٢٦‏/٠٤‏/٢٠٠٦



قراءة
(( فوضى الحواس ))
رواية تسبح ضد التيار



بقلم :كليزار أنور

هناك ثلاث خطوط حمر يقف قلم الأديبة عنده 00 ( السياسة ،الجنس ، الدين ) وعليها أن لاتتجاوزها .ثالوث عجيب يزلزل ركود الزمن من حولنا ..وعلى المرأة أن لاتقترب منه ! لكن ،الروائية أحلام مستغانمي استطاعت –وبجرأة نادرة – أن تدخل المناطق المحرمة في غابة المجتمع الشائكة!
أهم ما يجب أن يتميز به الروائي ..هو أن يجيد التعبير عن نفسه وأبطاله وباقناع تام ،ويدرك مساحة أحزانه والآخرين ،ويفهم صعوبة ما يحلم ويحلمون !
"فوضى الحواس ".لغة تسري فيها أنفاس الشعر ،لغة حسية مليئة بنغمات العالم أجمع .سرد عميق ،شاعري ،حزين ،موجع حد الألم .سياسة ،حب ،حرب ،خيانة ،تطرف ،جنس ..كل ما يحمله المجتمع العربي من فوضى وتناقضات لم ولن تنظم ذات يوم !
الرواية تبدأ بقصة قصيرة كتبتها قاصّة ذات مساء ، وأسمتها " صاحب المعطف " بعد انقطاع سنتين من الكتابة . أي دافع يقودها نحو الكتابة ثانيةً ؟ أيعقل ما بررته بعثورها على دفتر –غلافه أسود – في مكتبة بائسة .. واقتنعت أو توهمت بأنه هو الذي سيعيدها الى الكتابة !
القصة – باختصار – هي لقاء يجمع بين حبيبين افترقا لمدة شهرين . لكنه ، الحنين . وتبدأ حرب اللغة بينهما .. كر وفر .. وكلاهما لايعلم ..بأنه ..في الحب ..ليس هناك منتصر أو مهزوم!
" قبل هذه التجربة ، لم أكن أتوقع ، أن تكون الرواية اغتصاباً لغوياً يرغم فيه الروائي أبطاله على قول ما يشاء هو ، فيأخذ منهم عنوة كل الاعترافات والاقوال التي يريدها لأسباب أنانية غامضة ، لا يعرفها هو نفسه ، ثم يلقي بهم على ورق ، أبطالاً متعبين مشوهين ،دون أن يتساءل ، تراهم حقاً كانوا سيقولون ذلك الكلام ، لو أنه منحهم فرصة الحياة خارج كتابه؟" ص28 .


من هنا قررت كتابة " رواية " وعزمت النيّة على ارغام – هذا الرجل – صاحب المعطف على الكلام .. وجلست الى دفترها من جديد لتواصل الكتابة ، وكأنها ما توقفت بالأمس عن كتابتها ووضعت لها نقطة النهاية ! وتبدأ من نفس النقطة التي انتهت منها والتي كانت سبب فراقهما أول مرة حينما اعتذرت عن مرافقته لمشاهدة فيلم !
" وقبل أن تسأله عن أيّ فيلم يتحدث . واصل :
- أتدرين أنه ما زال يعرض في القاعة نفسها منذ شهرين ؟ انهما عمر قطيعتنا . " ص 31.
وتذكر القاعة واسم الفيلم ، وعندما تعود الى الصحف مدققة في أسماء قاعات السينما تكتشف بأنه هناك فعلا" قاعة تحمل اسم ( أولمبيك ) اسم القاعة التي اختارتها . وتتفاجأ .. هل هو الوحي الذي يهديها لكتابة أشياء لا علم لها بها سابقاً " انه امتياز ينفرد به الروائي ، متوهماً أنه يمتلك العالم بالوكالة . فيعبث بأقدار كائنات حبرية ، قبل أن يغلق دفاتره " ص 34
وتذهب الى ذلك الموعد الذي أعطاه بطل قصتها لامرأة اخرى فقط لتختبر جرأتها على أخذ الكتابة مأخذ الحياة ! تذهب متأخرة بربع ساعة .. والقاعة ليس فيها سوى الشبان الذين جاؤوا لاهدار الوقت في قاعة السينما وتجد في آخر القاعة رجل وامرأة .. توقعت انهما " بطلاها " .. وتجلس خلفهما بالضبط كجاسوس !
وتتابع قصة الفيلم .. ويأتي رجل آخر ويجلس بجوارها .. وحين تنحني متلصصة عليهما يسقط قرطها ، فتحاول البحث عنه وسط العتمة ، وإذا بولاّعة تشتعل بالقرب منها لتضيء لها المكان .. انه الرجل الذي يجلس بجانبها .. يجذبها عطره .. وتكف عن البحث عندما ترتفع نظراتها إليه ..يربكها تصرفه " الحب يجلس دائماً على غير الكرسي الذي تتوقعه تماماً ، بمحاذاة ما تتوقعه حباً . " ص 54 .
نسيت الفيلم .. وأمر العاشقيّن لم يعد يعنيها .. بدأت تتابعه هو .. وهو مستغرق في متابعة الفيلم !
وتغادر القاعة قبل ربع ساعة من نهاية الفيلم .. وتكتشف في البيت بأن القرط قد وقع في حقيبة يدها .. ولولا هذه الحادثة البسيطة لما انتبهت لوجود الرجل الذي يجاورها ، فكم من المصادفات الصغيرة لها القدرة على تغيير أقدارنا ! " منذ البدء ، أخذت بجمالية تلك العلاقة

الغريبة ، والمستحيلة ، وبذلك الحب الافتراضي الذي قد يجمع بين رجل من حبر وامرأة من ورق
، يلتقيان في تلك المنطقة الملتبسة بين الكتابة والحياة ليكتبا معاً ، كتاباً خارجاً من الحياة وعليها في آنٍ واحد ." ص 61 .
وتعود الى القصة التي كتبتها سابقاً ،باحثةً عن شيء محدد .. وكمن عثر على شيء أضاعه في البحر حين عثرت على اسم المقهى الذي ذكرته مصادفة في تلك القصة .
وتذهب الى مقهى " الموعد " . وتجده هناك .. يكتب على طاولة . ويأتي آخر ويرمقها بنظرة ودية كمن يعرفها . وعطره وحده دلها في عتمة الحواس عليه عندما اقترب منها يقدم لها السكر الذي أرادته من النادل .
وتدخل معه مغامرة على قدر من الغرابة بالنسبة لامرأة متزوجة مثلها . ترافقه حين يطلب منها الذهاب الى مقهى آخر أكثر هدوءً . ويذهبان ، وقبل أن تطرح أسئلتها .. يجيبها " يسألونك مثلاً ماذا تعمل ..لا ماذا كنت تريد أن تكون . يسألونك ماذا تملك .. لا ماذا فقدت. يسألونك عن أخبار المرأة التي تزوجتها .. لا عن أخبار تلك التي تحبها . يسألونك ما اسمك .. لا ما إذا كان هذا الاسم يناسبك . يسألونك ما عمرك .. لا كم عشت من هذا العمر.يسألونك أيّ مدينة تسكن .. لا أيّة مدينة تسكنك . يسألونك هل تصلّي .. لا يسألونك هل تخاف الله . ولذا تعودت أن اُجيب عن هذه الأسئلة بالصمت . فنحن عندما نصمت نجبر الآخرين على تدارك خطإهم . " ص79 .
نصبت الفخ لبطل قصتها لكنها وقعت هي في الفخ ، فها هو يعرف عنها كل شيء .. وهي لا تعرف عنه سوى ما توهمت به من خيال مطاردة جميلة لرجل وهمي خارج حدود الورق !
في الصفحة 135 نعرف بأن هذه الكاتبة اسمها " حياة " . حياة .. قاصّة .. ابنة شهيد مناضل .. ومتزوجة من رجل عسكري .. حول حياتها الى ثكنة عسكرية ! ليس لها سوى أخ واحد يصغرها بثلاث سنوات اسمه " ناصر " . حرب الخليج جعلته يتشتت ، فقد نام وهو من أنصار صدام حسين واستيقظ ليدافع عن الكويت ! تغيرت مفاهيمه بين ليلةٍ وضحاها . يعاتب اخته عندما يجدها ما زالت تكتب " ولأنك كاتبة عليك أن تصمتي .. أو تنتحري . لقد تحولنا في بضعة أسابيع من أمّة كانت تملك ترسانة نوويّة .. الى أمّة لم يتركوا لها سوى السكاكين .. وأنت تكتبين . وتحولنا من أمّة تملك أكبر احتياطي مالي في العالم ، الى قبائل متسولة في المحافل الدولية .. وأنت تكتبين . هؤلاء الذين تكتبين من أجلهم .. إنهم ينتظرون أن يتصدّق عليهم الناس بالرغيف والأدوية .. ولا يملكون ثمن كتاب .. أما الآخرون فماتوا . حتى الأحياء منهم ماتوا فاصمتي حزناً عليهم .. ! " ص 129 .
تغير ناصر .. تغير كثيراً .. غيرته خيباته الوطنية وانهزامات الأمة العربية .. وتحول فجأةً الى اصولي !
وتذهب برحلة استجمام نحو البحر .. إنها أجمل فكرة خطرت في ذهن زوجها ، وهدية قدر لم تتوقعها ! وتسافر مع فريدة ، لتقيم في فيلا زوجها التي اشتراها بدينار "رمزي " استناداً إلى نجومه الكثيرة كعسكري في الدولة الجزائرية !
وفي ظهيرة تخرج لوحدها لتشتري بعض الصحف .. وتلتقيه مصادفة هناك ويعطيها رقم هاتفه ويمضي .. وتتصل به متلهفة ، ويعطيها عنوان بيت .. وتذهب . ويحصل ما لا يستطيع قلمي ذكره – رغم جماليته ككتابة – وشعرت للحظة أن أدع الكتابة عن هذه الرواية الرائعة مكتفيةً بقراءتها واعجابي الشديد بجرأة الكاتبة المبدعة أحلام مستغانمي . آلمني ما موجود فيها من تمجيد للرذيلة والخيانة الزوجية – رغم انها موجودة كواقع في حياتنا – وأتساءل .. وأنا ما زلت روائية صغيرة عمراً وتجربةً بالنسبة إليها : هل هذا هو الهدف من الكتابة ؟ لستُ ضدها ، بل من أشد المعجبات باسلوبها وفنها المتميز ، لكن ليس بإمكاني أن أتجاوز الخطوط الحمر ، حتى وأنا أكتب ! لا أدري .. إنها مسألة مبدأ !
المهم .. لنعد إلى موضوع الرواية . وتأخذ لها كتاباً من المكتبة .. وتتفاجأ بأنهُ يحفظ إحدى رواياتها إلى الحد الذي يذكر فيه رقم الصفحة والمقطع السردي " يبدو لي إنني أتطابق مع خالد في تلك الرواية . ولكن لا خطر من إعارتك هذا الكتاب .. ما دام ليس ديواناً لزياد ! " ص 187 .
ويغادرها دون وداع .. يسافر إلى فرنسا .. ويعود .. ليس من أجلها ، بل من أجل الوطن . لا تتمالك نفسها وهي تجده في صورة مع " بو ضياف " على صفحة الجريدة . تهاتفه .. تسافر من قسنطينة – محل إقامتها – إلى العاصمة لتقابله في تلك الشقة " الحب أن تسمحي لمن يحبك بأن يجتاحك ويهزمك ، ويسطو على كل شيء هو أنتِ . لا بأس أن تنهزمي قليلاً .. الحب حالة ضعف وليس حالة قوة . " ص261 .
وتكتشف بأنه يوقع مقالاته باسم " خالد بن طوبال " بطل روايتها " ذاكرة الجسد " ويكاشفها بالحقيقة .. بأنه مجرد صحفي أراد أن يتعرف إليها بحجة إجراء حوار لجريدته . وفي نفس يوم صدور كتابها يتعرض لحادث تُشل فيها ذراعه ، وفي فترة النقاهة يقرأ روايتها .. ويذهل ، فكم يشبهه بطل الرواية " خالد بن طوبال " وفي كل شيء !
" – لقد تواطأ الأدب والحياة ، ليهديا إلينا قصة الحب التي هي من الجمال بحيث لم يحلم بها قارئ وكاتبة قبل اليوم . أنتِ نفسك كروائية تجاوزتكِ قصتنا لأنها أغرب من أن تجرؤي على تصورها في كتاب .
- أعترف بأني ما كنتُ تصورت أمراً كهذا . برغم كوني حلمت دائماً بقارئ يأتي ليقاصصني بكتاباتي . " ص325 .
ويالسخرية القدر أو سخرية الكتابة ، فمن التقت به في قاعة السينما هو ليس هذا الرجل الذي أحبته ، بل صديقه عبد الحق – وهو صحفي أيضاً – والشقة هي ليست له ،بل لعبد الحق .. والكتاب الذي أخذته من المكتبة لتهتدي به إليه من خلال التأشيرات ليس له ، بل لعبد الحق !
وبالصدفة .. تقرأ في جريدة الصباح " وداعاً .. عبد الحق " ! فقد اغتالوه ! وتذهب للمقبرة لتشيّعه .. تلبس نفس الثوب الأسود الذي كانت ترتديه يوم التقيا في قاعة السينما وفي قهوة "الموعد " . لم يكن معها سوى دفترها الأسود الذي كتبت فيه هذه الرواية الغريبة ، الجميلة .. حد السحر !
لم تبكِ .. غادر الجميع .. وبقيت وحدها .. وضعت الدفتر الأسود على كومة التراب .. ومضت دون أن تلتفت إلى الوراء !
" أكانت تتحرش بالحياة ؟ وإذا بالحياة تعيد إصدار كتابها ، في طبعة واقعية ، وإذا بها القارئة الوحيدة لنسخة مزورة تكفّل القدر بنقلها طبق الأصل عن روايتها ، بعد أن أدخل عليها بعض التغييرات الطفيفة في الأسماء ، أو في تسلسل الأحداث ، كما في كل السرقات الأدبية ! " ص 364 .
وبالبداية نفسها تنتهي الرواية ، فها هي تذهب لمحل لبيع القرطاسية – كما فعلت قبل عام – وربما يثير انتباهها دفتر له غلاف أسود أو أحمر أو أصفر . وتترك الرواية مفتوحة لبداية رواية اخرى !
رواية " فوضى الحواس " ملأت أعماقنا بالحزن واللوعة والدهشة . ونكتشف ونحن ننتهي منها إننا كنا أسرى هذه الكاتبة المبدعة التي علّقت أجراساً للأحداث ووضعت القوافي لعباراتها ، فكانت أشبه بقصيدة !

* " فوضى الحواس " . رواية للكاتبة أحلام مستغانمي . صدرت عن دار الآداب / بيروت / الطبعة الثامنة / 1999 .
www.postpoems.com/members/gulizaranwar




 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: