قصة قصيرة
المفتاح الذهبي
بقلم : كُليزار أنور
كاتبة عراقية
لم أسعد بشيء مثلَ سعادتي بهدية جدتي التي أهدتني إياها يوم تخرجي . نادتني في غرفتها .. وأخرجت من صندوقها القديم ، المزخرف سلسلة ذهبية يتدلى منها مفتاح صغير .. كانت رائعة ، فنطقت مندهشة :
_ الله .. ما أجملها !
_ استعمليها .. كتعويذة .
طلبت مني أن أستدير .. طوقت عنقي بها ، فركضت نحو المرآة .. وضعتُ يدي على المفتاح الذهبي لأتحسس جمالهُ على صدري .. قلت مُمازحة :
_ هل بإمكانهِ أن يفتح شيئاً ؟!
_ ربما ! فقد تحتاجينهُ يوماً .
* * *
سنون مضت على تخرجي . جدتي ماتت ، ولحقها أبي . وبعدها تزوجتُ من رَجلٍ يحبني وأُحبه .. جمعنا تخصصنا بادئ الأمر . وبينما كُنا منهمكين بالعمل ذات صباح .. وجدتهُ يحدق في صدري .. استغربت تصرفهُ ، لأنهُ من النوع الملتزم .. لم يفعلها لا معي ولا مع غيري من الزميلات ، فقلت :
_ ماذا هناك ؟!
رد بنبرة متعجبة :
_ المفتاح !
_ أي مفتاح ؟
_ منذ أول يوم رأيتكِ فيه ورأيتُ مفتاحكِ هذا وأنا لا أتمالك نفسي أمامك .
ضحكتُ من كلامهِ وتذكرتُ ممازحتي مع جدتي ، فها هو يفتح لي قلباً ظننتهُ مغلقاً ! لا يمكن أن أتصور ولو للحظة بأن المفتاح هو السبب في ارتباطي ، فمن الطبيعي ، والطبيعي جداً _ ويحصل كثيراً ومعَ غيري أيضاً _ أن أعمل في مكانٍ ما ويحبني زميلي ويقرر الارتباط بي .. وللزمالة _ دوماً _ الدور الكبير في جمع اثنين تحت سقفٍ واحد !
جمعنا النصيب رغم اننا كُنا طرفيّ نقيض .. غربٌ وشرق ، شمالٌ وجنوب ، موجـبٌ
وسالب .. نختلف في آرائنا ومبادئنا وأفكارنا ، ونتفق في محبتنا واحترامنا ووفائنا لبعضنا . وفي كثير من الأحيان .. إن أردتُ شيئاً معيناً فأني أقول عكس ما أُريد لأني متأكدة بأنهُ سيناقضني بالرأي ، وهذا التناقض ما كنتُ أُريدهُ بالأصل !
لو نظرنا إلى أي نهر سنجد أنَ الضفة اليمنى مختلفة عن الضفة اليسرى ، وبكل شيء .. هكذا كُنا أنا وهو .. ضفتان مختلفتان ، لكن .. لنهرٍ واحد !
* * *
أرى من بعيد قصراً كبيراً ذا أسوارٍ عالية .. أسير نحوه انهُ أشبه بقصور بغداد في ( ألف ليلةٍ وليلة ) . حينَ وصلت ، مشيت حول السور بحثاً عن البوابة .. وحينَ وصلتها وجدتها مغلقة. فتشت بنظري كل جوانبها ، ولم ألمح سوى باب صغير في الزاوية اليسرى ، وفي هذا الباب ثقبٌ صغير . تذكرت كلام جدتي : " ربما تحتاجينهُ يوماً ! " .
فتحتُ سلسلتي من رقبتي وأخذت المفتاح ووضعتهُ في ثقب الباب الصغير .. دخل .. أدرتهُ يميناً .. وفتح .. دفعتهُ ، فانفتحت البوابة الكبيرة .. ودخلت .
امتدت أمام ناظري حدائق غَناء متناسقة بألوانها وأشجارها وثمارها .. أشبه بحدائق ( قصر فرساي ) . مشيت .. مشيت ودون أي خوف أو رهبةٍ من المكان . دروب تقودني إلى دروب أجمل . كنتُ أسير وحدي .. لا يجرح صمت المكان سوى تغريد البلابل وزقزقة العصافير وهديل الحمام .
وتظهر القبب الحجرية والسقوف المزخرفة بالقرميد الأخضر والأحمر . تهب نسمة خفيفة ، فأسمع حفيف أوراق الشجر . أُتابع الدرب لأصعد ممراً مرصوفاً بالأحجار الملساء .. أمشي بهدوء وحذر ، مثل مَنْ تسير حافية .. وتستقبلني ساحة حجرية يحيط بها أشجار اللوز الأخضر المثقلة بأحمالها .. في وسطها نافورة تنثر دموعها حكايا زمنٍ مضى ! تعبت قليلاً ، فجلست على مقعدٍ حجري تحت ظلال شجرة البنفسج التي تبعث بشذاً يعبق المكان بطيبه .. أتنفس بعمق ليتغلغل إلى أعماق الروح . أضع يدي على المفتاح وأتذكرهُ .. يا ليتك معي الآن . قلت مع نفسي بصمت : أينَ أنت يا .. .. .. ، وقبل أن أهمس باسمهِ غمرتني موجة فرحٍ وأمان وأنا ألمحهُ قادماً نحوي . واستغربت وجوده . ولم يسألني ما الذي أتى بي إلى هنا . مضينا معاً نتجول في القصر الخالي . لا شيء سوى صوت السكينة وجدران صامتة تخفي وراءها حكايا صعب علينا أن نفهمها ! وجدنا الأبواب مفتوحة ، فدخلناها .. قاعة تقودنا إلى أُخرى .. ثرياتها عناقيد ضوءٍ متدلية .. تُزين جدرانها العالية لوحات فنية كبيرة وثمينة .. رأيتُ الموناليزا لدافنشي وبورتريه لسلفادور دالي وتحتها بالضبط لوحة لفائق حسن . أدهشني ذلك الأثاث الفاخر وتلك الشمعدانات الضخمة المضيئة .. وتساءلت : ليسَ من أحدٍ هنا . إذنْ .. مَنْ الذي أوقد شموعها؟!
القصر الصامت يتحدث عن حياة عامرة ، مترفة كانت هنا ! وكأنهُ كانَ مسكوناً وغادره أهله قبل أن نصل بثوان !
ومثل ظل يظهر إنساناً .. نمشي نحوه .. يخرج من الباب .. نتبعه .. لا أحد هناك ! استقبلنا موكباً من الفراشات الملونة .. جريت نحو أكبرها غير مصدقة وقلت : ياه .. ما أجملها . ولم أنتبه للغصن النافر من شجرة التفاح ، فاصطدمت به .. ولم أنتبه بأن السلسلة انقطعت من عنقي وانجرحت يدي . أخرج منديلاً من جيبه ليربط به معصمي .. وحين رأيتُ منظر الدم شعرت بالإغماء .
أسمعهُ يناديني :
_ شيلان .. شيلان .
لكني لا أقوى على الرد .. وسمعتهُ مرة أُخرى :
_ شيلان .. شيلان .
فتحتُ عينيّ بصعوبة .. وجدتهُ أمامي :
_ ما بكِ .. استيقظي .. تأخرنا على الدوام .
أينَ أنا .. هل كانَ حُلماً ما رأيت ؟؟ تحسست السلسلة في رقبتي .. لم أجدها .. وانتبهت بأن معصمي مربوط بمنديلٍ أبيض . ناديته ، فأجاب من المطبخ :
_ إني أُهيئ الفطور .
نهضت من السرير وقصدتهُ مسرعة .. رفعتُ يدي إلى جيبِ قميصهِ .. قال باستغراب :
_ ما بها يدكِ ؟ ومتى ربطتها بمنديلي ؟ كم بحثتُ عنه !
لم أرد .. أدخلتُ أصابعي في جيب القميص الذي غسلتهُ وكويتهُ بالأمس قبل أن أنام .. تلمستْ رؤوس أناملي السلسلة .. سحبتها .. كلانا ينظر إليها بذهول .. واندهشت أنا ، فلم يكن معها المفتاح !
www.postpoems.com/members/gulizaranwar
المفتاح الذهبي
بقلم : كُليزار أنور
كاتبة عراقية
لم أسعد بشيء مثلَ سعادتي بهدية جدتي التي أهدتني إياها يوم تخرجي . نادتني في غرفتها .. وأخرجت من صندوقها القديم ، المزخرف سلسلة ذهبية يتدلى منها مفتاح صغير .. كانت رائعة ، فنطقت مندهشة :
_ الله .. ما أجملها !
_ استعمليها .. كتعويذة .
طلبت مني أن أستدير .. طوقت عنقي بها ، فركضت نحو المرآة .. وضعتُ يدي على المفتاح الذهبي لأتحسس جمالهُ على صدري .. قلت مُمازحة :
_ هل بإمكانهِ أن يفتح شيئاً ؟!
_ ربما ! فقد تحتاجينهُ يوماً .
* * *
سنون مضت على تخرجي . جدتي ماتت ، ولحقها أبي . وبعدها تزوجتُ من رَجلٍ يحبني وأُحبه .. جمعنا تخصصنا بادئ الأمر . وبينما كُنا منهمكين بالعمل ذات صباح .. وجدتهُ يحدق في صدري .. استغربت تصرفهُ ، لأنهُ من النوع الملتزم .. لم يفعلها لا معي ولا مع غيري من الزميلات ، فقلت :
_ ماذا هناك ؟!
رد بنبرة متعجبة :
_ المفتاح !
_ أي مفتاح ؟
_ منذ أول يوم رأيتكِ فيه ورأيتُ مفتاحكِ هذا وأنا لا أتمالك نفسي أمامك .
ضحكتُ من كلامهِ وتذكرتُ ممازحتي مع جدتي ، فها هو يفتح لي قلباً ظننتهُ مغلقاً ! لا يمكن أن أتصور ولو للحظة بأن المفتاح هو السبب في ارتباطي ، فمن الطبيعي ، والطبيعي جداً _ ويحصل كثيراً ومعَ غيري أيضاً _ أن أعمل في مكانٍ ما ويحبني زميلي ويقرر الارتباط بي .. وللزمالة _ دوماً _ الدور الكبير في جمع اثنين تحت سقفٍ واحد !
جمعنا النصيب رغم اننا كُنا طرفيّ نقيض .. غربٌ وشرق ، شمالٌ وجنوب ، موجـبٌ
وسالب .. نختلف في آرائنا ومبادئنا وأفكارنا ، ونتفق في محبتنا واحترامنا ووفائنا لبعضنا . وفي كثير من الأحيان .. إن أردتُ شيئاً معيناً فأني أقول عكس ما أُريد لأني متأكدة بأنهُ سيناقضني بالرأي ، وهذا التناقض ما كنتُ أُريدهُ بالأصل !
لو نظرنا إلى أي نهر سنجد أنَ الضفة اليمنى مختلفة عن الضفة اليسرى ، وبكل شيء .. هكذا كُنا أنا وهو .. ضفتان مختلفتان ، لكن .. لنهرٍ واحد !
* * *
أرى من بعيد قصراً كبيراً ذا أسوارٍ عالية .. أسير نحوه انهُ أشبه بقصور بغداد في ( ألف ليلةٍ وليلة ) . حينَ وصلت ، مشيت حول السور بحثاً عن البوابة .. وحينَ وصلتها وجدتها مغلقة. فتشت بنظري كل جوانبها ، ولم ألمح سوى باب صغير في الزاوية اليسرى ، وفي هذا الباب ثقبٌ صغير . تذكرت كلام جدتي : " ربما تحتاجينهُ يوماً ! " .
فتحتُ سلسلتي من رقبتي وأخذت المفتاح ووضعتهُ في ثقب الباب الصغير .. دخل .. أدرتهُ يميناً .. وفتح .. دفعتهُ ، فانفتحت البوابة الكبيرة .. ودخلت .
امتدت أمام ناظري حدائق غَناء متناسقة بألوانها وأشجارها وثمارها .. أشبه بحدائق ( قصر فرساي ) . مشيت .. مشيت ودون أي خوف أو رهبةٍ من المكان . دروب تقودني إلى دروب أجمل . كنتُ أسير وحدي .. لا يجرح صمت المكان سوى تغريد البلابل وزقزقة العصافير وهديل الحمام .
وتظهر القبب الحجرية والسقوف المزخرفة بالقرميد الأخضر والأحمر . تهب نسمة خفيفة ، فأسمع حفيف أوراق الشجر . أُتابع الدرب لأصعد ممراً مرصوفاً بالأحجار الملساء .. أمشي بهدوء وحذر ، مثل مَنْ تسير حافية .. وتستقبلني ساحة حجرية يحيط بها أشجار اللوز الأخضر المثقلة بأحمالها .. في وسطها نافورة تنثر دموعها حكايا زمنٍ مضى ! تعبت قليلاً ، فجلست على مقعدٍ حجري تحت ظلال شجرة البنفسج التي تبعث بشذاً يعبق المكان بطيبه .. أتنفس بعمق ليتغلغل إلى أعماق الروح . أضع يدي على المفتاح وأتذكرهُ .. يا ليتك معي الآن . قلت مع نفسي بصمت : أينَ أنت يا .. .. .. ، وقبل أن أهمس باسمهِ غمرتني موجة فرحٍ وأمان وأنا ألمحهُ قادماً نحوي . واستغربت وجوده . ولم يسألني ما الذي أتى بي إلى هنا . مضينا معاً نتجول في القصر الخالي . لا شيء سوى صوت السكينة وجدران صامتة تخفي وراءها حكايا صعب علينا أن نفهمها ! وجدنا الأبواب مفتوحة ، فدخلناها .. قاعة تقودنا إلى أُخرى .. ثرياتها عناقيد ضوءٍ متدلية .. تُزين جدرانها العالية لوحات فنية كبيرة وثمينة .. رأيتُ الموناليزا لدافنشي وبورتريه لسلفادور دالي وتحتها بالضبط لوحة لفائق حسن . أدهشني ذلك الأثاث الفاخر وتلك الشمعدانات الضخمة المضيئة .. وتساءلت : ليسَ من أحدٍ هنا . إذنْ .. مَنْ الذي أوقد شموعها؟!
القصر الصامت يتحدث عن حياة عامرة ، مترفة كانت هنا ! وكأنهُ كانَ مسكوناً وغادره أهله قبل أن نصل بثوان !
ومثل ظل يظهر إنساناً .. نمشي نحوه .. يخرج من الباب .. نتبعه .. لا أحد هناك ! استقبلنا موكباً من الفراشات الملونة .. جريت نحو أكبرها غير مصدقة وقلت : ياه .. ما أجملها . ولم أنتبه للغصن النافر من شجرة التفاح ، فاصطدمت به .. ولم أنتبه بأن السلسلة انقطعت من عنقي وانجرحت يدي . أخرج منديلاً من جيبه ليربط به معصمي .. وحين رأيتُ منظر الدم شعرت بالإغماء .
أسمعهُ يناديني :
_ شيلان .. شيلان .
لكني لا أقوى على الرد .. وسمعتهُ مرة أُخرى :
_ شيلان .. شيلان .
فتحتُ عينيّ بصعوبة .. وجدتهُ أمامي :
_ ما بكِ .. استيقظي .. تأخرنا على الدوام .
أينَ أنا .. هل كانَ حُلماً ما رأيت ؟؟ تحسست السلسلة في رقبتي .. لم أجدها .. وانتبهت بأن معصمي مربوط بمنديلٍ أبيض . ناديته ، فأجاب من المطبخ :
_ إني أُهيئ الفطور .
نهضت من السرير وقصدتهُ مسرعة .. رفعتُ يدي إلى جيبِ قميصهِ .. قال باستغراب :
_ ما بها يدكِ ؟ ومتى ربطتها بمنديلي ؟ كم بحثتُ عنه !
لم أرد .. أدخلتُ أصابعي في جيب القميص الذي غسلتهُ وكويتهُ بالأمس قبل أن أنام .. تلمستْ رؤوس أناملي السلسلة .. سحبتها .. كلانا ينظر إليها بذهول .. واندهشت أنا ، فلم يكن معها المفتاح !
www.postpoems.com/members/gulizaranwar
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق