرا بالتمادي بعبثها معي، فتدفعني بجرأة وتهتف بصوت غنوج:
- أنت رجل رديء.
كأني اطرب لنغمتها، وأميل جانباً لدفعتها, وأبتعد في الاتجاه الذي دفعتني أليه, فقدت السيطرة على نفسي فلم أتمالك وكأني عصفور قد أطلقته من قفص، صرت أحس بأن يديها قد اخترقتاني.. كم صرت أشاركها لعبتها، واخفي اشتهائي، حاولت الغوص أكثر في سناء ما يشدني ولأثيرها كأنها تثار أكثر كلما تغاضيت عنها أكثر، وربما باتت على يقين باني قد صرت لها صيدا سهلا لتجارب هي تخوضها مع صديقاتها، اللاتي غالبا ما أراهن يختلسن النظر بحجة أو بأخرى، ليعرفن نتائجاً هنّ قد رجينّها. كنت اعرف بان اغلب قصص الحب لها بداية كهذه، تبدأ بالهزل، وتنتهي بالعشق العنيف، فضحكت وأمتد صمتي طويلاً بينما راحت عيناي تتسابقان على مباهجها الأنثوية.. كأنني في حلم, رفضت كل شيء ونهضت إليها من جديد.. تتقاسمني نوازع شتى، مغشيا أتطوح في رائحتها الذكية، أتنشقها بعمق، واقبض على أنفاس منها، متحديا أن تفلت تلك الحلاوة من رئتي، حاولت أيجاد نفسي قريباً مما يشعه جسدها السني من دفء كأنها تجذبني من كل الليل الطويل وتغرقني في ميدانها.. يتوقف زمني كله‎, فلم أعد أحتمل وقوفه، أحس بالاختناق.. الزمن كله يعدو سريعاً خارج جسدي, وتكبر الأشياء من حولي وتتقدم بينما زمني يحتضر. أتقدم منها, وصرت أخاف أن تفلت مني إرادتي فأحاول أن أمد أصابعي بعنف بين ساقيها, صرت أتخيل باني أفعل ذلك، لكن بنطلونها (الجينز) يفشل اندلاقي عليها، أحاول أن امضي قدماً؛ اقبلها، أمص رحيقها، الثمُ شفتيها الكرزيتين، ألامس بأناملي شعرها الأسود الطويل، من المنبع إلى المصب، وان أضع انفي في مفرق نهديها، أن أنغرز عميقا فيها، كأني اقبلهما وامصص أصابعها العشرين واحدا واحدا؛ ان أرى الذي لا يرى، وافرك حملتيها القرمزيتين برهافة أصابعي؛ أن أطير كسحاب حولها والتحف بها، أطير حولها كالأثير، وربما تحول ألي عينين قاسيتين وتتبعهما بكف ثقيل حطّ على وجهي بصوت أصفقت أصدائه في أرجاء القاعة الصغيرة الصاخبة, وربما ستوقظ كل العيون ألي، وسكون هدفا للوشاية، قد تجعلني أتحمل خسارة وخيمة لا تحمد عقباها.. كم تمنيت أن أحافظ بما بقي لدي من رباطة جاش، وادع أيامي القادمة تأتي بسلام، محاولا طمس إحساسي بالاستهداف بسبب نقص في الخدمة العسكرية، واستمراري كطالب يمنحي حصانة، الاستمرار، ويضمن تفلتي من الإحساس المتواصل بالاستلاب. أحسست برداءتي, جمعت نفسي وقواي وسرت كسيراً مهيضا أجرّ عربات ذاتي بعناء ومشقة وأحاول الخروج من فكرتها، إلى مكان آخر، من قفص الرغبة المليئة بالمتعارضات.. يلامسني الهواء الخارجي فأحس بانتعاش، فراغها لا تسده الهموم ولا تنسيني إياه. شيء أحسسته صار بعيداً, ولم يبق لي إلا تعازي نفسي ولومها.. دارت عيوني في صمت الليل الخارجي حاولت التقيؤ للتخلص من عبء ثقيل, ففعلت, وأحسست بالضياع.. دوران رأسي لا يتوقف.. بي حاجة لا أعرفها ولابد أن فكرة ما لوضع حدّ لكل هذا الجنون، من بعد أصبح اغلب زملائنا مهتما بأمرنا، ولكني ما زلت أتعمد التجاهل.. تطوف بي الظنون، والمخاوف فتكاد ضحكاتها تتحول إلى سكاكين تحفر أحشائي، صرت افهم بان الاقتراب منها سوف يفقدني كل استقراري، ومن اليسر أن تكون كلمة واحدة من ذلك الرجل بان ترهب جميع من معي، وأكون قد لفظت كما يلفظ البحر زبده على الشاطئ.. أريد أن أمدّ يدا لقلبي الغارق في هكذا يمّ عظيم اللجة، ولا استطع، فكم اشتهيها، وارغب بها، ولكنها صارت تعرف بأنني معها في مفترق طرق. صرنا على حافة هاوية، ولابد أن ينتزع القرار، ولابد أن نسير إلى قدرنا، ولابد أن يحول الهزل بين اثنين إلى قصة حب عنيف.. تجولت وحدي في الشارع، اشعر بها كما لو حامت حولي كطائر أحس بالحرية لتوه. انطلقت على غير هدى, كانت تحط الطيور في الصباح هنا على المكان ذاته.. لكن أين أجد ليلا جميلا في وحشة هكذا ليل؟، كأني أرها تهمسني تعال: وحدي طائر الليل وأحسه طويلاً.. يرتج جسدي ويترنح، تقول لي تعال واقتحم فلابد للقيد أن ينكسر. حاولت ذات يوم أن أزرع شجرة في بستاننا يومها كي لا أنسى الذي حدث هكذا كان يفعل أبي في مدينتنا البعيدة. غربتي تزرعني هنا, و قلت ساخراً: (أنا سأزرع زهرة برية في خصب راحة يدي).. سأحاول أن أجد بذرة لزهرة عدم النسيان.. يقال بان للفشل والحرمان رائحة مقفرة وكريهة، سأحاول ذلك بكل جدية.. يختل توازني قليلاً فأسقط وأنهض سريعاً.. لقد جعل مني الهم أكثر إختلالاً, وأكثر رهافة، فقلت: صديقتي وحبي الأول في هذه المدينة البعيدة.. دعينا نتجول معاً في كل هذه الأمكنة, نتخطى كل هذه الساعات الرتيبة، دعينا نغادر هذه القاعات المليئة بالعيون، والمخاوف، ولنفارق هذا الإعياء, والتوتر، ونتكلم عن خصوصيتنا بموسمها الآمنة، ثم نعود لنكمل درسنا، ونخط بفخر ما نتمناه لمستقبلنا، كم أنت قريبة أيها المرأة التي أريد، وكم بيننا حواجز، وسدود.
لكنها اليوم راحت بعيداً مثل زورق صغير أخذته الأمواج، على الرغم من اسم ربيبها الذي اخذ يطغي بفرض حضوره عبر الفضائيات العالمية والمحلية، وصار نجماً سياسياً بارزا في نشرات الأخبار، فما زال فكري مشغولاً بذلك الولع الجنوني بها، وكنت كلما أراه مبتهجا في القنوات الإخبارية، كأني أراها.. فتزداد الفجوة بيننا بقدر علوّ نجمه، وإنا أتحرق شوقا لملاقاتها أو معرفة إخبارها، وأتحرق ندما على فراقها..
كأني كنت أقول لها:
- احمدُ الله كثيرا بأنني لم أقع بين قبضته يومها.
فتضحك لي وتواصل القول بأرخم صوت:
- وأنه فاز في الانتخابات العامة لمجلس الأعيان، وقد أسندت إليه مناصبا جديدة أخرى..
صديقتي البيضاء كانت لا تتعمد، وأنا لم أقصد إيذائها, وأن تعجلت شيئاً سيحدث، وارغب في تقبيلها...
اللحظة تقول:
- من السهل إن تجد صديقا عابرا، ولكن من الأصعب بان تجد حبيبيا دائما إلى الأبد..
عيناها مازالتا مسمرتان بذهني:
- ألم أقل لك بأنك رجل رديء؟..
تلفت إذ كانت هي لا تريد أن تجعلني أتوهم، وبأنها قد قدمت لتتواصل معي وتنهض إمامي كفرس صهباء متباهية بغرتها الجميلة، ولم تك خيالاً، فأيقنت باني لم أعد وحيداً، بالرغم من غربة كل تلك السنوات الغابرة..

بعقوبة
Thursday, February 07, 2008
Posted by Picasa

روايتان عراقيتان جديدتان تستحقان التأشير
قراءة: محمد الأحمد


· 1.
يتسلط علينا سؤال غالبا ما يكون فاعلا في عقلنا الباطن، ونحن نقرا في رواية عراقية أو عربية، وهو: هل نقرأ رواية بمفهوم الرواية كرواية حقا، أم نص كان يطمح أن يكون رواية، على الرغم من توافر النص على بعض مقومات الرواية الأساسية كالزمن الروائي، والكشف الروائي عبر المنظومة الروائية، وإشكالية الموقف الروائي كشاهد لعصره، فيكون من الصعب جدا علينا كقراء عشاق لفن الرواية تجنيس الرواية كرواية ما دامت تفتقر مساحة زمنها إلى حاضر مقطوع عن الماضي، ولا يستشرف المستقبل، وأيضا وان توفر عدد الصفحات الكثير فهو لا ينبري على متن رواية ما لم تكن الرواية قد امتدت على مساحة زمنية ليست مختزلة بظرف نزير، فالزمن الروائي أول خصيصة فيها، فالرواية المجنسة كرواية؛ يجب أن تحوي أيضا على معلومة غير متوفرة في متون كتب أخرى، تنفرد بها كشفا، أو تستقتل لأجل تمثيلها بالكلمات الحاسمة، والشخصيات الجلية، لكون اشد إسرارها اغواءا أن تنفرد عن غيرها من بقية الفنون بكشف ما، يكون واضحا، ولابد أن يثير جدلا، تحقق فيه وجودها بين بقية الفنون، وليست لكونها حكاية ابتدأت لتنتهي بين صفحات وغلاف، إذ يقول الناقد (tephen Jay Greenbelt) : (إن الكتاب المقتدرين يدركون القوانين التي تجري داخل الثقافة، ويتقنون توظيفها)، فكثيرة هي النصوص التي نقرأها، وقليلة تلك التي نفسرها إلى ما نريد، كقراء عموم، فما أكثر الكلام المكتوب، وما أكثر تدوينات البشر، كما يرمي ميشيل فوكو بقوله: (ما أكثر الكلام ولكن النصوص قليلة).. خاصة تلك التي لا تعلق ببالنا، وتبقى مؤثرة علينا.. كأن الرواية هي الجوهر الفلسفي الذي يحقق خطابه بوجود شخصياته، فكل شيء يمتلك ميزة تميزه عن الأشياء الأخرى، وبفضل ميزاته يتشكل، ليحقق وجوده ولا يوجد شيء مطابق لشيء آخر، وإلا لأصبحا شيئا واحدا، لان الكلام هو خريطة الرواية، والكلام هو امتدادها، وكل البشرية تتكلم، وكل البشرية لها من التجربة إلى أن تفتح النصوص أمامنا بأسطر متواصلة فيها الغث والسمين، وكما في الفلسفة الأشياء والظواهر بدلا من اختزالها إلى ماهيات معدودة أو إلى كائن واحد فريد فكل شيء واقع أو ممكن أو محتمل أو مستحيل تفرش أمامنا بالمعان، وغالبا ما يتوافر بالنص الروائي جذبا يدرك كاتبه قبل قارئه على ما يتوافر من كشف.. اغلب النصوص فيها ما نتلقى بعفوية ما هو أمامنا من قضايا، وخاصة قضايا جيل قد دفع إلى معارك وحروب مفروضة عليه بالنيابة.. لتحقيق مآرب وأطماعا إقليمية، وقد خسرت الحروب وأعطت للجيل والأجيال التالية الهزيمة بكل معانيها، فما بعد حرب وحرب أخرى امتدت سنوات الحصار على التوالي فهدرت من الشباب أغلى سنواته، وخسر ربيع خلاياه في انتظار وحرمان، وحسرة.. إذ صعب بل استحال عليه يوما بعد يوم السفر، والعمل، والحلم، فبقي النص الأدبي يحمل كل عذابات الجيل وغضون وجهه، وتراكمات جراحه. فمنهم من كان يتصدى لما يحدث من استلاب بأداته الروائية الطيعة.
· 2
رواية (خضر والعصر الزيتوني- نصيف فلك الصادرة عن دار الصباح2007م).. رواية كاشفة فاضحة.. تستحق الإشادة لما فيها من مادة نفذت بتقنية عالية.. أجاد النص ما أراد البوح به سراً، وعلانية.. بقيت هذه الرواية تحوي القصة الأكبر، الجلية، الواضحة لأي متلقي، يأخذ منها ما أراد الكاتب، وما قرره تأليفاً، فالخيبة التي يعاني منها المثقف في بلده تلامسه في السراء والضراء، وحتى وان هاجر متحملا المخاطر، إذ بقيّ في محنته كعراقي مستلب، منفي في وعيه، وفي حساسيته، فالكاتب المجيد هو الذي كان يقول قوله الواضح، ولا يؤول القول إلى قول آخر غير ما يقصد.. فيفهمه القاصي، و الداني، القارئ العابر، والناقد المتخصص.. نص خطابه واضح التعبير، تحكمه النظم الدلالية المنبثقة من صميم قضايا الأمة، وتطلعاتها الحقيقية غير التطلعات المستخدمة كخطب سياسية لأجل التخدير، وحسب. أنها رواية العهد العراقي الذي قال باطنا، وكشف قوله بنص واضح، وصريح.. فيه أول القول منتظماً مع ما انتهى به، ولم تشوبه صراحته البليغة، إلا جمالاً فوق جمال.. (سوف نكون محصنين، أي كارثة لا تهزنا وأي موت لا يغضبنا ولا يستفزنا. غداً سنكون من طبيعة أخرى، إذ تركنا وراءنا الطبيعة الأولى للبشر، بل حتى غرائزنا ستكون في تطور هائل ومستمر. الحياة نفسها ستتركنا خارجها فلا تعود شروطها ونواميسها تنطبق علينا. سوف لا نصلح حتى للموت الطبيعي العادي. محصنون، نعيش فوق العادة ونموت فوق العادة- الرواية ص 125).
· 3.
رواية (أرض الليالي- ناظم محمد الصادرة عن دار الشؤون الثقافية – بغداد2007م) واحدة من تلك العلامات التي شهدت على عصر لم يكتب بعد، ولم يؤول بنصوصه وما كان يحدث في تلك المطويات التي سوف تبقى تتحدى النسيان، على الرغم من قصور الأداة بيد منتجه، ولكنها سارت باتجاه الغوص العميق في الذي قد كان فيه محضورا، وممنوعا.. فتلك النصوص الشفيفة التي نقرأها اليوم تتوافر على مفاتيح ذكية لعصر كان فيه الكلام شبه مؤجل، ويحوي في مسيرة أيامه على معلومة تقول ما كان يقال سرا، وتأويلا دفينا يقتصر على الإشارات والإيماءات، و صرنا اليوم على الأقل نؤولها وفق ما نشاء، و نقارنها بما في خزيننا من معرفة تراكمية اكتسبت مما كان يحيط بنا من خوف وحساسية، وربما بما خزنت من أدوات أبستمولوجية، فتكون تلك الصور متصاعدة كفعل مع ما يقرأ في النص، أو مع ما يتفاعل فعله القرائي مع الذي يصادف قراءته في الحياة، كحدث قد حدث في الأمر الواقع، غير ما تطبل به المؤسسة الإعلامية المسؤولة عن كشفه. (لم اعد اقرأ شيئا، توقفت في خاتمة السطر، كانت نقطة وقوفي الحرب، رقدت على ظهر الحوت وغرقت مع الغارقين، جزيرتي هناك بشرة ناعمة ودفء نساء هربت صباحات أعمارهن لصيد عابر، لم اعد اقرأ شيئا جمعت أزمنتي في زمن واحد، اسكبه على وتر يجهش بالغناء فيبعث الليالي من رقادها- الرواية ص46)، (يصف الصراع على السلطة في العراق.. ذاكرتي لا تجدي المؤرخين، أجيال مندثرة، هياكل عظمية لرجال يفكرون- الرواية ص 50)..
· 4.
نحن كقراء عشاق لفن الرواية العظيم.. نجري تأويلاً ما (Interpretation)، لأي نص أدبي.. يكون علينا أن لا ننسى بأنه وليد سياق تأريخي متفاعل مع كل الثقافات المصدرة من هذه المؤسسة الثقافية، أو تلك.. في المعتقدات، أو في توازنات القوى، وما إلى ذلك من لغة توضح المرامي الغامضة، التي تقتضي القراءة فيها، بحرية منفلتة من المحظور، فينطوي التأويل عليه من جملة إبعاد أولهما؛ عنصر التعبير، عما بطنه الكاتب ( أي كاتب).. ضمن أي نسق هيرمينوطيقي (Hermeneutics) يشتمل على التأويل؛ كم هي نادرة النصوص المحملة قصداً واضحاً، يتفق عليه كل من يقرأه.. من الموضوعية، وعمق الرؤية كمثقف حساس لما يجري عليه من أحداث، فيحول ما يهدد كيانه، ووجوده إلى رمز جليّ، ليتفرع رمزه مؤشراً إلى الكلية الموضوعية الواضحة. فالرواية البديعة تأخذ حيث ما يريد كاتبها، وليس حسبما يريد قارئها.. ترسم له حدوداً واضحة الخطوط، لا تسمح له أن يتخطاها… بتمرده، أو ثقافته، تحصره مثلما يفعل الفلاح في حقله، ويفتح الساقية بالاتجاه الذي يريده، ويسقي ما يريد سقيه… بإيقاع سريع تتناسب مع نظام عمل به السارد المتقن لما في ذهنه مما احكم عليه حكماً بالغاً.. فيمكننا القول عن هذه الروايتين من أنها تشكلان تحدياً للقالب الروائي العراقي، المتدرج على نمط جديد لم يعد يثير حماس النقاد العراقيين.. فهي دعوة جادة لنقاد الأمس، من بعد أن تخلوا عن أدائهم كنقاد اليوم..

‏الخميس‏، 07‏ شباط‏، 2008
Posted by Picasa