٠٩‏/٠٧‏/٢٠٠٥

fadhell abuod


مجلة شهرية ادبية تصدر عن اتحاد ادباء وكتاب ديالى
محررها المؤسس
محمــــــد الأحمــــــــد
يعاونه
أمير الحلاج
مدير التحرير الفني
عبد الوهاب محمد
009647901867651
ارتحالات صباح الانباري
في ملكوت الصمت


د. فاضل عبود التميمي
جامعة ديالى/العراق

Fadil altamimi@yahoo.com مما لا شك فيه ان الصمت ليس لغة مجاورة للغة التصويت، وانما هو جزء من اللغة نفسها، من خطابها القائم على ثنائية: الصوت: الصمت، بمعنى اخر ان اللغة، اي لغة هي حيز صوتي قائم على بنيتي: الظهور: الغياب، ظهور الصوت، ومن ثم غيابه...
هذه المقدمة على قصرها اسوقها للتقديم لفن(البانتوميم) اي التمثيل الصامت القائم على:(( اداء التمثيليات بلا كلمات، والاعتماد على التعبيرات الصامتة من خلال حركة الجسد او المواقف الصامتة في المسرحيات)) معجم المصطلحات المسرحية: د. سمير الجلبي: 170 دار المأمون 1993.
والبانتوميم مسرح او نص لا تغيب اللغة فيه، فهي مجموعة من(القراءات) المتلاحقة، والمفعمة بالدلالات القائمة على حركة اليدين مثلا ، التي ترشح فَهماً يحيل على معان معروفة، وكذلك حركة الارجل التي يمكن تحليل طبيعة تشكلها في النظر، اي بصريا... اما حركة الرأس فهي في كل لغة صامتة تقترن بالكلمتين الشهيرتين: نعم، اولا... فضلا عن ان تعبيرات الوجه: الحاجبين، والعينين، والانف، والفم تشكل مجتمعة، ومنفردة لغة يمكن فهمها، وتاويلها، والاتفاق على دلالاتها، ناهيك عن حركة الرقبة التي تطول، وتقصر و تدور، وتميل، وتنحني، وتستقيم تبعا لما تريد ان تقول لغة(الصمت)، اما قوام الانسان فهو مروض على دلالات معروفة.
ولعل الجاحظ (255هـ) اول من اشارة الى لغة الجسد الاشارية حينما قال:((فاما الاشارة فباليد، وبالرأس، وبالعين، والحاجب والمنكب، اذا تباعد الشخصان، وبالثوب وبالسيف... وقد يتهدد رافع السيف، والسوط، فيكون ذلك زاجرا، ومانعا رادعا، ويكون وعيدا ، وتحذيرا)). البيان والتبيين:77:1.
اما ما يحمله الممثل من ادوات، وحاجيات فهي مكملات استنطاق النص في المسرح الصامت... وقديما اشار الجاحظ الى ان العرب كانت تخطب بالعصا، والمخاصر وتعتمد على الارض بالقسي، وتشير بالعصي والقنا، حتى كانت المخاصر- وهي جمع مخصرة ما يختصره الانسان فيمسكه بيده، من عصا، او مقرعة، ... او عكازة، او قضيب- لاتفارق ايدي الملوك في مجالسها ..(البيان والتبيين:370:1) ايمانا منها باهمية تقريب اللغة والاعتماد على اشاراتها، والعلاقة بين الاشارة بوصفها علامة ، واللفظ بوصفه حاملا للمعنى قديمة سبق للجاحظ ان حدد طبيعتها بقوله:((والاشارة واللفظ شريكان، ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه، وما اكثر ما تنوب عن اللفظ)) البيان والتبيين78:1.
وربما كان الصمت على راي معاوية اوفق من الكلام وقديما قالت العرب كل صامت ناطق من جهة الدلالة (كتاب الصناعتين: 24) والاشارة عندها معنى بليغ، والبلاغة عند ابن المقفع :اسم لمعان تجري في صور كثيرة، منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في مسائل أخر، والسكوت يسمى بلاغة في حالة لا ينجع فيها القول، ولا ينفع فيها اقامة الحجة، اما عند جاهل لا يفهم الخطاب، او عند وضيع لا يرهب الجواب، او ظالم سليط يحكم بالهوى ( كتاب الصناعتين :23)، وهي- البلاغة- عند خلف الاحمر(180هـ): لمحة دالة(العمدة:242:1).
روى الجاحظ : ان خطيبا قام على سرير الاسكندر حين موته، وهو يقول: الاسكندر كان امس انطق منه اليوم، وهو اليوم اوعظ منه امس، في اشارة ذكية الى حكمة الصمت... ويعلق الجاحظ: متى دل الشيء على معنى فقد اخبر عنه وان
كان صامتا، واشار اليه وان كان ساكتا، وهذا القول شائع في جميع اللغات، ومتفق عليه(البيان والتبيين:81:1).
ان المسرحية الصامتة تعتمد في ايصال خطابها على جملة من الوسائل لعل من اهمها(الحركة) التي تصف افعالا لتقول اقوالا؛ ولهذا تتعدد طرائق الاتصال بها، فهي عملية(ترويض) للجسد تعقبها حالة من الشد، والارتخاء، والانبهار التي يصبح فيها (الجسد) كائنا قابلا للنطق، ومنفتحا على فاعلية القراءة الواعية للصمت نفسه بوساطة حاسة البصر التي هي اقوى الحواس كلها.
ان الاداء المسرحي الصامت في(ارتحالات في ملكوت الصمت) مسرحيات صامتة لمؤلفها صباح الانباري، والصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد العام 2004 ، تحيل على نص مجرد من التصويت الا في مكملات العرض التي اقترنت في مسرحيات الانباري بـ(اطلاق النار، والموسيقى، واصوات الطبول، والاصوات الكورالية، وموسيقى المارش، والصراخ، وهديل الحمام، والاصوات الحيوانية، وضرب الاسواط، والضرب على الارض، وغيرها)، ولكنه- نص الانباري- على الرغم من (صمته) يقدم دلالات مرقونة تقدم صورة ناطقة بوسائل بصرية مؤطرة بزمان مجرد من التحديد، ومكان...
ان هيأة الممثلين، ولباسهم، وحركاتهم، واشاراتهم في نصوص الانباري الصامتة تنفتح على اكثر من هامش، وتحاور اكثر من متن وتاخذ من انساق الحياة حرية التعبير لتدين...، وتدعو للتغيير، وهي توثق جوهر المشكلات التي عاشها الانسان المعاصر: الوحدة، والالم، والاغتراب في المكان، فضلا عن مشكلة الوجود في بعدها الفلسفي الشفيف.
ان الانباري في مسرحياته الصامتة الاحدى عشرة وفق في كتابة لغة مسرحية صامتة هي جزء من اللغة المسرحية الكبرى القائمة على توالي التصويت والتصميت، واذا كان التصويت في مسرحيات الانباري قد اشرنا الى فاعليته المكملة للغة، والعرض فان التصميت قد انفتح على حركة الكهول الثلاثة، وحملة التابوت، وامرأة التابوت، فضلا عن حركة الالوان: الاحمر، والازرق، والاصفر، والضوء ممثلا بالمصباح، والشمعة في المسرحية الاولى(الالتحام في فضاءات صماء)،اما مسرحيته الثانية(محاولة لاختراق الصمت) فقد تجسد صمتها في الاضاءة وحركة الرجل ذي الملابس البيض، وحركة الرجل ذي الملابس السود، فضلا عن حركة الرجال البشعين، وظهور رقعة الشطرنج، فيما تمثل الصمت في المسرحية الثالثة(ابتهالات الصمت الخرساء) في الضوء ومجموعة الرجال، وظهور مجموعة من النجوم والكواكب، وكان الصمت واضحا في فضاءات المسرحية الرابعة(الهديل الذي بدد صمت اليمامة) من خلال رؤية المرأة ، والاضواء، والقضبان الحديدية، وحركة الرجال الثلاثة، وكان نفسه ممثلا في المسرحية الخامسة(حلقة الصمت المفقودة ) في حركة رجل وتابعين، ومجموعة ذئاب بشرية، وكلاب وثعالب بشريتين، فضلا عن راقصين، ومهرجين من القردة، ورجال اخرين، اما المسرحية السادسة(سلاميات في نار صماء) ففيها من صمت المرأة والرجل، والرجال الثلاثة، والاضاءة، والتماثيل شيء كثير، وكانت شخوص مسرحيته السابعة الصامتة(هرم الصمت السداسي) ممثلة في سجين وثلاثة اشخاص، وامرأتين، و ثلاثة عسكريين، وشياطين ثلاثة، ومكعبات، فيما كان الصمت واضحا في المسرحية الثامنة(شواهد الصمت المروضة) في حركة رجال احياء، ورجال موتى، وابناء، وشاب متمرد، واضواء، وكذلك في المسرحية التاسعة(ازمنة صاحبة القداسة) كان مقترنا في حركة الكاهنات، والفتى، ومجموعة الرجال والنساء، والملابس السود، اما مسرحيته العاشرة (تجليات في ملكوت الموسيقى) فقد بان صمتها في هيأة رجل، وامرأة، وطفل، وامير، وجنود، وشبح، واضواء، فيما كان في المسرحية الحادية عشرة (حجر من سجيل) ممثلا في الاضواء، والهيكل، والنجمة السداسية... اما عنوانات المسرحيات فقد كشفت عن هيمنة الصمت في مفاصلها: دلالات ورؤى، فكانها والحال هذه مصبات تجري الدلالة في عروقها بدءا من العنوان، وانتهاء بالخاتمة... صمت، صمت، ليس سوى صمت، ولكنه صمت ناطق بالقصد، والحركة، واغراء العين...
وبعد فان المسرح الصامت يتجاوز في خطاباته كيانات الدول المتفاهمة عادة بلغة واحدة، ليحلق عاليا في فضاء الانسان اي كان
صباح الانباري ممثل وكاتب مسرحي بعقوبي.

أديب أبو نوّارالنزوع نحو الامكنة


د . فاضل عبود التميمي
جامعة ديالى كلية التربية
Fadil altamimi@yahoo.com
لو قدر لناقد ما ان يكتب عن( اديب أبو نوار) مجردا من حدود المكان، وتجلياته، وتحولاته لاكتشف ذلك الناقد المفترض خرافة اديب، وتحنط شخصيته، وقبضه على هيكل عظمي يشير الى اسم محدد في بطاقة شخصية لا تعني احدا.
فاديب في كل نصوصه ينزع نحو المكان، يأخذ من تضاريسه تفاصيل كتابة تشعل هوس المسرات، وتخلطها باحزان مؤطرة بالحب والحنين... هكذا وجدت اديبا: عينين صغيرتين تخترقان كتل الارض، وصراخ الجغرافيا، ومجاهل الكثبان بحثا عن انساق الحياة القابعة في مكان لا يستثير احدا، ولا يشكل ملمحا عند كثيرين، فالحياة التي يمسك بها اديب في تل اجرد، وقنطرة مهدمة، ونخلة بلا راس، وكلب يعلن عن وثوبه في بوابة بستان، هي نفسها التي يعلن عنها في فضاء البساتين: فراديس الله على الارض كما يسميها.
منذ التسعينيات من القرن المنصرم واديب أبو نوار يكتب عن الامكنة تستوقفني لغته الماتحة من مصدر واحد: مخيلة معتقة في الشعر، وتشعرني ابدا ببهاء المكان، وبذاخة حسه الانساني المنظم... يوم حزم حقائبه وقرر الكتابة عن امكنة العراق الغربية، خفت عليه فقد خيل لي ان اديبا سيكتب عن امكنة تبدو بعيدة عن بساتين بهرز، وافياء بعقوبة، وانحناءات نهر ديالى، وخريسان، لكني اكتشفت مقدار خطئي وانا اقرأ كتاباته عن نواعير هيت، ووهدان حديثة، ومساءات كبيسة، ومضافات الرمادي، فاديب لا يدخل مكانا حتى يتشربه، ويجوس منبهاته بحسه الشعري الملتقط للغائب، والمخفي، والشارد، والمعلِن عن غيره، والماثل لكل قراءة منفتحة على صفاء اللحظة، وعنوان الانسان.
رافقت اديبا في رحلات عمل صحفي الى امكنة مختلفة لا يجمعها جامع، في كل رحلة كنت اكتشف في هذا الرجل هوسا مضافا ينتجه المكان، وفي كل رحلة كان يثير في نفسي نزعات انسانية لا تمجد سوى المكان المنفتح على بوابات الزمان المؤطر بالدلالات المثقلة بالبوح، والتاويل... فاديب يحشّد مخيلته لصالح المكان، أي مكان يثير نزعة توافقية مع الاشياء ... في واحدة من تلك الرحلات رغب ان اشاركه استعادة مكان طفولتي، ان يرى قريتي، وان يكتب عن(بابلان) اشفقت على الرجل وتعجبت من رغبة ستصطدم بمكان ليس فيه سوى قرية خطيّة تتناثر بيوتاتها مثل حبات مسبحة على ظهر خيط... اخفيت اشفاقي، وقلت مع نفسي لعله ينطلق من فكرة مجاملة... قبل ان نلج المكان سالني عن دلالة التسمية، واجبت بما اعرف، فاكتشفت ان اديبا يدخل المكان محصنا بدلالات الالفاظ، وظلال المعاني، واكتنازات معنى المعنى قال: ((ان جِرس الالفاظ ياخذني الى المكان، وما وراء الجِرس شيء بهيج، اتعرف ياصديقي انني اعجزعن الكتابة عن الامكنة التي لا تثيرني اسماؤها))، فايقنت ان الرجل لا ينطلق من فراغ، وانه معني بدلالات تقوده من حيث يدري، ولا يدري الى امكنة تعلن عن نفسها، لتنفتح على تلق رهيف ، فبمقدوره -اذن- ان يكتب عن مقبرة، او قبرة، او قيمرة... فحرف القاف ياخذه الى حيث يُحتفى بالمكان المؤثث بالحياة، وتناغم الحروف، خرجنا من القرية ولم اسأل عن انطباعه، وهل اعجب بالمكان، ولكنني فوجئت بعد ايام وانا اقرا جريدة الزمان ، فقد سبر اديب مكاني الاول، واحاط بتفاصيل كنت احب ان اسمع عنها على الرغم من بساطتها ، وتوزعها بين ما هو اعتيادي، ويومي ... لم يقرأ اديب المكان قراءة مقلوبة، او مغرضة، او اسقاطية، او تحاملية، او.... انما كان قارئا فذا للامكنة يفتش عن المسامات فيها، والتسميات، والهمسات، والصبابات، لكي يشبع في نفسه رغبة تسد فجوة في وعيه المكاني.
هذه المقالة تحية حب الى ابي نوار، وتذكير باهمية ما كتب عن امكنة العراق، ودعوة صريحة لجمع تلك الكتابات في كتاب مستقل.

اديب ابو نوار شاعر وصحافي بعقوبي