٢٦/٠٤/٢٠٠٦
قراءة
(( فوضى الحواس ))
رواية تسبح ضد التيار
بقلم :كليزار أنور
هناك ثلاث خطوط حمر يقف قلم الأديبة عنده 00 ( السياسة ،الجنس ، الدين ) وعليها أن لاتتجاوزها .ثالوث عجيب يزلزل ركود الزمن من حولنا ..وعلى المرأة أن لاتقترب منه ! لكن ،الروائية أحلام مستغانمي استطاعت –وبجرأة نادرة – أن تدخل المناطق المحرمة في غابة المجتمع الشائكة!
أهم ما يجب أن يتميز به الروائي ..هو أن يجيد التعبير عن نفسه وأبطاله وباقناع تام ،ويدرك مساحة أحزانه والآخرين ،ويفهم صعوبة ما يحلم ويحلمون !
"فوضى الحواس ".لغة تسري فيها أنفاس الشعر ،لغة حسية مليئة بنغمات العالم أجمع .سرد عميق ،شاعري ،حزين ،موجع حد الألم .سياسة ،حب ،حرب ،خيانة ،تطرف ،جنس ..كل ما يحمله المجتمع العربي من فوضى وتناقضات لم ولن تنظم ذات يوم !
الرواية تبدأ بقصة قصيرة كتبتها قاصّة ذات مساء ، وأسمتها " صاحب المعطف " بعد انقطاع سنتين من الكتابة . أي دافع يقودها نحو الكتابة ثانيةً ؟ أيعقل ما بررته بعثورها على دفتر –غلافه أسود – في مكتبة بائسة .. واقتنعت أو توهمت بأنه هو الذي سيعيدها الى الكتابة !
القصة – باختصار – هي لقاء يجمع بين حبيبين افترقا لمدة شهرين . لكنه ، الحنين . وتبدأ حرب اللغة بينهما .. كر وفر .. وكلاهما لايعلم ..بأنه ..في الحب ..ليس هناك منتصر أو مهزوم!
" قبل هذه التجربة ، لم أكن أتوقع ، أن تكون الرواية اغتصاباً لغوياً يرغم فيه الروائي أبطاله على قول ما يشاء هو ، فيأخذ منهم عنوة كل الاعترافات والاقوال التي يريدها لأسباب أنانية غامضة ، لا يعرفها هو نفسه ، ثم يلقي بهم على ورق ، أبطالاً متعبين مشوهين ،دون أن يتساءل ، تراهم حقاً كانوا سيقولون ذلك الكلام ، لو أنه منحهم فرصة الحياة خارج كتابه؟" ص28 .
من هنا قررت كتابة " رواية " وعزمت النيّة على ارغام – هذا الرجل – صاحب المعطف على الكلام .. وجلست الى دفترها من جديد لتواصل الكتابة ، وكأنها ما توقفت بالأمس عن كتابتها ووضعت لها نقطة النهاية ! وتبدأ من نفس النقطة التي انتهت منها والتي كانت سبب فراقهما أول مرة حينما اعتذرت عن مرافقته لمشاهدة فيلم !
" وقبل أن تسأله عن أيّ فيلم يتحدث . واصل :
- أتدرين أنه ما زال يعرض في القاعة نفسها منذ شهرين ؟ انهما عمر قطيعتنا . " ص 31.
وتذكر القاعة واسم الفيلم ، وعندما تعود الى الصحف مدققة في أسماء قاعات السينما تكتشف بأنه هناك فعلا" قاعة تحمل اسم ( أولمبيك ) اسم القاعة التي اختارتها . وتتفاجأ .. هل هو الوحي الذي يهديها لكتابة أشياء لا علم لها بها سابقاً " انه امتياز ينفرد به الروائي ، متوهماً أنه يمتلك العالم بالوكالة . فيعبث بأقدار كائنات حبرية ، قبل أن يغلق دفاتره " ص 34
وتذهب الى ذلك الموعد الذي أعطاه بطل قصتها لامرأة اخرى فقط لتختبر جرأتها على أخذ الكتابة مأخذ الحياة ! تذهب متأخرة بربع ساعة .. والقاعة ليس فيها سوى الشبان الذين جاؤوا لاهدار الوقت في قاعة السينما وتجد في آخر القاعة رجل وامرأة .. توقعت انهما " بطلاها " .. وتجلس خلفهما بالضبط كجاسوس !
وتتابع قصة الفيلم .. ويأتي رجل آخر ويجلس بجوارها .. وحين تنحني متلصصة عليهما يسقط قرطها ، فتحاول البحث عنه وسط العتمة ، وإذا بولاّعة تشتعل بالقرب منها لتضيء لها المكان .. انه الرجل الذي يجلس بجانبها .. يجذبها عطره .. وتكف عن البحث عندما ترتفع نظراتها إليه ..يربكها تصرفه " الحب يجلس دائماً على غير الكرسي الذي تتوقعه تماماً ، بمحاذاة ما تتوقعه حباً . " ص 54 .
نسيت الفيلم .. وأمر العاشقيّن لم يعد يعنيها .. بدأت تتابعه هو .. وهو مستغرق في متابعة الفيلم !
وتغادر القاعة قبل ربع ساعة من نهاية الفيلم .. وتكتشف في البيت بأن القرط قد وقع في حقيبة يدها .. ولولا هذه الحادثة البسيطة لما انتبهت لوجود الرجل الذي يجاورها ، فكم من المصادفات الصغيرة لها القدرة على تغيير أقدارنا ! " منذ البدء ، أخذت بجمالية تلك العلاقة
الغريبة ، والمستحيلة ، وبذلك الحب الافتراضي الذي قد يجمع بين رجل من حبر وامرأة من ورق
، يلتقيان في تلك المنطقة الملتبسة بين الكتابة والحياة ليكتبا معاً ، كتاباً خارجاً من الحياة وعليها في آنٍ واحد ." ص 61 .
وتعود الى القصة التي كتبتها سابقاً ،باحثةً عن شيء محدد .. وكمن عثر على شيء أضاعه في البحر حين عثرت على اسم المقهى الذي ذكرته مصادفة في تلك القصة .
وتذهب الى مقهى " الموعد " . وتجده هناك .. يكتب على طاولة . ويأتي آخر ويرمقها بنظرة ودية كمن يعرفها . وعطره وحده دلها في عتمة الحواس عليه عندما اقترب منها يقدم لها السكر الذي أرادته من النادل .
وتدخل معه مغامرة على قدر من الغرابة بالنسبة لامرأة متزوجة مثلها . ترافقه حين يطلب منها الذهاب الى مقهى آخر أكثر هدوءً . ويذهبان ، وقبل أن تطرح أسئلتها .. يجيبها " يسألونك مثلاً ماذا تعمل ..لا ماذا كنت تريد أن تكون . يسألونك ماذا تملك .. لا ماذا فقدت. يسألونك عن أخبار المرأة التي تزوجتها .. لا عن أخبار تلك التي تحبها . يسألونك ما اسمك .. لا ما إذا كان هذا الاسم يناسبك . يسألونك ما عمرك .. لا كم عشت من هذا العمر.يسألونك أيّ مدينة تسكن .. لا أيّة مدينة تسكنك . يسألونك هل تصلّي .. لا يسألونك هل تخاف الله . ولذا تعودت أن اُجيب عن هذه الأسئلة بالصمت . فنحن عندما نصمت نجبر الآخرين على تدارك خطإهم . " ص79 .
نصبت الفخ لبطل قصتها لكنها وقعت هي في الفخ ، فها هو يعرف عنها كل شيء .. وهي لا تعرف عنه سوى ما توهمت به من خيال مطاردة جميلة لرجل وهمي خارج حدود الورق !
في الصفحة 135 نعرف بأن هذه الكاتبة اسمها " حياة " . حياة .. قاصّة .. ابنة شهيد مناضل .. ومتزوجة من رجل عسكري .. حول حياتها الى ثكنة عسكرية ! ليس لها سوى أخ واحد يصغرها بثلاث سنوات اسمه " ناصر " . حرب الخليج جعلته يتشتت ، فقد نام وهو من أنصار صدام حسين واستيقظ ليدافع عن الكويت ! تغيرت مفاهيمه بين ليلةٍ وضحاها . يعاتب اخته عندما يجدها ما زالت تكتب " ولأنك كاتبة عليك أن تصمتي .. أو تنتحري . لقد تحولنا في بضعة أسابيع من أمّة كانت تملك ترسانة نوويّة .. الى أمّة لم يتركوا لها سوى السكاكين .. وأنت تكتبين . وتحولنا من أمّة تملك أكبر احتياطي مالي في العالم ، الى قبائل متسولة في المحافل الدولية .. وأنت تكتبين . هؤلاء الذين تكتبين من أجلهم .. إنهم ينتظرون أن يتصدّق عليهم الناس بالرغيف والأدوية .. ولا يملكون ثمن كتاب .. أما الآخرون فماتوا . حتى الأحياء منهم ماتوا فاصمتي حزناً عليهم .. ! " ص 129 .
تغير ناصر .. تغير كثيراً .. غيرته خيباته الوطنية وانهزامات الأمة العربية .. وتحول فجأةً الى اصولي !
وتذهب برحلة استجمام نحو البحر .. إنها أجمل فكرة خطرت في ذهن زوجها ، وهدية قدر لم تتوقعها ! وتسافر مع فريدة ، لتقيم في فيلا زوجها التي اشتراها بدينار "رمزي " استناداً إلى نجومه الكثيرة كعسكري في الدولة الجزائرية !
وفي ظهيرة تخرج لوحدها لتشتري بعض الصحف .. وتلتقيه مصادفة هناك ويعطيها رقم هاتفه ويمضي .. وتتصل به متلهفة ، ويعطيها عنوان بيت .. وتذهب . ويحصل ما لا يستطيع قلمي ذكره – رغم جماليته ككتابة – وشعرت للحظة أن أدع الكتابة عن هذه الرواية الرائعة مكتفيةً بقراءتها واعجابي الشديد بجرأة الكاتبة المبدعة أحلام مستغانمي . آلمني ما موجود فيها من تمجيد للرذيلة والخيانة الزوجية – رغم انها موجودة كواقع في حياتنا – وأتساءل .. وأنا ما زلت روائية صغيرة عمراً وتجربةً بالنسبة إليها : هل هذا هو الهدف من الكتابة ؟ لستُ ضدها ، بل من أشد المعجبات باسلوبها وفنها المتميز ، لكن ليس بإمكاني أن أتجاوز الخطوط الحمر ، حتى وأنا أكتب ! لا أدري .. إنها مسألة مبدأ !
المهم .. لنعد إلى موضوع الرواية . وتأخذ لها كتاباً من المكتبة .. وتتفاجأ بأنهُ يحفظ إحدى رواياتها إلى الحد الذي يذكر فيه رقم الصفحة والمقطع السردي " يبدو لي إنني أتطابق مع خالد في تلك الرواية . ولكن لا خطر من إعارتك هذا الكتاب .. ما دام ليس ديواناً لزياد ! " ص 187 .
ويغادرها دون وداع .. يسافر إلى فرنسا .. ويعود .. ليس من أجلها ، بل من أجل الوطن . لا تتمالك نفسها وهي تجده في صورة مع " بو ضياف " على صفحة الجريدة . تهاتفه .. تسافر من قسنطينة – محل إقامتها – إلى العاصمة لتقابله في تلك الشقة " الحب أن تسمحي لمن يحبك بأن يجتاحك ويهزمك ، ويسطو على كل شيء هو أنتِ . لا بأس أن تنهزمي قليلاً .. الحب حالة ضعف وليس حالة قوة . " ص261 .
وتكتشف بأنه يوقع مقالاته باسم " خالد بن طوبال " بطل روايتها " ذاكرة الجسد " ويكاشفها بالحقيقة .. بأنه مجرد صحفي أراد أن يتعرف إليها بحجة إجراء حوار لجريدته . وفي نفس يوم صدور كتابها يتعرض لحادث تُشل فيها ذراعه ، وفي فترة النقاهة يقرأ روايتها .. ويذهل ، فكم يشبهه بطل الرواية " خالد بن طوبال " وفي كل شيء !
" – لقد تواطأ الأدب والحياة ، ليهديا إلينا قصة الحب التي هي من الجمال بحيث لم يحلم بها قارئ وكاتبة قبل اليوم . أنتِ نفسك كروائية تجاوزتكِ قصتنا لأنها أغرب من أن تجرؤي على تصورها في كتاب .
- أعترف بأني ما كنتُ تصورت أمراً كهذا . برغم كوني حلمت دائماً بقارئ يأتي ليقاصصني بكتاباتي . " ص325 .
ويالسخرية القدر أو سخرية الكتابة ، فمن التقت به في قاعة السينما هو ليس هذا الرجل الذي أحبته ، بل صديقه عبد الحق – وهو صحفي أيضاً – والشقة هي ليست له ،بل لعبد الحق .. والكتاب الذي أخذته من المكتبة لتهتدي به إليه من خلال التأشيرات ليس له ، بل لعبد الحق !
وبالصدفة .. تقرأ في جريدة الصباح " وداعاً .. عبد الحق " ! فقد اغتالوه ! وتذهب للمقبرة لتشيّعه .. تلبس نفس الثوب الأسود الذي كانت ترتديه يوم التقيا في قاعة السينما وفي قهوة "الموعد " . لم يكن معها سوى دفترها الأسود الذي كتبت فيه هذه الرواية الغريبة ، الجميلة .. حد السحر !
لم تبكِ .. غادر الجميع .. وبقيت وحدها .. وضعت الدفتر الأسود على كومة التراب .. ومضت دون أن تلتفت إلى الوراء !
" أكانت تتحرش بالحياة ؟ وإذا بالحياة تعيد إصدار كتابها ، في طبعة واقعية ، وإذا بها القارئة الوحيدة لنسخة مزورة تكفّل القدر بنقلها طبق الأصل عن روايتها ، بعد أن أدخل عليها بعض التغييرات الطفيفة في الأسماء ، أو في تسلسل الأحداث ، كما في كل السرقات الأدبية ! " ص 364 .
وبالبداية نفسها تنتهي الرواية ، فها هي تذهب لمحل لبيع القرطاسية – كما فعلت قبل عام – وربما يثير انتباهها دفتر له غلاف أسود أو أحمر أو أصفر . وتترك الرواية مفتوحة لبداية رواية اخرى !
رواية " فوضى الحواس " ملأت أعماقنا بالحزن واللوعة والدهشة . ونكتشف ونحن ننتهي منها إننا كنا أسرى هذه الكاتبة المبدعة التي علّقت أجراساً للأحداث ووضعت القوافي لعباراتها ، فكانت أشبه بقصيدة !
* " فوضى الحواس " . رواية للكاتبة أحلام مستغانمي . صدرت عن دار الآداب / بيروت / الطبعة الثامنة / 1999 .
www.postpoems.com/members/gulizaranwar
٢٢/٠٤/٢٠٠٦
عبقرية ماريو بارغوس يوسا
mu29@hotmail.com
يعتبر الروائي الأكثر دهاء المولود في (البيرو) عام 1936م، في ولاية (اريكيبا)، والذي حقق حضوراً لافتاً بعد نشر روايته الأولى (المدينة والكلاب 1963) التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة بعد أن فازت بجوائز عدة، وأيضا كاتب مسرحي، مواضيعه تَركز على حقيقة الحياة في (بيرو)، ويَعْكسُ قلقَه للتغير الاجتماعي، ويناصر المعارك ضدّ الفسادِ. كتب رواية (وقت البطلِ 1967)، وكشف فيها كيفية تجنيد بعض الضباط للعمل في المؤسسات الاستعمارية السرية، للقيام بانقلابات عسكرية لصالح القوى العظمى، وكان يقرّ بان الرؤساء هم أول من يخونون البلد كلما استشرى الفساد الإداري في المرافق الحكومية.. ثم جاءت رواية (حديث في الكاتدرائيةِ 1975) المثيرة للجدل، والتي فضح فيها بعض رجال الدين عندما تكون مصالحهم فوق مصلحة من يناشدون باسمه، فكلما توغل القارئ، ينجذب إليه، ويرغب ببقية كتبه، فكتابه غزير المعلومة، دقيق التحديد، شامل التخصص، حصل (يوسا) في العام 1994م (جائزة سرفانتس للآداب) وهي أهم جائزة تمنح للآداب الناطقة بالاسبانية، وكتب مجموعة روايات مهمة أشهرها رواية (حفلة التيس)، رواية (من قتل بالومينو موليرو)، وحظيت روايته (البيت الأخضر) بالنجاح نفسه، ثم تتالت أعماله الروائية ومن أهمها: رواية (بانتاليون والزائرات)، ورواية (حرب نهاية العالم)، ورواية (قصة مايتا)، ورواية (امتداح الخالة)، ورواية (دفاتر دون ريغوبيرتو)، كما كتب عدداً من الدراسات النقدية منها (ماركيز: قصة محطم الآلــهــة) و(المجــون الأبــدي: فلوبير ومدام بوفاري)، وسواها من الدراسات المهمة التي جلبت له الشهرة الواســعة ومنحته مكانة رفيعة في عالم الإبداع والنقد. وله أيضا مجموعة من المسرحيات التي لم تقل شهرة عن بقية انجازاته، مثل؛ مسرحية (العمّة جوليا وكاتب النصوص، 1982)، ومسرحية (الزوّار 1988)، و كتابه الأخير (يوميات من العراق) وهو رحلة قام بها مع ابنته المصورة الصحافية (مورجانا) استمرت اثني عشر يوماً فقط، قام بها إلى العراق، بدأت في 25 حزيران وانتهت في السادس من تموز 2003م، ورغم أن هذه اليوميات التي جمعها (يوسا) وصدرت في الأسبانية أواخر العام الماضي، لاقت اهتمام العديد من وسائل الإعلام العالمية. ولكن الكتاب الأكثر شهرة من بين كتبه هو (رسائل إلى روائي شاب)، والذي يعد اليوم من أهم كتب النقد الأدبي، وقد افترض فيه بان كاتبا شابا يريد النصيحة، يراسله ويرد عليه (يوسا) بشكل رسائل مليئة بالتشويق، وزاخرة حتى يصبح الشاب كاتبا ناجحا في المستقبل، فكان عليه أن يتعلم جيدا، من اكبر أساتذة عصره، وأكثرهم معرفة وتواضعا، وتأكيداَ بأن (من يدخل الأدب، بحماسة من يعتنق دينا، ويكون مستعدا لأن يكرس لهذا الميل، وقته وطاقته وجهده، هو وحده من سيكون في وضع يمكنه من أن يصير كاتبا حقا، وأن يكتب عملا يعيش بعده)، فلا عجب من شخص، بحضوره، وبما أنجز من روايات لن تنسى، يمضي بتواضع العارف مهيمنا على قارئه، لا يتركه إلا بعد أن أعطاه أمثلة حياتية، في غاية التبسيط، لأجل أن يفحم قارئه، ويجعله مستوعبا الدرس البليغ، وهو أهم ما تمتلك الرواية من أسرار، ويحوي كشفا كبيرا على روايات بديعة لا يمكن لأي قارئ إلا وان تعرف على مبدعيها، فالكتاب يدخل في مفاصل الإعمال الروائية العظمية، تلك الروايات العظمية التي وصلت إلى مختلف اللغات بلا استثناء، وكتاب (يوسا) يحوى فصولا نقدية في غاية العبقرية، وبالغة الثراء، (أن الكاتب الذي يخدم أي حقيقة أخرى، غير التي يجب اكتشافها، هو كاتب غير ناجح)، كأنه وجد للكتاب الذين يريدون معرفة مستوى ما أنجزوه بين الراويات التي تملا الرفوف. فبوبَّ تلك الرسائل بأهم ما يهم به الروائي تجاه قارئه. امتدت تلك النصائح إلى اثنتي عشر رسالة، يغلب عليها العطاء المتواصل في الأدب الروائي وغوامضه، وكأنه يرشده معوضا عليه ما فقده الروائي في الرحلة المضنية، حيث لم يجد الروائي من يرشده، وقد بقي لوحده سنينا مضنيا في القراءة والدرس ليكتشف كل تلك الاضاءات وحده. يقول (يوسا) في كتابه (رسائل إلى روائي شاب): (إن الأدب هو أفضل ما تم اختراعه للوقاية من التعاسة)، فظل (يوسا) يكتب عن الرواية باختلاف بين كتبه كل النقاد. على شكل رسائل، مختلقا فيها الأسئلة المتتابعة، وملتقطا الزوايا الخفية في روايات أكثرها وصلتنا الى العربية بأيدي مترجمين محترفين، وأخرى ربما لا نعرفها. (النصيحة التي تصيره كاتبا، محاولا التأكيد في الأساس، على شرط وجود –الميل- الأدبي لدى الروائي الشاب طالب النصيحة، وهو ميل أقل أبهة وغيبية عما يقدمه التفسير في أيامنا، كما انه استعداد فطري ذو أصول غامضة يدفع إلى الانخراط فيه، وكتابة القصص أملا في تحقيق الذات والانسجام مع النفس، وتقديم الأفضل، دون الإحساس بتبديد الحياة، إن منشأ الاستعداد المبكر لاختلاق كائنات وحكايات، والذي يشكل نقطة الانطلاق في ميل الكاتب، هو التمرد ورفض الحياة كما هي، والتمرد عليها، واستبدالها بما تصطنعه المخيلة والرغبة)، فالمعروف بان (يوسا) كان احد ساسة بلده، خلف نظام (مانويل) كرئيس لبلده (1948-1958م) ولكنه خسر كرسي الرئاسة في بلاده (1973م)، وكسب جمهورا غفيرا من القراء في كل أنحاء العالم، وكان من أهم الرسائل التي تناولها ما يلي: (قطع مكافئ للدودة الوحيدة، الكاتوبليباس)، (القدرة على الإقناع)، (الأسلوب)، (الراوي- المكان)، (الزمن- مستوى الواقع)، (النقلات والقفزات النوعية)، (العلبة الصينية)، (المعلومة المخبأة)، (الأواني المستطرقة- على سبيل الوداع). (يسأل القارئ يوسا في الخوف من أن ينذر الكاتب نفسه لخدمة الحقائق المعروفة فيكتبها وهي مكشوفة أمامه) يُرسل بعقل منفتح ما يؤرقه ككاتب له تجربة فذة في الكتابة تحمل سجالا، مُنيرا زوايا الرواية الخفية، ليختار أمثلة، من روايات لا تخلو مكتبة بيت منها، في روايات نعرفها وأخرى لا نعرفها، وهي بلغت اثنتي عشرة رسالة تحت عناوين مختلفة تدور بكلها حول الشكل الروائي بهيئته التي تبقى خالدة في الذهن، متمنيا على قارئه في الرسالة الأخيرة نسيان كل ما قرأه في رسائله إليه، والبدء، دفعة واحدة، بكتابة رواية ويجرب بها ما يريد تجربته، كون كل عقل خلاق يعرض تجربته، لأجل أن يضيء الطريق المظلم وسط أحراش الكتابة الشائكة. كتاب (يوسا) يحمل أفكارا تفتق الإبداع إلى منتهاه، لأنه يسير بثقة العارف الواثق في الطريق الحق، مستكشفا، و متحسسا طريقه بجهد ليكشف بعض الجوانب المجهولة للرواية المهمة، أفكاره سلسة، أسلوبه فريد، صاغها كأدب رسائل، فأدرج باقتداره الخارطة الإبداعية لوطنه والبشرية جمعاء، القارئ يسأل، و (يوسا) يقرا أفكاره فيجيب عن السؤال تلو السؤال، وكلما توغل الكاتب القدير في إثبات براهينه، يثبت لنا صورة (يوسا) الشجاعة والمؤثرة والمفيدة، المثيرة للجدل، عن صنعة الرواية في متاهاتها المستعصية الضبط. فكلما دققنا في الرسائل باهتمام اكبر، تكون الإجابة مستحيلة، فالرواية فن مفتوح التجارب، صار اليوم يحوي العلوم المليئة بالدرس الخصيب، و تكون الرواية معطية معلومات متواصلة في المكان الذي تركز الضوء فيه، فالرواية الحق غير محجوبة الحقيقة، مؤكدة، وثابتة المفاهيم، (قابلة للتأكيد سوى في بعض السلوكيات الشكلانية الكتابية التي يكاد يجمع عليها الكتّاب، وتسمح بإزالة كل الأوهام المسبقة في كتابة ذات أسس واضحة). أتمّ مؤكدا في معظم فصوله؛ على الإحاطة بملامح الأسلوب، (علينا استبعاد فكرة السلامة اللغوية. فليس مهما في شيء، أن يكون الأسلوب سليماً أو غير سليم، وإنما المهم هو أن يكون فعالا، ومناسبا لمهمته، وهي نفخ وهم بحياة، بالحقيقة، في القصص التي يرويها. هو تعريف يقارب في حضوره، قطف لحظة شعرية أكثر منها روائية)، وكذلك (بدلا من البحث عن الرواية المختفية في وراء ما، سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل). وبتواضع المقتدر لم يضرب مثلا تطبيقيا (يوسا) واحد من النماذج التي كتبها، فمثل شخصية النحيل عازف الكيتار القتيل، (بالومينو موليرو)، كانت مرسومة بدقة سردية مدهشة، وصارت حية اكتست لحما ودما من خلال حركة شخصيات أخرى في الرواية كـ(ليتوما) مرافق (الملازم سيلفا) الذي عشق (دونيا ادرينا) وتحديه لها، لكشف جريمة قتل قامت بها (الأسماك الكبيرة- المتحكمة بمصير البلد) بحق الكولونيل (مندريا)، وابنته (اليسا)، لقد استدرج قارئه إلى نتائج جهنمية، لتبقى أسئلة الكاتب غير قلقة، وغير مرتابة. كلها تشير بثقة إلى الفعل ونتائجه، و تحمل قارئها رغبة بالتواصل؛ تلك الاضاءات من (يوسا) فرضها ميل علاقة الكاتب ومهنته، بكل كيانه، وما يفعله.
الاثنين، 17 نيسان، 2006
٢١/٠٤/٢٠٠٦
المفتاح الذهبي
بقلم : كُليزار أنور
كاتبة عراقية
لم أسعد بشيء مثلَ سعادتي بهدية جدتي التي أهدتني إياها يوم تخرجي . نادتني في غرفتها .. وأخرجت من صندوقها القديم ، المزخرف سلسلة ذهبية يتدلى منها مفتاح صغير .. كانت رائعة ، فنطقت مندهشة :
_ الله .. ما أجملها !
_ استعمليها .. كتعويذة .
طلبت مني أن أستدير .. طوقت عنقي بها ، فركضت نحو المرآة .. وضعتُ يدي على المفتاح الذهبي لأتحسس جمالهُ على صدري .. قلت مُمازحة :
_ هل بإمكانهِ أن يفتح شيئاً ؟!
_ ربما ! فقد تحتاجينهُ يوماً .
* * *
سنون مضت على تخرجي . جدتي ماتت ، ولحقها أبي . وبعدها تزوجتُ من رَجلٍ يحبني وأُحبه .. جمعنا تخصصنا بادئ الأمر . وبينما كُنا منهمكين بالعمل ذات صباح .. وجدتهُ يحدق في صدري .. استغربت تصرفهُ ، لأنهُ من النوع الملتزم .. لم يفعلها لا معي ولا مع غيري من الزميلات ، فقلت :
_ ماذا هناك ؟!
رد بنبرة متعجبة :
_ المفتاح !
_ أي مفتاح ؟
_ منذ أول يوم رأيتكِ فيه ورأيتُ مفتاحكِ هذا وأنا لا أتمالك نفسي أمامك .
ضحكتُ من كلامهِ وتذكرتُ ممازحتي مع جدتي ، فها هو يفتح لي قلباً ظننتهُ مغلقاً ! لا يمكن أن أتصور ولو للحظة بأن المفتاح هو السبب في ارتباطي ، فمن الطبيعي ، والطبيعي جداً _ ويحصل كثيراً ومعَ غيري أيضاً _ أن أعمل في مكانٍ ما ويحبني زميلي ويقرر الارتباط بي .. وللزمالة _ دوماً _ الدور الكبير في جمع اثنين تحت سقفٍ واحد !
جمعنا النصيب رغم اننا كُنا طرفيّ نقيض .. غربٌ وشرق ، شمالٌ وجنوب ، موجـبٌ
وسالب .. نختلف في آرائنا ومبادئنا وأفكارنا ، ونتفق في محبتنا واحترامنا ووفائنا لبعضنا . وفي كثير من الأحيان .. إن أردتُ شيئاً معيناً فأني أقول عكس ما أُريد لأني متأكدة بأنهُ سيناقضني بالرأي ، وهذا التناقض ما كنتُ أُريدهُ بالأصل !
لو نظرنا إلى أي نهر سنجد أنَ الضفة اليمنى مختلفة عن الضفة اليسرى ، وبكل شيء .. هكذا كُنا أنا وهو .. ضفتان مختلفتان ، لكن .. لنهرٍ واحد !
* * *
أرى من بعيد قصراً كبيراً ذا أسوارٍ عالية .. أسير نحوه انهُ أشبه بقصور بغداد في ( ألف ليلةٍ وليلة ) . حينَ وصلت ، مشيت حول السور بحثاً عن البوابة .. وحينَ وصلتها وجدتها مغلقة. فتشت بنظري كل جوانبها ، ولم ألمح سوى باب صغير في الزاوية اليسرى ، وفي هذا الباب ثقبٌ صغير . تذكرت كلام جدتي : " ربما تحتاجينهُ يوماً ! " .
فتحتُ سلسلتي من رقبتي وأخذت المفتاح ووضعتهُ في ثقب الباب الصغير .. دخل .. أدرتهُ يميناً .. وفتح .. دفعتهُ ، فانفتحت البوابة الكبيرة .. ودخلت .
امتدت أمام ناظري حدائق غَناء متناسقة بألوانها وأشجارها وثمارها .. أشبه بحدائق ( قصر فرساي ) . مشيت .. مشيت ودون أي خوف أو رهبةٍ من المكان . دروب تقودني إلى دروب أجمل . كنتُ أسير وحدي .. لا يجرح صمت المكان سوى تغريد البلابل وزقزقة العصافير وهديل الحمام .
وتظهر القبب الحجرية والسقوف المزخرفة بالقرميد الأخضر والأحمر . تهب نسمة خفيفة ، فأسمع حفيف أوراق الشجر . أُتابع الدرب لأصعد ممراً مرصوفاً بالأحجار الملساء .. أمشي بهدوء وحذر ، مثل مَنْ تسير حافية .. وتستقبلني ساحة حجرية يحيط بها أشجار اللوز الأخضر المثقلة بأحمالها .. في وسطها نافورة تنثر دموعها حكايا زمنٍ مضى ! تعبت قليلاً ، فجلست على مقعدٍ حجري تحت ظلال شجرة البنفسج التي تبعث بشذاً يعبق المكان بطيبه .. أتنفس بعمق ليتغلغل إلى أعماق الروح . أضع يدي على المفتاح وأتذكرهُ .. يا ليتك معي الآن . قلت مع نفسي بصمت : أينَ أنت يا .. .. .. ، وقبل أن أهمس باسمهِ غمرتني موجة فرحٍ وأمان وأنا ألمحهُ قادماً نحوي . واستغربت وجوده . ولم يسألني ما الذي أتى بي إلى هنا . مضينا معاً نتجول في القصر الخالي . لا شيء سوى صوت السكينة وجدران صامتة تخفي وراءها حكايا صعب علينا أن نفهمها ! وجدنا الأبواب مفتوحة ، فدخلناها .. قاعة تقودنا إلى أُخرى .. ثرياتها عناقيد ضوءٍ متدلية .. تُزين جدرانها العالية لوحات فنية كبيرة وثمينة .. رأيتُ الموناليزا لدافنشي وبورتريه لسلفادور دالي وتحتها بالضبط لوحة لفائق حسن . أدهشني ذلك الأثاث الفاخر وتلك الشمعدانات الضخمة المضيئة .. وتساءلت : ليسَ من أحدٍ هنا . إذنْ .. مَنْ الذي أوقد شموعها؟!
القصر الصامت يتحدث عن حياة عامرة ، مترفة كانت هنا ! وكأنهُ كانَ مسكوناً وغادره أهله قبل أن نصل بثوان !
ومثل ظل يظهر إنساناً .. نمشي نحوه .. يخرج من الباب .. نتبعه .. لا أحد هناك ! استقبلنا موكباً من الفراشات الملونة .. جريت نحو أكبرها غير مصدقة وقلت : ياه .. ما أجملها . ولم أنتبه للغصن النافر من شجرة التفاح ، فاصطدمت به .. ولم أنتبه بأن السلسلة انقطعت من عنقي وانجرحت يدي . أخرج منديلاً من جيبه ليربط به معصمي .. وحين رأيتُ منظر الدم شعرت بالإغماء .
أسمعهُ يناديني :
_ شيلان .. شيلان .
لكني لا أقوى على الرد .. وسمعتهُ مرة أُخرى :
_ شيلان .. شيلان .
فتحتُ عينيّ بصعوبة .. وجدتهُ أمامي :
_ ما بكِ .. استيقظي .. تأخرنا على الدوام .
أينَ أنا .. هل كانَ حُلماً ما رأيت ؟؟ تحسست السلسلة في رقبتي .. لم أجدها .. وانتبهت بأن معصمي مربوط بمنديلٍ أبيض . ناديته ، فأجاب من المطبخ :
_ إني أُهيئ الفطور .
نهضت من السرير وقصدتهُ مسرعة .. رفعتُ يدي إلى جيبِ قميصهِ .. قال باستغراب :
_ ما بها يدكِ ؟ ومتى ربطتها بمنديلي ؟ كم بحثتُ عنه !
لم أرد .. أدخلتُ أصابعي في جيب القميص الذي غسلتهُ وكويتهُ بالأمس قبل أن أنام .. تلمستْ رؤوس أناملي السلسلة .. سحبتها .. كلانا ينظر إليها بذهول .. واندهشت أنا ، فلم يكن معها المفتاح !
www.postpoems.com/members/gulizaranwar
ضمد كاظم وسمي
نحن العرب و المسلمين .. أو بدقة أكبر نحن سكان البلاد العربية و الإسلامية .. نحن شعوب مبشومة حد التخمة بفخار (( خير أمة أخرجت للناس )) .. في الوقت الذي يقعد هذا الهوس الطاووسي على واقع مترد وبائس والأكثر تخلفاً وهواناً في العالم .. نزهو وتنتفخ أوداجنا عجباً بما نتوفر عليه من أعراف وعادات وتقاليد سحيقة البدائية .. والإنسانية الحقه تمجها .. ولا تنظر إليها إلا بمنظار الفلكلور والتاريخ والآركيولوجيا .
نحن نتباهى و نمتلئ كالمناطيد التي تظن أنها على شيء .. بل ونبتهـج بأنظمتنا العشائرية والقبلية والطائفية والعرقية والأحادية الفكرية .. وكلها تنتمي إلى التراث .. ونحن وحدنا من ينام معه في قبوره ونعبد أمواته .. نغذ السير نحو تفخيذ شعوبنا وتجزئة أوطاننا إلى أعراق وطوائف متنابذة متنافرة .. وفي ذلك كله نسير خلف قيادات تتغذى من سلة مهملات التاريخ .. تبلد عقولنا بفكر بائس .. وتلاعب قلوبنا من خلال إعادة إنتاج الماضي بوصفه تاريخ التزمت والانغلاق .. وتاريخ التكــرار والاجترار ، وترمي بنا في هوة بلا قرار تشكل منظومة التخلف الكبرى لبلادنا .
يستعصي علينا التعامل مع العلم .. ولا نكترث بالتجربة ولا نعي الاستقراء أو الاستنتاج .. بل لا نؤمن بإرجاع الأحداث إلى مسبباتها الواقعية .. ولا نقر بالفكر النسبي .. لسبب بسيط هو إننا قد استعمرنا ولما نزل من قبل قوة الماضي .. وفكره القار .. حتى استعبدتنا تقاليده .. وصارت مسلماته بديهيات لا تناقش وهكذا فإننا نملك كل الحلول مرة واحدة وبأعجوبة قل نظيرها في التاريخ .. نحن لا نفكر .. نعم نحب ونكره .. نعظم ونلعن .. ونعمل وبإصرار وثقة مطلقة لتجميل تاريخ يستحيل تجميله .. أما إذا فكـرنا – وهـذا استثناء – فإنما نصوغ تفكيرنا في (( لغة محنطة )) لا ترتدي سوى أكفان الماضـي .. ولا نصرخ إلا بصوت (( المنتصر التاريخي ، بطل كل الأزمان )) .. مع إن واقع حالنا يقول إننا أمة مهزومة تحارب طواحين الهواء وهي تنغمس حتى ناصيتها في ذهول حضاري رهيب .. لأننا لا نعترف بأخطائنا البتة حيث نقرأ تاريخنا قراءة تبجيلية تقديسية .. وارت عنا حقائقه .. وأعطتنا تاريخا كاذبا خاليا من أي عيب وزورته لصالح الأيديولوجيا ، أما إذا ظهر نتوء سيئ في هذه المسيرة العظيمة فمرجعه إلى مؤامرات الآخر والتخوين الرخيص والبدع والكفر والشعوبية .. وهكذا تمادينا في الغباء إلى درجة أن جعلنا من ماضينا وحاضرنا سلسلة من المؤامرات والدسائس .. لكننا لم نستفد ولو لمرة واحدة لتجنب المؤامرات اللاحقة ، بل استمرأنا رفس الآخرين على ظهورنا دون أن نضرب أحدا على قفاه ولو بمؤامرة نحن صنعناها .. فإلى أين يريـد أن ينتهي بنا المتلاعبون بعقولنا .. ونحن نحيى في قاع تراتب الأمم قاطبة ؟ ..
في الوقت الذي يعيش فيه العالم مرحلة النهايات .. نعيش نحن بداية البدايات .. في هذه اللحظة الفارقة .. نحن وبخلاف العالم نتمسك بالأيديولوجيات حد الانتحار .. ونذوب في الغيب .. وننتمي إلى التاريخ وننكر المستقبل .. من دون أن نؤسس ولو للحظة واحدة لآليات حقوق الإنسان أو الدخول في المشروع الديمقراطي .. ولا ننضج أفكارنا إلا بلغة الحداد .. لأنه مرتبط بالانكسارات وحياتنا كلها انكساريات .. ننظر إلى قيم التسامح والمساواة بين البشر بغض النظر عن اللون والمعتقد والعرق على إنها قيم ضعف وبلاهة .. ونستبدلها بقيم أخرى تبنى على أساس الثار والتطهير العرقي والطائفي والسياسي .. ونتعامل مع الآخر على أساس مبدأ الولاء والبراء الذي يواجه تيار العولمة الجارف .. بتيار مضاد نحو القبيلة – الطائفة – العرق – الحزب – الوطن الوهم ، في الوقت الذي يضيع من بين أيدينا الوطن الحقيقي .. وتغيب فيه المواطنة الحقة حتى صرنا أضحوكة للآخرين – يا أمة ضحكت من جهلها الأمم – لأننا تخلينا ومنذ قرون مضت عن منجز الإنسان وعقله .. ولا نلامس الروح النقدية الوثابة إلا لماماً ، حيث نمتلك مرجعية ومنظومة فكرية متكاملة نقدسها ويستحيـل علينـا نقدها لأنها مبنية على نظريات مطلقة نؤمن بها حد الفناء ، الأمر الذي يشكل تقاطعا صارما بيننا وبين الحداثة القائمة على أساس الفكر النسبي وجهد الإنسان وعقله لا علــى أساس البعد الماورائي .. كما إنها تؤمن بنقد الأفكار المطلقة ولا تستلم لها .. كل ذلك زرع الكراهية والبغضاء في نفوسنا تجاه الحداثة الآتية من الغرب فضلا عن الكراهية التاريخية المستمدة مما عرف بالحروب الصليبية .. رغم إننا لانجد بأسا من استخدام تكنولوجيا الحداثة في حياتنا اليومية لكننا نمقتها كفكر وأساليب ومناهج أوصلت الغرب إلى ما وصل أليه اليوم من تقدم ورقي في مضامير الحضارة والثقافة .
أن الحداثة في العالم المتقدم حققت طفرة افتراقية هائلة عن فترة العصور الوسطى .. وانجلت عن تطور نوعي كبير تمخضت عنه (( حياة اجتماعية مترفة تصوغها أنظمة قانونية ونظريات معرفية تتقاطع بالكامل عمه نعيشه نحن العرب والمسلمون )) .. لأننا لانتساوق مع أبعاد الحداثة التاريخية والفلسفية والفكرية ولا نتعاطى معها .. فدلالتها التاريخية تشير إلى عصر النهضة وما صاحبها ونتج عنها من أحداث مفصلية انعطافية كبرى كاكتشاف العالم الجديد ، والإصلاح الديني ، والثورة الفرنسية ، وعصر وفكر الأنوار ، وانهيار النظام الإقطاعي وبروز الرأسمالية التجارية والصناعية والمالية والمعلوماتية .. أما مدلولها الآخر فيشير إلى بنية فلسفية وفكرية تمثلت في ظهر الحركة الإنسانية التي نادت بإمامة العقل وتمجيد الفرد .. وتعطي للإنسان قيمة عليا وأساسية في الكون .. وتسير الحياة وفق نزعة عقلانية اداتية صارمة في مجال المعرفة والعمل معاً .
وهكذا خلصت الحداثة نحو (( عالم تحكمه العولمة . أي السيطرة المطلقة للرأسمال العالمي المهاجر كونيا والمحطم للحدود والحواجز بين الدول والذي يشيع الدولة / الأمة إلى مثواها الأخير .. كما انه يتسم بالسيطرة المطلقة للصورة كلغة وكأداة تواصل وتكييف وبالثقافة الإلكترونية المصاحبة لها )) .. فأين نحن من الحداثة التي تضع ثقافتنا وكل الثقافات الأخرى بين فكي التكيف والموت التاريخي ، والموت التاريخي جدير بمن يحيون في الماضي وينامون في قبوره .. أما التكيف الإيجابي فيليق بمن يؤمنون ويعملون ضمن دينامية تاريخية .. واستجابة إيجابية للتحدي التاريخي الكبير الذي تطرحه الحداثة في هذا العصر .
مصعب أمير إسماعيل
(( الميكينج: دعاية جديدة لأفلام السينما المصرية ))
تصوير مقاطع من الأفلام وكواليسها مع أغنية شبابية أحدث أساليب الترويج للأفلام السينمائية على القنوات الفضائية. نجح منتجو أفلام السينما المصرية في جذب جمهور الشباب إلى صالات العرض من خلال الدعاية الجاذبة لأفلامهم على القنوات الفضائية والمعروفة باسم " الميكينج" حيث تم تصوير مقاطع من الفلم وكواليس التصوير وفي خلفيته أغنية أعدت خصيصاً للفلم يشارك في أدائها البطل والبطلة ضمن سياق الأحداث ويرى الكاتب إن هذه الظاهرة الدعائية الذكية قد بنيت على أغنية (سيلين ديون) في فلم (تايتانك) التي عبرت عن علاقة بين ( ديكابريو) الفقير وكيت ونسولت الغنية وسط أحداث كارثية حقيقية وكانت بمثابة الأغنية- الرثاء للفاجعة المتمثلة بغرق السفينة. ولا يخلو فلم سينمائي من الاعتماد على الميكينج وأصبح الاهتمام به يفوق الاهتمام بملصقات الفلم كما في الماضي حيث استفادت بهذه الدعاية الأفلام بتحقيق إيرادات مالية كما في فلم التايتانك ويعتبر (فلم أبو علي) من ابرز الأفلام التي استفادت بالميكينج وتدور أحداث فلم أبو علي للمخرج احمد جلال وبطولة كريم عبد العزيز ومنى زكي حول شخصية اللص الظريف الذي تظطره الظروف الأسرية بالتعامل مع إحدى العصابات المتخصصة في تهريب السيارات إلى مصر بأوراق مزورة. كما استفاد من الميكينج فلم (زكي شان ) للمخرج وائل إحسان وبطولة كل من احمد حلمي وياسمين عبد العزيز حيث حقق إيرادات تجاوزت كل التوقعات خصوصا وان فلم احمد حلمي الأخير (صايع بحر) الذي لم يحقق نجاح جماهيري كبير أثناء عرضه وتدور أحداث فلم (زكي شان) حول شخصية زكي (احمد حلمي) الضعيف البنية الذي يفاجأ أسرته برغبته باحتراف مهنة البدي كارد وتتولد الكوميديا بين المفارقات في عمله كحارس خاص وضعف بنيته كما نجح فلم (السيد أبو العربي وصل )في جذب الجمهور الشبابي إليه من خلال دعاية الميكينج حيث احتل المركز الثالث من حيث الإيرادات مقارنة بما سبقه من أفلام وتدور أحداث فلم (السيد أبو العربي) للمخرج محسن احمد وبطولة كل من هاني رمزي ومنة شلبي حول شخصية السيد البور سعيدي الشهير الملقب (أبو العربي) وهي شخصية كذابة تهول كل الأمور وتدعي المعرفة بكل شيء فيه روح من الكوميديا كما نجحت دعاية الميكينج في زيادة إيرادات فلم المخرجة (إيناس الدغيدي) الأخير (الباحثات عن الحرية) ليحتل المكانة الرابعة بالإيرادات حيث خصصت قناة روتانا سينما حلقة كاملة عن الفلم الذي حصد أيضا جائزة أحسن فلم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي وتدور أحداث الفلم حول ثلاث قصص واقعية لثلاث نساء عربيات يجمعهن ظروف الغربة والهدف المشترك وهو البحث عن الحرية في فرنسا فالأولى هي داليا البحيري المصرية الجنسية والفنانة التشكيلية الناجحة والصريحة فتقرر الطلاق وترك طفلها في مصر والسفر إلى باريس بحثا عن النجاح والشهرة والثانية هي اللبنانية نيكول بروديل التي تهرب إلى باريس بعد خطف خطيبها كرهينة ومات أهلها في الحرب الباهلية اللبنانية بحثا عن الأمان والاستقرار وتعمل صحفية في احد المجلات اللبنانية في فرنسا ولكلنها تفشل في الاندماج السوي مع المجتمع الفرنسي والثالثة من بلاد المغرب (سناء موزيان) والتي تهاجر لفقرها إلى باريس بحثا عن الحرية والثراء لتظرها الظروف للعمل في أعمال متواضعة كخادمة ثم جليسة لرجل مسن الذي يعجب بإخلاصها فيوصي لها بجزء من ثروته، كما نجح فلم (خالي من الكولي سترول ) للمخرج محمد أبو سيف وبطولة اشرف عبد الباقي والهام شاهين وتدور أحداث الفلم عن عالم الإعلانات من خلال شخصية البطل اشرف عبد الباقي الموهوب في عالم الإعلانات وله أم معاقة ذهنيا (الهام شاهين )ويتعرض البطل للعديد من المواقف المأساوية والكوميدية لما يسود عالم الإعلانات من غرائب ومفارقات، واستفاد فلم (علي سبايسي) من الميكينج أيضا من خلال أغنية حكيم (هي الحالة أيه) وأيضا فلم (حرب أطاليا) من بطولة احمد السقا من أغنية رائعة يغنيها مدحت صالح رغم عدم اشتراكه في الفلم كذلك فلم (عيال حبيبة) للمخرج مجدي الهواري وفلم( سيد العاطفي) وأغنية مصطفى قمر في فلم (حريم كريم ) وأغنية (شفتي وصلتي فين ) من فلم (منتهى اللذة) وأغنية المطرب الشعبي (ريكو) في فلم (محمد خان) الجديد (بنات وسط البلد ) وأصبح الميكينج واحدة من أدوات ولغة السينما الحديثة بما يتجاوز كثيراً الدعايات للأفلام التي كانت تقدم اغلبها (نوال).
(( التطرف الفكري والسينما ))
في لقاء شاهدته على التلفاز عام 2001 على قناة الجزيرة مع الدكتور مراد وهبة رئيس جمعية الفلسفة المصرية وعضو جمعية السلام في كوبن هاكن تحدث فيه عن التطرف،وقال ببساطة إن التطرف شيء خطير ومدمر وهو إلغاء الوسط بين اليمين واليسار وإلغاء الحوار بين الأديان والحضارات وبين الشمال والجنوب وهو التعصب الأعمى سواء كان طائفيا أو عرقيا أو دينينا والتاريخ حافل بالمجازر التي كان سببها التطرف وقد سادت في العقود السابقة حركات متطرفة ذات طابع يساري مرتبط بالاتحاد السوفيتي مثل الألوية الحمراء في أطاليا والجيش الأحمر الياباني وكارلوس الملقب بالإرهابي آنذاك أما الآن فان التطرف اليميني هو السائد في الساحة السياسية ففي الدين اليهودي عصا القوة بيد التيار اليميني المتمثل باريل شارون وفي المسيحية هناك الإدارة الجمهورية اليمينية المحافظة وفي الإسلام هناك حركات متطرفة هي الفاعلة في الساحة السياسية وقال إن الأزمات السياسية سوف تستمر في العالم والدول وبينها، إلا في حالة واحدة هي صعود تيار علماني معتدل في القمم الثلاث يؤمن بلغة الحوار والسلام. وحسبما يرى كاتب هذا المقال ، إن التطرف هو غياب الألوان والتصادم إلى ما لا نهاية، التطرف هو أثداء يابسة لا تدر الحليب، التطرف هو تساقط الشعر من على راس الفتيات أو امتلاء القلب بعد الوجه بالشيب، التطرف هو انحرافات الرياح والطرق المتعرجة المسدودة بل هو الانهمارات الترابية، التطرف هو الأقنعة المزيفة، هو أظافر الطريق الطويلة المدببة، هو دوائر داخل دوائر تدور داخل دوائر، التطرف هو غياب التدفق والحيوية، هو شجرة برتقال بدون أثمار، سفينة تائهة في البحر بلا ركاب، هو وجع الأغصان وانين اللوحا ت الأنيقة، التطرف هو ذيل تاريخ مزيف وعدواني، التطرف هو الانزلاق بدون توقف إلى هاوية ما، التطرف هو تطاير الشفاه من وجوه النساء، التطرف هو اغتيال الحلم والبراءة والتطرف هو انغلاق الوعي وتبيض ما لا يعتق التبيض، والتصرف هو رعشة الأرامل هو احتياج النظارات لكي ترى كل شيء، التطرف هو محيطات الغباء وجبال ( الـ TNT) الجاهزة للتفجير، التطرف هو ثلج الشتاء القاسي حيث تقل درجات الحرارة عن الصفر المئوي( بـ -16 درجة) وعلاقات اجتماعية ابرد من هذه الدرجة، التطرف هو نار الأسئلة التي بلا أجوبة، هو زلازل من الحوق، التطرف هو غياب الطمأنينة وغياب فيالق الفرح والحب هو ازدواج الصورة وأرصفة متناثرة وأشلاء هنا وهناك، التطرف هو مومياءات حديثة جاهزة للموت في أي لحظة، التطرف هو الغياب عن طاقة الحلم وعري الأجساد على الشواطيء الإيطالية، هو غياب الأصوات الاوبرالية وموسيقى هايدن موتسارت هو قتل الأجنة في الأرحام، هو جفاف الأنهر والينابيع وازدياد شهود الزور هو اللوعة المحمومة هو وجوه بلا ملامح ونساء بلا أرجل هو هطول الأمطار لحد غرق النباتات وموتها أعاصير من الكلمات المشحونة تكهرب كل من تمسه هو هروب القيم الإنسانية من مواقعها هو العوق الروحي هو غزال هارب طول عمره لا يعرف لماذا؟ هو لسعة العقرب وعضة الأفعى الرقطاء. والأفلام التالية أثارت جدلا واسعا في بلدانها وتجاوزت النابوهات المعروفة وناقشت موضوعات صنفت في وقت من الأوقات بالمحرمات التي لا يجب الاقتراب منها لأسباب مختلفة وقد كانت صارمة وجريئة وواجهت رفضا كبيرا وصل في بعض الأحيان إلى رفع القضايا في المحاكم وبعضها إلى القتل المتعمد الصريح. وهذه الحالات ظهرت أخيرا منذ أن عرض فيلم تجربة المسيح الأخيرة للمخرج فرانشيسكو روزي قبل حوالي عشرة أعوام وأحرقت آنذاك 16 دار للعرض السينمائي.
(1) الفيلم الإيراني (السحلية)
اللص (رضا) الملقب بالسحلية يقترف عدة جرائم سطو ويعتقل ومن ثم يحكم عليه بالسجن المؤبد وفي السجن يجد مضايقات من الحراس الأمر الذي يضطره للانتحار، وعندما فشلت محاولته تم بعثه إلى مستشفى السجن من اجل أمام عملية علاجه وهناك يتعرف إلى احد رجال الدين، وبمراوغة بسيطة يتمكن من سرقة وشاحه وعمامته، فيرتديهما اللص (رضا) ليتجول بفضل ذلك إلى(الملا) أو الشيخ(رضا) ويهرب من السجن ليتوجه إلى الريف، على الحدود الإيرانية، وهناك تبدأ متعة الفيلم حين يقابل العامة البسطاء السذج الذين ظنوا انه (ملا) حقيقي وبدوا يكبون عليه آيات الاحترام والتبجيل التي وصلت حد التقديس المطلق، ومن هذه النقطة يبدأ الفيلم في توجيه انتقاداته المباشرة والواضحة تجاه المؤسسة الدينية في إيران، داعيا إياها أن ترفق بالناس وان تتعامل معهم بإنسانية تجعلهم يقبلون على الدين ولا ينفرون منه، وكل ذلك بأسلوب كوميدي جميل جدا الفيلم كان جريئا ومفاجئا، ولأنه كذلك فلقد اكتظت دور العرض السينمائي بالمشاهدين من كافة الشرائح ما جعل الفيلم يحطم شباك التذاكر ويصبح الأعلى دخلا في تاريخ السينما الإيرانية، وفيما يتعلق بردود الفعل، فقد لقي الفيلم ترحيبا متوقعا من الجمهور العادي، أما رجال الدين والطلبة فقد اتفقوا على رفض الفيلم ووصفوه بأنه مسيء ومخز وكان اعنف رد فعل جوبه به الفيلم هو اقتحام مجموعة من المتشددين صالة للسينما شمال إيران واخرجوا جميع من فيها بعد أن أوقفوا عرض الفيلم، بينما قال الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي حسن روحاني (حتى في عهده الشاه الذي كان عدوا لعلماء الدين لم يجرأ احد على إنتاج فيلم مسيء كفيلم (السحلية).
(2) الفيلم الهولندي (خضوع Submission )
فيلم تلفزيوني قصير، وجزء أول كان من المقرر أن يتبعه مخرجه (ثيوفان جوخ )بجزء ثاني، لكن يد القدر كانت اسبق حيث قتل على يد شاب مغربي لم يعجبه ما رأى في الفيلم من جراءة وقسوة على الدين الإسلامي، الفيلم يحكي معاناة امرأة مسلمة تعرضت للاغتصاب من قبل عمها المسلم، ومن ثم أجبرت على الزواج من رجل يسيء معاملتها بشكل صارخ، وبالإضافة إلى حدة الطرح وتطرفه كانت هناك بعض اللقطات غير المقبولة كتلك التي بها بطلة الفيلم شبه عارية وترتدي زيا منقوشا عليه بعض الآيات القرآنية، ورغم مشاعر الاستياء التي تسيطر عليك أثناء مشاهدة هذا الفيلم المتطرف إلا انك لن تقبل قطعا جريمة قتل المخرج، إذ إن الحماسة الدينية ليست مبررا أبداً لارتكاب جريمة كهذه، كما إن أي رد أحمق وغير حكيم قد يجلب المتاعب لبقية أفراد الجالية الإسلامية في هولندا، وهذا ما حصل فعلا يقول رئيس الوزراء الهولندي بان بيتر بالكنندي معلقا على مقتل فاخ جوخ (انه من غير المقبول أن يقال إنسان بطريقة وحشية لأنه عبر عن رأيه) الفيلم قامت بكتابته الكاتبة (أيان علي ) التي تخلت عن الإسلام وتمارس انتقاداتها الشديدة عليه منذ أن هربت من بلدها الصومال، وهي تعيش الآن تحت الحراسة المشددة خوفا على حياتها من الجالية الإسلامية الغاضبة.
(3) (آلام المسيح )
من إخراج النجم الأمريكي ميل غيبسون، وبطولة الشاب جيمس كافزيل بدور المسيح عليه السلام. يسرد الفيلم حكاية آخر اثنتي عشرة ساعة من حياة المسيح، والتي ضجت بحسب تصور المسيحية بصور العذاب والألم صور أهلت الفيلم لان يكون الاشبع والأعنف في السنة الماضية، ميل غيبسون الذي كان واقعيا إلى حد الثملة في تجسيده لرحلة الألم هذه كان أمينا في نقله ما جرى من وقائع في تلك الساعات مستندا في ذلك على الأناجيل الأربعة ومجموعة من المذكرات لعدد من الرهبان كمصادر موثوقة لحكايته، ورغم انه لم يبتدع شيئا من عنده، واجه غيبسون سيلا من الانتقادات لإثارته خلافا تاريخيا حادا كهذا، وقد جاءت الانتقادات –كما العادة- من اليهود الذين اتهموا غيبسون بمعاداة السامية، وطالبوا بمنع عرض الفيلم في دور العرض العالمية، وكادوا يقتربون من تحقيق هذا في أوربا وتحديدا في دولة بلجيكا التي كانت قاب قوسين أو أدنى من تطبيق المنع، أما في البحرين فقد منع الفيلم رغم إن سينما مجمع السيف قد وقعت من اجل عرضه، وسبب المنع هنا هو الخوف أن يحمل الفيلم في طياته دعوة تنصيرية، أما على المستوى الشعبي في البلاد العربية فلقد انتشرت المحاضرات الدينية التي تعارض وتحذر من هذا الغازي الآتي من أمريكا، حيث أصدر الشيخ الدكتور محمد الطبطبائي فتوى تحرم مشاهدة الفيلم، كما ألقى الشيخ المصري محمد إحسان محاضرة تقدم ذات المعنى والمضمون.
(4) (بحب السيما)
في هذا الفيلم الذي تألقت فيه الفنانة المصرية ليلى علوي، يقدم المخرج أسامة فوزي حكاية طفل مصري مسيحي يعشق السينما والفن والحياة لكن والده الأصولي المتطرف يمنعه من ورود صالات السينما بحجة إنها اقصر الطرق إلى جهنم، فيما يمنع زوجته – ليلى علوي – من ممارسة عشقها الأبدي – الرسم – بذات الحجة السابقة، الفيل أثار بلبة في المجتمع المصري ووجد احتجاجات كبيرة من الأقباط الذين تفاجأوا بتوجيه تهمة التطرف إليهم وهي التهمة التي جرت العادة أن توجه للإسلاميين دون سواهم وفي هذا الشأن تعلق الفنانة ليلى علوي قائلة( الفيلم لم يكن موجها إلى المسيحية بذاها بقدر ما هو تعبير عن إن التطرف موجود في كل الطوائف والأديان إذا أردنا تغيير اسم البطل من عدلي إلى محمد أو أن يكون البطل يهوديا أو أن تدور أحداث الفيلم بعيدا عن مصر فسيكون ذلك مقبولا) والاتهامات التي طالت جميع من عمل في هذا الفيلم، طالت كذلك القس إكرام لمعي راعي الكنيسة الإنجليزية بشبرا، وذلك بسبب لقطات حفل الزفاف التي صورت في كنيسته، وقد الحق القس بيانا تفصيليا موجها إلى القساوسة الغاضبين يشرح فيه ملابسات الحدث والكيفية التي سمح بها لطاقم الفيلم بالتصوير داخل الكنيسة، وقد ذكر في البيان انه طلب وبإلحاح إزالة اسمه من على (تتر) الفيلم.
(5) مسلسل ( الطريق إلى كابل)
كان بلا منازع نجم شهر رمضان الماضي، وذلك عطفا على ما أثاره من جدل ولغط منذ عرض أولى حلقاته وحتى إعلان قرار إيقافه عند عرض حلقته الثامنة، المسلسل الذي يحكي قصة الأفغان العرب أو من يدعون بالمهاجرين، كسر احد التابوهات السياسية الخطيرة بصورة جريئة لم يسبقها إليها احد، إذ اعتدنا من صناع الدراما أن يلجئوا إلى موضوعات تاريخية ميتة ليناقشوا بها هموم الواقع، وهذه المرة الأولى التي يطرق فيها موضوع حساس كهذا لا نزال نعيش أصداءه حتى اللحظة، المسلسل واجه احتجاجات من عدة جهات، تحديدا من الجماعات الإسلامية العسكرية التي هددت بعض فصائلها بتصفية كافة الأفراد والجهات التي ساهمت في صنع المسلسل، وقاد كل هذا الصخب والضجيج والاحتجاج إلى إيقاف عرض المسلسل بطريقة لا تزال حتى الآن غير مفهومة Tuesday, February 22, 2005
كلواز حرية ع طول
فورتانا ديمقراطية ع طول
تورية:
بإمكان التلفزيون إزالة الحس بالصدمات أو تعميق الصدمات وبامكانه تحريم المحللات وتحليل المحرمات عن جريدة الصنداي تايمز
إذا كان المنظر العظيم فلاديمير لينين مفجر أعظم ثورة هي ثورة أكتوبر الاشتراكية التي غيرت وجه التاريخ يقول إن الحرية هي "وعي الضرورة" وهو أفضل تعريف موضوعي للحرية أي انك تعي الظروف والإحداثيات والقوانين التي تحيط بك وتمارس حريتك ضمن الضوابط الإنسانية فقد أتضح لنا بيقين لا يعلوه يقين إن لينين كان؟؟؟؟ للإنسانية ومحدود الرؤية والتفكير لأنه لم يبقى حيا حتى يتذوق طعم سيكارة كلواز لان تدخين علبة سكائر كلواز هو حرية ع طول وإذا كنا قد عرفنا من منظر الفكر الرأسمالي والليبرالي ومقولته المشهورة "دعه يعمل دعه يدمر" وان الحرية هي عدم وجود شرطة للفكر بل حرية مطلقة للتفكير وحرية المعتقد وحرية الأديان وحرية التعبير وكل أشكال الحرية في الأنشطة المعرفية فقد كنا مع خطا أيضا لان الحرية هي تدخين سكائر كلواز.
وبناءا على ما وصلنا إليه يجب أن تحرق أو تلغى في القمامة كل الكتب التي تتحدث عن الحرية ويجب أن يلغى من كتب التاريخ كل الأبطال الذين افنوا عمرهم من اجل الحرية، وان يعتم على حياة جيفار وان ترفع صورة أبراهام لنكولن "محرر العبيد" الموجودة على ورقة الدولار كافة فئاتها لان كلواز ه ليس بديل للحرية فقط بل هو حرية ع طول.
وإذا كنا قد رأينا في كتب تاريخ الفلسفة إن الفيلسوف الرائع سقراط قد حكم عليه بشرب السم حتى الموت لأنه كان يعلم الشعب هو وديمقريطس إن الديمقراطية هي حكم الأغلبية وإذا كنا قد قرانا عن أعظم ثورة في أوربا وهي الثورة الفرنسية المقدسة التي طردت حكم النبلاء الأرستقراطي وظهرت الجمعية العمومية وكانت من صدق الأداء رغم بدائيتها إلى درجة قول الفيلسوف عمانوئيل كانت وهو في السبعينات من عمره أن يبكي حين نجاح الثورة الفلسفية "الآن أستطيع أن أموت وأنا مرتاح البال لان الإنسانية خطت الخطوة الأولى بالاتجاه الصحيح"
وما قرناه عن أشكال مختلفة للديمقراطية مثل مجلس السوفيت الأعلى والبوندستاغ والكونغرس فقد كنا واهمين لأننا عرفنا بيقين اليقين إن الديمقراطية هي فوروتاناع طول وأنا مواطن بسيط وعادي في هذا المجتمع وحالي يشبه حال الملايين من أبناء هذا الشعب المقس أحب بلدي كثيرا بكل فسيفسائه من طوائف وقوميات واديان وجغرافية كنت اعتقد إن قرار حل وزارة الإعلام التي تمادت حد ما أصابنا الغثيان من تطبيلها وتزميرها وتظليلها وتعنتها لما يفيد مصلحة النظام السابق وإعلانات تلفزيون الشباب السخيفة عن الطرشي والكرزات وفيترات السيارات قد توسمنا خيرا في الفضائية العراقية أولا لأنها تذيع الإعلانات وهي شبكة تعادل وزارة لها ميزتها من الدولة ويجب أن لا تعتاش على الإعلانات الكذابة وخاصة في الفترة الذهبية وهي ما بين الساعة الثامنة لحد التاسعة ونظطر أن نسمع بعد الفواجع والكوارث والتفجيرات وهلاك المواطنين الأبرياء فيها كل يوم لإعلان سكائر كلواز حرية ع طول ومن المخجل والمحزن والمخزي أن يزور أهم مسئول في الدولة الفضائية العراقية ليباركهم على أدائهم وكفاءتهم وتفانيهم في العمل وفضائية مثل العراقية يجب أن لا تكون حيادية بل تعبوية في خضم هذا الصراع الشرس، وان تكون بمستوى الألم ونزيف الدم اليومي وبمستوى إدانة الفوضى التي نعيشها وتسلط الضوء عن بؤر الجريمة والفساد وان تكون بمستوى جدية فضائيات أخرى، كالشرقية مثلا وإذا كان كلواز هي حرية ع طول فيجب أن تكون سكائر فورتانا هي ديمقراطية ع طول وعلى هذا يتوجب على العراقيين جميعا الاستعانة عن البطاقة التموينية وعدم التذمر من نواقصها ونقص أدوية الأمراض المزمنة وان لا يعترضوا على أزمة النفط والكاز والبنزين وارتفاع الأسعار فيكفي أن يدخنوا علبة كائر ويعيشون في عالم مليء بالحرية كالجنة حسب ما تصفه الدعاية، وإذا كان الأمريكان قد استطاعوا اختراق العراق بقوة عسكرية يتجاوز عددها المئة وخمسون ألف فان فرنسا استطاع أن تخرق مؤسساتنا الإعلامية من خلال سكائر كلواز والمغارة الكبرى إن الدعاية تتحدث عن كلواز لونه ازرق بينما الموجود في الأسواق هو كلواز احمر و كلواز اصفر وعلى العراقيين أن لا يذهبوا بعد اليوم إلى الانتخابات واختيار الكيانات السياسية لتأسيس البرلمان بل عليهم تدخين علبة سكائر فوروتانا وعلبة سكائر كلواز فينعم بحرية ع طول وديمقراطية ع طول لكن من المخجل والمعيب والمشين ان يقتل سبعة وسبعين شخص وعشرات الجرحى في جامع براثا والفضائية العراقية تعرض علينا دعاية سجائر كلواز ونرجو من هذه الفضائية ان ترتقي من مستوى الدعاية الاستهلاكية مثل (دعاية الشامبوات) إلى دعايات تعمق الحس الوطني وتعزيز روح الشهامة والتعاون بين العراقيين سنة وشيعة وعرباً وأكراد وتعزز قيم البطولة والرجولة والمروءة وان تعطي للعراقيين قوس قزح دائم.
بعقوبة
27/11/2005
١٤/٠٤/٢٠٠٦
تحت سماء الكلاب
رواية: صلاح صلاح
قراءة: محمد الأحمد
رواية (تحت سماء الكلاب- للكاتب العراقي (صلاح صلاح) صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر2005م). منعت في أكثر من معرض عربي للكتاب، لأنها تحكي لنا الظلال القاتمة المتخلفة من جراء ما خلفه نظام دكتاتوري بغيض كالوبال حلّ على سماء العراق، من جنوبه إلى شماله بلا استثناء، وأضفى من سمته، على الأشياء والمعطيات أجمعها، لوناً غاضباً، شوه الجمال بقبحه المقيت، ولم يكن يومها الإنسان المثقف يحتمل كل تلك الضغوط، جاءت الرواية على لسان بطل الرواية (صلاح) الصحافي الذي اختنق تحت ظروف كانت جد سقيمة، فهرب معه، أيضا ثلة من المثقفين من مختلف بقاع العراق، يومها- منهم القاصي والداني، الثابت والمتحول.
امتدت الرواية في مساحة على ورق بلغ عدد صفحاته (342). مقسمة إلى ثلاثة عشرة فصلا، سمي كل فصل باسم محدد، جاء كانتقال سردي من حالة إلى أخرى. متن الرواية مؤثث على مكان بقي متنفساً للراوي، استطاع من خلاله ان يجعله ممرا الى إحزانه وذكرياته الهاربة إلى عمق ذاكرته الخزينة بالخوف والقلق، واختارها منطلقا كنقطة ينطلق منها الخط المستقيم إلى حريته. مدينةٌ ببشر طيبين، احتقنت بالطالبين نسمة هواء نقية. (فالكاتب يشعر في أعماقه، لأن الكتابة في نظره، هي أفضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن أن يحققها، من خلال ما يكتبه- ماريو بارغوس يوسا[1]). تحدد الرواية موقفها، وتبدأ رحلةُ أفكار، ومخاضات فكرية استطاع المؤلف أن يوغل إلى ابعد حدّ في الممنوع السياسي، والديني، والأخلاقي. فكانت المدينة (زاخو) مفتاح الرواية، ومساحة فضائها، حيث اختلى فيها هاربا من نظام قيده بأبشع الأغلال صلادة، علو جبال شمم، منحته أمان لتسلبه آخر، منحته سجالا اكتشف فيه الفرق بين المثقف السياسي، والمثقف الحرّ، في أتون علاقات متواشجة المصير بين هاربين من تحت تلك السماء التي كادت أن تطبق عليهم وكادت أن تهرسهم بثقلها، من بعد اختناق متواصل بالقهر القسري، ومن بعد تشويه عبر خطاب أيدلوجي سقيم، اتلف العقائد، ونكث بالمواثيق الإنسانية، وحطمها تحت قدميه العنجهية، تحكي مسيرة أيام وبضع أشهر، كلها انتظارا، قضاها بطل الرواية المحوري (صلاح) قريبا من معبر حدودي في شمال العراق يؤدي إلى سوريا، استطاعت الرواية أن تجهر بقول يعترض عليه الرقيب في أكثر من مكان، حيث جاءت جرأتها جائلة بلا استثناء على كل قائمة الممنوعات في الدين والسياسة والجنس، وهذا ما أعطاها جوازا تمر به إلى القارئ الذي ملّ من المهادنة، فتخطت كل ما يمكن اعتباره، من اعتبارات يبحث عنها المثقف الذي تشغله الحقائق لأنه ملّ خطاب الثقافة المدجنة، وفق هيكل يريده الرقيب الذي يقر بما تريده السلطة (التي عينته)، فالراوي يدون ما يدور في ذهنه، من خلاصات كان قد استنتجها، لأنه بات على مشارف حريته التي يرتجيها، وكان يحلم بها، فراحت السطور تتهادى بجمال جمل حملت للقارئ كل شحنات حزنها المقيم، رواية أعادت علينا أجواء الانكسار فوق هذا الانكسار، وأعادت علينا ذلك المطر الأسود الذي ذل فيها العراقي إلى حدّ النخاع من جوع، وحرمان، وتكميم أفواه، فثقافة السلطة لا تغازل المثقفين إلا عند الحاجة إليهم، (ومن ثم فإذا دخلوا حظيرتها وصاروا مهادنين لها فقدوا إرادتهم الحرّة وغدوا مهمَّشين، على نحو ماـ علماً أن هناك عدداً من المثقفين يسعون إلى السلطة. وكذلك فإن السلطة تسخِّر الثقافة بكل عناصرها المكوّنة لها من لغة وعقيدة؛ ومعارف وعلوم وفنون وآداب، وعادات وتقاليد؛ وأعراف وقوانين ومذاهب واتجاهات لمصالحها الخاصة وفق مبادئ المباح والممنوع اجتماعياً ودينياً؛ فكرياً واقتصادياً؛ أدبياً وفنياً، وهي تتبنى أجزاء من الثقافة في تحولاتها التاريخية والاجتماعية والقانونية والجغرافية والعسكرية والتقنية في إطار سياسة المصالح. هذا ما لجأت إليه سلطة العشيرة والقبيلة، والمذهب والطائفة، والخلافة والدولة، والأمة والأحزاب الإيديولوجية قديماً وحديثاً- حسين جمعة[2]). فيعرض الروائي في روايته بان المثقف فيها على طرف نقيض من السياسي، وهو من يكنّ العداء للمثقف، لأنه استطاع الوصول سريعا إلى سدة الحكم، وتسلم الواجهة قاصيا الثقافة إلى ابعد الاتجاهات، (سلكت أول الطريق في القراءة والانقطاع والتأمل. بعد أعوام طويلة اكتشفت هزلة العالم وثورته المعرفية- الرواية ص94). رواية زمنها فضفاض جدا على الرغم من انه يوثق لفترة حرجة عانها المثقف العراقي قبل غيره، فترة تؤرق كلماتها في مسيرة بطيئة المسار لا ترسم منها الرواية سوى مذكرات يومية كتبت لتكون شهادة الكاتب على كتابته، ومسيرته في الأزمنة الرخوة، منصهرة في ظل من سطور تداخلت بها المواقف قبل أن يتداخل في سردها الفن الجميل، حيث بقيت معلقة بين مطرقة وسندان يجول فضائها الم حقيقي، وآخر كتب متعمدا لينال من الجهات اجمعها في زمن اليأس والقنوط، حيث لغة الرواية مشذبة جميلة، في انسياب عفوي ينداحُ كما الماء من بين الأصابع، وتختلط الصور متشابهة المعنى، ومتكررة الغاية. فما أصعب أن يسير المرء إلى غايته متحررا من عمود الحكاية.. (ما هي القوة التي تقف وراء العمل الخلاق والتي تدفع بالمرء إلى تحمل الصعاب و المشاق المفروضة فرضا ذاتيا على الفنان وفي الوقت نفسه ترفده بالمتعة الباطنية والشجاعة الخارجية، ليواجه عداء الجمهور الحسود المحتمل، ليواجه الفقر والمرض وحتى الموت من مجرد الإرهاق، من أين تأتي القدرة اللا محدودة لتحمل الآلام- د. أي. شنايدر[3])، فتلك جمالية تسجل لصالح الرواية، روعة تكمن في أن الراوي تخلص من كل رقيب، وراح يكتب حريته الفكرية دون إي حساب لمعترض، هو يمضي إلى نتائجه، في نقد العقل، فهو يبحر في مفهوم الحرية، وجدد الأفكار والقيود، ويجرد التمرد والأصفاد.. فذات مرة صرح بابلو بيكاسو (الرسم ليس للتزيين، انه سلاح حربي ضد الوحشية والظلام) شجاعة المرء منا في أن يكتب رواية مواجهة، ليس بالأمر الهين، وخاصة عندما يتوفر في تلك الرواية مسيساً من الخطر، كونها تتحدى سلطة ما، ومهما كان صدقها أو كذبها، فهي كحكاية مروية قد وقعت، ربما من الخيال، فإنها تبقى في قيمتها الفنية بأنها رواية موقف، ورواية ترى من جانب غير محايد ما أراد كاتبها أن يرينا إياه. وبتلك مسافة يخسرها المؤلف عندما يكون متحاملا أكثر مما وقع عليه من حيف، كان يود النيل منه، والتعويض، لحاجة في نفس يعقوب، فالرواية سهلة لمن توفر على عناده من اجل أن يحكي حكايته، وتكون في غاية الصعوبة، عندما تتوفر على وهم انجازها، وتبقى في ذهن كاتبها من دون ان يكسي بحروفها موقفا من الحياة وساستها المتحكمة بمصائر مواطنيها، أنها رواية اغتراب عن أمكنة مقصية حتى عن الذاكرة، ويجوب إلا يقال في التذكر على صفحات ليست عميقة.. يوثق موت الشاعر (رياض إبراهيم) صديقاً كان يشاركه الشكوى والانتظار حيث كان مريرا للغاية اضطر معه إلى تناول الحشائش من اجل توفير الخبز للأطفال.. (جاء الشتاء سريعا، وأخذنا نحس بهوس البرد. هذا الشتاء الأول لنا في شمال العراق، وكانت ملابسنا في معظمها صيفية. ذهبنا أنا ورياض إلى البالة واشترينا سترا قديمة، بالية، واكبر من مقاساتنا. اخذ أحدانا يضحك على الآخر، وهو بالهيئة الجديدة. لكنا بعد ذلك اعتدنا على مظهرنا الجديد والبائس والمتهرئ، خاصة أن هذا المظهر أضيف إليه أحذية بالية ومسحوقة وبدون كعب أصلا. كان الأطفال لديهم ملابس شتائية كافية، وهو ما أفرحني، بقيت زوجتي بملابس شتائية، فاشتريت لها معطفا تبين بعد ذلك انه روب محاماة- الرواية ص219). فثمة سطور خفية بقيت تتلامع وراء الأسطر، لم يستطع من البوح بها، فتكاد تبين كنقص واضح، لم تتواصل حلقات الرواية به كحكاية، فالكتاب برمته تجوال بحرية في الفكر والعقائد، تضمنت نعوتاً لكل من رأس تلك التيارات. كان الراوي حرا طليقاـ غير سجين، يتجول في المقاهي.. (يمر على مقرات الأحزاب خاصة منها الحزب الشيوعي)، وهذا دليلاً على حرية، وأيضا (صعوده إلى أعالي الجبال)، ويتأمل المشهد الفكري.. ظلت الرواية حتى صفحاتها الأخيرة تسير باتجاهين مختلفين.. الأول الراوي يكشف مدى ما تعرضه نفسياً تجاه بعض الرموز السياسية، ولكنه لم يسلط الضوء حول دوافع حقيقة لذلك الكشف. فالراوية متشكلة من اندفاع عفوي بشوق إلى الأصدقاء، وحملت كل منهم بذكراه، وكل منهم في شتاته، بقي يذكر الكتب التي بقيت عالقة في ذهنه، بذكر الأدباء الذين جايلوه.. يذكر حرية المفقودة تحت ظل نظام همين عليه حتى تخلص بهذه الرواية، وهذا بعض ظني بأنها كتبت للتخلص من الكوابيس التي تتابع الفرد وتخلص حتى وصل إلى ما وراء ألف جدار. الجمعة، 14 نيسان، 2006
[1] رسائل إلى روائي شاب_ ترجمة صالح علماني
[2] جريدة الأسبوع الأدبي العدد 994 تاريخ 18/2/2006
[3] التحليل النفسي والفن- ص114- ترجمة يوسف عبد المسيح ثروت.
١١/٠٤/٢٠٠٦
عبدالله الغذامي
بدأت المشكلة الأساس حين صاغ جمال الدين الافغاني مصطلح «المستبد العادل» علينا أن نكتفي بمجابهة ثقافتنا الماضية لأننا لا نزال نفتقر الى ثقافة حاضرة تطل على المستقبل
ابراهيم العريس
الدكتور عبدالله الغذامي واحد من أبرز المثقفين السعوديين والنقاد العرب. ارتبط اسمه في السعودية بالحداثة، حين كانت الحداثة محط هجوم العديد من الفئات والأطراف التي رأت فيها رجساً من عمل الشيطان. كان ذلك في الثمانينات حين ثارت معارك وخصومات أُهدرت فيها دماء وخُوّن مثقفون. بعد ذلك هدأ كل شيء. وبالتالي تحوّل عبدالله الغذامي من هدف للمتطرفين الى «مؤسسة» ثقافية. فإلى كتبه العديدة والبحوث التي نشرها في عدد كبير من الصحف والدوريات والشهريات العربية، والى عضويته في العديد من النوادي... وتدريسه النقد في كليات عديدة، يشارك الغذامي في معظم الندوات الفكرية والادبية التي تعقد في البلدان العربية، كما نال العديد من الجوائز وكُرّم غير مرة. ومع هذا يقول الغذامي، ان معركته لم تهدأ. وهي في الأساس معركة ضد التخلف والجهل. ولكن – بخاصة – معركة ضد ممارسات المثقفين العرب ولا سيما منهم أهل الحداثة الذين، اذ تنطحوا الى نقد كل شيء، سها عن بالهم الأمر الاساس وهو التساؤل: لصالح من يفعلون هذا؟ وما هو التقدم على الطريقة العربية؟ وما هو النقد الثقافي؟ وهل حقاً ان النخب على حق اكثر مما هي الجماهير على حق؟
انطلاقاً من مثل هذه الاسئلة، ومن رصد غاضب للراهن والماضي العربيين، بدأ الغذامي منذ سنوات يصوغ جملة من تعبيرات ثقافية تقوم اساساً على نقد فكر النخبة، انطلاقاً من أن هذه النخبة لم تكن – في نهاية الأمر – اكثر وعياً وارتباطاً بالضمير الواعي من الشعب نفسه. وفي سياق هذه الممارسة وضع الغذامي كتباً حول «الثقافة التلفزيونية»، كما كتب حكاية الحداثة في السعودية، وفصّل مفهومه للنقد الثقافي، وكل ذلك في ارتباط وثيق بمسائل مثل السلطة وعلاقة المثقف بذاته، وعلاقة الثقافة العربية بالشعر.
وحول هذه المواضيع حاورت «الحياة» عبدالله الغذامي في الرياض قبل أيام، ضمن سلسلة حواراتها التي تطرح اسئلتها الشائكة والراهنة على الواقع العربي من خلال محاورة بعض أبرز المفكرين العرب حيث سبق الغذامي على صفحات حوارات «الحياة» هذه كل من المفكرين: سمير أمين وجورج طرابيشي وبرهان غليون والظاهر لبيب وعلي اومليل ومحمد الرميحي ووجيه كوثراني وعبدالمنعم سعيد وابراهيم البلبهي وسعدالدين ابراهيم.
عبدالله الغذامي هو حالياً استاذ النقد والنظرية في قسم اللغة الادبية – كلية الآداب – جامعة الملك سعود. وهو من مواليد العام 1946 في عنيزة السعودية، حائز على الدكتوراه من جامعة اكستر البريطانية وهو من أسس بعد عودته قسم اللغة العربية ومجلة كلية الآداب في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة.
> على رغم أن اهتماماتك الأساسية تتناول نقد الثقافة والأدب في شكل عام، فإننا نعرف ان هذه الممارسة الفكرية لديك لا تنفصل عن النظرة الى أوضاع المجتمع العربي وتاريخه الفكري والسياسي في آن معاً. فهل لك ان تشخص لنا واقع المجتمع العربي وواقع الفكر في عالمنا العربي هذا، ولو من وجهة نظر الناقد الادبي وناقد الثقافة؟
- أنا لا أرى، طبعاً، أي انفصام بين الفكر والمجتمع ولا بين الابداع الثقافي والفكر الاجتماعي. لكنني لا أعتقد انني في اجابتي عن السؤال الاول هذا، سأخصّ بالحديث الفترة التي نعيشها. فأنا اعتقد ان الوضع العربي لا يزال على حاله من دون ان تطاله أية تغييرات نوعية جذرية منذ اكثر من مئة عام، أي طوال القرن العشرين. وأتحدث هنا عن سيرورته العامة، سواء كانت ثقافية او سياسية او اقتصادية. صحيح ان التجارب والمحن التي مررنا بها، بدءاً من مجيء الاستعمار وذهابه، وصولاً الى نشوء الدول الوطنية وانبعاث المد القومي في الستينات ثم الانتكاسة وحرب الخليج، أتت كلها أحداثاً ضخمة، ولكننا في كل مرة بدا وكأننا نعود الى الحال نفسها التي كنا عليها قبل حدوث ما حدث. المشكلة الاساس هي ان كل هذه الصدمات لم تعلمنا او تدفعنا الى السير في مسار مختلف. يبدو اننا قادرون دائماً على امتصاص الحدث بطريقة سلبية، ما يجعلنا عاجزين عن السير الى الأمام. وفي خلفية هذا كله ثمة مشكلة عويصة أنسبها الى النسق الثقافي. فالنسق الثقافي العربي لا يزال نسقاً واحداً أحادياً، بمعنى انه اذا كانت مرحلة الستينات قد تكلمت بلغة واحدة، فإن الامور استقرت لاحقاً، وعلى الشاكلة نفسها، على لغة اخرى لكنها بقيت واحدة أحادية... حتى وان بدت نقيضة للتي سبقتها. وبما ان ليس ثمة لدينا أي تجاوز للنقائض، ليس هناك أي امكانية لتعدد الاصوات مع ان التعدد موجود. فنحن نعيش في بيئة ثقافية هي بالضرورة متعددة كتركيبات عرقية ومذهبية وقطرية واقتصادية. التعدد موجود، أصلاً، لكن الإشكال الأساس يكمن في ان هذا التعدد لا يعبر عن نفسه على مستوى السطح السياسي او الاقتصادي. ولسنا نحن من ألغى هذا التعدد، ولسنا نحن بالطبع من يعبر عنه. ومن هنا نجدنا داخل إشكال عويص. فمثلاً لو نظرنا الى الهند أو بريطانيا او الى اوروبا عموماً، أي الى المناطق ذات انماط الحكم الديموقراطي، سنجدها بدورها متعددة، لكن لديها اساليب حضارية للتعبير عن تعددها، عثرت على صيغ ملائمة لهذا التعبير. اما نحن فإننا نعيش تعددية واقعية يعجز الواقع الثقافي او حتى السياسي عن التعبير عنها. وربما تكمن المعضلة الاولى في مفهومنا الثقافي الذي به نتصور قضية الوحدة...
وحدة ضد الاختلاف
> أي وحدة تقصد، الوحدة السياسية «المنشودة»، او الوحدة الثقافية أو الاجتماعية...؟
- انني اتحدث هنا عن الوحدة المطروحة سياسياً في شكل عام. فأنت حين تنظر الى الوحدة الثقافية الوطنية السياسية، والى وحدة الموقف من العدو، والى الموقف من الآخر، تجدها في اساسها نبيلة المقصد والمنبع. ومع هذا جرّت علينا الويلات، وذلك لأن الطريقة التي فهمنا بها هذه الوحدة كانت الغاء لكل اختلاف. من المحال في النظام الكوني الأزلي ان يكون الكل كتلة واحدة... الكون كتلة تقوم على التعدد. والتعدد يقوم على مجموعة من التناقضات والمتضادات والمتغيرات التي تدور في فلك يفضي بها الى حال من الدوران الفعال والبنّاء. أما نحن فإننا لو أخذنا، مثلاً، الوحدة النهضوية الناصرية التي «تحققت» في ستينات القرن العشرين، سنلاحظ ان اول خطوة خطاها الوحدويون كانت الغاء الاحزاب. ما يعني ان الوحدة في المنظور القومي هي في إلغاء كل حال تعدد وتنوع. وفي رأيي ان هذا ما ضرب الوحدة في صميمها ومنذ بدايتها، لأنها انما كانت وحدة تقوم على الغاء الآخر وازالة المختلف. صحيح ان في امكاننا ان نوافق الذين يقولون ان شخصية عبدالناصر كانت شخصية عملاقة. ولكن ليس من المنطقي ان يكون هو، وحده، من يعبر عنا. من هنا حين حاولت ان تكون كذلك حدث الانفصال، أولاً، ثم هزيمة 1967 بعد ذلك. وهذا ينطبق على وضع يتكرر هكذا على الدوام ولا يخص تجربة عبدالناصر وحده. انه أمر يرتبط عضوياً بالنسق الثقافي العربي الذي يجنح جنوحاً عاطفياً ووجدانياً الى فكرة ان لا حل لمشاكل الأمة الا بأن تتوحد. من هنا اهملت الاحتمالات الاخرى ما جر انتكاسات تلو أخرى. وأين الحال الآن: ثمة دول عربية عدة مشتتة، وداخل كل دولة ثمة انقسامات وانقسامات. فنحن لم نحقق الوحدة التي تجمع في بوتقة واحدة، ولا خلقنا تنوعاً ايجابياً، ما وضعنا في النهاية امام أكثر أنواع التنوع سلبية: التنوع المضاد لبعضه بعضاً. وحال العراق ماثلة أمامنا كنموذج مثالي. العراق انتقل من الوحدة الوطنية الى التفكك التام. نحتاج اليوم الى صياغة جديدة لمفهوم الوطن الواحد الذي يقوم على تنوع الأديان والمذاهب والأعراق والألوان. وهذا هو – في رأيي – المشكل الثقافي العربي الذي لا يخفى على المثقف العربي بالتأكيد. لكنه لا يخفى، كذلك، على السياسي العربي. وهنا مكمن الغرابة: ففي التجربة العربية دائماً ما يحدث ان نناقش سياسيين سابقين كانوا في مواقع المسؤولية وتركوها. ان لديهم الآن وعياً بالمعضلة يشبه كلياً الوعي الذي يسود نقاشنا، أنت وأنا، الآن. فما الذي منعهم من التصرف في شكل جيد وفاعل حين كانوا في المسؤولية؟ هنا يتدخل ما اسميه بـ «معضل النسق الثقافي». النسق الذي لا يزال فحولياً مستفحلاً، يعيد تجربة الفحل الشعري ولكن في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على طريقة «سي السيد» من ثلاثية نجيب محفوظ. وشخصية الأنا الشاعرة الفحولية عند المتنبي كما عند غيره... انها الشخصية التي تصر على ان تبقى مسيطرة. طبعاً أنا لا أدعو الى إلغائها، فهي حقيقة ثقافية واجتماعية، لكنني أدعو الى ان يكون لدينا «أنا»وات اخرى يكون لها وجودها الخاص. وما لم يتحقق هذا سنظل في كل مرة نعود الى حال تشبه الحال السابقة، في دوامة متواصلة.
نهضة ولكن...
> ومع هذا نعرف انه مرات عدة وخلال حقب متفرقة خلال القرن ونصف القرن الفائتين، وحتى زمن الانقلابات أواسط القرن العشرين، ظهرت ثقافة عربية دنت من السياسة وحاولت، على الاقل، عقلنة الثقافة العربية... فهل ترى انها ظلت محصورة في الحيز الثقافي النخبوي ولم تصل الى المجتمع لتحدث تبديلاً في أنساقه؟
- هي اولاً، وكما تقول، بقيت محصورة في الثقافة ولم تصل حقاً الى المجتمع، هي التي في الأساس وقعت في مأزق مصطلح لغوي خطير، انطلاقاً من الصيغة التي رسمها جمال الدين الافغاني لفكرة «المستبد العادل». انه مفهوم أحدث تخريباً عميقاً في افكار المثقفين الذين قبلوه حتى من دون جدال حوله. فكرة «المستبد العادل» ظلت سائدة ولا تزال، ووجد كل زعيم نفسه مجسداً لها، سواء كان من زعامات ما قبل الانقلابات او بعدها. المنطلق هنا هو ان الحاكم عادل. والعدل في الأساس قيمة فردية يمثلها هذا الحاكم وبالتالي فإنه يمثل العدل، أي انه مستبد عادل. وبالتالي هو الأمة والوطن (نموذج صدام حسين). في بعض الاحيان كنا نرى ان نياته ممتازة (نموذج عبدالناصر) وتظاهر كثر تأييداً له. بل إن كثراً ايضاً تظاهروا، حتى لصدام حسين. فهو، بعد كل شيء، كانت لديه شعارات اجتماعية صحيحة... لكن المشكلة ان هذه الشعارات ترجمت انطلاقاً من ارادة هذا المستبد. وحتى قبل الانقلابات كانت هناك صيغ ديموقراطية ما. لكن هذه الصيغ ظلت بدورها تأخذ بنمط المستبد العادل بمعنى ان الزعامات داخل تلك القوقعات الديموقراطية، كانت بدورها زعامات مخلّدة لا تخطئ... وغالباً زعامات وراثية، الأب يورث ابنه او أخاه او زوجته زعامة الحزب وملكية الفكرة والمبدأ. واستمر هذا الوضع الى أن وصلنا أخيراً الى الجمهوريات – الملكية. وأنا أشرت مرة في سياق هذا الوضع الى ما سميته «ذاكرة المكان»... فإذا راجعنا التاريخ الاسلامي سنجد ان المرة الأولى التي تحولت فيها الخلافة الاسلامية الى ملكية وراثية حدث ذلك في دمشق، أي نفس المكان الذي ورث فيه الابن الحكم عن أبيه بعد ذلك بنحو 15 قرناً. ان المكان، وليس الانسان فقط، يمتلك ذاكرة. وحتى الآن لم نستطع تحرير المكان من ذاكرته فكيف نحرر الانسان؟ اننا حين نقرأ اليوم خطابات وكتابات المثقفين الذين رحبوا، في حينه، بالانقلابات وسموها ثورة، نكتشف ما في خطابهم من لغة ديكتاتورية، وان من رحب بالأحزاب الطاغية كان مثقفاً أيضاً. المثقف هو الذي نظّر لها وللسلطات التي ارتبطت بها، وقبلها مستنداً الى مفهوم المستبد العادل على نسق جمال الدين الأفغاني. المصيبة ان الناس، حتى في أيامنا هذه، لا يتوقفون عن القول بأننا في حاجة الى زعيم – فرد – مثل عبدالناصر. وهناك من رأى تجلي هذا في صدام حسين، من دون أن يتنبهوا الى ان الثقافات الإنسانية اليوم تجاوزت، ومن بعيد، مرحلة الرمز. لقد سقطت الرموز، حتى الثقافية منها (من أم كلثوم وفيروز الى عبدالناصر كمستبد عادل). انتهت رمزية الفرد لتتوزع هذه الرمزية على مجموعات كبيرة من الأفراد. بيد أن هذا ينجح في بيئات مفتوحة وديموقراطية. أما في البيئات المغلقة فإن المشروع الانفتاحي لم يجد تجليه بعد، ما أسفر أخيراً عن بعثرة وتشتت. من ناحية أخرى أرى أن واحدة من أخطر المشكلات التي تواجهنا اليوم غياب مسألة نقد الذات...
> وما علاقة هذا بالفكرة السابقة المتعلقة بمسألة الفرد – الرمز...؟
- سترى بعد قليل. أما هنا فدعني أذكرك بأن النقد الذاتي، الذي هو حال إيجابية غالباً، يعتبر في أدبياتنا جلداً للذات بالمعنى السلبي المشوِّه، ما يدفع بالتالي الى فكرة «الخيانة» التي تتناقض مع شعارات مثل «كل شيء للمعركة» و «مرحلة الأشياء». الحقيقة اننا اذا مرحلنا الأشياء حقاً نكون قد قضينا عليها. ولا سيما منها الأفكار فالأفكار لا تُمرحل. الأفكار على طول تاريخها لها لغة واحدة وزمن واحد وضربة واحدة. اذا لم تستثمر في حينها لن تستثمر أبداً. انني أتحدث هنا طبعاً عما يسمى روح العصر. الأفكار هي روح العصر ولكل عصر تطور أفكاره ومصطلحاتها. ان لم ينضج المصطلح في زمنه سنظل متعلقين به حتى بعد انتهاء صلاحيته تعلق الإنسان بالوهم. ومن هنا أرى أننا يجب أن نجابه ثقافتتا – وأعني بالطبع ثقافتنا الماضية لأن ليست لدينا ثقافة حاضرة تطل على المستقبل – بالنقد، بدلاً من مواصلة تكرارها وتبجيلها. في المقابل علينا أن نتذكر أن الثقافة الغربية أول ما بدأت بدأت بنقد النسق الثقافي الفكري والصيغة الحضارية السائدة. نحن ما زلنا عاجزين عن هذا النقد الى درجة مرعبة. بل انك غالباً ما تجد مثقفين راديكاليين نقديين ما ان يتقدم بهم العمر – وربما المنصب أيضاً – حتى يتراجعوا. انهم، على مدى عقود يمشون في مسار، ثم في «النهاية» يخافون ويتراجعون. والأمر واحد من اثنين: إما ان حداثتهم وليبراليتهم وتقدميتهم السابقة كانت نفاقاً وكذباً وتغطي رجعية عميقة. وإما أنهم اكتشفوا «الحقيقة» لاحقاً فرأوا انهم كانوا على خطأ وان ما كانوا يحملون من أفكار لا يصلح لمجتمعاتهم. وفي الحالين نحن أمام معضل اجتماعي حقيقي. فإما أن نكون صادقين ونقول اننا محافظون ونبني فكراً محافظاً يرى أن الحداثة ليست حلاً، وإما أن نكون حداثيين فننظر الى الحداثة، ودخول العصر على انهما الحل. كما ان ليس من المستحيل علينا، بعد كل شيء أن نصنع حداثتنا الخاصة «غير المستوردة». وهذا ما فعلته اليابان وكوريا وماليزيا. لماذا نحن عاجزون عن صنع ما صنعوا هناك؟ جوابي: السبب هو خوفنا وترددنا في مجال نقد النسق الثقافي واعلان عجزه والتشهير به. حالنا حال المريض: ان هو لم يقبل الاعتراف بمرضه لن يأتي الطبيب ليشخص المرض ويداويه. لكي يشفى المريض يجب، أولاً، أن يعترف بمرضه، أو يستعد للتعايش معه. الاعتراف بأمراضنا لا يزال محظوراً عاطفياً... لا دينياً على الأرجح. هناك علاقة عاطفية – أكثر منها دينية – مع ماضينا. فالدين لا يمنعنا من أن نتغير. المسألة مسألة عشق لذاتنا... لماضينا وما لم نكسر هذا العشق ونجعل العلاقة مع الذات علاقة عقلانية، لن نصل الى أي مكان. وهذا هو، في رأيي مأزق الثقافة العربية الأساسي.
وأين هو المجتمع؟
> خلف كلامك هذا كله هناك شبح يلوح بين لحظة وأخرى. شبح حاضر وغير حاضر... انه المجتمع. لقد تحدثت عن الدولة والسلطة والمثقفين والماضي والحاضر، لكنك لم تقترب حتى الآن من المجتمع نفسه. أليست للمجتمع علاقة بهذا كله؟ أليس المجتمع هو من يغير أو يسمح بالتغيير؟ أليس هو من يقبل النقد أو يمنعه؟
- أجل سأتحدث عن المجتمع ولكن بلغة عامة... فأنا أعتقد ان المجتمع هو هو نفسه في معظم أرجاء العالم العربي، هو واحد في أبعاده الرئيسة، ولندع التفاصيل جانباً. وان نتحدث عن المجتمع معناه أن نتحدث عن الشعب... عن الجماهير. فإذا تحدثنا عن هؤلاء أقول أنني اعتقد – في رأيي الشخصي طبعاً – انهم هو الأرقى والأنقى. غير اننا، نحن معشر المثقفين والكتّاب، لم نبادر أبداً الى الاستماع الى ضمائرهم ومخاطبة وعيهم. باستمرار يزعم المثقف العربي (كما السياسي العربي) أنه هو من يمثل الجمهور ويريد تطويره وتنويره وتعليمه. وهذا كله غير صحيح، حيث أن الأيام أثبتت دائماً ان المثقف بعيد من الناس. فالشعب الحقيقي هو في أعماقه شعب ديموقراطي هو الذي يصوّت – في الديموقراطيات – لممثليه وهو الذي يأتي بالزعماء وبغيرهم. عندنا لم نسأل الشعب أبداً أن يغير. التغيير يأتي قسرياً بالقوة أو بالخداع. أما اذا رجعنا الى الشعب فإننا نكون رجعنا الى ضمير الأمة الحي وهو ما لم نفعله أبداً. راجع تجربتك وتجربتي وتذكر اننا ان عدنا الى العامل البسيط سنجد لديه وعياً وإدراكاً للأمور يزيدان عمقاً عما لدى المثقف. ليس لأنه أذكى أو أعلم. بل ببساطة لأن المثقف ملتزم ايديولوجياً مستعبد للنسق الثقافي سائداً كان أو غير سائد. أما الشعب فإنه غير ملتزم بل يعبر عن نفسه بصدق وبراءة. مشكلة المثقف انه ما ان يدخل في معمعة الفكر السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي حتى يبدأ بالتصرف بناء على ميادين ومفاهيم محددة سلفاً، لا بناء على استشارة ضمير أخلاقي عفوي متحرك. المجتمع البسيط يتصرف انطلاقاً من ضمير اخلاقي وعملي. انطلاقاً مما يعنيه مباشرة: أرضه، بيته، بيئته أطفاله، مستقبله. وهذا كله مغيّب تماماً لدى المثقف، لو حضر ستتبدل أمور كثيرة. لقد رأينا كيف يكون الفائزون غير من نتوقع أو نريد حين تتسم انتخابات ما بالنزاهة (راجع تجربة فوز «حماس» في فلسطين و «الاخوان» في مصر). وذلك لأن ثمة علاقة وثيقة بين الناس العاديين وقوى تتطلع حقاً الى ان تعبر عنهم – مهما كان رأينا فيها، فكرياً -. نحن لا نزال من أبناء الستينات وما زلنا في الستينات نحوم من حول افكار وشعارات لا تدخل، حقاً، مناطق اجتماعية وتزعم مع هذا انها تعبر عنها. انا لا اقول ان المثقف لا يزال متعالياً، لكنه لا يزال بعيداً بالتأكيد من «الخلطة الضمائرية». خذ غاندي في الهند، مثلاً. لقد عرف كيف يؤسس الديموقراطية الحقيقية في بلده لأنه طرح نواة أخلاقية اجتماعية. وهو فعل هذا لأنه اكتشف خصائص شديدة البساطة في سلوك الشعب الهندي وشخصيته. وهو ما لم نستطع، نحن، ان نفعله. سعد زغلول، مثلاً، كان محاولة ضخمة لاستنهاض ضمير ما لدى العالم المصري، وربما العالم العربي ايضاً، لكنه مشروع جرى اغتياله بسرعة، وحتى من داخل بيت وبيئة سعد زغلول. فهو بدوره كان يصر على الزعامة المطلقة. صحيح انه كان عملاقاً بكل المقاييس وله انجازات ضخمة... بيد انه لم يعزز مبادئه ولا القيم حتى يورثها لخلفائه من بعده. لاحقاً حين جاء المثقف الحداثي وقع في المأزق نفسه. خذ أدونيس، مثلاً، ستجده يطرح في مفهومه للحداثة صيغة شعرية يصفها هو نفسه بأنها لاعقلانية ولامنطقية. فإذا كان مشروع الحداثة يقوم على أبعاد شعرية لا عقلانية ولا منطقية فأي حداثة ستكون... وكيف تراها ستحرر العقول؟ للمناسبة: لقد ادركنا، متأخرين، ان حداثتنا العربية كانت – على أي حال – حداثة شعرية فقط ولم تكن فكرية او فلسفية او اقتصادية. هذه الحقول لم تلامسها الحداثة. ظلت الحداثة عند الشعر ما يعني اننا واصلنا انتاج الفحولة الشعرية وإن بنسق شكلي جديد، انما بالانطواء الداخلي نفسه الذي يقوم على مجاز الذكورة والأنا واللاعقل.
> بين زمن الانقلابات وزمن هزيمة 1967، مر المثقفون بمطهر حملوا خلاله لواء المشروع القومي، مالأوا السلطات والانقلابات وسموها تقدمية، اعتلوا المنابر. ثم كانت الهزيمة فظهرت نهضة ثانية حملت نقداً استبشرنا به خيراً وربطناه بالنهضة الاولى... فإلام أدت هذه النهضة الثانية، أعني نهضة العروي والعظم والعظمة والجابري...؟
- المشكلة انك هنا تشير الى نقد يكاد يكون أكاديمياً. طبعاً حين ننظر الى العروي نجده عملاقاً... بيد أن المسألة هي: هل لامس فكره النقدي المؤسسات؟ هل وصل الى جماهير يمكن ان تستوعبه؟ ان الفكر وحده لا يستطيع انجاز أي تغيير. انا حين اتحدث عن الثقافة العربية لا اعني ان ليس فيها عباقرة. بيد انهم هم في مكان والسياسة في مكان ثان والجماهير في مكان ثالث. وبالتالي ظلت النهضة الفكرية مشروعاً معزولاً. اما الحاجة فهي الى مشروع مبدع يحرك الناس. لنعد هنا الى غاندي... فهو حين قُتل وقبل ان يسلم الروح نظر الى قاتله وقال له: انني اغفر لك يا بني. ان هذه العبارة تمثل قيمة اجتماعية ضخمة، قيمة تعكس التسامح والمحبة والبناء. قيمة هي عبارة عن مشروع اجتماعي – اخلاقي مدهش. ذلك ان اكثر ما يعوق المجتمعات المتخلفة – والعراق اليوم خير نموذج على ما أقول – هو مفهوم الثأر. انه نسق ثقافي متخلف يجعلك، وباستمرار، تعالج اموراً حدثت في الماضي ما يعوق وصولك الى المستقبل. ان الثأر يولد من داخله ويحيل دائماً الى الماضي. أما غاندي فإنه عندما يسامح يقتل مفهوم الثأر مجتثاً اياه من قلب الثقافة الهندية. اما نحن فإن الثأر لدينا واحد من مفاهيم لم نتخلص منها بعد...
> في هذا الاطار هل ترى ان المثقف العربي لم يلعب دوراً، كان يمكنه ان يلعبه؟
- لقد أشرت أنا الى غاندي، وذكرنا مانديلا خلال حديثنا. وهذان مثقفان... لكن المسألة لم تكن بالنسبة اليهما مسألة ثقافة فقط. كانت لديهما المسألة الاخلاقية ومسألة الوعي الاجتماعي ايضاً. مانديلا امضى 20 سنة في السجن وحيداً في ظلام زنزانته وكان يحفر الارض بأظافره وأصابه الحفر بالربو. ومع هذا كان كل فكره منصباً على كيفية مسامحة أعدائه. ليس من أجلهم، انما من اجل شعبه ومستقبل شعبه. انه، وغاندي، برعا في «صناعة» اساسية هي صناعة التسامح. صناعة أدخلت الكتل البشرية في علاقات ايجابية بدل ادخالها في علاقات سلبية. عندنا، خذ مقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري مثلاً. انه حدث ضخم ومحزن وعنيف. ولكن ألا ترى معي ان كل اللغة التي سادت بعد مقتله انما كانت لغة ثأرية؟ قارن هذا بما بادر اليه غاندي (القتيل) ومانديلا (الأسير). إن المجتمعات لا تبنى إلا على لغة تصالح بين الاطراف. إن لم تسد لغة التصالح والتسامح لن يكون تقدم. في غياب التسامح حتى لو حلت الديموقراطية لن نكون سوى ديموقراطية شعوب وقبائل وطوائف وزعامات تقليدية متوارثة. ديموقراطية نزيفها كما نزيف الثورات بالانقلابات والعدالة الاجتماعية بشعارات الاشتراكية. مهما يكن، اذا كنا نعتبر المثقف المحرك الواعي للعبة التغيير في المجتمع، سنفهم بعض اسباب تخلفنا امام مثقفين يتنطحون لنقد كل ما لا يروق لهم ثم حين يُنتقدون تثور ثائرتهم. فهم، على طريقتهم سلطة اخرى، مثل المعارضة في بلادنا التي ما إن تصل الى الحكم حتى تصبح سلطة، وربما أسوأ من التي كانت تعارضها. عندنا، في الثقافة العربية، ظل مفهوم المعارضة مفهوماً نسقياً ينتمي الى النسق الثقافي الفحولي... ما جعل سجل المعارضات الكبرى في عالمنا العربي، سجلاً دامياً وعنيفاً. معارضاتنا قامت لتهدم لا لتبني ومن هنا اخفاقها الدائم... خذ العباسيين مثلاً، لقد ثاروا متهمين الأمويين بالتسلط والظلم، فلما صارت السلطة لهم صاروا أسوأ من الامويين... هذا من دون أن ننسى ان زعيمهم الاول كان يلقب بـ «السفاح».
> تقول إن للشعب البسيط وعيه الصائب وتتحدث عن ثقافة التسامح لدى غاندي ومانديلا، وهذا كله صحيح ومنطقي. فهل يعني هذا ان على مثقفينا العرب ان يعيدوا النظر في كل ممارساتهم وربما ان يتجهوا الى حيث قيم الثقافة الشعبية وأخلاق التسامح ماثلة؟
- بالتأكيد... هذا هو المطلوب. مطلوب من المثقفين دخول ضمير الشعب، آن الأوان لهذا. على العموم ثمة في العالم كله اليوم عودة الى الثقافة الشعبية. النخب اكتشفت انها كانت تعامل الثقافة الشعبية بإهمال وسخرية. اليوم تبدل هذا كله. وها هم المبدعون يتجهون الى الشعب وابداعاته انطلاقاً من ان النبع هناك والمصب هناك. ان الشعب هو الأقدر على المعارضة ولو من طريق النكتة. والشعب حين يعزف عن الانتخابات انما يعبر عن موقف واضح... هو لا يقف ضد الديموقراطية، بل ضد الذين يمثلون هذه الديموقراطية. وحين يشكو الكتّاب والناشرون من ان احداً لا يشتري كتبهم على من الحق يا ترى؟ الناس يقرأون ويشاهدون أفلاماً ويستمعون الى الغناء... فقط هم يتجنبون ما يعاملهم باستعلاء... ومن لا يثق بهم
٠٨/٠٤/٢٠٠٦
رواية العطر لباتريك زوسكند
واقعية كضربٍ من الخيال
محمد الأحمد
من دون شك بأن بطل رواية (العطر) البديعة لـ(باتريك زوسكيند) هي شخصية متخيلة، مخترعة، ولا يمكن أن تكون حقيقية، بالرغم من أنها عاشت بيننا، وما كساها مؤلفها إلا لحماً ودماً وموقفا، فصرنا لن ننسها أبداً، لأنها شخصية فاعلة، وخارقة قد أسبغ عليها المؤلف أوصافا لا يمكن أن تنطبق على إنسان، (وإذا كان اسمه اليوم قد طواه النسيان، على نقيض أسماء نوابغ أوغاد آخرين، مثل دوساد، سانت جوست، فوشيه، أو بونابرت[1])، لأجل أن تبقى تعيش بيننا تتحدى النسيان، وتتحول إلى كائن قد عاش على هذه الأرض وترك أرثا عظيماً، بأفعاله، كما أي شخص حقيقي قد ولد ومن بعد حياة حافلة قد مات. (أنا الوحيد الذي أدرك مدى جماله الحقيقي، لأنني أنا من أبدعه- الرواية[2]) شخصية بقيت تثير الإعجاب، وتمضي بقارئها كأنها تأخذه مسحورا، وبقيت كشخصية روائية بقيت مكتسية بثقافة المؤلّف الذي ولد عام 1949م، حيث بدأ موسيقيا فاشلا، وأصبح فيما بعد صحافيا ناجحا، درس التاريخ في جامعة ميونخ 1968-1974م، كتب مسرحية (عازف الكونترباس) مونودراما في فصل واحد في عام 1981م اصدر رواية العطر عام 1985م، وفاز عام 1987م بجائزة غوتنبرغ، (يعيش حاليا في باريس متفرغا لكتابة السيناريوهات السينمية)، و (العطر) رواية مشوقة لا يمكن لقارئ ما تركها، أو نسيانها، واغلب أحداثها تحلل الطبيعة البشرية بكل تفصيل، كونها حوت خصائص سردية مثيرة، والمؤلف عاد بها إلى تاريخ 17-7 -1738م، يوم مولد بطلها صاحب الأنف الأسطوري بتحسسه للروائح (جان بالتيست غرنوي) في مزبلة نتنه، من أزقة باريس الخلفية، (في أكثر أماكن المملكة بأسرها زخماً بالروائح- الرواية- ص 7)، وُلد من أم عاملة (صبية في منتصف العشرينيات من عمرها، والتي مازال جمالها باديا- الرواية[3])، وقد تركت أخوته (كما فعلت في الحالات الأربع السابقات[4]) دون رجعة تحت طاولة تنظيف السمك، امرأة في فقر مدقع، بائسة، تعمل في شارع قذر، حيث تعمل على تنظيف فضلات السمك، وكان في نيتها أن تتركه هناك مع الفضلات كي يموت، ويُلقى في النهر مع النفايات. أدى ذلك إلى افتضاح أمرها، ساقها إلى المحكمة، فالإعدام تحت المقصلة. أما الطفل المسخ (كان قبيحا، ولكن ليس إلى درجة أن يرتعد الإنسان من بشاعته- الرواية[5])، تنقل بين المرضعات اللواتي كنّ يتركن دون أسف عليه لما يبثه فيهن من شعور بالتقزز لجشعه المفرط في رضع الحليب، فلم تقبل به إلا مرضعة بائسة، كانت لا تشم، ولا تشعر بما حولها، قبلت به انتحارا، وكل ذلك لا يضفي على الشخصية بأنها حقيقية، شخصية اجترحت بذكاء بالغ، شحّ نظيرها في الروايات العالمية، حيثُ أمضت الرواية في انف قارئها فعلا قرائيا، وليس عبر عينيه، فإطار الرواية التاريخية هو القرن الثامن عشر، ومساحتها الرئيسية هي الروائح بشكل عام والعطور بشكل خاص، معتمداً المؤلف على مرجعية علمية متخصصة بصناعة العطور في ذلك الزمن، وتراكيبها، والمواد الأولية لها ومقادير الخلطات، وسارت الحكاية تجول في الطبيعة مقارنة بما يشمه الأنف من مزارع الزهور، وسردت درساً لجغرافية باريس البراقة، ومختلف المناطق الفرنسية التي سارت عليها أحداث روايته. شخصية (غرنوي) منعزلة، مبدعة، متأملة، مكتشفة، ساعية إلى اكتشاف المجهول، ولكنها ليست غامضة إلى الحد الذي يتصوره العديد من النقاد فهي مثيرة للإعجاب، حيث يشدنا الراوي إليها منذ اللحظة الأولى، ويعطينا دفقا طيبا من المعلومات المتواصلة والمتجددة، دون مقدمات في عالم العطور، والزهور، وكيفية تفكيك المزيجات، والعودة بها إلى أصولها، إضافة إلى كيفية استخلاص أذكاها، وخلطات عجيبة بعضها متوفر أن لم يكن هنا، فهو يوجد هناك، فالشخصيات والأحداث والأماكن والمشاعر والمواقف ترسمها روائحها، وكأنه لم يبق كتابا في زمانه عن العطور إلا واطلع عليه، ولم يكن قد ترك تركيبا لعطر ما، إلا والمؤلف قد جربه، عملا، أوشمّاً، (فلم يعد يشم الخشب فحسب، بل أنواع الخشب، كالاسفندان والبلوط والصنوبر والدردّار، والدرّاق، كما بدأ أنفه يميز بين الخشب العتيق والطازج والهش والمتعفن والطحلب، بل بين أنواع الحطب وكسراته وفتاته- ص27)، وقد استعاض عن العين المبصرة بالأنف الدقيقة الشم التي أصبحت راوٍ يصف أدق التفاصيل، وأعمق المشاعر، وأعقد المواقف، وأكثرها غرابة. حيث لا يعرف من الأشياء التي حولها سوى رائحتها، وأصبح بذاكرة روائح يقارن بها الحيوات المحيطة به أجمعها (فلقد قضى ليالي طويلة أمام الأنبيق محاولاً بأي طريقة كانت بواسطة التقطير التوصل إلى روائح طيبة جديدة، لا يعرفها العالم بعد في شكلها المركز هذا، إلا أنه لم يتوصل إلاَّ إلى بعض الزيوت لنباتات سخيفة، أما نبع تصوراته الغني الذي لا ينضب، فقد بقي مستغلقاً عصياً، لم تخرج منه أية قطرة لرائحة محسوسة، وخاصة تلك التي كان يحلم بها، وعندما أدرك مدى فشله سقط مريضاً حتى كاد أن يموت- الرواية). من اجل أن يعطي القارئ موضوعية (غرنوي) المثيرة للجدل حيث تركه بلا رائحة تدل على شخص البطل، وهذا ما أبقاه غريبا غير مستدل عليه، في هذا الجو الخانق الموبوء بالروائح الزنخة المتعفنة، مخلفا الرعب في نفسه لأنه لا يستدل إليها من خلال رائحتها، بمعنى انه لا يعرف موقعه فيما يريد أن يعرف، (وضع سبابته ووسطى يسراه تحت انفه وتنشق عبر ظهريهما. شمَّ هواء الربيع الرطب المبهر برائحة الشقائق، لكنه لم من إصبعيه أي شيء قلب كفه وتشمم باطنها، أحس بدفئها، ولكنه لم يشم شيئا، شمَّر أكمام قميصه الممزق ودفن انفه في باطن كوعه، كان عارفا بان هذه النقطة التي تفوح منها الرائحة الخاصة بكل شخص، لكنه لم يشمَّ شيئا، كانت المفارقة مذهلة، فهو (غرنوي)، القادر على شم رائحة أي إنسان على مسافة أميال لا يستطيع شم نفسه- الرواية[6])، فيشعر به كل من رأى (غرنوي) يشبه شبحا، كون مؤلف قد أوجده كيانا بلا رائحة على الإطلاق، (خامرهُ إحساس غريب أن هذه الرائحة الطيبة هي المفتاح لعالم الروائح الطيبة الأخرى كلها- الرواية). كان يشم كل شيء حتى بصمات الإنسان، فالبصمة عنده، تعرق الأصابع، وما تتركه (حياته حتى الآن كانت لا أكثر من وجود حيواني غارق في ضباب كثيف يغلف معرفته بذاته، لكن هذا اليوم بالتحديد هو الذي جعله يدرك أخيراً هويته الحقيقية، أي أنه عبقري، لا ريب في ذلك، وأن لحياته معنى ومقصداً وهدفاً ومصيراً علوياً، هو ببساطة تثوير عالم الروائح، وأنه الوحيد في العالم الذي يمتلك الوسائل لتحقيق ذلك، أنفه ذو الحساسية المتميزة، ذاكرته الخارقة، والأهم من كل ذلك عبق فتاة شارع (دي ماريه) المدموغ في ذاكرته والذي كانت صيغته السحرية مشتملة على كل ما يحتاجه لخلق رائحة رائعة، أي خلق عطر الرقة، القوة، الدوام، الجمال المتنوع المرعب الذي لا يقاوم، لقد وجد بوصلة حياته القادمة- الرواية). لقد وجد (غرنوي) على هذه الطبيعة وفق منطق متسلسل هي التي أوصلت مؤلفه إلى هذه القناعة بهذه الطبيعة الأعجوبة وافتقاده للرائحة البشرية، تمخض عنها قدرة عجيبة أخرى هي حاسة الشم الخارقة، فيشم العالم كله، والعالم كله لا يشمه هذه القدرة الخارقة على الشم وتمييز أدق الأشياء من روائحها جعلته كمن يرى بأنفه متخطياً الجدران والأبواب المغلقة، ما دام لا يحتاج إلى عينيه في التعرف على الموجودات، بواسطة أنفه العجيب، وحاسة شمه الخارقة جعلته، شفافاً، يود معرفة ما سيمكنه معرفته بأنفه كقارئ (إلا أنها لم تكن تشبه الليمون الحلو أو الكبّاد، ولا المرّ، أو أغصان القرفة أو البتولا أو الكافور، أو إبر الصنوبر، ولا مطر أيار، أو ريح الجليد، أو ماء النبع. كانت رائحة دافئة، ولكن ليس كدفء الياسمين أو النرجس ولا كدفء النارنج أو السروّ أو المسك، وليس كدفء خشب الورد أو الزنبق الملون ذي الأوراق السيفية- الرواية). وبقيت الحكاية تتحكم في مساحة الرواية لتضم تشويقاً إضافيا إلى التشويق المعرفي، (أخبره بالديني أن هناك عدة طرق من بينها هرس الأزهار بالزيت أو الدهن وهي أكثر جودة من التقطير. وأن منطقة غراس في الجنوب مشهورة بهذه الطرق)، لان المبدع قد صنع من بطله أنموذجا تراجيديا، متميزا، يتعاطف معه من يقرأه، ويكون القراء متعاطفين مع بطله على حد سواء فمن بعد أن كبر قليلا قذفت به المرضعة (مدام غايار) إلى دبّاغ يُدعى (غريمال) ظنا منها بأنه ذا فأل سيء فتسبب في انقطاع عنها الدفعة السنوية من قبل الدير، وراح يعمل صغيرا جدا في حرفة خطرة جداً، حيث سلخ جلود الحيوانات المتفسخة. بقي بطل الرواية معذبا، ومعدما لا يبغي سوى المسار خلف ما يبهجه، وحيث لا يبهجه سوى الرائحة، وبقيت الروائح وفرزها كل أمانيه.. (كان يعمل أربع عشرة ساعة يومياً، عملاً تعافه الأنفس، وتكلّ عنه سواعد الرجال الأشداء. لكنه كان يقاوم الأمراض ومشقة العمل بصبر عجيب، حتى عندما أصيب بالجمرة الخبيثة نتيجة عمله في المدبغة وظن (غريمال) أنه ميت لا محالة، قاوم المرض، ونجا منه بعد أن ترك على وجهه ورقبته ندوباً زادته بشاعة- الرواية). وكأي بشر حقيقي عرف الحب، والمرأة، وبواسطة انفه أيضا، فللحب رائحة جذبته وقلبت موازينه، وصارت لديه أمنية أن يمتلك تلك الرائحة، فـ(المرة الأولى التي شمّ فيها أنفه رائحة لطيفة طيبة، شعر بقلبه يتعذب هذه الرائحة كان لها خاصية منعشة: هذه الرائحة، التي تتبعها أنف (غرنوي) كانت رائحة فتاة في الرابعة عشرة، وامتلاكه لرائحة الفتاة دفعة لخنقها وتشمم جسدها كاملاً حتى الثمالة كي لا يضيع منه شيء من عبقها، ومنذ هذه اللحظة عرف (غرنوي) طريقه- الرواية)، و قد ابتدع أيضا الراوي شخصية معادلة لـ(غرنوي)، عندما أهله للعمل عند أشهر صانع عطور في باريس هو (بالديني) الذي كان يعاني من منافسة عطار آخر صنع عطر (الحب والروح) الذي لقي رواجاً عظيماً. لكن (غرنوي) استطاع ان يكسب الثقة التامة بمعرفته كشف سرّ هذا العطر وتركيبته، وأن يستخرج ذات العطر (الحب والروح) بل إنه أجرى عليه تعديلاً فأنتج عطراً يفوقه روعة، وهذا ما أعاد لـ(بالديني) سمعته وجعله يستخدم (غرنوي) في معمله كي ينتج له عشرات العطور المبتكرة التي أذهلت الناس وجعلتهم يتسابقون على شرائها. وفي الوقت نفسه كانت غاية (غرنوي) من العمل عند ه هو معرفة أسرار صنعة العطور كيفية استخلاص رائحة معينة، وتحويلها إلى عطر، أما التراكيب، فإن ذاكرته الشميَّة قادرة على التميز وتفكيك الروائح المزيج، ولك ما تعلمه عند بالديني لم يكن ليشبع نهمه، فقد كان مشغولاً بالتفكير في كيفية استخلاص الرائحة بطريقة غير العصر والتقطير، فتجربته معه كانت لشبه برحلة (غرنوي) إلى الجنوب وصولاً إلى مدينة (غراس)، وعمله عند (مدام أرنولفي) في ورشتها للعطور وتجريبه لاستخلاص الروائح بواسطة الدهون تشكل الجزء الأكثر موضوعية وفق منطوق الرواية، حيث جعله يبتكر عدة عطور تحدث تأثيرات مختلفة في الآخرين، فهذا عطر (الاستعطاف) الذي يوحي للآخرين بأنه يستحق العون والمساعدة، وذاك عطر (النفوّر) يدفع الناس للابتعاد عنه، وذلك عطر يُشعر الآخرين بأنه في عجلة من أمره، وهكذا... تمهيداً لتركيب العطر الذي يحلم به ويجعل الآخرين يموتون حباً به، الذي ارتكب من اجله خمس وعشرين جريمة، ضحاياه من العذراوات اللائي لم يتجاوزن الرابعة عشرة وقد حققه، وحقق به موته، فقد تمكن ان يغير وجهة الرأي العام به، ومن قاتل سفاح في أعين الناس إلى صديقا حميما، ومحبوبا من قبل الجميع، و من فرط هيامهم به وبرائحته الذكية، تلقفوه إلى حد تقطعت أوصاله بين أيدي مريديه، وضاعت أشلائه بين الناس، والرواية لم تمت كونها، أحيت على الورق بطلاً روائيا، قد فتح باباً لن تغلق بموت الشخصية، أو بموت مؤلفها..
03 نيسان، 2006
www.postpoems.com/members/alahmed
[1] ص5 – ترجمة نبيل الحفار- 2003م الطبعة العربية الثالثة صادرة عن دار المدى .
[2] ص 236
[3] ص 7
[4] ص 7
[5] ص 25
[6] ص 129
mu29@hotmail.com