قصة قصيرة
في الأبيض البريء
محمد الأحمد
بين يدي شعر رأسها المنسدل بطراوة ندية، وبقيت تفوح بعطر طيب.. عيناها مغمضتان ناشرة ابتسامتها في أوداج قلبي، نافضة عنها ذلك البكاء المرير الذي كان ايام زمان ينحت في عظمي، ويؤلمني.
ابتسامتها بدأت تشق عباب الصمت القائم- بليغة جداً- كانت الشفتان تنفرجان عنها بلا انتهاء، فأطلقت زمردا، وياسمين كفراشات ملونة حلقت في فضاء مطلق، وبقيت أصغي لتلك الرفرفات الهادئة بجمال أخاذ، فسألتها عندما أحسست إنها تهيأت لجواب:
- وزوجك الثاني؟ ..
رفرفت كأنها عازفة قيثارة من ذهب ولكنها نطقت حروفها بتشديد قاس:
- يطلقني!
فقلت من جديد، وأنا المتلكئ في السؤال، أبالغ بهدوئي ..
- و شقيقك هل يقبل؟
مسحت بقايا دمعه كانت تسح على الياسمين البريء، فانبرت مثل فرس صهباء..
- له أولاده وزوجته؟
تنهدت، ثم واصلت تزفر:
- يفعل أي شيء من اجل أن لا يدفع فلسا واحدا..
كانت عيناها قرص شمس يذوب في البحر، وكنت أنا أبحر في أرخبيل بعيد.. هي ضائعة بين الأمواج لا تدري أين يقذف بها التيار البحري القوي.. قريبة مني، ولم تكن قريبة.. كانت بعيدة، ولم تكن بعيدة، فقلت لها:
- حيرتيني؟
- عجبا عشت معي نصف عقد وما زلت تجهلني؟!
كنت أحس بأنفاسها الساخنة تلفح وجهي، وتهزني هزا عنيفا، كنت ضائعا بين حروب القلب، والعقل..عيناها الجميلتان بالدهشة، فيهما نور لن يخبو أبدا، وما أنى قد كنت هجرتها كل تلك السنين، الا إنها أرادت ذلك ..
صدرها شاهق يضرب كطبول فرح غامق، وهي حمامة بريئة بين كفي. أشياء غريبة بلا معنى تحوطني، تقيدني، وتريد قرارا مني.. فكرت، وفكرت، فلم اصل إلى قرار، مادت الأرض من تحتي، وصرت قلقا غير متوازن ، منغمرا بحبها الذي اباحني، ومنجذبا بشوقي إليها – أواه - ما اجمل ذلك الحب الذي كان .. وجدتها تغفو على كتفي ببراءة كأنها تكشف لي إنها تنام أول مرة في كنف رجل. تصاعدت المعاني وخلفتني أصبو إلى حرية لا أريد فقدها نظرت إلى عينيها فقلت مذ ذلك اليوم:
- احبك
أفردت شفتاها، وذقت ما لم أذقه طوال سنوات، ولكني في غمر ذلك الانفجار تيقنت باني أتذوق شهدا من طعم آخر. تذوقت ما أتذكره جيدا، وصارت كلها حاضرة حتى تلك الليلة الآثمة..
قالت : - احبك ..
كأني لم اسمعها من قبل، ولم أن اجيب، مكملا ما كنت بدأته معها في تلك الخلوة الموردة بالعطر الربيعي بعد أن تزلزل قلبي معها، وراحت الأنامل تستمر بالانزلاق على ذلك الشعر الذي تصيّر ابيض، من بعد أن تركته اسود.