١١‏/٠٤‏/٢٠٠٦


عبدالله الغذامي
بدأت المشكلة الأساس حين صاغ جمال الدين الافغاني مصطلح «المستبد العادل» علينا أن نكتفي بمجابهة ثقافتنا الماضية لأننا لا نزال نفتقر الى ثقافة حاضرة تطل على المستقبل
ابراهيم العريس




الدكتور عبدالله الغذامي واحد من أبرز المثقفين السعوديين والنقاد العرب. ارتبط اسمه في السعودية بالحداثة، حين كانت الحداثة محط هجوم العديد من الفئات والأطراف التي رأت فيها رجساً من عمل الشيطان. كان ذلك في الثمانينات حين ثارت معارك وخصومات أُهدرت فيها دماء وخُوّن مثقفون. بعد ذلك هدأ كل شيء. وبالتالي تحوّل عبدالله الغذامي من هدف للمتطرفين الى «مؤسسة» ثقافية. فإلى كتبه العديدة والبحوث التي نشرها في عدد كبير من الصحف والدوريات والشهريات العربية، والى عضويته في العديد من النوادي... وتدريسه النقد في كليات عديدة، يشارك الغذامي في معظم الندوات الفكرية والادبية التي تعقد في البلدان العربية، كما نال العديد من الجوائز وكُرّم غير مرة. ومع هذا يقول الغذامي، ان معركته لم تهدأ. وهي في الأساس معركة ضد التخلف والجهل. ولكن – بخاصة – معركة ضد ممارسات المثقفين العرب ولا سيما منهم أهل الحداثة الذين، اذ تنطحوا الى نقد كل شيء، سها عن بالهم الأمر الاساس وهو التساؤل: لصالح من يفعلون هذا؟ وما هو التقدم على الطريقة العربية؟ وما هو النقد الثقافي؟ وهل حقاً ان النخب على حق اكثر مما هي الجماهير على حق؟

انطلاقاً من مثل هذه الاسئلة، ومن رصد غاضب للراهن والماضي العربيين، بدأ الغذامي منذ سنوات يصوغ جملة من تعبيرات ثقافية تقوم اساساً على نقد فكر النخبة، انطلاقاً من أن هذه النخبة لم تكن – في نهاية الأمر – اكثر وعياً وارتباطاً بالضمير الواعي من الشعب نفسه. وفي سياق هذه الممارسة وضع الغذامي كتباً حول «الثقافة التلفزيونية»، كما كتب حكاية الحداثة في السعودية، وفصّل مفهومه للنقد الثقافي، وكل ذلك في ارتباط وثيق بمسائل مثل السلطة وعلاقة المثقف بذاته، وعلاقة الثقافة العربية بالشعر.

وحول هذه المواضيع حاورت «الحياة» عبدالله الغذامي في الرياض قبل أيام، ضمن سلسلة حواراتها التي تطرح اسئلتها الشائكة والراهنة على الواقع العربي من خلال محاورة بعض أبرز المفكرين العرب حيث سبق الغذامي على صفحات حوارات «الحياة» هذه كل من المفكرين: سمير أمين وجورج طرابيشي وبرهان غليون والظاهر لبيب وعلي اومليل ومحمد الرميحي ووجيه كوثراني وعبدالمنعم سعيد وابراهيم البلبهي وسعدالدين ابراهيم.

عبدالله الغذامي هو حالياً استاذ النقد والنظرية في قسم اللغة الادبية – كلية الآداب – جامعة الملك سعود. وهو من مواليد العام 1946 في عنيزة السعودية، حائز على الدكتوراه من جامعة اكستر البريطانية وهو من أسس بعد عودته قسم اللغة العربية ومجلة كلية الآداب في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة.

> على رغم أن اهتماماتك الأساسية تتناول نقد الثقافة والأدب في شكل عام، فإننا نعرف ان هذه الممارسة الفكرية لديك لا تنفصل عن النظرة الى أوضاع المجتمع العربي وتاريخه الفكري والسياسي في آن معاً. فهل لك ان تشخص لنا واقع المجتمع العربي وواقع الفكر في عالمنا العربي هذا، ولو من وجهة نظر الناقد الادبي وناقد الثقافة؟

- أنا لا أرى، طبعاً، أي انفصام بين الفكر والمجتمع ولا بين الابداع الثقافي والفكر الاجتماعي. لكنني لا أعتقد انني في اجابتي عن السؤال الاول هذا، سأخصّ بالحديث الفترة التي نعيشها. فأنا اعتقد ان الوضع العربي لا يزال على حاله من دون ان تطاله أية تغييرات نوعية جذرية منذ اكثر من مئة عام، أي طوال القرن العشرين. وأتحدث هنا عن سيرورته العامة، سواء كانت ثقافية او سياسية او اقتصادية. صحيح ان التجارب والمحن التي مررنا بها، بدءاً من مجيء الاستعمار وذهابه، وصولاً الى نشوء الدول الوطنية وانبعاث المد القومي في الستينات ثم الانتكاسة وحرب الخليج، أتت كلها أحداثاً ضخمة، ولكننا في كل مرة بدا وكأننا نعود الى الحال نفسها التي كنا عليها قبل حدوث ما حدث. المشكلة الاساس هي ان كل هذه الصدمات لم تعلمنا او تدفعنا الى السير في مسار مختلف. يبدو اننا قادرون دائماً على امتصاص الحدث بطريقة سلبية، ما يجعلنا عاجزين عن السير الى الأمام. وفي خلفية هذا كله ثمة مشكلة عويصة أنسبها الى النسق الثقافي. فالنسق الثقافي العربي لا يزال نسقاً واحداً أحادياً، بمعنى انه اذا كانت مرحلة الستينات قد تكلمت بلغة واحدة، فإن الامور استقرت لاحقاً، وعلى الشاكلة نفسها، على لغة اخرى لكنها بقيت واحدة أحادية... حتى وان بدت نقيضة للتي سبقتها. وبما ان ليس ثمة لدينا أي تجاوز للنقائض، ليس هناك أي امكانية لتعدد الاصوات مع ان التعدد موجود. فنحن نعيش في بيئة ثقافية هي بالضرورة متعددة كتركيبات عرقية ومذهبية وقطرية واقتصادية. التعدد موجود، أصلاً، لكن الإشكال الأساس يكمن في ان هذا التعدد لا يعبر عن نفسه على مستوى السطح السياسي او الاقتصادي. ولسنا نحن من ألغى هذا التعدد، ولسنا نحن بالطبع من يعبر عنه. ومن هنا نجدنا داخل إشكال عويص. فمثلاً لو نظرنا الى الهند أو بريطانيا او الى اوروبا عموماً، أي الى المناطق ذات انماط الحكم الديموقراطي، سنجدها بدورها متعددة، لكن لديها اساليب حضارية للتعبير عن تعددها، عثرت على صيغ ملائمة لهذا التعبير. اما نحن فإننا نعيش تعددية واقعية يعجز الواقع الثقافي او حتى السياسي عن التعبير عنها. وربما تكمن المعضلة الاولى في مفهومنا الثقافي الذي به نتصور قضية الوحدة...


وحدة ضد الاختلاف

> أي وحدة تقصد، الوحدة السياسية «المنشودة»، او الوحدة الثقافية أو الاجتماعية...؟

- انني اتحدث هنا عن الوحدة المطروحة سياسياً في شكل عام. فأنت حين تنظر الى الوحدة الثقافية الوطنية السياسية، والى وحدة الموقف من العدو، والى الموقف من الآخر، تجدها في اساسها نبيلة المقصد والمنبع. ومع هذا جرّت علينا الويلات، وذلك لأن الطريقة التي فهمنا بها هذه الوحدة كانت الغاء لكل اختلاف. من المحال في النظام الكوني الأزلي ان يكون الكل كتلة واحدة... الكون كتلة تقوم على التعدد. والتعدد يقوم على مجموعة من التناقضات والمتضادات والمتغيرات التي تدور في فلك يفضي بها الى حال من الدوران الفعال والبنّاء. أما نحن فإننا لو أخذنا، مثلاً، الوحدة النهضوية الناصرية التي «تحققت» في ستينات القرن العشرين، سنلاحظ ان اول خطوة خطاها الوحدويون كانت الغاء الاحزاب. ما يعني ان الوحدة في المنظور القومي هي في إلغاء كل حال تعدد وتنوع. وفي رأيي ان هذا ما ضرب الوحدة في صميمها ومنذ بدايتها، لأنها انما كانت وحدة تقوم على الغاء الآخر وازالة المختلف. صحيح ان في امكاننا ان نوافق الذين يقولون ان شخصية عبدالناصر كانت شخصية عملاقة. ولكن ليس من المنطقي ان يكون هو، وحده، من يعبر عنا. من هنا حين حاولت ان تكون كذلك حدث الانفصال، أولاً، ثم هزيمة 1967 بعد ذلك. وهذا ينطبق على وضع يتكرر هكذا على الدوام ولا يخص تجربة عبدالناصر وحده. انه أمر يرتبط عضوياً بالنسق الثقافي العربي الذي يجنح جنوحاً عاطفياً ووجدانياً الى فكرة ان لا حل لمشاكل الأمة الا بأن تتوحد. من هنا اهملت الاحتمالات الاخرى ما جر انتكاسات تلو أخرى. وأين الحال الآن: ثمة دول عربية عدة مشتتة، وداخل كل دولة ثمة انقسامات وانقسامات. فنحن لم نحقق الوحدة التي تجمع في بوتقة واحدة، ولا خلقنا تنوعاً ايجابياً، ما وضعنا في النهاية امام أكثر أنواع التنوع سلبية: التنوع المضاد لبعضه بعضاً. وحال العراق ماثلة أمامنا كنموذج مثالي. العراق انتقل من الوحدة الوطنية الى التفكك التام. نحتاج اليوم الى صياغة جديدة لمفهوم الوطن الواحد الذي يقوم على تنوع الأديان والمذاهب والأعراق والألوان. وهذا هو – في رأيي – المشكل الثقافي العربي الذي لا يخفى على المثقف العربي بالتأكيد. لكنه لا يخفى، كذلك، على السياسي العربي. وهنا مكمن الغرابة: ففي التجربة العربية دائماً ما يحدث ان نناقش سياسيين سابقين كانوا في مواقع المسؤولية وتركوها. ان لديهم الآن وعياً بالمعضلة يشبه كلياً الوعي الذي يسود نقاشنا، أنت وأنا، الآن. فما الذي منعهم من التصرف في شكل جيد وفاعل حين كانوا في المسؤولية؟ هنا يتدخل ما اسميه بـ «معضل النسق الثقافي». النسق الذي لا يزال فحولياً مستفحلاً، يعيد تجربة الفحل الشعري ولكن في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على طريقة «سي السيد» من ثلاثية نجيب محفوظ. وشخصية الأنا الشاعرة الفحولية عند المتنبي كما عند غيره... انها الشخصية التي تصر على ان تبقى مسيطرة. طبعاً أنا لا أدعو الى إلغائها، فهي حقيقة ثقافية واجتماعية، لكنني أدعو الى ان يكون لدينا «أنا»وات اخرى يكون لها وجودها الخاص. وما لم يتحقق هذا سنظل في كل مرة نعود الى حال تشبه الحال السابقة، في دوامة متواصلة.


نهضة ولكن...

> ومع هذا نعرف انه مرات عدة وخلال حقب متفرقة خلال القرن ونصف القرن الفائتين، وحتى زمن الانقلابات أواسط القرن العشرين، ظهرت ثقافة عربية دنت من السياسة وحاولت، على الاقل، عقلنة الثقافة العربية... فهل ترى انها ظلت محصورة في الحيز الثقافي النخبوي ولم تصل الى المجتمع لتحدث تبديلاً في أنساقه؟

- هي اولاً، وكما تقول، بقيت محصورة في الثقافة ولم تصل حقاً الى المجتمع، هي التي في الأساس وقعت في مأزق مصطلح لغوي خطير، انطلاقاً من الصيغة التي رسمها جمال الدين الافغاني لفكرة «المستبد العادل». انه مفهوم أحدث تخريباً عميقاً في افكار المثقفين الذين قبلوه حتى من دون جدال حوله. فكرة «المستبد العادل» ظلت سائدة ولا تزال، ووجد كل زعيم نفسه مجسداً لها، سواء كان من زعامات ما قبل الانقلابات او بعدها. المنطلق هنا هو ان الحاكم عادل. والعدل في الأساس قيمة فردية يمثلها هذا الحاكم وبالتالي فإنه يمثل العدل، أي انه مستبد عادل. وبالتالي هو الأمة والوطن (نموذج صدام حسين). في بعض الاحيان كنا نرى ان نياته ممتازة (نموذج عبدالناصر) وتظاهر كثر تأييداً له. بل إن كثراً ايضاً تظاهروا، حتى لصدام حسين. فهو، بعد كل شيء، كانت لديه شعارات اجتماعية صحيحة... لكن المشكلة ان هذه الشعارات ترجمت انطلاقاً من ارادة هذا المستبد. وحتى قبل الانقلابات كانت هناك صيغ ديموقراطية ما. لكن هذه الصيغ ظلت بدورها تأخذ بنمط المستبد العادل بمعنى ان الزعامات داخل تلك القوقعات الديموقراطية، كانت بدورها زعامات مخلّدة لا تخطئ... وغالباً زعامات وراثية، الأب يورث ابنه او أخاه او زوجته زعامة الحزب وملكية الفكرة والمبدأ. واستمر هذا الوضع الى أن وصلنا أخيراً الى الجمهوريات – الملكية. وأنا أشرت مرة في سياق هذا الوضع الى ما سميته «ذاكرة المكان»... فإذا راجعنا التاريخ الاسلامي سنجد ان المرة الأولى التي تحولت فيها الخلافة الاسلامية الى ملكية وراثية حدث ذلك في دمشق، أي نفس المكان الذي ورث فيه الابن الحكم عن أبيه بعد ذلك بنحو 15 قرناً. ان المكان، وليس الانسان فقط، يمتلك ذاكرة. وحتى الآن لم نستطع تحرير المكان من ذاكرته فكيف نحرر الانسان؟ اننا حين نقرأ اليوم خطابات وكتابات المثقفين الذين رحبوا، في حينه، بالانقلابات وسموها ثورة، نكتشف ما في خطابهم من لغة ديكتاتورية، وان من رحب بالأحزاب الطاغية كان مثقفاً أيضاً. المثقف هو الذي نظّر لها وللسلطات التي ارتبطت بها، وقبلها مستنداً الى مفهوم المستبد العادل على نسق جمال الدين الأفغاني. المصيبة ان الناس، حتى في أيامنا هذه، لا يتوقفون عن القول بأننا في حاجة الى زعيم – فرد – مثل عبدالناصر. وهناك من رأى تجلي هذا في صدام حسين، من دون أن يتنبهوا الى ان الثقافات الإنسانية اليوم تجاوزت، ومن بعيد، مرحلة الرمز. لقد سقطت الرموز، حتى الثقافية منها (من أم كلثوم وفيروز الى عبدالناصر كمستبد عادل). انتهت رمزية الفرد لتتوزع هذه الرمزية على مجموعات كبيرة من الأفراد. بيد أن هذا ينجح في بيئات مفتوحة وديموقراطية. أما في البيئات المغلقة فإن المشروع الانفتاحي لم يجد تجليه بعد، ما أسفر أخيراً عن بعثرة وتشتت. من ناحية أخرى أرى أن واحدة من أخطر المشكلات التي تواجهنا اليوم غياب مسألة نقد الذات...

> وما علاقة هذا بالفكرة السابقة المتعلقة بمسألة الفرد – الرمز...؟

- سترى بعد قليل. أما هنا فدعني أذكرك بأن النقد الذاتي، الذي هو حال إيجابية غالباً، يعتبر في أدبياتنا جلداً للذات بالمعنى السلبي المشوِّه، ما يدفع بالتالي الى فكرة «الخيانة» التي تتناقض مع شعارات مثل «كل شيء للمعركة» و «مرحلة الأشياء». الحقيقة اننا اذا مرحلنا الأشياء حقاً نكون قد قضينا عليها. ولا سيما منها الأفكار فالأفكار لا تُمرحل. الأفكار على طول تاريخها لها لغة واحدة وزمن واحد وضربة واحدة. اذا لم تستثمر في حينها لن تستثمر أبداً. انني أتحدث هنا طبعاً عما يسمى روح العصر. الأفكار هي روح العصر ولكل عصر تطور أفكاره ومصطلحاتها. ان لم ينضج المصطلح في زمنه سنظل متعلقين به حتى بعد انتهاء صلاحيته تعلق الإنسان بالوهم. ومن هنا أرى أننا يجب أن نجابه ثقافتتا – وأعني بالطبع ثقافتنا الماضية لأن ليست لدينا ثقافة حاضرة تطل على المستقبل – بالنقد، بدلاً من مواصلة تكرارها وتبجيلها. في المقابل علينا أن نتذكر أن الثقافة الغربية أول ما بدأت بدأت بنقد النسق الثقافي الفكري والصيغة الحضارية السائدة. نحن ما زلنا عاجزين عن هذا النقد الى درجة مرعبة. بل انك غالباً ما تجد مثقفين راديكاليين نقديين ما ان يتقدم بهم العمر – وربما المنصب أيضاً – حتى يتراجعوا. انهم، على مدى عقود يمشون في مسار، ثم في «النهاية» يخافون ويتراجعون. والأمر واحد من اثنين: إما ان حداثتهم وليبراليتهم وتقدميتهم السابقة كانت نفاقاً وكذباً وتغطي رجعية عميقة. وإما أنهم اكتشفوا «الحقيقة» لاحقاً فرأوا انهم كانوا على خطأ وان ما كانوا يحملون من أفكار لا يصلح لمجتمعاتهم. وفي الحالين نحن أمام معضل اجتماعي حقيقي. فإما أن نكون صادقين ونقول اننا محافظون ونبني فكراً محافظاً يرى أن الحداثة ليست حلاً، وإما أن نكون حداثيين فننظر الى الحداثة، ودخول العصر على انهما الحل. كما ان ليس من المستحيل علينا، بعد كل شيء أن نصنع حداثتنا الخاصة «غير المستوردة». وهذا ما فعلته اليابان وكوريا وماليزيا. لماذا نحن عاجزون عن صنع ما صنعوا هناك؟ جوابي: السبب هو خوفنا وترددنا في مجال نقد النسق الثقافي واعلان عجزه والتشهير به. حالنا حال المريض: ان هو لم يقبل الاعتراف بمرضه لن يأتي الطبيب ليشخص المرض ويداويه. لكي يشفى المريض يجب، أولاً، أن يعترف بمرضه، أو يستعد للتعايش معه. الاعتراف بأمراضنا لا يزال محظوراً عاطفياً... لا دينياً على الأرجح. هناك علاقة عاطفية – أكثر منها دينية – مع ماضينا. فالدين لا يمنعنا من أن نتغير. المسألة مسألة عشق لذاتنا... لماضينا وما لم نكسر هذا العشق ونجعل العلاقة مع الذات علاقة عقلانية، لن نصل الى أي مكان. وهذا هو، في رأيي مأزق الثقافة العربية الأساسي.


وأين هو المجتمع؟

> خلف كلامك هذا كله هناك شبح يلوح بين لحظة وأخرى. شبح حاضر وغير حاضر... انه المجتمع. لقد تحدثت عن الدولة والسلطة والمثقفين والماضي والحاضر، لكنك لم تقترب حتى الآن من المجتمع نفسه. أليست للمجتمع علاقة بهذا كله؟ أليس المجتمع هو من يغير أو يسمح بالتغيير؟ أليس هو من يقبل النقد أو يمنعه؟

- أجل سأتحدث عن المجتمع ولكن بلغة عامة... فأنا أعتقد ان المجتمع هو هو نفسه في معظم أرجاء العالم العربي، هو واحد في أبعاده الرئيسة، ولندع التفاصيل جانباً. وان نتحدث عن المجتمع معناه أن نتحدث عن الشعب... عن الجماهير. فإذا تحدثنا عن هؤلاء أقول أنني اعتقد – في رأيي الشخصي طبعاً – انهم هو الأرقى والأنقى. غير اننا، نحن معشر المثقفين والكتّاب، لم نبادر أبداً الى الاستماع الى ضمائرهم ومخاطبة وعيهم. باستمرار يزعم المثقف العربي (كما السياسي العربي) أنه هو من يمثل الجمهور ويريد تطويره وتنويره وتعليمه. وهذا كله غير صحيح، حيث أن الأيام أثبتت دائماً ان المثقف بعيد من الناس. فالشعب الحقيقي هو في أعماقه شعب ديموقراطي هو الذي يصوّت – في الديموقراطيات – لممثليه وهو الذي يأتي بالزعماء وبغيرهم. عندنا لم نسأل الشعب أبداً أن يغير. التغيير يأتي قسرياً بالقوة أو بالخداع. أما اذا رجعنا الى الشعب فإننا نكون رجعنا الى ضمير الأمة الحي وهو ما لم نفعله أبداً. راجع تجربتك وتجربتي وتذكر اننا ان عدنا الى العامل البسيط سنجد لديه وعياً وإدراكاً للأمور يزيدان عمقاً عما لدى المثقف. ليس لأنه أذكى أو أعلم. بل ببساطة لأن المثقف ملتزم ايديولوجياً مستعبد للنسق الثقافي سائداً كان أو غير سائد. أما الشعب فإنه غير ملتزم بل يعبر عن نفسه بصدق وبراءة. مشكلة المثقف انه ما ان يدخل في معمعة الفكر السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي حتى يبدأ بالتصرف بناء على ميادين ومفاهيم محددة سلفاً، لا بناء على استشارة ضمير أخلاقي عفوي متحرك. المجتمع البسيط يتصرف انطلاقاً من ضمير اخلاقي وعملي. انطلاقاً مما يعنيه مباشرة: أرضه، بيته، بيئته أطفاله، مستقبله. وهذا كله مغيّب تماماً لدى المثقف، لو حضر ستتبدل أمور كثيرة. لقد رأينا كيف يكون الفائزون غير من نتوقع أو نريد حين تتسم انتخابات ما بالنزاهة (راجع تجربة فوز «حماس» في فلسطين و «الاخوان» في مصر). وذلك لأن ثمة علاقة وثيقة بين الناس العاديين وقوى تتطلع حقاً الى ان تعبر عنهم – مهما كان رأينا فيها، فكرياً -. نحن لا نزال من أبناء الستينات وما زلنا في الستينات نحوم من حول افكار وشعارات لا تدخل، حقاً، مناطق اجتماعية وتزعم مع هذا انها تعبر عنها. انا لا اقول ان المثقف لا يزال متعالياً، لكنه لا يزال بعيداً بالتأكيد من «الخلطة الضمائرية». خذ غاندي في الهند، مثلاً. لقد عرف كيف يؤسس الديموقراطية الحقيقية في بلده لأنه طرح نواة أخلاقية اجتماعية. وهو فعل هذا لأنه اكتشف خصائص شديدة البساطة في سلوك الشعب الهندي وشخصيته. وهو ما لم نستطع، نحن، ان نفعله. سعد زغلول، مثلاً، كان محاولة ضخمة لاستنهاض ضمير ما لدى العالم المصري، وربما العالم العربي ايضاً، لكنه مشروع جرى اغتياله بسرعة، وحتى من داخل بيت وبيئة سعد زغلول. فهو بدوره كان يصر على الزعامة المطلقة. صحيح انه كان عملاقاً بكل المقاييس وله انجازات ضخمة... بيد انه لم يعزز مبادئه ولا القيم حتى يورثها لخلفائه من بعده. لاحقاً حين جاء المثقف الحداثي وقع في المأزق نفسه. خذ أدونيس، مثلاً، ستجده يطرح في مفهومه للحداثة صيغة شعرية يصفها هو نفسه بأنها لاعقلانية ولامنطقية. فإذا كان مشروع الحداثة يقوم على أبعاد شعرية لا عقلانية ولا منطقية فأي حداثة ستكون... وكيف تراها ستحرر العقول؟ للمناسبة: لقد ادركنا، متأخرين، ان حداثتنا العربية كانت – على أي حال – حداثة شعرية فقط ولم تكن فكرية او فلسفية او اقتصادية. هذه الحقول لم تلامسها الحداثة. ظلت الحداثة عند الشعر ما يعني اننا واصلنا انتاج الفحولة الشعرية وإن بنسق شكلي جديد، انما بالانطواء الداخلي نفسه الذي يقوم على مجاز الذكورة والأنا واللاعقل.

> بين زمن الانقلابات وزمن هزيمة 1967، مر المثقفون بمطهر حملوا خلاله لواء المشروع القومي، مالأوا السلطات والانقلابات وسموها تقدمية، اعتلوا المنابر. ثم كانت الهزيمة فظهرت نهضة ثانية حملت نقداً استبشرنا به خيراً وربطناه بالنهضة الاولى... فإلام أدت هذه النهضة الثانية، أعني نهضة العروي والعظم والعظمة والجابري...؟

- المشكلة انك هنا تشير الى نقد يكاد يكون أكاديمياً. طبعاً حين ننظر الى العروي نجده عملاقاً... بيد أن المسألة هي: هل لامس فكره النقدي المؤسسات؟ هل وصل الى جماهير يمكن ان تستوعبه؟ ان الفكر وحده لا يستطيع انجاز أي تغيير. انا حين اتحدث عن الثقافة العربية لا اعني ان ليس فيها عباقرة. بيد انهم هم في مكان والسياسة في مكان ثان والجماهير في مكان ثالث. وبالتالي ظلت النهضة الفكرية مشروعاً معزولاً. اما الحاجة فهي الى مشروع مبدع يحرك الناس. لنعد هنا الى غاندي... فهو حين قُتل وقبل ان يسلم الروح نظر الى قاتله وقال له: انني اغفر لك يا بني. ان هذه العبارة تمثل قيمة اجتماعية ضخمة، قيمة تعكس التسامح والمحبة والبناء. قيمة هي عبارة عن مشروع اجتماعي – اخلاقي مدهش. ذلك ان اكثر ما يعوق المجتمعات المتخلفة – والعراق اليوم خير نموذج على ما أقول – هو مفهوم الثأر. انه نسق ثقافي متخلف يجعلك، وباستمرار، تعالج اموراً حدثت في الماضي ما يعوق وصولك الى المستقبل. ان الثأر يولد من داخله ويحيل دائماً الى الماضي. أما غاندي فإنه عندما يسامح يقتل مفهوم الثأر مجتثاً اياه من قلب الثقافة الهندية. اما نحن فإن الثأر لدينا واحد من مفاهيم لم نتخلص منها بعد...

> في هذا الاطار هل ترى ان المثقف العربي لم يلعب دوراً، كان يمكنه ان يلعبه؟

- لقد أشرت أنا الى غاندي، وذكرنا مانديلا خلال حديثنا. وهذان مثقفان... لكن المسألة لم تكن بالنسبة اليهما مسألة ثقافة فقط. كانت لديهما المسألة الاخلاقية ومسألة الوعي الاجتماعي ايضاً. مانديلا امضى 20 سنة في السجن وحيداً في ظلام زنزانته وكان يحفر الارض بأظافره وأصابه الحفر بالربو. ومع هذا كان كل فكره منصباً على كيفية مسامحة أعدائه. ليس من أجلهم، انما من اجل شعبه ومستقبل شعبه. انه، وغاندي، برعا في «صناعة» اساسية هي صناعة التسامح. صناعة أدخلت الكتل البشرية في علاقات ايجابية بدل ادخالها في علاقات سلبية. عندنا، خذ مقتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري مثلاً. انه حدث ضخم ومحزن وعنيف. ولكن ألا ترى معي ان كل اللغة التي سادت بعد مقتله انما كانت لغة ثأرية؟ قارن هذا بما بادر اليه غاندي (القتيل) ومانديلا (الأسير). إن المجتمعات لا تبنى إلا على لغة تصالح بين الاطراف. إن لم تسد لغة التصالح والتسامح لن يكون تقدم. في غياب التسامح حتى لو حلت الديموقراطية لن نكون سوى ديموقراطية شعوب وقبائل وطوائف وزعامات تقليدية متوارثة. ديموقراطية نزيفها كما نزيف الثورات بالانقلابات والعدالة الاجتماعية بشعارات الاشتراكية. مهما يكن، اذا كنا نعتبر المثقف المحرك الواعي للعبة التغيير في المجتمع، سنفهم بعض اسباب تخلفنا امام مثقفين يتنطحون لنقد كل ما لا يروق لهم ثم حين يُنتقدون تثور ثائرتهم. فهم، على طريقتهم سلطة اخرى، مثل المعارضة في بلادنا التي ما إن تصل الى الحكم حتى تصبح سلطة، وربما أسوأ من التي كانت تعارضها. عندنا، في الثقافة العربية، ظل مفهوم المعارضة مفهوماً نسقياً ينتمي الى النسق الثقافي الفحولي... ما جعل سجل المعارضات الكبرى في عالمنا العربي، سجلاً دامياً وعنيفاً. معارضاتنا قامت لتهدم لا لتبني ومن هنا اخفاقها الدائم... خذ العباسيين مثلاً، لقد ثاروا متهمين الأمويين بالتسلط والظلم، فلما صارت السلطة لهم صاروا أسوأ من الامويين... هذا من دون أن ننسى ان زعيمهم الاول كان يلقب بـ «السفاح».

> تقول إن للشعب البسيط وعيه الصائب وتتحدث عن ثقافة التسامح لدى غاندي ومانديلا، وهذا كله صحيح ومنطقي. فهل يعني هذا ان على مثقفينا العرب ان يعيدوا النظر في كل ممارساتهم وربما ان يتجهوا الى حيث قيم الثقافة الشعبية وأخلاق التسامح ماثلة؟

- بالتأكيد... هذا هو المطلوب. مطلوب من المثقفين دخول ضمير الشعب، آن الأوان لهذا. على العموم ثمة في العالم كله اليوم عودة الى الثقافة الشعبية. النخب اكتشفت انها كانت تعامل الثقافة الشعبية بإهمال وسخرية. اليوم تبدل هذا كله. وها هم المبدعون يتجهون الى الشعب وابداعاته انطلاقاً من ان النبع هناك والمصب هناك. ان الشعب هو الأقدر على المعارضة ولو من طريق النكتة. والشعب حين يعزف عن الانتخابات انما يعبر عن موقف واضح... هو لا يقف ضد الديموقراطية، بل ضد الذين يمثلون هذه الديموقراطية. وحين يشكو الكتّاب والناشرون من ان احداً لا يشتري كتبهم على من الحق يا ترى؟ الناس يقرأون ويشاهدون أفلاماً ويستمعون الى الغناء... فقط هم يتجنبون ما يعاملهم باستعلاء... ومن لا يثق بهم

ليست هناك تعليقات: