مرثية الجواهري
محمد الصيداوي
إمامُ الشـعرِ أعنقَ لارتحالِ ومجـدُ المجدِ آلَ الى الزوالِ
نعى الثقـلانِ للدنيا جـلالاً فأثقـلَ سمعَـها نعيُ الجلالِ
لقد أخرستَ ألفَ فمٍ نطـوقٍ غـداةَ حلبتَ أخلافَ المحالِ
فأعيا النعيُ دونكَ كلَّ شـعرٍ وظلَّ حديثُـنا غرضَ السؤالِ
وأنتَ "أبا فراتٍ" فـردُ دنيا حباها مجدُكَ الغُـررَ الغوالي
وإرثُكَ إرثُ عزتـنا جميعا وعـزكَ إرثُ منقطعِ المثالِ
أسلتَ من القريضِ فراتَ نبعٍ فما أبقـيتَ بعدكَ من مقالِ
جواهركَ اللآلي وهي تزري بما خلقَ الإلـه من اللآلي (1)
ستبقى سِـفرَ آيٍ محكـماتٍ ترتـّلها الأواخرُ والأوالي
***
رحـلتَ "أبا فراتٍ" والمنايا ذهلنَ لموكبِ لكَ في الأعالي
شددتَ الرحلَ عـيّافاً مُعيلاً ونحنُ إليك من بعـضِ العيالِ
جياعُـكَ بعدُ رغمَ دمٍ جياعٌ وإن هَدْهَـدْتَ هُلاّكَ الهـزال (2)
وما ناموا وإن حُسـبوا نياماً وإن شبعوا فمِـن تُرعِ السُلال
وحيداً كـنتَ فيها مستَفَـزّاً وكـنتَ بألفِ ألفٍ لا تـبالي
كم استعدوا عليك ذئابَ حقدٍ وكم أشلوا عليكَ من السَّـفالِ (3)
وكم صاءتْ عقـاربُهم بليلٍ فقطَّعَ ظهرها خفقُ النّعالِ
لقد عرّيتَهم تيساً فتيساً ولم تأمنْهُمُ رعيَ السّخالِ
ولمّا جاشَ سيلُكَ لم تدعْهمْ على ضفيتيكَ إلا كالجُفالِ
***
سلاماً يا وريفَ المجدِ إنّا ظللنا بينَ عرّافٍ وفالِ
فإنكَ كنتَ أشرفَنا مقاما وآلاً لـم يمـتَّ لنا بآلِ
وإنكَ كنتَ أقطعَنا سيوفاً وأصبَرَنا على حُرَقِ النضالِ
وكنتَ درئَ سيفِ البغيِ حتى "تكسرتِ النصالُ على النصالِ" (4)
***
لقد شرّقتَ في الدنيا صبياً وقد غرّبتَ مبيضَّ القذالِ
وفي شأنيكَ مُطَّلّبٌ جليلٌ تجاوزَ قدرُهُ حدَّ الجلالِ
لقد غاضَ الفراتُ غداةَ غاضتْ عيونُكَ تحتَ حبّاتِ الرمالِ
وقد أذللْتَنا من بعدِ عزٍّ وقد نخَّرتَ أعظُمَنا البوالي
فيا "أعمى المعرةِ" قُم حريقاً ونادِ "أبا محسّدَ" في الرجالِ
وخفّا نبِّئا الشعراءَ طُرّاً من الغرباءِ والعرَبِ الموالي
قفوا صفَّيْ ملائكةٍ وطيرٍ وشيلوا النعشَ للسبعِ العوالي
وطوفوا حيثُ سِدرةُ منتهاهُ وبيتوا حيثُ منها في الظلالِ
فقد وافاكمُ الملَكُ المُسمّى غريبَ الدارِ مبتوتَ الوصالِ
نقيَّ الثوبِ حمّالَ الرزايا طويَّ الهمَّ وضّاءَ الخصالِ
رفيعَ الشأوِ بذّاخاً قؤولاً حديدَ القلبِ نضّاخَ العَزالي
نسيلَ الفجرِ نسّالَ الضحايا طويلَ الباعِ شدّادَ الحبالِ (5)
غضينَ ملامحَ الجفنينِ سمحاً رحيبَ الصدرِ محمودَ الخلالِ
قضى شطري منازَلَةٍ طريداً يخبُّ من اعتقالٍ لاعتقالِ
فما ألقى عصا التّرحالِ إلاّ ليبدأَ كرّةً شدَّ الرّحالِ
يقاتِلُ بالدمِ الفـوّارِ حـيناً وحيناً بالقِصارِ وبالطوالِ (6)
***
بكاكَ الشعرُ والشعراءُ خرسٌ وكلٌّ باتَ في مرثىً سجالِ
حلبتَ الدهرَ أشطرَهُ غريراً تحلّقُ فوقَ أجنحةِ الخيالِ
عبرتَ برازخَ الدنيا غريباً وصرتَ الى المحطاتِ الخوالي
فمَن للاّهباتِ النارَ فينا إذا عصفتْ بنا عُتَمُ الضلالِ ؟ (7)
ومَن للجرحَ بعدكَ يمتريهِ ليعبقَ منهُ نوّارُ الجمالِ ؟
ومَن للناثراتِ الشَعرَ غنجاً ومَن للفائحاتِ على ارتجالِ ؟
ومَن للخَيفِ بعدكَ يزدهيهِ ومَن للحبلياتِ من الدوالي ؟ (8)
ومَن للظامئاتِ بكلِّ صوبٍ ومَن للراشفاتِ من الطِلالِ ؟
أرى الشعراءَ أخصبَهُم عقيما إذا لم يندبوكَ بكلِ غالِ !
***
لئن غادَرْتنا في الليلِ شمساَ ستبكي فقدَ طلعتكَ الليالي
هي الأجداثُ بعثرَ جانبيها نذيرُكَ قبلَ محتمَل الرحالِ
فقد قامتْ مقابرنا بروقاً لنعشكَ وهو يشمخُ كالجبالِ
وقد ركعتْ وأغضتْ مقلتيها وقد سجدتْ سجودَ جَوٍ مُوالِ
لمثلكَ لا يُضَنُّ بنزفِ دمعٍ ومثلكَ لا يقاسُ بأيّ حالِ
على جفنيكَ ألقى الدهرُ سرّاً خبيئاً لا يُنَهنَهُ بالسؤالِ
وفي عينيكَ حزنُ أبي وأمي وفي جنبيكَ جرحُ أخي وخالي
***
وسبّابينَ من فرَقٍ وحقدٍ نعوكَ لنا بشامتةِ المقالِ
وحسّادٌ عليكَ "بأمِّ عوفٍ" بكوكَ بكلّ منسرب المسالِ (9)
وما يبكون دجلةَ أو أخاها ولكنْ كلَّ دفّاقِ الزلالِ
***
أجدَّكَ كيف تعتنق المنايا غريمَ الموتِ فرّاجَ العِضالِ ؟ (10)
وكيف تصيرُ تلكَ الشمسُ رملاً وكيف تغورُ في عفِنٍ مُهالِ ؟
أُعيذكَ من حفيرٍ في ثراها وبحركَ لا يُوارى بالرمالِ!
ولكنْ تلكَ كوفتُكَ استراحتْ بعينيها عماليقُ الرجالِ
وكانوا حيثُ كنتَ لظىً وماءً وبعدَ اليومِ أطيافَ الخيالِ !
***
أُجِلُكَ لستَ محتطِباً بليلٍ ونبلُكَ لا تطيشُ مع النبالِ
سلاماً كالشَمالِ "أبا فراتٍ" وعذراً باليمين وبالشِمالِ
فإنْ أبكِ الرجالَ فأنتَ أولى وإن أُقلِعْ فلستَ بذي مَلالِ
وحقِكَ تلكَ مهزلةٌ ستبقى نجيءُ سُدىً ونُتلِعُ للزوالِ
تقبِّلنا الحياةُ هوىً ونبعاً ويعصرنا الردى عصر الثفالِ !
***
سلاماً تلكَ دجلتكَ استبتْها يدُ الطاعونِ بالداءِ العُضالِ (11)
لكَمْ حيَّتْكَ عن بعدٍ ظميئاً تمنَّعُ عن وصالكَ بالدلالِ
عجبتُ لسرِّها كيفَ استُبيحت منابعُها ولم تكُ باشتعالِ
لسوفَ تظلُ فيها الطيرُ عطشى لتنهلَ طينَها أيَّ انتهالِ
أُجلكَ أيها الجدثُ المفدّى بما حُمِّلتَ من قيلٍ وقالِ
وما أُلهِمتَ من وجعٍ وحبٍّ وما خلَّيتَ من عَرَضٍ مُذالِ
ستبقى الريحُ تلعنُها الأقاحي وتبقى السيفَ يُحمَدُ في المصالِ
***
علَلْتَ من المروءةِ بعد نهلٍ بكأسَيْ حرّةٍ قبلَ الفِصالِ (12)
بناتُكَ من مقاطعها أدارتْ رحىً لا تستديرُ على الصُهالِ (13)
فقد كنتَ الفحولةَ في ذراها وجاوزتَ الرجولةَ في الكمالِ
***
برَيتَ سهامكَ التسعينَ تترى ورِشتَ السبعَ بالقِدحِ المُجالِ (14)
رميتَ بها الطغاةَ فطاحَ منهم هزيعٌ من سماسرةٍ ضحالِ
ونازلتَ الزمانَ وأنتَ غِرٌّ ومثلكَ لا يُخوَّفُ بالنزالِ
فيا ابن الأكرمينَ وأنتَ بدءٌ ويا ابن الباترات من الصِقالِ
ويا ابن الدوحـةِ العلياء ياابــن البيان الفذ والسحرِ الحلالِ
ويا ابن الكوفةِ الحمراءِ يا ابن الجراح الداميات على انتضالِ
أعِرنا من لظاكَ دماً سخيناً فقد غالت بنيكَ يدُ اعتلالِ
وقد عبّتْ كؤوسَ الذلِّ عبّاً فولّتْ قبلَ محتدَمِ القتالِ
***
أبثُّكَ وجدَ مُرتثٍّ حريبٍ يبلُّ صداهُ من دمه المُسالِ (15)
ويزرعُ جرحَهُ النغّار ناراً بها زادُ المُعالةِ والمُعالِ
يحوكُ قصيدَهُ من خيطِ برقٍ نهيكِ القَدحِ شحّاطِ المنالِ
يؤمّلُ فيه ما أملّتَ منهُ على أنّ الحقيقةَ في الخيالِ
ولا .. هيهاتَ ذا أملٌ قَصيٌّ يقوَّمُ دونه قوسُ الهلالِ
***
أتنشدُ يا فراتُ "أبا فراتٍ" وقد وخدتْ به خيلُ الصيالِ
أتسألنا وأدرى أنتَ منا وفي شطيكَ أجوبةِ السؤالِ
تشاجرتِ المنونُ عليه غرثى توافدُ في سوانحهِ العجالِ
كأنّ لها عليهِ دماً ووِتراً ولمّا يوفِها بأخٍ فَحالِ !! (16)
***
سلاماً يا غريبَ الدارِ حيّاً سلاماً راحلاً لثرىً مُهالِ
سلاماً يا نبيّ الشعرِ جدّتْ بخافقهِ مصاهرةُ الكلالِ
سلاماً من وجيفٍ في الحنايا سلامَ مهاجرٍ لهِبِ الذُبالِ
سلاماً من نزيفِ دمٍ مُلِثٍّ تتابع في دفيقِ هوىً مُسالِ
رمانا العقمُ بعدكَ حيثً عادتْ قصائدُنا كنسوتنا الحِيال
وكلُّ قصيدةٍ لم تبكِ جمراً عليكَ بومضها محضُ افتعالِ
***
كم انثالت عليكَ نبالُ رَذلٍ وكنتَ بها تلوذُ من الرُذالِ (17)
ورُحتَ تسُلّها نبلاً فنبلاً وتسلوها وخصمكَ غيرُ سالِ
فكم نزِقٍ يداهُ برَت يديهِ وكم ذئبٍ تشبَّهَ بالغزالِ
فما مِن قابسٍ مِ الماءِ ناراً وما مِن سالمٍ بين الصلالِ
***
و"زينبُ" ما أنَخْتَ بها ركاباً هوىً إلاّ على مضضٍ الزيالِ (18)
فكم عقدتْ يداكَ على "عليٍّ" رتيمةَ شاعرٍ قلقِ المجالِ
وكم شذّرتَ في النجفِ الحنايا وكم لملمْتها بعد انفصالِ
إذا قال المؤذنُ "حيَّ" فجراً شددتَ وقلتَ حيَّ على النزالِ
لقد كرُمَتْ دمشقُ على عُلاها ونافتْ من نوالكَ في النوالِ
***
سلاماً خاتَمَ الألفينِ جيلاً تظلُّ مثيرَ ملحمتَيْ جِدالِ
سلاماً أوهبَ الشعراءِ عذباً تظلَّ ترودُهُ عُصَبُ السّبالِ
سلاماً ما بدا لكَ من سنيحٍ يبشّرُ بالنعيمِ وما بدا لي
سلاماً ما ادّكرتَ شميمَ روضٍ وما هاداكَ من طيفٍ مُمالِ
سلاماً كلما وافاكَ غيثٌ تلفّعَ في عطاياكَ الجزالِ
على نفحاتِ مضجعكَ التحايا تفاوحُ بالجنوبِ وبالشمالِ
وأيَّ سلامةٍ نرجو لعقبى قصيدك من مُكارهكَ الُمغالي
محمد الصيداوي
ديالى / المقدادية
ليلة 27/28 تموز 1997
محمد الصيداوي
إمامُ الشـعرِ أعنقَ لارتحالِ ومجـدُ المجدِ آلَ الى الزوالِ
نعى الثقـلانِ للدنيا جـلالاً فأثقـلَ سمعَـها نعيُ الجلالِ
لقد أخرستَ ألفَ فمٍ نطـوقٍ غـداةَ حلبتَ أخلافَ المحالِ
فأعيا النعيُ دونكَ كلَّ شـعرٍ وظلَّ حديثُـنا غرضَ السؤالِ
وأنتَ "أبا فراتٍ" فـردُ دنيا حباها مجدُكَ الغُـررَ الغوالي
وإرثُكَ إرثُ عزتـنا جميعا وعـزكَ إرثُ منقطعِ المثالِ
أسلتَ من القريضِ فراتَ نبعٍ فما أبقـيتَ بعدكَ من مقالِ
جواهركَ اللآلي وهي تزري بما خلقَ الإلـه من اللآلي (1)
ستبقى سِـفرَ آيٍ محكـماتٍ ترتـّلها الأواخرُ والأوالي
***
رحـلتَ "أبا فراتٍ" والمنايا ذهلنَ لموكبِ لكَ في الأعالي
شددتَ الرحلَ عـيّافاً مُعيلاً ونحنُ إليك من بعـضِ العيالِ
جياعُـكَ بعدُ رغمَ دمٍ جياعٌ وإن هَدْهَـدْتَ هُلاّكَ الهـزال (2)
وما ناموا وإن حُسـبوا نياماً وإن شبعوا فمِـن تُرعِ السُلال
وحيداً كـنتَ فيها مستَفَـزّاً وكـنتَ بألفِ ألفٍ لا تـبالي
كم استعدوا عليك ذئابَ حقدٍ وكم أشلوا عليكَ من السَّـفالِ (3)
وكم صاءتْ عقـاربُهم بليلٍ فقطَّعَ ظهرها خفقُ النّعالِ
لقد عرّيتَهم تيساً فتيساً ولم تأمنْهُمُ رعيَ السّخالِ
ولمّا جاشَ سيلُكَ لم تدعْهمْ على ضفيتيكَ إلا كالجُفالِ
***
سلاماً يا وريفَ المجدِ إنّا ظللنا بينَ عرّافٍ وفالِ
فإنكَ كنتَ أشرفَنا مقاما وآلاً لـم يمـتَّ لنا بآلِ
وإنكَ كنتَ أقطعَنا سيوفاً وأصبَرَنا على حُرَقِ النضالِ
وكنتَ درئَ سيفِ البغيِ حتى "تكسرتِ النصالُ على النصالِ" (4)
***
لقد شرّقتَ في الدنيا صبياً وقد غرّبتَ مبيضَّ القذالِ
وفي شأنيكَ مُطَّلّبٌ جليلٌ تجاوزَ قدرُهُ حدَّ الجلالِ
لقد غاضَ الفراتُ غداةَ غاضتْ عيونُكَ تحتَ حبّاتِ الرمالِ
وقد أذللْتَنا من بعدِ عزٍّ وقد نخَّرتَ أعظُمَنا البوالي
فيا "أعمى المعرةِ" قُم حريقاً ونادِ "أبا محسّدَ" في الرجالِ
وخفّا نبِّئا الشعراءَ طُرّاً من الغرباءِ والعرَبِ الموالي
قفوا صفَّيْ ملائكةٍ وطيرٍ وشيلوا النعشَ للسبعِ العوالي
وطوفوا حيثُ سِدرةُ منتهاهُ وبيتوا حيثُ منها في الظلالِ
فقد وافاكمُ الملَكُ المُسمّى غريبَ الدارِ مبتوتَ الوصالِ
نقيَّ الثوبِ حمّالَ الرزايا طويَّ الهمَّ وضّاءَ الخصالِ
رفيعَ الشأوِ بذّاخاً قؤولاً حديدَ القلبِ نضّاخَ العَزالي
نسيلَ الفجرِ نسّالَ الضحايا طويلَ الباعِ شدّادَ الحبالِ (5)
غضينَ ملامحَ الجفنينِ سمحاً رحيبَ الصدرِ محمودَ الخلالِ
قضى شطري منازَلَةٍ طريداً يخبُّ من اعتقالٍ لاعتقالِ
فما ألقى عصا التّرحالِ إلاّ ليبدأَ كرّةً شدَّ الرّحالِ
يقاتِلُ بالدمِ الفـوّارِ حـيناً وحيناً بالقِصارِ وبالطوالِ (6)
***
بكاكَ الشعرُ والشعراءُ خرسٌ وكلٌّ باتَ في مرثىً سجالِ
حلبتَ الدهرَ أشطرَهُ غريراً تحلّقُ فوقَ أجنحةِ الخيالِ
عبرتَ برازخَ الدنيا غريباً وصرتَ الى المحطاتِ الخوالي
فمَن للاّهباتِ النارَ فينا إذا عصفتْ بنا عُتَمُ الضلالِ ؟ (7)
ومَن للجرحَ بعدكَ يمتريهِ ليعبقَ منهُ نوّارُ الجمالِ ؟
ومَن للناثراتِ الشَعرَ غنجاً ومَن للفائحاتِ على ارتجالِ ؟
ومَن للخَيفِ بعدكَ يزدهيهِ ومَن للحبلياتِ من الدوالي ؟ (8)
ومَن للظامئاتِ بكلِّ صوبٍ ومَن للراشفاتِ من الطِلالِ ؟
أرى الشعراءَ أخصبَهُم عقيما إذا لم يندبوكَ بكلِ غالِ !
***
لئن غادَرْتنا في الليلِ شمساَ ستبكي فقدَ طلعتكَ الليالي
هي الأجداثُ بعثرَ جانبيها نذيرُكَ قبلَ محتمَل الرحالِ
فقد قامتْ مقابرنا بروقاً لنعشكَ وهو يشمخُ كالجبالِ
وقد ركعتْ وأغضتْ مقلتيها وقد سجدتْ سجودَ جَوٍ مُوالِ
لمثلكَ لا يُضَنُّ بنزفِ دمعٍ ومثلكَ لا يقاسُ بأيّ حالِ
على جفنيكَ ألقى الدهرُ سرّاً خبيئاً لا يُنَهنَهُ بالسؤالِ
وفي عينيكَ حزنُ أبي وأمي وفي جنبيكَ جرحُ أخي وخالي
***
وسبّابينَ من فرَقٍ وحقدٍ نعوكَ لنا بشامتةِ المقالِ
وحسّادٌ عليكَ "بأمِّ عوفٍ" بكوكَ بكلّ منسرب المسالِ (9)
وما يبكون دجلةَ أو أخاها ولكنْ كلَّ دفّاقِ الزلالِ
***
أجدَّكَ كيف تعتنق المنايا غريمَ الموتِ فرّاجَ العِضالِ ؟ (10)
وكيف تصيرُ تلكَ الشمسُ رملاً وكيف تغورُ في عفِنٍ مُهالِ ؟
أُعيذكَ من حفيرٍ في ثراها وبحركَ لا يُوارى بالرمالِ!
ولكنْ تلكَ كوفتُكَ استراحتْ بعينيها عماليقُ الرجالِ
وكانوا حيثُ كنتَ لظىً وماءً وبعدَ اليومِ أطيافَ الخيالِ !
***
أُجِلُكَ لستَ محتطِباً بليلٍ ونبلُكَ لا تطيشُ مع النبالِ
سلاماً كالشَمالِ "أبا فراتٍ" وعذراً باليمين وبالشِمالِ
فإنْ أبكِ الرجالَ فأنتَ أولى وإن أُقلِعْ فلستَ بذي مَلالِ
وحقِكَ تلكَ مهزلةٌ ستبقى نجيءُ سُدىً ونُتلِعُ للزوالِ
تقبِّلنا الحياةُ هوىً ونبعاً ويعصرنا الردى عصر الثفالِ !
***
سلاماً تلكَ دجلتكَ استبتْها يدُ الطاعونِ بالداءِ العُضالِ (11)
لكَمْ حيَّتْكَ عن بعدٍ ظميئاً تمنَّعُ عن وصالكَ بالدلالِ
عجبتُ لسرِّها كيفَ استُبيحت منابعُها ولم تكُ باشتعالِ
لسوفَ تظلُ فيها الطيرُ عطشى لتنهلَ طينَها أيَّ انتهالِ
أُجلكَ أيها الجدثُ المفدّى بما حُمِّلتَ من قيلٍ وقالِ
وما أُلهِمتَ من وجعٍ وحبٍّ وما خلَّيتَ من عَرَضٍ مُذالِ
ستبقى الريحُ تلعنُها الأقاحي وتبقى السيفَ يُحمَدُ في المصالِ
***
علَلْتَ من المروءةِ بعد نهلٍ بكأسَيْ حرّةٍ قبلَ الفِصالِ (12)
بناتُكَ من مقاطعها أدارتْ رحىً لا تستديرُ على الصُهالِ (13)
فقد كنتَ الفحولةَ في ذراها وجاوزتَ الرجولةَ في الكمالِ
***
برَيتَ سهامكَ التسعينَ تترى ورِشتَ السبعَ بالقِدحِ المُجالِ (14)
رميتَ بها الطغاةَ فطاحَ منهم هزيعٌ من سماسرةٍ ضحالِ
ونازلتَ الزمانَ وأنتَ غِرٌّ ومثلكَ لا يُخوَّفُ بالنزالِ
فيا ابن الأكرمينَ وأنتَ بدءٌ ويا ابن الباترات من الصِقالِ
ويا ابن الدوحـةِ العلياء ياابــن البيان الفذ والسحرِ الحلالِ
ويا ابن الكوفةِ الحمراءِ يا ابن الجراح الداميات على انتضالِ
أعِرنا من لظاكَ دماً سخيناً فقد غالت بنيكَ يدُ اعتلالِ
وقد عبّتْ كؤوسَ الذلِّ عبّاً فولّتْ قبلَ محتدَمِ القتالِ
***
أبثُّكَ وجدَ مُرتثٍّ حريبٍ يبلُّ صداهُ من دمه المُسالِ (15)
ويزرعُ جرحَهُ النغّار ناراً بها زادُ المُعالةِ والمُعالِ
يحوكُ قصيدَهُ من خيطِ برقٍ نهيكِ القَدحِ شحّاطِ المنالِ
يؤمّلُ فيه ما أملّتَ منهُ على أنّ الحقيقةَ في الخيالِ
ولا .. هيهاتَ ذا أملٌ قَصيٌّ يقوَّمُ دونه قوسُ الهلالِ
***
أتنشدُ يا فراتُ "أبا فراتٍ" وقد وخدتْ به خيلُ الصيالِ
أتسألنا وأدرى أنتَ منا وفي شطيكَ أجوبةِ السؤالِ
تشاجرتِ المنونُ عليه غرثى توافدُ في سوانحهِ العجالِ
كأنّ لها عليهِ دماً ووِتراً ولمّا يوفِها بأخٍ فَحالِ !! (16)
***
سلاماً يا غريبَ الدارِ حيّاً سلاماً راحلاً لثرىً مُهالِ
سلاماً يا نبيّ الشعرِ جدّتْ بخافقهِ مصاهرةُ الكلالِ
سلاماً من وجيفٍ في الحنايا سلامَ مهاجرٍ لهِبِ الذُبالِ
سلاماً من نزيفِ دمٍ مُلِثٍّ تتابع في دفيقِ هوىً مُسالِ
رمانا العقمُ بعدكَ حيثً عادتْ قصائدُنا كنسوتنا الحِيال
وكلُّ قصيدةٍ لم تبكِ جمراً عليكَ بومضها محضُ افتعالِ
***
كم انثالت عليكَ نبالُ رَذلٍ وكنتَ بها تلوذُ من الرُذالِ (17)
ورُحتَ تسُلّها نبلاً فنبلاً وتسلوها وخصمكَ غيرُ سالِ
فكم نزِقٍ يداهُ برَت يديهِ وكم ذئبٍ تشبَّهَ بالغزالِ
فما مِن قابسٍ مِ الماءِ ناراً وما مِن سالمٍ بين الصلالِ
***
و"زينبُ" ما أنَخْتَ بها ركاباً هوىً إلاّ على مضضٍ الزيالِ (18)
فكم عقدتْ يداكَ على "عليٍّ" رتيمةَ شاعرٍ قلقِ المجالِ
وكم شذّرتَ في النجفِ الحنايا وكم لملمْتها بعد انفصالِ
إذا قال المؤذنُ "حيَّ" فجراً شددتَ وقلتَ حيَّ على النزالِ
لقد كرُمَتْ دمشقُ على عُلاها ونافتْ من نوالكَ في النوالِ
***
سلاماً خاتَمَ الألفينِ جيلاً تظلُّ مثيرَ ملحمتَيْ جِدالِ
سلاماً أوهبَ الشعراءِ عذباً تظلَّ ترودُهُ عُصَبُ السّبالِ
سلاماً ما بدا لكَ من سنيحٍ يبشّرُ بالنعيمِ وما بدا لي
سلاماً ما ادّكرتَ شميمَ روضٍ وما هاداكَ من طيفٍ مُمالِ
سلاماً كلما وافاكَ غيثٌ تلفّعَ في عطاياكَ الجزالِ
على نفحاتِ مضجعكَ التحايا تفاوحُ بالجنوبِ وبالشمالِ
وأيَّ سلامةٍ نرجو لعقبى قصيدك من مُكارهكَ الُمغالي
محمد الصيداوي
ديالى / المقدادية
ليلة 27/28 تموز 1997