١٤‏/٠٤‏/٢٠٠٦



تحت سماء الكلاب
رواية: صلاح صلاح
قراءة: محمد الأحمد


رواية (تحت سماء الكلاب- للكاتب العراقي (صلاح صلاح) ­صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر2005م). منعت في أكثر من معرض عربي للكتاب، لأنها تحكي لنا الظلال القاتمة المتخلفة من جراء ما خلفه نظام دكتاتوري بغيض كالوبال حلّ على سماء العراق، من جنوبه إلى شماله بلا استثناء، وأضفى من سمته، على الأشياء والمعطيات أجمعها، لوناً غاضباً، شوه الجمال بقبحه المقيت، ولم يكن يومها الإنسان المثقف يحتمل كل تلك الضغوط، جاءت الرواية على لسان بطل الرواية (صلاح) الصحافي الذي اختنق تحت ظروف كانت جد سقيمة، فهرب معه، أيضا ثلة من المثقفين من مختلف بقاع العراق، يومها- منهم القاصي والداني، الثابت والمتحول.
امتدت الرواية في مساحة على ورق بلغ عدد صفحاته (342). مقسمة إلى ثلاثة عشرة فصلا، سمي كل فصل باسم محدد، جاء كانتقال سردي من حالة إلى أخرى. متن الرواية مؤثث على مكان بقي متنفساً للراوي، استطاع من خلاله ان يجعله ممرا الى إحزانه وذكرياته الهاربة إلى عمق ذاكرته الخزينة بالخوف والقلق، واختارها منطلقا كنقطة ينطلق منها الخط المستقيم إلى حريته. مدينةٌ ببشر طيبين، احتقنت بالطالبين نسمة هواء نقية. (فالكاتب يشعر في أعماقه، لأن الكتابة في نظره، هي أفضل طريقة ممكنة للعيش، بصرف النظر عن النتائج الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية التي يمكن أن يحققها، من خلال ما يكتبه- ماريو بارغوس يوسا
[1]). تحدد الرواية موقفها، وتبدأ رحلةُ أفكار، ومخاضات فكرية استطاع المؤلف أن يوغل إلى ابعد حدّ في الممنوع السياسي، والديني، والأخلاقي. فكانت المدينة (زاخو) مفتاح الرواية، ومساحة فضائها، حيث اختلى فيها هاربا من نظام قيده بأبشع الأغلال صلادة، علو جبال شمم، منحته أمان لتسلبه آخر، منحته سجالا اكتشف فيه الفرق بين المثقف السياسي، والمثقف الحرّ، في أتون علاقات متواشجة المصير بين هاربين من تحت تلك السماء التي كادت أن تطبق عليهم وكادت أن تهرسهم بثقلها، من بعد اختناق متواصل بالقهر القسري، ومن بعد تشويه عبر خطاب أيدلوجي سقيم، اتلف العقائد، ونكث بالمواثيق الإنسانية، وحطمها تحت قدميه العنجهية، تحكي مسيرة أيام وبضع أشهر، كلها انتظارا، قضاها بطل الرواية المحوري (صلاح) قريبا من معبر حدودي في شمال العراق يؤدي إلى سوريا، استطاعت الرواية أن تجهر بقول يعترض عليه الرقيب في أكثر من مكان، حيث جاءت جرأتها جائلة بلا استثناء على كل قائمة الممنوعات في الدين والسياسة والجنس، وهذا ما أعطاها جوازا تمر به إلى القارئ الذي ملّ من المهادنة، فتخطت كل ما يمكن اعتباره، من اعتبارات يبحث عنها المثقف الذي تشغله الحقائق لأنه ملّ خطاب الثقافة المدجنة، وفق هيكل يريده الرقيب الذي يقر بما تريده السلطة (التي عينته)، فالراوي يدون ما يدور في ذهنه، من خلاصات كان قد استنتجها، لأنه بات على مشارف حريته التي يرتجيها، وكان يحلم بها، فراحت السطور تتهادى بجمال جمل حملت للقارئ كل شحنات حزنها المقيم، رواية أعادت علينا أجواء الانكسار فوق هذا الانكسار، وأعادت علينا ذلك المطر الأسود الذي ذل فيها العراقي إلى حدّ النخاع من جوع، وحرمان، وتكميم أفواه، فثقافة السلطة لا تغازل المثقفين إلا عند الحاجة إليهم، (ومن ثم فإذا دخلوا حظيرتها وصاروا مهادنين لها فقدوا إرادتهم الحرّة وغدوا مهمَّشين، على نحو ماـ علماً أن هناك عدداً من المثقفين يسعون إلى السلطة. وكذلك فإن السلطة تسخِّر الثقافة بكل عناصرها المكوّنة لها من لغة وعقيدة؛ ومعارف وعلوم وفنون وآداب، وعادات وتقاليد؛ وأعراف وقوانين ومذاهب واتجاهات لمصالحها الخاصة وفق مبادئ المباح والممنوع اجتماعياً ودينياً؛ فكرياً واقتصادياً؛ أدبياً وفنياً، وهي تتبنى أجزاء من الثقافة في تحولاتها التاريخية والاجتماعية والقانونية والجغرافية والعسكرية والتقنية في إطار سياسة المصالح. هذا ما لجأت إليه سلطة العشيرة والقبيلة، والمذهب والطائفة، والخلافة والدولة، والأمة والأحزاب الإيديولوجية قديماً وحديثاً- حسين جمعة[2]).‏ فيعرض الروائي في روايته بان المثقف فيها على طرف نقيض من السياسي، وهو من يكنّ العداء للمثقف، لأنه استطاع الوصول سريعا إلى سدة الحكم، وتسلم الواجهة قاصيا الثقافة إلى ابعد الاتجاهات، (سلكت أول الطريق في القراءة والانقطاع والتأمل. بعد أعوام طويلة اكتشفت هزلة العالم وثورته المعرفية- الرواية ص94). رواية زمنها فضفاض جدا على الرغم من انه يوثق لفترة حرجة عانها المثقف العراقي قبل غيره، فترة تؤرق كلماتها في مسيرة بطيئة المسار لا ترسم منها الرواية سوى مذكرات يومية كتبت لتكون شهادة الكاتب على كتابته، ومسيرته في الأزمنة الرخوة، منصهرة في ظل من سطور تداخلت بها المواقف قبل أن يتداخل في سردها الفن الجميل، حيث بقيت معلقة بين مطرقة وسندان يجول فضائها الم حقيقي، وآخر كتب متعمدا لينال من الجهات اجمعها في زمن اليأس والقنوط، حيث لغة الرواية مشذبة جميلة، في انسياب عفوي ينداحُ كما الماء من بين الأصابع، وتختلط الصور متشابهة المعنى، ومتكررة الغاية. فما أصعب أن يسير المرء إلى غايته متحررا من عمود الحكاية.. (ما هي القوة التي تقف وراء العمل الخلاق والتي تدفع بالمرء إلى تحمل الصعاب و المشاق المفروضة فرضا ذاتيا على الفنان وفي الوقت نفسه ترفده بالمتعة الباطنية والشجاعة الخارجية، ليواجه عداء الجمهور الحسود المحتمل، ليواجه الفقر والمرض وحتى الموت من مجرد الإرهاق، من أين تأتي القدرة اللا محدودة لتحمل الآلام- د. أي. شنايدر[3])، فتلك جمالية تسجل لصالح الرواية، روعة تكمن في أن الراوي تخلص من كل رقيب، وراح يكتب حريته الفكرية دون إي حساب لمعترض، هو يمضي إلى نتائجه، في نقد العقل، فهو يبحر في مفهوم الحرية، وجدد الأفكار والقيود، ويجرد التمرد والأصفاد.. فذات مرة صرح بابلو بيكاسو (الرسم ليس للتزيين، انه سلاح حربي ضد الوحشية والظلام) شجاعة المرء منا في أن يكتب رواية مواجهة، ليس بالأمر الهين، وخاصة عندما يتوفر في تلك الرواية مسيساً من الخطر، كونها تتحدى سلطة ما، ومهما كان صدقها أو كذبها، فهي كحكاية مروية قد وقعت، ربما من الخيال، فإنها تبقى في قيمتها الفنية بأنها رواية موقف، ورواية ترى من جانب غير محايد ما أراد كاتبها أن يرينا إياه. وبتلك مسافة يخسرها المؤلف عندما يكون متحاملا أكثر مما وقع عليه من حيف، كان يود النيل منه، والتعويض، لحاجة في نفس يعقوب، فالرواية سهلة لمن توفر على عناده من اجل أن يحكي حكايته، وتكون في غاية الصعوبة، عندما تتوفر على وهم انجازها، وتبقى في ذهن كاتبها من دون ان يكسي بحروفها موقفا من الحياة وساستها المتحكمة بمصائر مواطنيها، أنها رواية اغتراب عن أمكنة مقصية حتى عن الذاكرة، ويجوب إلا يقال في التذكر على صفحات ليست عميقة.. يوثق موت الشاعر (رياض إبراهيم) صديقاً كان يشاركه الشكوى والانتظار حيث كان مريرا للغاية اضطر معه إلى تناول الحشائش من اجل توفير الخبز للأطفال.. (جاء الشتاء سريعا، وأخذنا نحس بهوس البرد. هذا الشتاء الأول لنا في شمال العراق، وكانت ملابسنا في معظمها صيفية. ذهبنا أنا ورياض إلى البالة واشترينا سترا قديمة، بالية، واكبر من مقاساتنا. اخذ أحدانا يضحك على الآخر، وهو بالهيئة الجديدة. لكنا بعد ذلك اعتدنا على مظهرنا الجديد والبائس والمتهرئ، خاصة أن هذا المظهر أضيف إليه أحذية بالية ومسحوقة وبدون كعب أصلا. كان الأطفال لديهم ملابس شتائية كافية، وهو ما أفرحني، بقيت زوجتي بملابس شتائية، فاشتريت لها معطفا تبين بعد ذلك انه روب محاماة- الرواية ص219). فثمة سطور خفية بقيت تتلامع وراء الأسطر، لم يستطع من البوح بها، فتكاد تبين كنقص واضح، لم تتواصل حلقات الرواية به كحكاية، فالكتاب برمته تجوال بحرية في الفكر والعقائد، تضمنت نعوتاً لكل من رأس تلك التيارات. كان الراوي حرا طليقاـ غير سجين، يتجول في المقاهي.. (يمر على مقرات الأحزاب خاصة منها الحزب الشيوعي)، وهذا دليلاً على حرية، وأيضا (صعوده إلى أعالي الجبال)، ويتأمل المشهد الفكري.. ظلت الرواية حتى صفحاتها الأخيرة تسير باتجاهين مختلفين.. الأول الراوي يكشف مدى ما تعرضه نفسياً تجاه بعض الرموز السياسية، ولكنه لم يسلط الضوء حول دوافع حقيقة لذلك الكشف. فالراوية متشكلة من اندفاع عفوي بشوق إلى الأصدقاء، وحملت كل منهم بذكراه، وكل منهم في شتاته، بقي يذكر الكتب التي بقيت عالقة في ذهنه، بذكر الأدباء الذين جايلوه.. يذكر حرية المفقودة تحت ظل نظام همين عليه حتى تخلص بهذه الرواية، وهذا بعض ظني بأنها كتبت للتخلص من الكوابيس التي تتابع الفرد وتخلص حتى وصل إلى ما وراء ألف جدار. ‏الجمعة‏، 14‏ نيسان‏، 2006
[1] رسائل إلى روائي شاب_ ترجمة صالح علماني
[2] جريدة الأسبوع الأدبي العدد 994 تاريخ 18/2/2006
[3] التحليل النفسي والفن- ص114- ترجمة يوسف عبد المسيح ثروت.

ليست هناك تعليقات: