١٣‏/١٢‏/٢٠٠٦


اسمي راشيل كوري
ماريو بارغاس يوسا


إذا ما مررتَ بنيويورك، انسَ استعراضات برودوي الموسيقية الباذخة، وحاول أن تحصل علي بطاقة دخول إلي مسرح صغير حار ومتداع، مسرح "ماينيتا لان"، في الشارع الذي يحمل الاسم نفسه، علي الحدّ بين غرينيش فيللج وسوهو. وإذا ما حصلت علي بطاقة الدخول ورأيت العمل الذي يُعرض هناك "اسمي راشيل كوري" (My Name is Rachel Corrie)، فستكتشف القشعريرة التي يمكن أن يكونها عرضٌ مسرحي عندما يغرس جذوره في إشكالية راهنة، ويقدِّم علي المنصة - دون أحكام مسبقة وبموهبة وصدق ـ قصةً تضعنا خلال تسعين دقيقة في الرعب المعاصر من خلال فتاة ما كان بإمكانها أن تحلم، في حياتها القصيرة، بأنها ستقدم الكثير من الكلام الذي يقال، وستثير الكثير من المجادلات، وستكون محط كل ذلك التقدير والحب، وفي الوقت نفسه، محط كثير من الافتراءات أيضاً.افتُتح العرض المسرحي في السنة الماضية، في مسرح الرويال كورت في لندن، وكان عليه أن يتجاوز عقبات كبيرة كي يصل إلي مانهاتن. فضغوط المنظمات المتطرفة الموالية لإسرائيل توصلت إلي أن يتخلي منتجها الأول، ورشة مسرح نيويورك، عن تقديمها، مما تسبب في بيانات واحتجاجات شارك فيها فنانون ومثقفون مشهورون، منهم توني كوشنر. وأخيراً، فرضت روح هذه المدينة الليبرالية والمتسامحة نفسها. والمسرحية التي استحقت تنويهات رائعة، تُعرض الآن وبصالة ممتلئة دوماً.النص هو مونولوج للبطلة، تجسدها ممثلة شابة وموهوبة جداً تدعي ميغان دودز، وقد أعدَّ النص آلان ريكمان وكاترين فينير بالاستناد إلي يوميات راشيل كوري ورسائلها إلي أبويها وأصدقائها وكتابات أخري لها. لا يمكن لأحد أن يتصور أن مثل هذا العمل متقن البناء، والذي ينساب بصورة بالغة التلقائية، دون أدني عثرة، طيلة ساعة ونصف ساعة متكهربة هي مدة العرض، لم يجر تصوره كنص عضوي من قبل كاتب مسرحي محترف، وإنما هو مكوّن من مقتبسات ورقع كولاج.ولدت راشيل في أوليمبيا، قرية من ولاية واشنطن، ويبدو أنها اعتادت منذ طفولتها علي الحوار مع نفسها، عبر الكتابة، في نصوص تبين بطريقة شديدة النضارة، وحالمة أحياناً، الحياة الريفية لفتاة تبلغ سن المراهقة، مثل كثيرات أخريات من جيلها في الولايات المتحدة، ممتلئة بالقلق والاضطرابات، ضحية تمرد دون بوصلة، حالة معنوية غير راضية بعمق ومضادة لحياتها المتميزة وللأفق الضيق، الريفي، التي تدور فيه تلك الحياة. يراودها ميل غامض إلي أن تصير شاعرة في ما بعد، عندما تكبر وتشعر أنها قادرة علي منافسة أولئك الكتَّاب الذين تقرأ أشعارهم دون هوادة وتحفظها عن ظهر قلب.ليس فيها أي شيء استثنائي، بل مجرد تجارب متوقعة لصبية من الطبقة الوسطي، عادية، مترددة حيال العالم وهي آخذة في اكتشافه، حماستها للأغاني والمغنين الرائجين، والتدلل العابر مع زملاء الدراسة. ولكن، أجل، وهذا أمر ثابت: لديها إحساس غير متبلور بعدم الرضا، وبحث عن شيء، مثل الدين بالنسبة للمؤمنين ـ وهي نصف مؤمنة، لكن الممارسة الدينية لا تملأ الفراغ الذي يعذبها أحياناً ـ يمنح حياتها، فجأة، وجهةً، معني.. البحث عن شيء يضمخها بالحماسة.هذا الجزء من قصة راشيل كوري لا يقل زخماً ولا تشويقاً عن الجزء الثاني، وإن كان أقل دراماتيكية. الأمر الفريد، ومن خلال تطور قصتها الشخصية، هو أن الهم السياسي لا يظهر ولا يطل برأسه بين كل همومها التي تقدم كتاباتها الخاصة شهادة عنها، وهو أمر يعكس علي أفضل وجه شرط جيلها. فمنذ ثلاثين سنة، صار الشبان الأمريكيون يصرّفون تمردهم وقلقهم في تصرفات، وملابس، وهوايات، وإشارات، محاطة في بعض الحالات بهالة من الفوضوية الشخصية المتكتمة، أو بنضالية دينية في الجانب الآخر، أما السياسية فلا تستحق منهم إلا عدم المبالاة الكاملة، إذا لم يكن الازدراء المكشوف.في المسرحية، هناك مرحلة معترضة كبيرة، ربما لأن تلك اللحظة الحرجة من حياتها لم تُوثق في كتاباتها، إنها تلك المرحلة التي تحمل الفتاة الريفية إلي التطلع لأن تصير في أحد الأيام شاعرة، وأن تخطو خطوة جريئة مثل تقدمها، في بدايات العام 2003، كمتطوعة للذهاب من أجل النضال سلمياً في قطاع غزة ضد عمليات الهدم التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي لبيوت جيران أو أقارب أو من لهم علاقة بالفلسطينيين المتهمين بالإرهاب.ظننتُ للوهلة الأولي أن راشيل كوري قد ذهبت لتعمل مع صديقي ماير مارغاليت، أحد أكثر من أكن لهم تقديراً من الإسرائيليين، في لجنته الإسرائيلية المناهضة لهدم البيوت، وكنت قد تحدثت عنه في زاويتي الصحفية هذه. ولكن لا، فقد انضمت راشيل إلي حركة التضامن الدولية المكونة بصورة أساسية من شبان بريطانيين وأمريكيين وكنديين، يذهبون إلي الأراضي المحتلة للعيش في البيوت المهددة بالهدم، يحاولون أن يمنعوا ـ ولا حاجة للقول إنهم لا ينجحون كثيراً ـ عملاً غير مقبول أخلاقياً وقانونياً، ذلك أن جزءاً من الذنب الجماعي المزعوم للسكان المدنيين يستتبع عقاباً جماعياً علي جرائم فردية معزولة.الرسائل التي تكتبها راشيل إلي أبويها وأصدقائها من رفح، جنوبي قطاع غزة، تكشف عن تنامي وعي فتاة تكتشف، من خلال المشاركة، البؤس، والهجران، والجوع، والعطش لإنسانية بلا أمل، مهملة ومنسية في مساكن متداعية، مهددة بالرصاص، بالمداهمة، بالتفجير، حيث الموت الوشيك هو الشيء اليقيني الوحيد للأطفال والشيوخ. ومع أن راشيل تنام علي الأرض مع الأسر الفلسطينية التي تحتضنها وتطعمها من وجباتها الهزيلة نفسها، إلا أنها تشعر بالخجل من الرعاية والمحبة اللتين تتلقاهما، ومن الامتياز الذي مازالت تتمتع به، فهي قادرة في أي لحظة علي الذهاب والخروج من هذا الاختناق، أما هم، بالمقابل...أشد ما كان يحزنها هو عدم المبالاة، انعدام إحساس ملايين الكائنات البشرية التي لا تفعل شيئاً، في العالم بأسره، بل لا يريدون أن يعرفوا شيئاً عن المصير المشين الذي يتعرض له هذا الشعب، حيث هي منغمسة الآن. لقد كانت شابة مثالية ونقية، ملقحة ضد الإيديولوجية وما تولده عادة من أحقاد، تسكب نقاء مشاعرها وكرم نفسها في كل سطر من رسائلها الموجهة إلي أمها، موضحة لها كيف أنه، علي الرغم من العذاب الذي تراه حولها ـ الأطفال الذين يموتون في التوغلات الإسرائيلية، آبار الماء المطمورة التي تُبقي حياً بكامله ضحية العطش، منع الخروج إلي العمل الذي يُغرق آلاف الأشخاص في موت بطيء، الرعب الليلي لصفارات الدبابات وتحويم طائرات الهيلوكبتر علي ارتفاع منخفض ـ هناك فجأة، في ما حولها، في احتفال بولادة أو عرس أو عيد ميلاد، انفجارُ سعادة، شيء أشبه بانفتاح سماء عاصفة ملبدة لتظهر هناك، في البعيد، سماء زرقاء بديعة، مفعمة بالشمس.إن شهادة راشيل كوري، بالنسبة لأي شخص غير مصاب بعمي التعصب، حول إحدي أكبر مظالم التاريخ المعاصر ـ وضع الرجال والنساء في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، حيث الحياة محض احتضار ـ هي شهادة إنسانية، فضلاً عن كونها مؤثرة، شهادة رحمة تصل إلي الروح (أو أي اسم آخر لهذه البقية المتبقية من الوقار الذي نحتضنه جميعنا في أعماقنا).وبالنسبة إلينا، نحن الذين رأينا هذا الرعب عن قرب، يشكل صوت راشيل كوري سكيناً ينكأ جرحاً ويحركه.نهاية القصة تجري خارج العمل المسرحي، في حدث لم يُتح لراشيل الوقت لتكتب شهادتها عنه. ففي يوم الأحد، السادس عشر من آذار 2003، ومع سبعة زملاء من حركة التضامن الدولية ـ شبان بريطانيون وأمريكيون ـ وقفت راشيل أمام بلدوزر الجيش الإسرائيلي الذي يريد هدم بيت طبيب فلسطيني في رفح. صدمها البلدوز وأوقعها مهشماً جمجمتها، وساقيها، وكل عظام عمودها الفقري. وقد ماتت في سيارة الأجرة التي كانت تنقلها إلي مستشفي رفح. كان عمرها ثلاثاً وعشرين سنة.في رسالتها الأخيرة إلي أمها، كتبت راشيل كوري: "هذا يجب أن ينتهي. يجب علينا أن نترك كل شيء آخر ونكرس حياتنا للتوصل إلي إنهاء هذا الوضع. لا أظن أن هناك ما هو أشد إلحاحاً. أنا أرغب في التمكن من الرقص، وأن يكون لي أصدقاء ومحبون، وأن أرسم قصصاً لأصدقائي. لكنني أريد، قبل أي شيء آخر، أن ينتهي هذا الوضع. ما أشعر به يسمي عدم تصديق ورعب. خيبة أمل.أشعر بالانقباض من التفكير في أن هذه هي الحقيقة الأساسية في عالمنا وأننا جميعنا نساهم، عملياً، في ما يحدث. لم يكن هذا هو ما أردته عندما جيء بي إلي هذه الحياة. ليس هذا ما كان ينتظره الناس هنا عندما جاؤوا إلي الحياة. وليس هذا هو العالم الذي أردتِ أنت وأبي أن آتي إليه عندما قررتما إنجابي
.ترجمة: صالح علمانيعن جريدة لاناسيون الأرجنتينية،
الأحد 12 تشرين الثاني 2006
.Por Mario Vargas Llosa
 Posted by Picasa

١٠‏/١٢‏/٢٠٠٦

هكذا تكلم نصر حامد ابو زيد بلسان ابن عربي
نظرة في توافق الأفكار بالجدل المفتوح مابين قديمها وحديثها
محمد الأحمد

(لم أزل أبكي حتى ضحكت، ولم أزل أضحك حتى صرت لا أضحك، ولا أبكي
- أبو يزيد البسطامي)
يحتدمُ جدل الفكر العربي في كل لحظة ما بين أصول قديمه المشرق، وأصول حاضره المعتم، ويحدث أن يصل كل منهما إلى مفترق طرق، فذلك الزمن قد خطت فيه أغلب الأفكار التنويرية إلى أمام، وقد خطت أغلب أفكار اليوم إلى الوراء، وثمة جدل عقيم، سوف تخلفه المقارنة، وكأن الأمس العربي برغم محدودية عصره.. في التقنية الحضارية، قد كان أكثر حضارة ورُقياً، وأكثر انفتاحا بحضارته الفكرية على العالم الحاضر فيه، إذ كان الفكر جدليا رائقا، ومفتوحا، ولم يك يقيم الحدّ بالقطيعة مع التمرد، بل يقيم الدليل، ويجادل الفكرة بالفكرة الأبهى، محاججاً بالدليل والقرينة، حتى بقيت الإضاءة خالدة متحدية الطمس، والنكران. وغالبا ما تفرض المصالح مطالحا والمطالح مصالحاً تغير المعاني إلى الاتجاه الذي تريده، حيث دُعِمَتْ الفرق بألف قضية، ونشرت المِلَلْ، والنِحَلْ بألف سبيل، وما عادت الخطابات قائمة لذاتها، حيث يؤرقها الاختلاف بالسيف وبقية السبل، فكلما جاءت فكرة، حتى جاءت معها الفكرة الأخرى، النقيض، وصار منهما الأثر بعد العين، (يجب أولا قبول غربة عقلية لا مناص منها للوصول إلى طراز محدد كل التحديد تاريخيا من الإدراك والتمثل والتفكير، ولابد ثانيا من ألفة ينهض بها المرء للطرائق والإشكاليات التي مازلنا نشعر بخصبها- محمد أركون
[1]). ولان (محيي الدين بن عربي) نقطة التقاء بين التراث العالمي والتراث الإسلامي، وهذه فاصلة، تمكن النظر عبره لتراث عربي بوصفه تواصلاً حياً خلاقاً مع التراث العالمي الذي كان معروفاً ومتداولاً في عصره، سواء كان تراثاً دينياً، مسيحياً أو يهودياً، أو كان تراثاً فلسفياً فكرياً، وإصرار العصر على استخدام مصطلحات متنوعة للدلالة على مفهوم واحد، واستيعابه للتراث السابق، أو تأثيره في النهج الفكري التالي له، قد لا يحتاج إلى استدلال، وصار الثابت متحولا؛ من بعد أن تعددت المناهج السياسية إلى حدّ لا حساب له، بعدد تعدد المصالح وصار الجزء يطغي على الأصل، بوقف ما يراد منه، وتغيرت الملامح بألف قناعِ، وقد تصدى في الأزمان اجمعها من المتجادلين لبعضهم، فأضاعوا ما أضاعوه، وبقيت الأسباب هي الأسباب، (تلحق الأباعد بالأداني وتلحم الأسافل بالأعالي[2])، وقد كانت مهام كثيرة تتطلب القيام بها من لدن مفكرينا الجادين في البحث، لأجل استحداث القناعة التامة بان الفكر الإسلامي قد كان ولم يزل منيرا، وان رجاله الحق قد تركوا رؤية عميقة في فهم النصوص بحياد عام، وقد كتب (نصر حامد أبو زيد)، الموسوم بـ(هكذا تكلم بن عربي) محاولة جريئة غير مسبوقة لنقد مشروع نقد العقل الإسلامي، والوقوف عند ابرز شيوخ التصوف، من خلل آليات علمية اعتمدها النقد العقلاني، وتأتي أهميتها من أنها تغور بعمق الفكر وليس من خارجه، فالمؤلف وفي إطار تحليله معتمدا على عمق ثقافة إسلامية، لا يأخذها إلا الجد وتشير إلى أن أقصر الطرق الكاشفة عن معرفة عصرية، وقد تركت بجرأة عالية إشاراتها البارزة في العقل الإسلامي المعطاء للمعرفة، والرافض للتحجيم. فيشير إلى أهمية تناول شخصية (بن عربي) بالتحليل الدقيق، والإضاءة على واحد من الذين تميزوا بين علامتين؛ هما استيعاب النص الجلي الضخم للفكر النقدي من ناحية، والإلمام بتاريخ الفكر العالمي، وتشعباته، ومدارسه من ناحية أخرى، فضلا عن أنه يندرج ضمن مرحلة معينة من مراحل ومناهج الفكر العربي الإسلامي المعاصر، موضحاَ الأسس العرفانية والبيانية المكونة لوحدات هذا الفكر، فالمفكر(نصر حامد أبو زيد) يعطينا دلالات معرفية مثيرة أساسها التفسير بأسبابه، ومقتضياته وينبغي علينا أن نذكر بأنه كمفكر عربي معاصر، طاردته المحاكم بسبب خروجه على الخط المقرر من قبل فقهاء عصره، وصار مقيما في هولندا (تولد عام 1943م وحاصل على دكتوراه دراسات إسلامية من القاهرة 1972م)، وقد عرج متوقفا عند (محيي الدين بن عربي) بأكثر من كتاب، وأكثر من مقام ومقال، والرجل لم يكن متصوفا كبيرا، فحسب، وإنما كان عالما مقتدرا بين علماء عصره، وقد ترك بصمات دلالية على نهج تفكيره، فكان فيلسوفا أيضا، إذ أنتج أفكارا حاجج بها كل المفكرين الذين جايلوه، وبقيت تتلامض كالدر المكنون في أبيات الشعر الصوفية التي بقيت خالدة، إضافة إلى فتوحاته النصية الرائعة في كتابه العبقري (الفتوحات المكية)، الذي دل على أن (ابن عربي) عالما لغويا لا يمارى، ذهب إلى مقاصده بخط مستقيم، ومعانيه لم تكن تحوى على ازدواج في المعنى، إذ كان مؤمنا بعمق لما كان يتحمل وزه، (في فترات القلق والتوتر يكون التكفير هو السلاح، وفي فترات الانفتاح لا يوجد تكفير، كل الخطابات متاحة، ومتميزة بالتفاعل فيما بينها، والتيارات الظلامية هذا التعبير لا أحبذ أن استعمله، لأنه سيرد فيما بعد ليقول لي بالتيارات المنحرفة عن العقيدة، يعني هناك تبادل تهم، السلطة هي تخلقه، وكذلك السلطة تكفر، ومشكلتنا في المجتمعات العربية لا نستمع إلي الرأي الآخر ولا نتسع له، وكل فرد في الجماعة يعتبر نفسه مالكاً للحقيقة وبالتالي نحن نختلف حول المعاني ولا نختلف حول الحقيقة، لا نختلف حول وجود الله وحتى لو اختلفنا حول وجود الله فهو اختلاف بالمعنى، إن الاختلاف هو أمر طبيعي، وهو ليس جريمة، إن هذا قدرنا الإنساني أن نختلف حول المعنى[3])، فزمن طويل قد مضى على تلك الحقبة، بعد أن غيّرَ الكارهين اغلب الوثائق مضفين إليها نقاط الشقاق والنفاق، وعلامات فارقة من الحقد، متناسين بان الرجل المفكر سيكون بما ترك من نصوص وشروح سوف تبقى مرآة عصره، كذلك صورته لم تكن تتزعزع لأنه، آنذاك، قد جايل مفكرون قد حايثوه، وعايشوه، وتتطبعوا منه أو تطبع منهم، فبقوا هم من يحمل صورته التي تتحدى الطمس، وتقف بمثل ما كانت تأخذ دورها الطبيعي في جدلية التاريخ، والمنطق، فقد ولد (بن عربي) في الأندلس، (موريسيا) عام 1165م، وتلقى تعليمه في (إشبيلية) مع من كانوا يحيطون به، ثم مؤخرا استقر بمصر، ومات في دمشق. درس كل العلوم الكلاسيكية للإسلام من لغة وعروض ونحو وصرف وفقه إسلامي وأدب وتاريخ، الخ. منطلقا بعدئذ نحو كبريات المدن الأندلسية المغاربية بحثا عن العلم أو تكملة له. ترك (المغرب) عام 1201م، متجاوزا الخامسة والثلاثين، (لعل هذه المحنة كان لها تأثير في قرار ابن عربي مغادرة المغرب كله إلى المشرق[4])، ومن بعد اخذ بالمغاربة والأندلسيين ليجهر علنا توجهه الصوفي الباطني، ومهاجرا، ليجد في المشرق علوما تتوافق مع تفكيره وتوجهاته الروحية والعلمية، حطّ بـ(مصر) طويلا، ثم (سوريا)، (العراق) ف(تركيا) ولاقى الكثير من الأمراء الذين شملوه بعطاياهم وبحمايتهم لأنهم قد أعجبوا به، وبعلمه الغزير، وفهمه العميق للإسلام الحنيف، خاصة، أمراء السلاجقة، فلم يبخلوا عليه بالغالي والنفيس. وفي عام 1225م غادر من (تركيا) عائدا إلى (دمشق) لكي يستقر فيها، ويعيش حتى مات عام 1240م، أي بعد خمسة عشر عاما، وكان قد في الخامسة والسبعين أو ناهزها.. مستوعبا الفكر العربي في مرحلتيه السابقتين: العصر الذهبي والانتشار اللتين استمرتا على امتداد قرون انشغل خلالها المفكرون، آنذاك، بتحليل المجتمع في أبعاده التنظيمية وتجلياته الأدبية وبناه المختلفة بالنظر إلى المبادئ والقوانين التي ولدتها، وإزاء اتساع النصوص التي اطلع عليها وكيفية تدرج البنية المعرفية ضمن بنية أشمل هي بنية العقل الديني ساعيا لتوحيد الوعي الديني، وعهد كعالم يتعامل مع المفاهيم والمناهح غربية المنشأ والأصل متعمقا بسياقها المعرفي والحضاري، وكان يطبقها على مجال مغاير تماما لمجال انبثاقها، فالمناهج الفكرية الغربية هي مناهج منقولة غير مأصولة. بهذا المعنى يعد (ابن عربي) ممثلا للتيار الآخر من الفكر الأندلسي والعربي الإسلامي في مجمله. كان يمثل التجربة الروحية والصوفية الكبرى في تاريخ الإسلام، في حين أن (ابن رشد) كان يمثل التيار العقلاني المحض. (ولهذا السبب قال له ذات يوم، أولا: نعم، ثم أردف قائلا: لا! (بنعم) كان يقصد أنه متفق معه على أهمية العقل وضرورة استخدامه، و(بلا) كان يقصد أن العقل وحده لا يكفي للوصول إلى الحقيقة الإلهية وإنما ينبغي أن نفتحه أيضا على الخيال والإلهام والتجربة الروحانية العميقة[5]). وكانت هذه النقطة الحاسمة التي جعلت (ابن رشد) بعيدا عن المثيولوجيا لتقاربه مع فلسفة (أرسطو) الواقعية والمادية، (بوسع المرء أن يطرح منظومة إن الإنتاج والتأويل المستمرين للثقافة الغربية نفسها قد افترضا الافتراض ذاته بالضبط إلى زمن موغل في القرن العشرين، حتى حين كانت المقاومة السياسية لقوة الغرب تتصاعد في العالم الهامشي ألإطرافي، وبسبب من ذلك، وبسبب مما أدى إليه يغدو ممكنا الآن أن نعيد تأويل سجل محفوظات الثقافة الغربية كما لو كان مشروخا جغرافيا بالفالق الجغرافي المنشط، وان نقوم بمنط مختلف من القراءة والتأويل- ادوارد سعيد[6])، وكان (ابن عربي) على يقين بأن فلسفة (ابن رشد) قد وصلت إلى الجهة الأخرى المضادة.. في وقت بات الفكر العربي الإسلامي كان بحاجة إلى تأسيس تتواشج فيه الروح بالمادة، وإلا سوف يلغى ويحارب كما لغي (ابن رشد) وهذه التأسيس رائده وزعيمه (محيي الدين بن عربي)، وعلى هذا النحو اشتهرت كتبه (الفتوحات المكية)، و(النصوص والحكم)، و(ترجمان الأشواق)، وغيرها من روائعه، فعقيدة (بن عربي) تتداخل فيها: عدة أساسيات دينية، فلسفية، وصوفية، تعتمد على نظرية وحدة الوجود. (وهي نظرية تقول ان الكون كله يصدر عن الله كما تصدر الجزئيات عن الكليات)، و(المعتزلة هي فرق أسلاميه أسسها (واصل بن عطاء الغزال) وأنضم إليه (عمرو بن عبيد) في أوائل القرن الثاني الهجري ثم انتشرت وتشعبت إلى الكثير من الفرق كالنظامية، والمردارية، والخابطية، والبشرية، والهشامية، والثمامية... إلخ، ومن أهم أفكارهم: نفي صفات الخالق (عزوجل) معتقدين بأنه لا جوهر، ولا عرض، ولا طول، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا بذي حرارة، ولا برودة، كذلك نفي العلم والقدرة، ونفوا أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال عبادة، كذلك دعت ما بعد الحداثة إلي إلغاء الازدواجية وأثينية المنهج الاستدلالي، كازدواجية الذات والأعراض، والمبدأ والأثر، وعدم التفريق بين الحابل والنابل، وهذا ما رفضه (أبن عربي) مع (ابن رشد)، وكذلك يرى؛ أن كل (الأديان السابقة على الإسلام لم تكن إلا مسارا طويلا للوصول إليه، وبالتالي فقد أرهصت به ومهدت له الطريق. ينتج عن ذلك أن الإسلام هو الدين الكوني الذي يشتمل على جميع الأديان، وأن محمداً (ص) هو خاتم الأنبياء والمرسلين)، وقد تنادى بأسس التسامح في الدين الإسلامي لأنه اعتبر أن (جميع الأديان تؤكد على حقيقة واحدة هي الحقيقة التي جاء بها الإسلام. وبالتالي فلماذا نكرهها أو نحتقر أتباعها؟ لماذا لا يتسع قلبنا لجميع مخلوقات الله؟) ويؤكد المؤلف (للأسف فإن المتعصبين لم يفهموه ولم يدركوا أبعاد هذا التفكير الكوني الواسع الذي دشنه، ولذلك فقد انتقدوه بشدة، بل وكفّروه، وهنا تكمن مشكلة الفلاسفة والمفكرين الأحرار في الإسلام، فالعامة لا تستطيع فهمهم والفقهاء الصغار يكرهونهم نظرا لاتساع أفقهم العلمي والعقلي الذي يتجاوز مداركهم، وبالتالي فإنهم يتعرضون للمحاربة العنيفة باستمرار)، قائلا بما معناه؛ (ينبغي العلم بأن الفلسفة العربية الإسلامية لم تمت مع ابن رشد، وإنما استمرت في الوجود من خلال (بن عربي)، و(السهرمدي) في المشرق، والحيوية الفكرية في الأندلس ماتت بسبب الفهم المنغلق، والحرفي الأعمى للعقيدة بسبب نسيان جوهر الدين، والتركيز على القوالب الخارجية القسرية والطقوس الشكلانية الجافة، ولهذا السبب ماتت الفلسفة بعد أن ازدهرت لعدة قرون في الأندلس والمغرب الكبير)، (وقد تحدث ابن عربي عن اللقاء الوحيد الذي جمعه بابن رشد الذي كان قد بلغ أوج مجده في نهاية عمره، هذا في حين أن ابن عربي كان لا يزال في أول شبابه. وقال بما معناه: لقد زرت أبا الوليد ابن رشد في بيته بقرطبة بناءً على رغبته في رؤيتي والاستماع إليّ)، (وما إن دخلت البيت حتى نهض ابن رشد من مجلسه وأقبل عليّ بكل ترحاب وعززني وكرمني بل وقبّلني. ثم أجلسني إلى جانبه لكي يتحدث معي ويرى ما أملكه من علم، ثم قال لي: نعم، (أي نحن متفقان)، فقلت له: نعم... وعندئذ شعر بالارتياح وبدا الانشراح على وجهه واعتقد أني من تلامذته وأتفق معه في كل شيء)، (حكي الشيخ الأكبر أبن عربي فقال: دخلت يوماً بقرطبةَ على قاضيها أبى الوليد بن رشد ، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به علىَّ في خلوتي، فكان يُظهر التعجُّبَ مما سمع. فبعثني والدي إليه في حاجةٍ، قصداً منه حتى يجتمع بي، فإنَّه كان من أصدقائه، وأنا (آنذاك) صبىٌّ ما بقل وجهي ولا طرَّ شاربي. فعندما دخلت عليه، قام من مكانه إلىَّ محبَّةً وإعظاماً، فعانقني وقال لي: نعم، قلت له: نعم، فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم استشعرتُ بما أفرحه، فقلت: لا، فانقبض، وتغير لونه وشك فيما عنده. وقال لي: كيف وجدتم الأمرَ في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت: نعم ولا، وبين نعم ولا تطيرُ الأرواحُ من موادِّها والأعناق من أجسادها، فاصفرَّ لونُه، وقد قال الشيخ الأكبر؛ الخلاف حق حيث كان)، وفي رواية أخرى (وكان قد سمع بالإلهام الذي حباني الله به في عزلتي الروحية. وقد أبدى دهشته مما سمعه عني، ولهذا السبب فإن والدي الذي كان صديقه الحميم أرسلني إليه في أحد الأيام لكي يراني ويعرف من أنا بالضبط. ولذلك استدركت قائلا: لا، فاغتمّ وبان الحزن على وجهه وتغير، وبدا وكأنه يشك في تفكيره، والعقيدة الفلسفية التي توصل إليها، وعندئذ سألني: ما هو الحل الذي توصلت إليه عن طريق الإشراق والإلهام الرباني؟ وهل هو متوافق مع ما نتوصل إليه نحن عن طريق الفلسفة أو الفكر البرهاني؟ فأجبته: نعم، ولا، وذلك لأنه بين النعم والـ لا، فإن الروح تنطلق حرة خارج مشروطية المادة والأعناق تنفصل عن أجسادها، وعندئذ اصفرّ وجه (ابن رشد) ورأيته يرتجف وهو يتمتم قائلا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والواقع أنه فهم مقصدي العميق وما أشير إليه وعرف أنه يتجاوز فلسفته العقلانية المنطقية أو يفترق عنها بعد أن يهضمها ويستوعبها)، ومقارنة ما بين تاريخ ميلاد (بن عربي وبن رشد) نستنتج بأنه يصغر (ابن رشد) بأربعين سنة أي قد كان أحد تلامذته الذين استفادوا من علمه وعقلانيته البرهانية، وفلسفته ومن الذين خرجوا عليه تجاوزا إلى الفكر الصوفي، كون منهج الإسلاميات التطبيقية هو الوجه الآخر المشرق، (ثم رجعت إلى صاحبي وهو ينظرني بباب المسجد، فتحدثت معه ساعة، وقلت له: من هذا الرجل الذي صلى في الهواء؟ وما ذكرت له ما اتفق لي معه قبل ذلك، فقال لي: هذا الخضر[7])، ومن ناحية ثانية يشير (نصر حامد أبو زيد) إلى خطورة المنهجية التعددية التي اعتمدها وأنها قد تكون محفوفة بالمزالق اذ قد تنتهي بالباحث إلى التناقض لأنه يجمع بين فلسفات مختلفة اختلافا بنيويا وأصوليا، ومن ذلك ما يشير إليه من وقوع (المؤلف) في هذا النوع من الخطأ عندما جمع بين افكار (فوكو وهابرماس)، بعقلانية منفتحة ومتعددة وفهم متقدم للإنسان، مؤلفاته الأخرى: (النص السلطة والحقيقة)، (مفهوم النص)، (فلسفة التأويل)، (نقد الخطاب الديني)، لم نجده إلا عند المتأخرين من رواد ما بعد الحداثة مثل (فوكو)،(دريدا)، (محمد أركون)، ومن الجدير بذكره؛ في عام 1995 قضت محكمة استئناف القاهرة باعتبار (نصر حامد أبو زيد) مرتدا عن الإسلام والتفريق بينه وبين زوجته السيدة (ابتهال يونس) وذلك لأنه لا يجوز لها كمسلمة الزواج من كافر حيث اعتبرت هيئة المحكمة كتابات المذكور أهانه للعقيدة الإسلامية. (إن اله العولمة قادر على إعادة إنتاج نفسه في أشكال وصيغ وملامح لا تخلو من جاذبية- أبو زيد[8])، و(هاجت الأرض من شرقها إلى غربها وانتفضت كل الهيئات والمنظمات العالمية والعربية والمصرية المعنية والغير معنية وكل القيادات العلمانية الليبرالية، والاشتراكية مع كل القوى التقدمية التعبوية الراديكالية ذات الرؤى المشتركة نحو هدف نهوضي توحدي ثابت ضد كل قوى الشر التي تريد أن تعود بهذا الوطن إلى عصور الجاهلية وأطروحاتها المظلمة)، وفي آب لعام 1996 أيدت محكمة النقض بالقاهرة الحكم السابق الصادر من محكمة الاستئناف، وأصبح الحكم لا رجعة فيه، (الرجل ينكر الوجود العيني للملائكة والجن والشياطين والسحر والحسد ويعتبرها مجرد ألفاظ مرتبطة بواقع ثقافي معين (خرافات وأساطير)، واعتبروه كـ(ابن رشد) يدعو إلى اعتبار القرآن الكريم نصاً تاريخيا وينبغي فهم نصوصه في إطارها التاريخي والاجتماعي واتهموه بأنه يدعو الدولة إلى إصدار قوانين تمنع تعدد الزوجات، ويطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة في الطلاق وفي الميراث، (يطالب باعتبار شهادة الرجل تساوي شهادة المرأة)، فالرجل يقرأ فلسفة (ابن عربي) في جوانبها الوجودية والمعرفية، وفق مفاهيم جدلية بماهية النص الديني، ودوره المعرفي، وله تمكن العارف في مفهوم اللغة بمستوياتها المتعددة كوسيط يتجلى عبره النص، كذلك (بن رشد)، (بن عربي) قد كانا من المناصرين للمرأة، وقالا ما قاله (أبو زيد) بين ظاهر الوجود وباطنه، (ويرى ضرورة النفاد من الظاهر الحسي المتعين إلى الباطن الروحي العميق في رحلة تأويلية لا يقوم بها إلا الإنسان لأنه الكون الجامع الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود وحقائق الألوهة في الوقت نفسه)، فالعلاقة علاقة توافق، وتواصل الأفكار بالجدل المفتوح مابين قديمها وحديثها، تستوجب القراءة المتأنية وإعادتها على مدى أيامنا القادمة.


‏‏الأحد‏، 10‏ كانون الأول‏، 2006

[1] الفكر العربي ص 23
[2] فصوص الحكم.. التصدير
[3] نصر حامد أبو زيد- لقاء نشرته جريدة الزمان
[4] ص 163
[5] الكتاب
[6] لثقافة والامبريالية ص 118
الكتاب ص55
[8] ص 23
 Posted by Picasa

٠٨‏/١٢‏/٢٠٠٦

كتاب جديد Posted by Picasa
عنقود الكهرمان لكليزار انور
السرد في المزج والتفريق بين الرجولي والنسوي
عبد الغفار العطوي

ان دأب القاصة علي اختيار عالمها المثالي لايتأرجح بين الامتناع والاستحالة اوبين الميوعة والتصلب لقد نزعت إلي تأطير نظرتها الحالمة بمثالية اخلاقية لان هدفها تغيير العالم ، ففي (شاطئ الضباب)(10) تبدو المثالية اكثر عمقاً من الحب بحيث ترغب (هديل طارق) ان تكمل ما بدأته (هديل عبد السلام) عبر رسائل الغرام المبنية علي تبادل المشاعر القوية مع حبيب مشترك واسم مشترك ولا تألو المرأة الثانية (هديل طارق) جهدا علي تقمص مشاعر الاولي (هديل عبد السلام) التي ذهبت بعيداً مع فارق البناء النفسي لهما حتي ان الثانية تدرك خطورة اللعبة القائمة علي تبادل المواقع بيد انها تستعذب هذه اللعبة لانها فوق مستوي حبها المزيف وفي(نوافذ الذكري)(11) يتجدد المشهد ذاته من جانب الحرص علي العيش المثالي علي الرغم من ظروف الحرب القاسية حيث العيش مع الذكريات عالم يعج بالطفولة والنزهات الطويلة مع (مروان) في الحرب لينجم عن ذلك العالم انتظار طويل وسط الذكريات وتتصاعد المثالية عند قصة (خيط الزمن)(12) حيث يمكننا ان نصفها بنقطة الذروة أذ تتحدث عن امرأتين تعيشان هاجساً واحداً وتتداخلان روحياً حيث تتقمص الواحدة الاخري لتجذبها نحو الموت والاولي واقعية أما الآخري فخيالية (متقمصة) لتلعبا معاً بغياب الآخرين لعبة تبادل الادوار المثالية حتي النهاية . من هنا تجيء تأكيدات القاصة علي المزاوجة بين تفاصيل الواقع ومماحكات المثالية لتعطي لهذا العالم الآخر ملامح اخلاقية ثقافية.ثانياً: اما الخرائط والبيانات والاحصاءات التي سعت القاصة إلي توفيرها لهذا الواقع تنحصر بالنقاط التالية :ــ أــ حرصت القاصة علي دفع جدولة عامة للامكنة تتطابق مع ما هو موجود في عالمنا الحاضر فهي قد خلقت المكان بكامل هيئته ، الشوارع والساحات والبيوت والغرف والنوافذ كما تبسطت في وصف الازمنة بجميع اتجاهاتها السرمدية والآنية والباطنية واعطت الدليل تلو الدليل علي انها تستمد من واقعها الحي معالم لواقعها المثالي لو نظرنا إلي قصة (الفيل)(13) علي سبيل المثال فقد نجحت القاصة في الالمام بحياة السارد !! وهو يصف عواطفه في المكان والزمان والادلة التي يطرحها والبيانات التي يقدمها إلي من يحب ويصف من يحب بمواصفات تفوق الواقع إلي حد المثال بغية اقتناص لحظة وجد واحدة حينما طلب منها الزواج لكن المفاجأة تقع حينما ترفض وتفضل صداقته ليجد هديتها (الفيل) ترمز إلي الفراغ العاطفي هكذا تشاء المصادفة ان يرمق تلك الهدية (الفيل) ليدرك انه لم يكسب سوي حياة جديدة بواقع مغاير سوي حياة الصداقة دون الحب يشوبها الفشل وفي قصة (ذكريات للبيع)(14) يبدو المكالن واضحاً وكذلك الزمان ومعهما الادلة والبيانات . فهناك بائع ومشتر في مكتبة ما في شارع النجفي بالموصل .تحدث بينهما مشادة عاطفية قد كانت من قبل رماداً بقيت ذبالتها حتي بعد ان غادرت (هيام) ذلك المكان وبعض الادلة هي (الكتاب) و(بقايا حب مبعثرة) و(مكتبة) باردة ، لقد قوضت القاصة في هذه القصة عالمها الواقعي من اجل بناء عالمها المثالي بالخرائط والبيانات المتبقية التي لم تتعرض للسرقة او التلف .ب ــ لعل العالم الذي طمحت اليه القاصة منبثق من رؤية حالمة لعالمها الحالي الذي هو خارج المتن لانها في مجمل قصصها لاتتقمص ذات رجل الاقليلاً مقابل (خاصة في قصصها الآخيرة في المجموعة) كأنها ملت حياة النساء او انهت سجالها معهن وانتبهت إلي الرجال انظروا :ــ القصص التي بطلها الرجل (السارد)(15) القصص التي بطلتها امرأة (الساردة)1. الفيل 1. النصف بالنصف 2.امام حمورابي 2. البيت القديم 3.الموعد 3.عنقود الكهرمان 4.ترنيمة اجراس 4.الصروح5.جائزة نوبل 5.علي عجل 6.لوحة الغروب 6.شاطئ الضباب 7.الاعتراف 7.نوافذ الذكري 8.خيط الزمن 9.ذكريات للبيع 10.قضبان من ذهب حيث استطاعت القاصة التفريق بين رؤيتها لعالمها النسوي وعالمها الرجولي علي الرغم من تشابك العالمين واشتراكهما في القضايا ذاتها بيد ان الملاحظ علي العالمين الفوارق البينة التي طبقت كلا منهما علي كونهما عالمين لهما اهتمامهما الخاص ويحظي كل عالم بمناخات وقناعات لايمكن للعالم الآخر ان يوازيه وهذا يعني نجاح (كُليزار أنور) في رسم ملامح العالمين المنفصلين عن بعضهما البعض .ج ــ تنفرد قصة واحدة في هذه المجموعة باسلوب مزج العالمين النسوي والرجولي حيث يتقمص رجل ما شخصية أمرأة والقصة هي (نافذة من القلب)(16) ومع احتفاظ الرجل بجنسه واتقانه لحياة امراة تمسك زاوية في صحيفة محلية (غصون) تخاطب قراءها ليعجب بها رجل ما أيضاً ويقع في حبها ويأتي الصحيفة يسأل عنها ويلح علي مقابلتها ليصطدم بالرجل المتقمص لشخصية (غصون) دون ان يعلم بذلك ، واخيراً يكتشف الحقيقة كون (غصون) من بنات افكار الرجل المتقمص وانها مجرد اسم مستعاريدير زاوية صحفية يطلق عليها (نافذة من القلب). ان هذه المناورة التي افتعلتها القاصة كانت تقصد من ورائها التداخل الانفعالي لعالمها الجديد العالم الذي نكتشف نحن القراء ان لاصلة او تاثير للعواطف علي اختيارات المرء وإلا لماذا اقدم محرر الصحيفة علي انتحال شخصية امرأة (غصون) لكي يغري القراء ويغوي احدهم ليكون ضحية حبها ؟مثلاً؟ .. هي تريد اختراق حاجز الاخفاء المتبادل الذي وضعه الرجل والمرأة عبر تاريخيهما الطويل المشترك ونكتشف المستور في خفايا العلاقة بينهما التي تحدث كل يوم وكل ساعة وتنتهي اما بالفشل او بالنجاح لكن القاصة هنا تؤكد علي عدم بروز الالم او الفرح في صياغة العلاقة مادمنا نتبادل الادوار دوماً ، الرجل والمراة كلاهما يلعب اللعبة نفسها ازاء الآخر سواء في الواقع الحياتي ام في العالم المتخيل . ثالثاً: هناك معايير وضعتها القاصة لانشاء عالمها الآخر تتمثل بنقطتين مهمتين ..أــ لايمكن تغيير قوانين الواقع الخارجي (خارج القص) إلا وفق جهد افتراضي تحاول فيه القاصة بالوصف والسرد والمواعظة والحكمة خلق معادل موضوعي ترتقي به للايحاء بالمبررات التي تختلقها شخصياتها لرفض عالمها الحالي عبر السرد فمثلاً في قصة(قضبان من ذهب)(17) يجب علي (سلوي) أن تتعامل مع وضعين مختلفين وضع الحب مع(ياسر) ووضع الزواج مع(حسام) مع الفارق الشاسع بينهما فيما يخص قبولها بتوجهات مشاعرها وردود فعلي حبيبها وزوجها سلباً ام ايجاباً وكذلك في قصة (الموعد)(18) فتتركز العلاقة بين (وائل) وعالم الاحياء من جهة وحبيبته(أسيل) وعالم الاموات من جهة ثانية بمعادل الشبح الذي هو العلة والمعيار بين عالمي الحياة والموت وأخيراً قصة (ترنيمة اجراس)(19) التي تبدو مطابقة لرؤية القاصة في خلق فرصة اخري للمرء في هذا العالم وتتمركز حول الحب الاول ومدي تأثيره في صنع فرصة أخري للعيش دون اخفاق .ب ــ مالايمكن ان يراه المرء بعيداً عن نقطة وعيه بتلك الرؤية تقوده حتما إلي الضياع ذلك ما تعترف به القاصة وهي تدير مسؤوليتها بصدد لملمة عالمها السردي ومضاهاته بعالمها الواقعي من باب المقارنة في أخر خطواتها اعلانها انفصالها عن عالم الواقع إلي عالم السرد فهي تؤكد عدم المطابقة نوعا ما بين العالمين علي الرغم من وجود المقتربات والمفترقات بينهما علي كل حال تعتمد القاصة علي تبيان ذلك من خلال ايجاد الفرص السانحة لاظهار ذلك التوافق او ذلك التنافر حسب ما تجود به المخيلة ، فمثلاً في (جائزة نوبل)(20) يدرك السارد وهو هنا (كاتب قصة اسمه انمار خالد) ان اول الفوز بجائزة نوبل هو مقدرته علي نشر قصصه اولاً وبعدها الشروع في الحلم حتي يصحو علي حقيقة ما يحلم وكذلك في قصة (لوحة الغروب)(21) فتمثل مقدرة السارد الذي يتحدث في قاربه الموشك علي الغرق وسط البحر عند الغروب في التأمل وصولاً إلي نتيجة واحدة هي انتظار الموت مع تذكره لوجه ابنته (شوق) واخيراً يمكن للشاعر في قصة (الاعتراف)(22) ان يقول ان فشله في الحب قد خلق منه شاعراً مشهوراً هذا الاعتراف المتأخر جداً يبوح به لفتاة كانت أمها هي التي دفعته للشهرة برفضها لحبه وذلك اثناء تغطية الفتاة الصحفية لمقابلة معه .ان الهاجس الخفي الذي يدفع بالشخصيات انفة الذكر نحو التحرك إلي امام بوعي او إلي الخلف بعدم وعي هو الذي استطاعت به القاصة ان تبني واقع السرد الجديد بمعايير الحذاقة والصنعة والانشاء القائم علي الادراك المتاخر بحاجة الانسان إلي خلق عالمه الخيالي المتكامل بنفسه . ان ما ارادته القاصة (كُليزار أنور) في مجموعتها (عنقود الكهرمان) من اقامة تصور عام للعالم المحبب لها قد تخطت به اشكاليات الواقع المأساوي إلي أفق أرحب من ذلك الواقع .حاشية 1ــ عنقود الكهرمان / كُليزار انور ــ مجموعة قصصية ــ دار الشؤون الثقافية العامة/ الطبعة الاولي/ بغداد/ 2006 2ــ عنقود الكهرمان ص/583ــ = = ص/844ــ = = ص/65ــ = = ص/116ــ = = ص/167ــ = = ص/238ــ = = ص/299ــ = = ص/3310ــ = = ص/3711ــ = = ص/4112ــ = = ص/4613ــ = = ص/5014ــ = = ص/55 15ــ = = ص/5816ــ = = ص/6317ــ = = ص/7118ــ = = ص/7619ــ = = ص/7920ــ = = ص/8421ــ = = ص/8322ــ = = ص/88
Azzaman International Newspaper - Issue 2559 - Date 2/12/2006
 Posted by Picasa
مجلة بعقوبة الثقافية Posted by Picasa
نشأةٌ في مكان ما

سميرة المانع
عندما كان التأريخ يُسجل، عندنا، بمدينة البصرة عن طريق سكنى أهلي في البيوت المؤجرة هنا وهناك، لنثبت ولادة أخي أو أختي أو سنة حصول كارثة طبيعية أو إفلاس تاجر نعرفه في تلك الأيام، أسمع نساء البيت يقلن : " حصل هذا عندما كنا في بيت ( جول ) أو ( الزامل ) " أو غير ذلك من أسماء الذين يملكون بيوتاً استأجرناها
منهم في تلك الأثناء. بهذه الدقة المتناهية في الحساب، دربنا على المهارة في معرفة التواريخ وما يتبع ذلك من أمور. في نفس الوقت كنا نسمع والدتنا المحرومة من التعليم لانعدام المدارس للبنات وتقاليد عدم الخروج من البيت للفتاة، تتحسر مراراً كلما رأت كتاباً أو أرادت فتح رسالة أو قراءة قائمة حساب. تلوم والدها المتوفى من زمان، على حالتها. أمّا هو فكان المجتهد على الدوام، كما يبدو، كي يرضي فلاناً أو علاناً من معارفه، مراعيا شعورهم، خوفا من انتقاده في حالة ابتعاده عن تقاليد يحسب لها ألف حساب.أجيء من المدرسة، مسرعةً، حاملة حقيبتي، أفض كتاب القراءة للصف الثاني الابتدائي، أعثر على الدرس الأخير الذي وصلنا إليه، وتعلمناه ذلك اليوم، أقرأه لأمي كي اؤنسها. أقرأ قصة : ( الخروف العنيد). كنتُ أريد مشاطرتها في الدراسة والمعلومات. يطربني الحبور الذي يكتسي وجهها به. الفرح المتنامي في الإصغاء، لا تعادله من بعد،ُ نشوة أي إطراء يصلني من ناقد. أثناءها كنت في ناحية الزبير بمدينة البصرة وأصوات مدافع الحرب العالمية الثانية ترن أصداؤها على شكل قحط في بعض المواد الغذائية كالسكر الأسمر في نظام التموين أو هل سنستعمل دبس التمر في الشاي. يدور نقاش حار أحيانا على خلو الأسواق من بعض المواد الغذائية، متذكرين خصوصاً افتقاد السكر الأبيض الناصع وكأنه قضية مهمة من قضايا الساعة، مهملين أسباب قيام الحرب، كي نأخذ العبرة والدرس منها للاحتياط. لم نعرف ببطرنا، أن الحرب ستتقدم نحونا كعقرب، ساعية لعقابنا على الإهمال، إلا حين وصلنا الربع الأخير من القرن العشرين. أوقدها طاغية منا، جاء على غفلة من بيننا، بتصرفاته الحمقاء. جاءت من دون علمنا كشعب، وشاهدنا نتائجها على شكل عناقيد قنابل وكمثرى صواريخ وبودرة مواد كيماوية حارقة. لم يكن يخطر التنبؤ بوقوعها ببالنا أو كانت بالحسبان. كل شيء معلق ومتروك للحظ والنصيب قبل ذلك، بقول معروف يتردد كل صباح على لسان مربيتي (فطومة) حين تزيح فوطتها من على صدرها مخاطبة السماء بـ" يا فتاح يا رزاق يا مقسم الأرزاق " مكتفية بذلك. الآن، وأنا أكتب هذه السطور، أتساءل كيف سيتحقق الأمر لها وتُرزق بإنصاف. ليس للمسكينة أية وسيلة معيشية أخرى للوصول إلى ذلك سوى تربيتنا، ولا أعتقد أن هناك أملاً كبيرا عدا ملء بطنها بالطعام مع كسوة واحدة لها في الصيف وأخرى في الشتاء. العادة المتبعة آنئذ، في ألا تكون الأجور نقداً للعامل أو العاملة في البيوت. يقبلون بها من فرط الجوع وانعدام فرص الرزق في المعاش. يتصورانني نائمة تحت اللحاف، كحال أختي وأخي الصغير النائمين قربي. كنتُ اسمع صوت غنائهما معاً، حول موقد الفحم في الشتاء . والدتي ومربيتي فطومة، جالستان تتعللان والليل البهيم المظلم في الخارج حالك، بينما في تلك الغرفة، ينبعث من اللمبة النفطية نور أشقر . أحياناً، تروي لنا إحداهما، أثناء الحديث في مجرى ذكرياتها عن الماضي، كيف امتعض وغضب بعض أفرادٍ من ناحية الزبـير، بعد الحرب العالمية الأولى ، بسبب إنارة شوارعهم بالمصابيح المضاءة ليلاً. كسر صبيانهم المصابيح المعلقة، فوراً، بالحصى والنباطات و المصائد. قضوا على الفكرة وهي في مهدها، كي لا يغير المستعمر البريطاني من طريقة وأسلوب نظام حياتهم المعتادين عليه، مفضلين العتمة. والدتي ومربيتي فطومة، معي الآن، قريبتان مني وبعيدتان عن الرجال جميعاً ، بضمنهم والدي الذي كان موظفا في دائرة الكمارك بالبصرة . يتطلب عمله التنقل بأمكنة كثيرة على الحدود. الأغنيات التي تصلني منهما، وهما جالستان حول النار، أسمعها برقة صوتيهما معا، تبعاً لانتشارها الشفاهي بين أبناء العراق عموما، إذ لا مذياع ولا وسيلة أخرى قادرة على نقلها سوى أصوات البشر العاديين. تصل إليهما، بقدرة قادر، وكأنها رسول مستعجل يسافر في الريح من دون بساط سحري:" جا ( كون) مالي واليبويه اسم الله متعذبة بدنيايجا مالي والي بطة وصطدتنيبويه اسم الله بين الجرف والمايبطة وصطدتني يالـ ما ردتنيبويه اسم الله تكسر جناحيليش يالـ ما ردتنيهذا الشجن بالظلم، لم أكن أفهمه، يصلني عن طريق الأغنية بشكل لطيف. أنا سعيدة، راضية، مطمئنة، عيناي تُغمضان بهدوء تدريجي في مكاني الدافئ.كانت مفاجأة أن أرى مع أخوتي بالزبـير، التي تبعد عن البصرة 14 ميلاً، اسماءنا مسجلة مع تواريخ أعياد ميلادنا باليوم والشهر والسنة على حائط بيتنا بخط والدنا الغائب. أصبح الحائط، بالنسبة لنا منذ ذلك اليوم، لوحة أثرية طينية من ألواح مكتبة بانيبال . هذا الحائط الصامت أفادنا كثيراً ،كفانا وقتها الإلحاح في السؤال والتحري من الوالدة في أي بيت ولد كل واحد منا. طيلة دراستي الابتدائية في تلك الناحية استجمعتْ الحياة تناقضاتها وتنوعها، فبمجرد قطع مسافة قصيرة وفي ظرف ربع ساعة فقط، نصل مبتعدين من فضاء عري الصحراء وجفافها، ، إلى غابة نخيل باسقة تزنر مدينة البصرة حيث مسقط رأسي. سرعان ما يبدأ المناخ بالنعومة والاسترخاء بمجرد الدخول في حيزها، منتقليـن إلى عالم أخضر لا علاقة له بدنيانا السابقة. دلتا مياه فياضة، سهولة زراعة في تربة غرينية من دون جهد أو عناء. تصبح آية " لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها " تمارس فعلاً بارتياح تام . التنوع السكاني، في تلك الأيام، بمدينة البصرة نعمة وثراء، حيث اختلاف الأهالي بالملابس والسحنات والتقاليد الدينية حدث ولا حرج. الجميع مقبول ومعقول ومحترم. نادرا ما سمعتُ، طيلة وجودي فيها، نزاعاً حاداً بصوت عالٍ في الشارع، ناهيك عن حوادث الجرائم الكبرى.أنا لا أزال بالابتدائية حين صرتُ أدور كالفرجال جغرافيا بالأنحاء عن طريق كتب ومجلات ملونة. يجلبها والدي معه من عمله عند رجوعه إلينا. هي إحدى وسائل تسليته، على ما يبدو، عندما يكون بعيداً عنا، وحيداً. يتركها في البيت كي نسارع _ نحن أبناءه_ ممن تعلم القراءة الآن، لاختطافها. نلتهمها كحلويات لذيذة نادرة الطعم. معظمها مجلات مصرية تتحدث عما يحدث في معظم بقاع الأرض عندما كانت مصر الرئة الوحيدة للتنفس في المنطقة العربية كلها. الفن المصري، غناء وموسيقى وأفلام، يُسهر من أجله في الليالي و يُسافر نحوه بالطائرات. بينما يكتب توفيق الحكيم (عودة الروح ) بأنامله، دون ضوضاء أو شعوذة، نموذجاً في الصدق الابداعي الروائي.ناحية (الزبـير) هامة البصرة الصحراوية كصلعة في الرأس. بيوتها، في الغالب، بناؤها واطئ وحيطانها من اللَبن . يتحرش الشتاء العراقي بها ، مغازلاً ومداعبا أولاً، ببضع نسيمات لينات كل عام. تصده بدلال غانية تخـفي عظامها اليابسة خجلاً، قبل أن يأتيها غازياً بعد انتهاء الخريف، فتتلقفه بشوق العشيقات. موسم الشتاء هناك، مع سطوع الشمس المبّهر، يتيح للسكان غفران سموم الريح اللاهبة أثناء غضب صيف الصحراء. يبقى الشتاء ذهباً خالصاً للاستمتاع به لفترة وجيزة، حوالي ثلاثة شهور. علاوة على ذلك، يسقط مطر قليل، يبتسم الزبـير الأملح له، محييا،ً بأسنان بيض متألقة في وجهه الأسمر الطيب . تمتلئ مساحات البراري بعد ذلك، بسجاجيد ملايين الزهر المنمنم المنقوش بألوان بنفسجية وصفراء وبيضاء على مدى البصر. أشجار الثيل المتربة في الصيف والعاقول الشوكي العدائي،يتغيران. وهما النوعان، من النبات، المسموح لهما بالنمو في تلك الطبيعة الخشنة. يمتلئان ثقة بالنفس نتيجة الصحة والعافية، متلونين بالأخضر الغامق . تفد عليهما زرافات زرافات من أبناء مركز مدينة البصرة الرطبة كالتمرة الناضجة الحلوة، تائقين لرؤية التغيير المدهش الذي حصل في البقعة المالحة. سيارات قادمة إلى ناحية الزبـير مبتهجة، محمّلة بما لذ وطاب للمشتى الخام العفوي، الخالي من الرتوش أو الصناعة، بعيداً عن التجارة والاستغلال بمفاتنه من أجل جلب الزبائن إليه. أشجار الثيل المهجورة سابقاً تصبح ملاذاً لقوارير وأباريق، سجاجيد ورائحة قهوة ومتاعاً للزوار. نرى السيارات خاطفة أمام بيتنا، أحيانا، فنعرف أنهم على موعد مع اللهو والأكل والغناء أو ما يُطلق عليه هناك بنـزهة ( الكشته) . آثارها تبقى لفترة طويلة على شكل أثافي ورماد اسود لمواقد أقيمت على عجل من قبل أصحابها ، منتشرة مبعثرة في الأنحاء قبل أن يتركوها كبدوٍ رحّل. كثرة انتشار فرق الغناء العديدة بالبصرة، من البيض والزنج، غالبية المغنين فيها من النساء تدل على الذوق والمزاج في حب الطرب والأنس لدرجة بات يستعمل الغناء كوظيفة تأتي بالرزق والشهرة. هناك نزهة أخرى بالبصرة شبيهة بالأولى تسمى بـ( الكسلة)، كلتاهما تقام سنوياً، لكن الأخيرة ميدانها الماء بدل الرمل، تقام في منتصف شط العرب، في قوارب للرقص على صوت (الدنابك) العالية النبرة، السريعة الإيقاع، منتهزين عيد النوروز المحتفى به ربيعياً عند الأكراد و بإيران. لا يفوت البصرة اقتناصه بدل إهماله. إن تنوعها السكاني ضم في أطيافه حبّاً للفن على أنواعه، وكأنها تعرف بالفطرة أن الفن وحده قادر كي يوحد قلوب شعوب الأرض جميعا. لا عجب أن برز فيها، بعد الحرب العالمية الثانية، أهم رواد الشعر الحديث بالبلاد العربية. بدلاً من أن يبرز من بين ابنائها وزراء أو رؤساء سياسيين من دعاة سلطة . الصراع على الكراسي والحكم قليل فيها. إذ يتعارض مع طبيعتها المرنة السمحاء الزاهدة في كثير من الأمور. نادراً ما كانت تهمها السياسة من أجل التنافس على المناصب، كما ظهر ذلك جلياً للعيان في مجرى تأريخ السياسة العراقية المعاصرة مؤخراً وفي قائمة أسماء الوزراء والحكام الطويلة العريضة . الشيء اللافت للنظر أيضاً أنها خلاف معظم مدن العراق، لم يكن بها نظام إقطاعيّ قاسٍ صارم يظلم الفلاح. كما هو موجود في أغلب المدن هناك. كان مالك الأرض والفلاح فيها متفاهمين عموما. يتقاسمان رزق محصول البساتين المثمرة بطريقة فيها شيء من العدالة والمودة والإخاء. نداء (خويه) أي أخي (مصغراً) يتردد أثناء الحوار بينهما. لإكمال دراستي الثانوية وصلنا إلى ما وصلنا إليه أخيراً. عدنا للبصرة مرة أخرى. صار كبيرنا يتحدث بأشياء تثيرنا وتخيفنا. الأخ الثاني قبضت عليه الشرطة وهو يكتب على الحائط عبارات تحرمها السلطة. نسمع ونقرأ نثرا وشعراً حول أمور تُصلح، تهدد، تحلم. عاقبتها صارت وخيمة بعد فوات الآوان. ما بين حكومة لا زالت طريّة العود في بداية الحكم الوطني، بطيئة في الإصلاح الذي يريده البعض جذرياً، وبين شباب فاقد الصبر للوصول إلى مبتغاه بسرعة. ساسة لا زال يعشش برأسها اسلوب معاملة حكم ( العصملي) أي العثماني، حيث الظلم شئ بسيط يمارسه الحاكم حسب رغبته وكيفما يشاء ، وعهد محاسبة ورغبة عند الشعب، من الصميم، كي يعيش العصر الحديث. تُطوى تلك الصفحة والابتداء بالإصلاحات بخطوات واسعة مضمونة مدروسة. شدّ وجّر، غباء وحماقات، سجون وأحكام، فصل من الوظيفة للبعض وشعور بالإحباط. لماذا هذا التلكؤ في السير، متى نصل للهدف رأساً؟ حتام الانتظار؟! انظروا ما وصلت إليه بعض البلدان، نريد شيئا مثلها وبسرعة خاطفة، رغم ما لدينا من عوائق وقلة إبصار.من جميع المعلومات التي وصلت إلينا عن طريق المذياع، الذي اقتنيناه الآن، إلى الصحف والمجلات التي نقرأها باستمرار، بالإضافة إلى الكتب والمجلدات، عجزنا عن مجادلة والدتي يوما. والدة محرومة من التعليم حُكم عليها بالبقاء في الظلمة كسجن مؤبد، أخرست نقاشاتنا يوما. قصة والدها نعرفها من قبل، سبق أن ذكرتها لنا. ذاك الذي خرج مع أعيان البصرة، كما روتْ لنا سابقاً، محتجين على دخول بريطانيا للعراق سنة 1914. أجمعوا كلهم على كلمة واحدة لإيصال الاحتجاج الشديد بأنفسهم، ذاهبين إلى منطقة الفاو حيث الخليج وهو يبعد أربع ساعات بالسيارة. هناك، كما عرفوا، ستنـزل السفن الحربية البريطانية حمولتها لتستولي على العراق كله. كانوا غاضبين، ملتهبين بالحماس ، نفوسهم كالحديد الذي يُصلى بالأفران. يجب إيقاف السفن من أجل الدفاع عن الدولة العثمانية.إنها دولة إسلامية وهم معها كيفما كانوا أو كانت وبأي مكان. بعد أربعة أيام عادوا لبيوتهم وكانوا حفاة الأقدام . ماذا جرى ؟ إنهم لم يتمكنوا من صدّ عدوهم، يا للخيبة. كان عمرها في الحادية عشرة. رأت دخول البريطانيين للعراق بشكل ملموس. تحسستْ ما دار في القلوب والأفواه. الآن تريد أن تدير الحديث معنا، نحن أبناءها، لقد صمتت بما فيه الكفاية، نفد صبرها . كانت تتصور أننا متعلمون وقد ختمنا الدرس . شبه مستغربة من الضجة التي نقيمها ولا نعرف كيف نقعدها. نحن لأول مرة نشعر بسوء التفاهم معها، قالتْ : " أنا لا أفهمكم، ألم تُفتحْ أول مدرسة لتعليم البنات بالبصرة بعد دخول بريطانيا للعراق؟! حُرمتُ من الانضمام إليها، كما أخبرتكم، كوني قد بلغت الثالثة عشرة من عمري فحكم والدي عليّ أن أتهيأ للزواج. استفادت أختاي الأصغر مني سناً ،لحسن الحظ. ما رأيكم بذلك ؟ أكثر من هذا، صار أبي ينام ليله هانئاً بعد أن خاف منه الرجال المجرمون وكفواّ عن طرق بابنا بما يسمى( دكاكة )، اولئك الذين يدقون أبواب بيوت الناس النائمة، بعددهم الذي يقارب الأربعين، مسلحين كزبانية لكبار المتنفذين الأشرار بالبصرة، من أجل أن يأخذوا عنوةً النقود، من معظم الملاكين الصغار كوالدي، بعد موسم قطاف الثمرة وعادة ما يكون في الخريف. يزوروننا ليلاً مهددين أبي ، ليأخذوا حلاله بعد أن يكون الفلاح سلمه حصته من بيع ثمرة البستان. يحدسون متأكدين أن مبلغ النقود المستوفاة صارت عنده بالدار." لا جدوى من نقاشاتنا وجدلنا معها.أوراقنا لا تكفي ولا تقنعها. تمسك الحياة بقبضتها الحارة من تجربتها الشخصية وحدها، تقلبها وتثنيها بيدها المعروقة. لم تتعلم مثلنا أن تتحدث عن شئ لم يحصل ولم تره. كما لا تستطيع ، وقد استمعت كثيرا لنا حتى بلغت من الكبر عتياً، أن لا تقول كلاماً صريحاً من دون لف أو دوران. تطرح أفكارها أمامنا ببساطة فلاح. تبحث عن النتائج والجودة في المحصول، لا يهمها ما تقوله الأفواه. أردفتْ عندما وجدت صمتنا زاد عن سابق عهده قائلة : " وما رأيكم بالجسور من جذوع النخيل هناك، هل أنساها أيضاً تُرى. ما أكثر ما سقطنا من عليها إلى قاع الأنهار. ذهب الكثير منا غرقاً في قريتي السراجي ومهيجران وغيرهما من القرى المنتشرة في قضاء (ابو الخصيب) المملوء بالجداول والترع، كما تعرفون. تنفس الآباء والأمهات الصعداء عندما وجد الأهالي أن أفرادا من الجيش البريطاني شرع في بناء الجسور الحديدية القوية الصلدة بدلاً من جذوع النخيل المستخدمة في السابق من أجل عبور الأنهار.لم يعد خوفهم على أولادهم من الغرق، أثناء غيابهم، الشغل الشاغل لهم سواء في الليل أو أثناء النهار ."كلام خطير من الوالدة، ما هي التهم التي ستُقذف بها. عميلة على ما أتصور! احتج البعض منا وكان نفَسُه طويلا، ولو لم تكن المتكلمة أمه لخلته يحد أسنانه : " ولكن هذه لمصلحتهم هم، لمصلحة الاستعمار، من أجل فائدة الجيش البريطاني نفسه، هل نسيتِ هذا ؟!". " طيب، ليكن، ولكن هل أخذوا الجسور معهم إلى بريطانيا، لقد بقيتْ في مكانها، إذا استفادوا منها فنحن لا نقل عنهم استفادة . ابتداء من التعليم إلى الجسور المتينة، إلى أشياء وأشياء. نتعامل بالمقاضاة"صفن الجميع أثناء كلامها. كم ستكسد من تجارة، تفشل أحزاب، تهبط شهرة أشخاص، لو اكتفى البعض بما ذكرته الأم فقط. كانت تقول ضمناً إن أهم ما يحتاج إليه المرء في هذه الحياة هو الأمان، الماء والطعام والحرية. مسألة فيها نظر على ما أظن . ستبقى السيوف والخناجر على الخواصر، القنابل والدبابات في المخازن والمعامل، يحتفظ بها من يتحجج أنها وسائله للدفاع عن نفسه، إذا اقتضت الحاجة، من أجل القومية ، الدين ، الجنس وحتى الطائفة واللون. لا يذكر الحاجات الأخرى، بل يتناساها. لكنها لم تشر إلى أن هذه المسألة مستمرة منذ أن دوّن تأريخ الأمم إلى الوقت الحاضر. كم من مآسٍ جرتْ باسمها في تأريخ البشرية القاسي المؤلم الحافل بالآلام والدماء. لم يسأل أحدٌ نفسه، إلا نادراً، هل إذا جاء فرد يتشابه معه بالقومية بالدين او اللون ، سيوفر له النقص في الحاجات الأساسية أو يعامله بالمثل التي يريدها لنفسه فعلاً، أم أن الأمر لا يعدو سوى أكذوبة وخديعة كبرى ؟ هل القومية كافية ؟ هل الدين أكثر دفاعا عنه، أم الجنس، أم الطائفة أم اللون على سبيل المثال. المسألة كلها فيها نظر باعتقادي مرة أخرى وبالخصوص الآن . التجربة التي مرت بنا مؤخرا وتحسسناها بأنفسنا قبل مدة قصيرة تغنينا عن البيان. نكتفي في رؤية المقابر الجماعية و سجون صدام حسين وحرقه للشعب بالقنابل الكيمياوية، بجانب قصوره المرفهة الباذخه لنفسه عندما حكم العراق .ظلت العيون متعلقة بالوالدة متحدثة على هواها، مكتشفين ذرات الغباء المتطاير من ألفاظنا السابقة هنا وهناك، لا نريد أن نعترف بفشلنا في أدويتنا التي أُعطيت لنا، على الرغم من علمنا أن لا جدوى منها للشفاء. قالت أخيراً بعطف، واعية لإصغائنا وصمتنا التام :" لم ينجُ ( يعيكيب) - تصغير لاسم يعقوب والمدينة مغرمة بتصغير أسماء الأشخاص فيها تدليلاً وتحبباً- لقد غرق بعد أن زلتْ قدمه من على جذع النخلة المحسوبة جسراً.لم يستطع أحد إنقاذه. راحَ ، راحَ، ذهبَ مع المدّة (ظاهرة المد والجزر بالبصرة).تعني ذهب مع مياه النهر حيث كان فيه ارتفاع مدّ عالٍ قبل أن يعود إليه الجزر فينخفض مستواه، كما هي الحالة المعروف حصولها، كظاهرة طبيعية، يومياً في أنهار وجداولمدينة البصرة.
 Posted by Picasa

صلاح الدين وابن خلدون ومحمد عبده وهشام شرابي الاهتداء واستعادة التوازن
علي زيعور
إلى ذكرى هشام شرابي تبسيطة تلخيصية لتحليلات كانت نوعاً من المعاينة النفسية العيادية توضع للتمرين في قسم الدراسات العليا. والمراد هو أن تلك المعاينات كانت تشخص ظاهرة لا واعية، ولربما تكون أحياناً مصطنعة أو فعل وعي وإرادة مريدة، عند المفكر الواحد، أو الشخصية الواحدة، وضمن غضون العاطفة أو الموقف إزاء الشيء (الفكرة الشأنية) عينه. وتلك الظاهرة النفسية الاجتماعية التي هي الانتقال من النقيض الى النقيض ليست غير سوية... ليست مرضية، ولا تحدث قطيعة نهائية حاسمة داخل الفكر الواحد للشخصية الواحدة عينها. اخترنا، أدناه، عينة من الشخصيات التي مرت بأزمة الاهتداء (Conversion) الذي يحصل بعد الوقوع في مرض نفسي (غصاب/ Neurosis) وتفكيرات مديدة اختمارية أو غير واعية. فيما يلي الاهتداء والعصاب، ثم استعادة التوازن النفسي، عند: صلاح الدين ثم ابن خلدون؛ ثم عند: محمد عبده (من التنويرانية الأولى أو النهضة)، و... هشام شرابي (من التنويرانية الثانية، أو الراهنة) الذي هو البطل المقصود. 1 كانت فعالة ونافعة القراءة العيادية للخطاب الفلسفي، أو القراءة التحليلنفسية للشخصيات، للوعي والسلوك عند <أهل البرهان> داخل الفكر العربي الإسلامي، ثم العربي العثماني، ثم العربي الفارسي فالمعاصر: كانت فعالة بتقديمها أنواراً سطّعت المعرفة، ووسعت النظر الى المدى، والغوص في الغوريات والتضاريس والتلافيف... كما كانت نافعة هذه القراءة النفسانية حتى وإن بدت ملطخة حيناً، أو جارحة حيناً آخر؛ وذلك لأن الإدراك أو المنهج <السلبي> (!) ليس هو وحده المراد؛ ولا هو أساسي، أو مسيء، أو غير لائق، بقدر ما أنه إدراك للجانب الآخر، المعتم والظلي، المنسي واللامفصوح، وكشف للثاوي والغائر، للبور والمطمور أو المطرود والمتضمن... تنهض قراءة <موسعة التحليل النفسي الإناسي الألسني للذات العربية> (15 جزءاً) تفحصية من جهة؛ ومن جهة أخرى، هي إشفائية تعالج بالطرائق والرؤية النفسانية: تشخص تحليلاتها السوي واللاسوي معاً، المعافى والمرضي، الجارح والمنجرح... وتعالج تلك القراءة التجربة المطروحة أمام المتفحص المحلل سواء أكانت تجربة عيادية أو نصاً، خطاباً أو مجتمعاً، فكراً أو سلوكاً، حلماً أو مجرد <عقدة> نفسية، عصاباً أو شبه اضطراب لغوي، وجنوحاً أو قسريات أو قطاعاً إناسياً... أما طرائق العلاج، للحضارة أو للمعنى، وللإنسان أو المجتمع أو الفكر، فقد تتنوع بتنوع الحالة أو الشخصية المحللة: الاستشراق، الأصولانية، الحرفانية في التفسير والفهم، السلوكات والمعتقدات والأفكار المنمطة ناقصة وسيئة التكيف الحضاري، الظواهر والمواقف السلبية عند العربي وعند <الغربي> من الذات والنحناوية والتراث، أو من المعاصرة والحداثة والتنويرانية الراهنة... 2 من السوي، بل ومن المندوب والواجب، أن نقدم كشاهد، أو كعينة من تلك التشخيصات والعلاجات التي هي عبارة عن إعادة إدراك أو تعلم أو تعضية، التحليل النفسي الذي أعاد صياغة شخصية وأفكار ابن سينا أو ابن رشد، ديكارت أو فرويد نفسه، أو لاكان أشهر الفرويديين ثم أشهر المتراجعين عن الفرويدية الى البلاغيات والتصوف بل والى يونغ المنشق عن فرويد باكرا. يلي تلك المعرفة نقد وتقبّل ومحاكمة. فعمل المحلل النفسي على تشخيص أمراض الاجتهاد أو الخطاب، وعلى أمراض الاستشراق أو انجراحات المركزانية الغربية، الأصولانية، أو العدمانية والقتل الرمزي للآخر الداخلي كما الخارجي، لم يقل قط إن الأصولانية هذه أو الاستشراق هذا حالة يائسة أو بلا معنى، أو يقطع معها وتلغى، تهدم وتعدم... ولا غرو، فالعمل المعرفي هو إدراك، ثم تشخيص، فطرح نظر في العلاج مبتغاه إعادة الضبط أو التسمية وإعادة التأهيل والتثمير. صلاح الدين نكتشف في السيرة التعاملية لصلاح الدين، السابقة على تحوله الى بطل في المسامحة والصفحية حيال المقاتلين الفرنجة، قسوة مفرطة تجاه من حاربهم في الداخل. هذه الثنائية المتكافئة في الشخصية عند صلاح الدين توضحت وتعمقت بفعل أوالية الانزياح، أوالية التراجع الى ما كان مطموراً مختمراً ولا واعياً خرج الى العلني والوضوح بعد الشفاء من مرض كاد أن يكون قاتلاً. (راجع: إشارة التحول، الاهتداء أو التراجع بحسب علم البطولة والخلاص). إن انتقال صلاح الدين الى <حياة> جديدة، الى معنى جديد وقيم صوفية، يفسر بمثابة إعادة ضبط لشخصية، وإعادة الفهم للوجود والإيمان والتواصلية. ذلك الفهم المستجد، وهو مرن ومنفتح واقتبالية، لم يتوقد في التأرخة والمحاكمة المعاصرتين عند من انتقد أو قاضى ذلك البطل الشعبي. فالمؤيدون والمتشككون لم يستطيعوا، ودائماً بحسب القراءة التحليلنفسية، <التحرر> من المسبق والجاهز، من الرؤية المستبدة الأحادية والقراءة المتعصبة، من سببية اللاواعي والغوري والظلي. حالة ابن خلدون: الدفاعي والقسريات كان سديداً ونافعاً ذا مردودية <اكتشاف> الأواليات اللاواعية التي حكمت شخصية ابن خلدون وفكره، أي سلوكه ووعيه أو علائقيته وقسرياته... فأوالية الانسحاب، أو الفرار من الواقع، عند ابن خلدون قد طوته على نفسه كي يعيد ضبطها ومراقبتها إن مع ذاتها أم في فضائها، ولا سيما مع انجراحاتها وتمأزقاتها التي شرخت توازنيته، أو استقراره النفسي وصحته العصابية بعد غرق ولديه وزوجته. لقد كان انعزال ابن خلدون دليلاً على إصابته باضطراب في الشخصية، أو على اكتتاب يسمى <فقدان العزيز> يدوم، بحسب التحليلات المتابعة المراقبة، ستة أشهر. وتلك هي تماماً المدة التي أغرقت ابن خلدون في الانعزال والانقطاع المرضي. تفسر الخلوة، ذلك الهروب من الناس أو الانكفاء والانطواء، بأنها تجربة قحط في الشخصية، أو حالة جدب ومحل وجفاف، أو تعبير عن انجراح أو مأزومية نفسية اجتماعية في الفرد أو المجتمع، وفي الوجدان والمعنى والانفعال... وتقول بذلك التفسير الحكايا والحلميات وسائر قطاعات الإناسة...، وتكون تلك المرحلة، ودائما بحسب التحليل النفسي والأنثروبولوجيا (الإناسة) والتصوف والشعر، تمهيداً للتحول، للانتقال الى معنى جديد، الى حياة مختلفة، وفهم آخر للوجود والقيمة والسؤال. وظف ابن خلدون اختلاءه الى نفسه، في قطعة منقطة منعزلة، توظيفاً آتى فعالاً وإسهامياً، منتجاً ومدخراً... وكان ذلك الانقطاع، من حيث معناه المطمور اللامفكر فيه أو الغوري واللاواعي، منتوج عمل الحداد. فهنا تتفسر الخلوة، وبالتالي ثمرتها أي المقدمة أو ما الى ذلك، بأنها عمل التعزية الذاتية: لقد كانت تغطية لحزن، ورداً على فجيعة خلخلت سوائية الشخصية... كان خوفه العصابي من الوحدة، من خسارة العزيز، خوفاً من الفناء رد عليه ابن خلدون بالهرب الى التدين والغرق في التصوف والتألم النفسي الصامت على المفقود... لقد كانت تجري كنشاط لا واعد وعمل اختماري، عمليات إعادة بناء الشخصية والحقل والتكيف. ولم تكن أوالية التناسي وغسل العذاب ومحوه لتدوم أكثر مما دامت. لكنها لا تزال شاهداً على أن تلك الشخصية المبدعة النرجسية لم تكن قط انطوائية النمط، ولا كانت كثيرة الاتساق بين ما ينقال وما لا ينقال، بين الواقع والسلوك، بين الأنا الصميمية والأنا المتكلمة الاجتماعية، بين الأنالممارسة والأنا التي تسرد (الساردة). حالة محمد عبده التحولات في شخصية م. عبده كثيرة بل لافتة تجذب إليها التفكير كما المحلل. ولا غرو، فقد حكمت خطابه أواليات التكوين العكسي، وشطرنة الموضوع وشطرنة الأنا، والاهتداء الى المعرفة والتصوف، والتراجع الى الضد، وتكرار الانسحاب، ونكران الواقع... كما يبدو أن تلك الشخصية الطلقة المتقبلة، المتأرجحة بين قطبي الإدراك الواحد أو الموقف الواحد والعاطفة الواحدة، لم تكن بغير توجيه عميق للفكر، والمحاكمة، وإدراك المشكلات، وطرح الحلول والفتاوى الاستجدادية. يدرك ويفسر المحلل اضطرابات المواقف وصراع المتناقضين أو صراع المتكافئات، داخل الشخصية؛ وقد يقال إن عكس ذلك صحيح، أي إن اضطرابات داخل الفكر تعني اضطرابات داخل الشخصية... الأنا، في تلك الشخصية، شديدة الاعتماد على سلسلة من الدفاعات. إن تعقب انجراحات الوعي والسلوك في شخصية محمد عبده يوقف المتحري ملياً عند أوالية التراجع، أي في المحطة الإحجامية المهادنة: هذا <التحول> النفسي الاجتماعي يتكافأ مع تحول نفسي هو أزمة، أو قحط وصقيع في الشخصية، أو هو خوف عصابي من الاقتحام والتحمل، من الاصطبار والمجابهة والمباشرية العقلانية. ب كان ذلك التراجع وسيلة دفاعية وحصنا، وأسلوبا في الاحتماء والاطمئنان، وطريقة في استعادة التوكيد الذاتي وبلسمة <مرضه النفسي>. لقد أعاد عبده ضبط شخصيته وصياغتها أو تعضيتها وتنظيمها مرات عديدة. وينكشف، أمام الفاحص لتلك الأوالية العطوبة الناقصة، أشهر وأبرز الأواليات التي اعتمدها عبده في مرحلة ما قبل الرشد والنجاح في سبيل حل مشكلاته، ومن أجل السيطرة على الواقع وعلى الذات، ومن أجل مشاعره بالذنب حيال علائقيته مع أبيه وأخيه الأكبر، و... حتى مع أمه (را: عقدة قتل الأب). ما معنى ذلك التراجع المتكرر القسري أمام العقبات؟ أمام مطالب الأب، أو إرادة الأخ الأكبر، أو رغبة الأهل بأن ينفذ ما يرغبونه له أن يكون ويفعل...؟ كان يتغطى، ويتظاهر أنه ينفذ ما يشاء منه الوالد؛ كان يفعل ما لا يقول، ولا يقول ما يفعل. كان، مرارا، يكشف طاعة وانضباطا وإقداما ويخفي مرامه ومقصوده وإحجاماته (را: التسميات التقنية النفسية والعصابية، وحتى العوامية الشعبية، لتلك <الحالة). ت التحليل النفسي لخطاب الإمام عبده، ولمطموراته وغورياته، يلتقط بتحرياته وتعقباته تحوله بعد إشارة غيبية من حياة ماجنة أو لذيذة الى حياة روحية، الى الصوف (را: زيعور، الخطاب الفلسفي والتربوي عند محمد عبده...، ص ص 53 58). صورة في كتاب شرابي ورد هشام شرابي في <ذكريات الوعي الجامعي...> (بيروت، الدار العالمية، 2001) مرات عديدة؛ ومنها أيضا ما ورد في جزء لاحق من <ذكريات العقل الجامعي العربي في خمسين عاماً>. احتفظت له بامتنان نجم عن إيراده لصورة شمسية يظهر فيها شرابي نفسه ومخطوبان زادت الأيام شهرتهما، ولربما ابتعادهما عن البطل المؤسس وعن الدافع لالتقاط الصورة المذكورة. المخطوبان الآنذاكيان هما أدونيس الذي نفهمه اليوم على نحو لم يكن فيه في ذلك الإبان: كان يبتسم، وينظر الى خطيبته برضى واعتزاز أو بنوايا ومشاعر أخرى مماثلة وغير مماثلة، بادية ومحجوبة متضمنة. وكنا أكثر من عشرة زملاء من كلية الآداب (الفرع الأول) وبرفقتنا العميد؛ وكان هذا يتبطلن ويتنرجس حتى حينما لا يكون لذلك <سبب وجيه>، في زيارة للسيدة خالدة سعيد. سألتها عن الصورة، ومشيرا الى أن القراءة النفسانية تشخص استكبارها على خطيبها، أو عدم إقبال، أو حذر، أو ندم... وكان جوابها مقنعا؛ فقد كان والدها غير كثير الرضى، غير استعجالي حتى لا يقال إنه لم يكن يتوقع لخطيب ابنته فلاحاً أو قليل نجاح. .. وسألتها أيضاً، على نحو استفزازي يهدف الى كشف المحجوب، عند من قلت أعلاه انه متنرجس: هل كان هشام شرابي يكتب خطب ومقالات أنطون سعادة؟ بقيت هادئة، وأجابت بالنفي الاستخفافي؛ كأنها تتهم السؤال وصاحبه باللياقة الغائبة، وبالجهل الحاضر السافر. ونفر من صوابه ذلك الشخص الذي كان ينكر انتماءه للحزب السعادوي، ولبطل الحزب، فصاح منفعلاً بعفوية ولربما بقسرية (را: الشخصية الاستهوالية). وكانت المرة الأولى، لكنها الحاسمة والتي أكدت أن التراجع عن البطل المعبود قد يكون تغطية ومعنى صريحاً بادياً، وليس معنى كامناً وحقيقياً أو متلبساً مقنعاً. وكان من اللابدي أن تنفس العدائية التي برزت، وأن نغسل ونمحو انجراح نرجسية المعنيين أو المهتمين... وانبحسست في عندياتي فكرة وأداة علاج أو تطهير للفضاء، فقلت: إن هشام شرابي يقدم لنا، في كتابه هذا، صورة عن مقال مكتوب بخط أنطون سعادة. ولربما أستطيع تأكيد أن صاحب ذلك الخط شخصيته واضحة، مستقيمة، غير معقدة، مجتهدة... فهو كتب صفحة تخلو من الشحبطات والخرطشات؛ لكأنه قد نرجس نفسه بحماية وحمية برزتا بعد رمزنة لها مفروضة أو مرغوبة، واعية مصطنعة أو لا واعية. كان شرابي، بحسب تحليلاتي ومهنتي، ولداً مدللاً، أو كالولد المدلل. وبات أكبر من بطله، لكنه ارتضى نعيم البقاء عند أوالية التماهي مع ذلك البطل، ورأى ذاته في ذلك التماهي أو في تلك الذات المشتركة نفسياً وبلا وعي بينه وبين سعادة. وفناؤه في هذا الأخير، بحسب تحليلاتي، كان يعني رفع كل مسافة أو اختلاف بينهما. لقد كان أ. سعادة، في تلك الحالة الاندماجية، يحارب عن كل محازب أو مقرب عن الأيديولوجيا والنحناوية. هذا، في حين أن المحازبين والمقربين كانوا يستعيدون الاطمئنان والتكيف والتوازنية من خلال منع التراجع عن البطل، وعبر قتل كل اختلاف معه أو ابتعاد، وعبر طمس الفروق والتشظي والفوضى. لقد كرّست <المدرسة الفلسفية عند العرب ه. شرابي ممثلاً لتيار فكري أو فلسفة في النحناوية؛ ذاك هو تيار المتلاقين المتعاونين مع التيار الصراطي الأكثري. وذاك التلاقي التكاملي التضافري تحول أو انزياح لا يضيره أنه حصل على شكل تراجع ما، أو على شكل اهتداء، وعن سابق وعي وإرادة حرة، أو بأوالية لا واعية هنا وقسرية انتحائية هناك. كما هو سديد ونافع أيضاً، اعتبار ذلك التحول قابلاً لأن يتفسر بالسببية النفسية بقدر ما هو أيضا يتفسر بالقراءة الاجتماعية السياسية أو بالعوامل المتزاملة... فالأهم، أخيرا، هو أن اهتمام مدرستنا بذلك التيار العلماني التقدمي يدفع بها الى أن تهتم بالشخصي أو صاحب النص وبالسيرة الذاتية، بل وبعد أيضا باللاسوي والمرضي والسوي واللاواعي في الشخصية وعياً وسلوكاً. لماذا وأين النفع؟ ذاك كله لأننا نريد نقل الحوار الفلسفي الى الداخل، وبغير انقفال على التجربتين في الفلسفة: التجربة الهندسية؛ والتجربة الأوروميركية؛ ومن ثم بغير مفاضلة أو تمرتب شاقولي بينهما.
 Posted by Picasa
العرب وتراثهم
النظرة إلي الماضي بين التزويق والتغريب
أحسان حمدي العطار
مع وصول الحملة الفرنسية الي مصر وما جلبته معها من مكتشفات وادوات والاهم من ذلك- أفكار ، يؤرخ الباحثون لبداية الصحوة العربية وما تلاها من احياء ونهضة وكانت هي الصدمة صدمة الحداثة- كما يطلق عليها أدونيس التي أرعبت الناس وخاصة فقاءهم وعلماءهم وبقدر الرعب الذي أصابهم كان الانبهار والتعجب لهذا الدخيل الذي أيقظهم بعد أن كانوا نياما في ظل خليفة الله في أرضه أقول: كانت هذه الصدمة أول باعث ومحرض للعلماء والفقهاء للعودة الي الاصول والتاريخ والتراث.كانت هذه العودة علي مستويين بارزين : الاول يبحث في التراث (بوعي أو بغيره) عن أسلحة ومضادات حيوية لأفكار هذا الدخيل التقني المعرفي- فلو أخذنا الامر بحسن نية لألفينا ردة الفعل جد طبيعية خاصة لو نظرنا الي تجربة أسلاف هؤلاء الفقهاء (من أبن حنبل الي الغزالي) أثناء مدة التقاء الفكر العربي بأفكار البلدان المفتوحة (يونانية وفارسية) وظهور تيارات الرفض لهذا الالتقاء داعية الي العودة الي دين محمد - دين أبائنا وأجدادنا- ثم نما هذا الرفض لتتأسس عليه عقائد وأحزاب سياسية ، أما لو نظرنا بعمق وتفحص لوجدنا أن هؤلاء نظروا للفكر الآخر بأنه المزعزع لسطانهم علي الناس لأن كل فكرة جديدة تدعو للتأمل والتدبر والتعقل ثم بعد هذا تكون داعية للعصيان والثورة . أما في المستوي الثاني : نجد الفقهاء يعودون الي التراث للبحث فيه عن وعاء يمكن أن يحوي الافكار الجديدة الدخيلة ( وهذا التيار يمكن أيضا ان نتمثله في عصر التقاء الاسلام بالثقافات اليونانية والفارسية وما نشأ عربيا من كلام وفلسفة علي أيدي الفارابي وأبن سينا وأبن رشد والشيرازي) وأزداد أهتمام الربط بين الافكار القديمة والجديدة ليصل ذروته مع "رافعة الطهطاوي " ثم " الافغاني" و "محمد عبده" الذي اعلن عدم تعارض الاسلام مع الفكر العقلاني الغربي ، ومع هؤلاء ولد اتجاه توفيقي يحاكي كما يقول "عبد الجبار الرفاعي (قضايا أسلامية معاصرة-ص7) تجربة الفارابي في التوفيق بين رأي الحكيمين وذلك عبر التصالح والتجانس بين عقلانية أرسطو وغنوصية مدرسة الاسكندرية وهذا التوفيق كان مزاجيا تقطيعيا وأنجب أفكاراً مشوهة لم تنفع قضية التقدم والاحياء العربي . ومع حركات الاستقلال والتحرر العربي في خمسينات القرن الماضي وما تمخض عنها من ثورات شرقا وغربا وفي مختلف أقطار العرب وتبني بعض هذه الثورات للافكار الاشتراكية والماركسية نما أتجاه جديد في قراءة التراث العربي اساسه الرفض لكل جديد بل محاربته واستحال الاتجاه ليصبح شيعاً سياسية متعصبة ، وأهم هذه التيارات كانت تنظيمات الأخوان المسلمين واسعة الانتشار ، بموازاة هذا الاتجاه سادت نزعة توفيقية جديدة بين الاشتراكية والاسلام وهذا الاتجاه التبريري في قراءة التراث العربي يعود أغلبه لتلبية رغبات الحاكمين وأسترضاء المحكومين فليس هذا الاتجاه ذرائعي فحسب بل أنتهازي ونلاحظ مع " صادق جلال العظم " (نقد الفكر الديني / دار الطليعة) توفيق البعض في ستينات القرن الماضي بين الاسلام والنظام اللبناني ذي الملكيات الخاصة والحكم الليبرالي ، ثم لو نظرنا الي النظام السعودي السلفي لوجدنا مئات الائمة من أكبرهم الي أصغرهم يهللون لهذا النظام ويأتون بمئات الايات والاحاديث لأثبات أن حكم الملك هو حكم الله . مع ذلك يري الباحث بعض التقدم في التعامل مع التراث فنلاحظ الدعوة للتخلص من النظرة التقديسية السطحية للتراث تلك النظرة التي تراه مثاليا ومتكاملا بجميع جوانبه وفيه ما يكفي حاضرنا ومستقبلنا من الحلول والاليات في السياسة والاقتصاد والاجتماع . هنا طه حسين يبرز كمجدد لوعي المثقف العربي للتراث خاصة في كتابه ذائع الصيت (في الشعر الجاهلي) بالرغم ما نأخذه عليه من مآخذ التعميم والتعصب ولكن طريقة البحث لديه كانت ثورة علي المنهج السلفي . ويلاحظ "نصر حامد أبو زيد " أن النظرة السكونية في التراث اختفت لتحل محلها النظرة الحركية (أشكاليات القراءة وآليات التأويل) كقراءة "أحمد عباس " للصراع بين اليمين واليسار في الاسلام وبالرغم ما يميز قراءة الكاتب من حركية تقوم علي تبيان الصراع بين العناصر الفاعلة في التراث" والفاعلة هنا تأخذ لديه أبعاداً أقتصادية أجتماعية سياسية فضلا عن الفكرية وهذا ما لم يسبقه اليه أحد من الباحثين المستشرقين أو المعاصرين "، ولكن ما يعاب علي هذه الدراسة هي مضمونها وهو العلاقة بين اليمين واليسار : فأستخدام الكاتب لهذين الصطلحين الحديثين ذو أثر سلبي من جانبين، الاول هو تطبيق أدوات أصطلاحية هجينة علي واقع تطور العرب الثقافي ، فأما أن يقزم الواقع التطوري لأدخاله في أصطلاحاته الحديثة (يمين ، يسار، أشتراكية) أو يفعل العكس أن يمحو ماهية الاصطلاحات ويؤسس عليها في ضوء التراث العربي فتبقي الهياكل وينتفي المضمون وهذا ما فعله "أحمد عباس " وهذا الاثر السلبي الآخر الذي يقول عنه عباس نفسه " لايمت للعلم بصلة " فيقول عن اليسار " هؤلاء الذين أهتموا بالجانب الاجتماعي من الاسلام " أما عن اليمين " "الاتجاه المعارض لهذا " أما الاشتراكين عنده " أصحاب الاتجاه الجماعي "، وأصحاب الاتجاه الفردي هم غير الاشتراكيين ،، فما لنا ولهذا يا أستاذنا الفاضل؟أما المرحلة الثالثة في تطور نظرة الفكر العربي الي التراث كانت أعقاب نكسة حزيران 1967 فالهزيمة السياسية العسكرية اجبرت التيار الفكري الاكبر في ذلك الوقت الفكر الماركسي- علي أعادة حساباته وأنقسم الفكر الماركسي حسب طريقة النظر الي التراث الي ثلاثة أقسام: الاول ، يقوم علي نقض الدين والتراث العربي علي أساس أن الهزيمة تعود الي عوامل التخلف الحضاري العربي نتيجة أرتباطه بالتراث لا بالراهن أو المستقبل وقد قلنا عن هذا التيار أنه ناقض وليس ناقد لما في النقد من شرح وتأويل وحرف وتفسير ثم بالتالي خلق وتحويل، أما نقض التراث كما يطرحه "صادق جلال العظم فهو أيدولوجي شكلي يهدف الي النفي والتكذيب يصدر عن منطق التهافت ذاك الذي تجاوزه النقد قبل عدة قرون ، فمن يحاول النفي والنقض لا ينفي ولا ينقض ألا نفسه " فالعظم يطرح الممنوع للاثارة والضجة بدلا من تفكيك الممتنع. أما القسم الثاني/ فيحاول تفسير التراث في ضوء المادية الجدلية كما هي محاولة " طيب تيزيني" في مشروعه "رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتي المرحلة المعاصرة " في أثني عشر جزءا بدءا بالجزء الاول (من التراث الي الثورة : حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي) حتي الجزءين الخامس (النص القرآني أمام أشكالية البنية والقراءة) ثم السادس (من اللاهوت الي الفلسفة العربية الوسطية : بقسمين) ، وكذلك قراءات " مهدي عامل " في التراث ( هل العقل للغرب والروح للشرق ) ومراجعتة في (علمية أبن خلدون ) أو قوله بأن المنهج المادي التاريخي وحده المؤهل في كشف العلاقة بين الحاضر والماضي في دراسته (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية) ، وكلآ من " تيزيني وعامل " يلتزمان بأتجاه ماركسي صارم وتمسك كبير بالمقولات التقليدية للماركسية . ولكننا نلاحظ تغيرا هذا في الاجزاء الاخيرة لمشروع الرؤية "لتيزيني" خاصة في أدخال (الدراسات التطبيقية البنوية (نسبة الي المذهب البنيوي لا البنية كما هو الحال لدي فوكو) (من اللاهوت الي الفلسفة دار البترا ص7) ، و الذي مثله "حسين مروة" في محاولته التلفيقية بين التراث العربي والنهج المادي الجدلي في دراسته) النزعات المادية للفلسفة العربية الاسلامية دار الفارابي 1978) حيث يقول " أذن القوي الثورية في حركة التحرر العربي لها حاضرها المستقبلي المتميز عن الحاضر الماضوي للقوي المتخلفة وأذن لها تراثها المتميز أيضا عن تراث هذه القوي الاخري - النزعات ص24" فهو يريد منا أن نأخذ من التراث ما يحلو لنا من أفكار ونصممها بحيث يستوعبها المنهج المادي ، فالباحث هنا يلبس التاريخ قميصا ضاق عنه ويفرغ التاريخ في قالب لا يسعه ، ونلاحظ لدي الجانبين سواء ذوي المنهج الصارم أم ذاك التلفيقي ، التعسف في التفسير والاعتباطية في القراءة ، فكيف لمنهج أبتدع علي يد فلاسفة "ماركس ، أنجلز" عاشوا في أوربا القرن التاسع عشر ولم يعلموا عن أحوال العرب شيئا أن يقولوا بكيفية نشوء نظام فكري علي درجة كبيرة من التعقيد كالنظام الفكري العربي !! أنظر "مروة " النزعات ص106) وهو يدافع عن أحد الكتب الروسية ( ي. أ بلييايف . العرب والاسلام والخلافة العربية- الدار المتحدة للنشر 1973) فحين يقول بلييايف ص8-9 " أن العرب مثل غيرهم من الشعوب مروا بالمراحل المادية التاريخية المعروفة " نري مروة يرد علي متهمي بلييايف بالتفسير القسري للتاريخ ( كمقدمة الكتاب التي وضعها د. محمد زايد) أن العرب ليسوا استثناء للقاعدة التاريخية التي تجري علي غيرهم من الشعوب ! وما هذه القواعد يا عزيزي القارئ؟ أنها تلك القواعد التي وضعها النبي ماركس وصديقه أنجلز !! ولو ناقشنا أفكار الماركسية بمنطقهم هم أي ذاك التاريخي لجزمنا بعدم صلاحية الماركسية في تفسير التراث العربي لأنها تكونت في ظل التطور الغربي لا خارجه كما يعتقد البعض فماركس حاول فهم حركية المجتمع الغربي ولما وجد الثورة الصناعية هي أبرز محرك للتاريخ الغربي الحديث والمعاصر له أمن بدور الاقتصاد في التطور والتقدم فألبس جميع مراحل تطور الانسان الغربي لبوس الاقتصاد وما لبث أن ألبس التاريخ الانساني اللبوس نفسه ، فأين تلك الشمولية في الفكر الماركسي التي يتحدث عنها أستاذنا مروة (النزعات ص31) ولكن يلمس الباحث مدي تطور مستوي التعامل مع التراث منذ لحظة (الصدمة- الانبهار) الاولي ثم التبرير والتلفيق حتي محاولات مركسة التاريخ العربي ، فقد أزداد الوعي لدي النخبة العربية في أهمية التراث وصعوبة بل كارثية الانقطاع وانفصال عنه . تبرز في سبعينات القرن الماضي دراسة واحدة ذات درجة كبيرة من الاهمية. أولاً لانها خارج اطار التحزب الماركسي في قراءة التراثثانياً/ انها ابتكرت ادوات وأطراً مفهومية جديدة كل الجدة في تفسير حركة التاريخ العربي وهذه الدراسة هي (( الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والابداع عند العرب)) (لعلي احمد سعيد)الملقب بأدونيس ، وتشمل الدراسة علي اربعة اجزاء وهي ( الاصول) ، (تأصيل الاصول)، (صدمة الحداثة وسلطة الموروث الديني)، (صدمة الحداثة وسلطة الموروث الشعري) ان ادونيس وضع العلاقة بين الاصيل والدخيل اساساً لحركة الفكر العربي ويقول عن هذه العلاقة انها المنظم لثنائيات الثابت والمتحول والابداع والاتباع التي هي جوهر العقل العربي، بهذه العبارات المجردة : أدونيس يفتتح اسلوبا جديدا في معالجة معظم القضايا والاشكاليات في قراءة تطور الفكر العربي وتحرر التراث من الجمود والسكون والاطر الماركسية الضيقة: تحرره نحو عالم الصدام ، الصراع، اللقاء والديناميكية ولكن ما ان تبدأ بدراسة النص الادونيسي حتي نجد العكس حيث يقول ان في التراث (نتاجات ثقافية تتباين لدرجة التناقض لذلك لايصح البحث في التراث كأصل أو جوهر او كل انما ينبغي البحث في نتاج ثقافي محدد) ( صدمة الحداثة وسلطة الموروث الديني ص228) وما هذا النتاج الثقافي؟ انه الابداع وعكسه الاتباع ، انه التجديد وعكسه التقليد أنه التحول وعكسه الثبات، فبدل ان تفتح ثنائيات أدونيس فضاءً جديداً للتفكير نجدها تضيق بل تخنق افاق البحث في التراث الي ابيض يجمع (أمرؤ القيس وعمر بن ابي ربيعة) لماذا (لأن شعرهما يؤسس للنزهة الشهوية او الاباحية في الشعر العربي وان شعرهما بذلك يستمد أهميته الخاصة كونه يمثل الخروج علي المحرم) (الاصول ص215) ثم يبدأ الانحياز يزداد حتي يجعل كل من يشغف بهم أدونيس من الشعراء في خانة واحدة بالرغم من اختلافاتهم المنهجية في الحياة وفي النظر الي الشعر بحجة رفضهم للسلطة. وتستمر قراءة ادونيس غير المنضبطة لتشمل التيارات السياسية والفكرية في الاسلام فهو يجمع تيارات الجهمية والارجاء والشيعة الامامية و المتصوفة علي صعيد واحد لخروجهم علي الثبات فهم كلهم في خانة التحول. بالمقابل يضيع الغزالي، ابن حنبل ، ابن يتمية في المحيط الأسود للعقل العربي. لقد ستبشرنا خيرا في مشروع ادونيس لان قراءة التراث العربي بالصورة المغايرة التي وعدنا بها كان من المؤمل به ان يفتح مجاهيل التراث التي لم يستطع المستشرقون ولا الماركسيون العرب فتحها..... اذن أدونيس فشل في الاختبار ولكن يمكن لنا ان نستفيد من أطر البحث لديه أكثر وأفضل مما استفاد منها، فالقول بأن الاصيل والدخيل هما محركا العقل العربي- فهذا اكثر من صحيح ، ولكن الدخيل أثري الاصيل والتفاعل بينما أدي الي حيوية وتنوع وغني الثقافة العربية فلم ينعزل الاصيل عن الدخيل وتكونت أنساق ثقافية جامدة ، فالثبات والتحول جزء من عقلية المثقف العربي قديماً وليس الثبات لجزء من المثقفين والتحول للجزء الاخر كما يطرح وينظر أدونيس، ونجد الابداع والاتباع جزء لايتجزأ من تجربة أي فيلسوف او فقيه تراثي فالفارابي بالرغم من ابداعه فهو مقلد لارسطو وافلاطون، والغزالي برغم اتباعه فهو مجدد، للمذهب السني لادخاله المنطق الارسطي في الفكر السلفي وهكذا كل الفكر العربي قديماً لايخلو من ابداع و اتباع،افلم نستخدم افكار ادونيس خيرا منه؟ولعل اكثر المحاولات جدية في قراءة التراث نجدها لدي المفكر المغربي محمد عابد الجابري،اما ابرز دعائم طريقته فيَ مراجعة التراث هي (( عدم استخدام ادوات مستعارة من خارج مملكته الثقافية، تلك المملكة التي ترعرع في داخلها وأنبثق من خلال تفاعلاتها الذاتية فتتم دراسة التراث في سياق نشأته المعرفية)) ( نقد العقل العربي- الجزء الاول تكوين العقل العربي ص22) وهنا الجابري يتخلص من اخطاء القراءة الماركسية او تلك التلفيقية. (من المرتكزات المنهجية الاساسية عدم الفصل بين الفكر كأداة والفكر كمحتوي) (تكوين العقل العربي ص23)، (فأن معالجة العقل العربي ينبغي ان تسير في مسارب هذا التشكيل الثقافي العربي) (تكوين العقل العربي ص24) (ان وجهتنا الوحيدة هي التحليل العلمي لعقل تشكل من خلال انتاجه لثقافة معينة وبواسطة هذه الثقافة نفسها، الثقافة العربية الاسلامية) (تكوين العقل العربي ص27) ان هذا المنهج عظيم لو طبق بحذافيره ، اقول (لو) لان المتابع لنتاج الجابري يري تخلخل التطبيق، ففي اعمال الجابري المفردة كقرائته لابن الرشد ( ابن الرشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية 2001) أو (الدين والدولة وتطبيق الشريعة 1996) أو ( التراث والحداثة 1980) نلاحظ الالتزام الموضوعي بالمنهجية التي وضعها اما في مشروعه الاكبر (نقد العقل العربي) فالاستنتاجات والاوليات التي وضعها اثرت في منهجيته فسادت الانتقائية لأثبات الرأي، اما سبب هذا فيعود الي عاملين، أولاً:التزام الجابري واعتماده ثلاثية البيان والبرهان والعرفان هذا التصنيف التقليدي للنظم المعرفية، والتصنيف كما هو معروف (اعتمده الفكر العربي الاسلامي في الاندلس للتهوين من دور المشرق العربي وبخاصة بغداد في بناء حضارة العرب وتاريخهم) (محمد مبارك الجبار الجابري/ بين طروحات لالاند وجان بياجيه) فالتحيز المغاربي اثر علي وفاء الجابري لمنهجه في قراءة التراث.ثانياً: حجم المشروع الذي ينادي به الجابري فنقد العقل، مشروع يتطلب كما يقول "علي حرب فريقاً من الباحثين يشتغل عشرات السنين" (الجابري والطرابيشي ....النفي المتبادل وامبريالية المشاريع ص188) فأوهام الجابري بأنه محرر التراث والعقل العربي وأنه صاحب نظرية كلية ودراسة شاملة وأن العمل الذي يقوم به هو تجديد النهضة العربية، هذه الاوهام هي من اوقعت الجابري في مطب اللاموضوعية والتحيز فأفشل الجابري مشروعه من حيث اراد نجاحه، حتي ان الجابري كما يقول محمد مبارك n يضطرب بشكل لم يعهد لمفكر من قبل بين منظورين ليس لهما ان يقفا معاً علي صعيد واحد فالجابري تحول من منظور لالاند التاريخي في فهم العقل وتمييزه بين عقل مكوَّن واخر مكوِّن الي مفهوم عالم النفس السويسري جان بياجيه عن اللاشعور المعرفي. ولا يخفي عن القاريء ان كلا الاتجاهين خارج مملكة العرب الثقافية.وبما اننا في تأثير الاوهام النخبوية في صدق قراءة التراث فأننا نري العديد من المفكرين يسقطون في فخ المشاريع الطوباوية ولعل اهمهم "حسن حنفي" صاحب مشروع اخر في قراءة التراث وهو " التراث والتجديد- دار التنوير" يقول حنفي في الاهداء "الي كل من يساهم في صياغة مشروعنا القومي" ويقول في المقدمة "ليس التراث والتجديد مجرد مشروع فكري للمثقفين العرب ،وليس مشروع الثقافة العربية في لحظتها الراهنة فحسب، انه في الحقيقة مشروع الواقع ذاته أو قل انه مشروع تحرر انساناً وأعادة تشكيل عقله ووجد انه" ويقسم حنفي مشروعه الي ثلاثة اقسام ، القسم الاول بعنوان (موقفنا من التراث القديم ويهدف الي اعادة بناء العلوم التقليدية بالدخول في بنائها والرجوع الي اصولها لبيان نشأتها وتطورها.اما القسم الثاني بعنوان (موقفنا من التراث الغربي) ويهدف الي بيان حدود الثقافة الغربية ومحليتها بعد ان ادعت العالمية والشمول وأخراج أوربا من مركز الثقل الثقافي العالمي ومن محور التاريخ وردها الي حجمها الثقافي الطبيعي في الثقافة العالمية الشاملة، وهنا يؤسس حنفي علمه الجديد وهو علم الاستغراب (عكس الاستشراق) أي دراسة الثقافة الغربية بتحيز شرقي كما فعلوا هم معنا. أما القسم الثالث فهو وضع منهج للتفسير يكون جامعاً الكل المناهج ونهاية مشروع التراث والتجديد هو محاولة العثور علي منهاج اسلامي عام لحياة الفرد والجماعة ويكون بمثابة الايدولوجية التي يمكنها تنظير الواقع وتطويره.أن قلنا ان مشروع الجابري واقع في الاوهام فأن مشروع حنفي غارق في الاحلام....احلام التقدم، احلام التأسيس، احلام تجديد النهضة الاولي أو استئناف ما بداءه أهلها. فأين احلامك يااستاذنا العزيز ؟ أين ذاك المنهاج الذي تبشرنا به؟ أين المشروع القومي الذي تساهم انت والحالمون في صياغته؟ أين؟! يقول احد الباحثين (عبد الجبار الرفاعي- قضايا اسلامية معاصرة ص10) " ان مشروع التراث والتجديد أوسع مشروع لاعادة بناء علوم التراث وهو يذكرنا بالاعمال الموسوعية الكبري التي انجزها العلماء المسلمون في العصور الماضية" نعم انه مشروع كبير ولكن بالحجم ونعم يجوز مقارنته مع الاعمال الموسوعية "كأعمال الجاحظ والتوحيدي"خاصة انها لاتحوي علي افكار الا ربعها او اقل اما الباقي فهو ضرب الامثلة او الشواهد او بعض القصص والاشعار للتلطيف او الطرافة، افهذا مايريده حسن حنفي من مشروعه أم ماذا؟بعد ان تكلمنا عن اوهام وأحلام علاقات مثقفينا العرب مع تراثهم نجد ان من المهم مراجعة مسألة مفصلية في قراءة التراث العربي وهي مسألة الادوات الغربية في البحث تلك التي طغت علي اغلب قراءات المثقفين في اواخر الثمانينات وحتي الان ، يبرز في هذا المجال المفكر الجزائري محمد أركون، فهو يدعو الي ((كسر القراءات التقليدية للنصوص واللجوء الي قراءة بديلة توظف العلوم الالسنية الغربية في قراءة النصوص)) ( الفكر الاسلامي: قراءة علمية، مركز الانماء القومي) وأعترف انه يستمد معظم مفاهيمه في قراءته العلمية للتراث من افكار "ليفي شترا وس ، فوكو،دريدا،لاكان،كاستورياديس" (الفكر الاسلامي ص63) ولا تخلو صفحة من صفحات اركون الا ومفهوم غربي حديث يعرض عرضا دقيقا ومفصلا بل قد يتكرر التعريف بالمفهوم عشرات المرات في كتب أركون فترتدي اعماله n بأعترافه الشخصي- طابع الترويج المعرفي المضر بالمعرفة نفسها ( تاريخية الفكر العربي الاسلامي مركز الانماء القومي ص24) نلاحظ ان أركون يدعو الي كسر طوق القراءات " التقليدية فما هي تلك القراءات؟ لعل عشرات المثقفين دعوا الي كسر الاطواق قبلك يا أستاذ! فطه حسين أراد ذلك بمنهجه الشكي الديكارتي وأصبحت قراءاته تقليدية عندما أراد حسين مروة والطيب تيزيني كسرها بمنهجهم المادي الجدلي وأصبحت قراءاتهم تقليدية عندما أراد كسر طوقها "محمد عابد الجابري" بمنهجه الابستمولوجي الباشلاري ، وأخيرا جاء أستاذنا اركون يقول أنه يريد كسر أطواق القراءات التقليدية بمنهجه الاركيولوجي الفوكوي، أذن كل جديد معرفي يخلقه الغرب له من يطبل ويزمر من مثقفينا فأين الخلق والابداع أن كان كل ما نقوم به العرض والتصنيف. ويصح أن نقارن أفكار ما بعد الحداثة بأفكار الحداثة من حيث علاقتنا بكليهما فكما الفكر الماركسي جاء من خلال قراءة في تطورية التقدم الغربي بعد الثورة الصناعية وأعمل ادواته علي المنهج الديكارتي والجدل الهيغلي فأنجب لنا المادية التاريخية والمادية الجلبة فالفكر الغربي المعاصر بشقيه ( الابستمولوجي والاركيولوجي) جاءا في سياق تطورية العقل الغربي فأعمل أدواته علي أفكار الحداثة وحتي ما قبل الحداثة ( كقراءات هيدغر الافلاطونية والان باديوفي بيانه من أجل الفلسفة) .يقسم "علي حرب" (هكذا أقرأ ما بعد التفكيك- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 145) المشتغلين في الساحة الفكرية العربية الي ثلاثة أقسام ، الاول : ويضم صادق العظم وحسن حنفي وهشام جعيط وهؤلاء لم يتعرفوا علي منجزات ما بعد الحداثة ، الثاني : ويضم العروي والجابري وهذا القسم يقع في الوسط اذ لم ينفتحوا كما ينبغي علي منجزات ما بعد الحداثة ، الثالث : ويضم آركون و صفدي وهم أكثر المفكرين أستخداما لمناهج ما بعد الحداثة ، تقسيم عجيب بلا ريب! فأين المخلوقات المعرفية التي أبتكرها آركون أو مطاع صفدي لنضعهم في قمة هرم الفكر العربي فأركون حسب حرب نفسه ( الممنوع والممتنع : نقد الذات المفكرة- المركز الثقافي العربي ص 127) لايبتكر المفاهيم بقدر ما يعرضها ويوظفها. أما صفدي فهو كشكول معرفي يعرض أسماء وعناوين وأفكار الغرب ، نعم يمكن الاستفادة منه في هذا المجال فقط . لذلك من الافضل أن نقسم العاملين في الساحة الفكرية العربية علي أساس كيفية تعاملهم مع الفكر ما بعد الحداثي لا علي أساس ولائهم له ، ونعم لا يمكن بأي حال من الاحوال أن نتجاهل أنجازات الغرب الثقافية ، ولكن الاستفادة شئ والتقليد والنقل شئ اخر فمثلا المنهج الابستمولوجي الغربي ، الجابري يقسم بألاعتماد عليه النظم الثقافية العربية بصورة فجة الي أقانيم مقدسة ، معقول وبرهان مغربي ولامعقول وعرفان مشرقي ، يقتل الجابري هنا أي مجال للابداع والتغير ولكن بالمقابل بأمكان المنهج الابستمولوجي تحليل بنية الثقافة العربية التي تحوي المعقول ولا معقول معا فأبن خلدون المغربي عقلاني ولاعقلاني ، وأبن سينا المشرقي برهاني وعرفاني ويعود هذا الي تأثير التطور الحضاري في الاسلام والعوامل التاريخانية وهنا يمكن الاستفادة من المنهج الماركسي في تحديد العوامل التي أنتجت البنية الثقافية ، أصحابنا الماركسيون يحيلون كل التشكل الثقافي العربي الي العوامل الاقتصادية ، وهذا خطأ كبير لأن الاقتصاد بشكله الحديث والمعاصر لم يكتمل بناؤه وخواصه في ذلك الوقت لذلك يجب أستخدام المنهج الماركسي من دون الاخذ بالنتائج التي توصل اليها ماركس وأنجلز في تأثير الاقتصاد في تشكل البنية الثقافية ، يقول البعض أن المنهج الاركيولوجي الحفري يقدم الادوات في تفسير التراث من دون نتائج مسبقة بيد أن الباحث حين ينقب ويحفر في تراثه وهمومه سوف ينتج أدواته ، أذن ليس الحفر هو أداة بل هو اداة انتاج الادوات. قد يسأل البعض ما فائدة قراءة التراث أذن ونحن نقراءه من داخله ألا يشف ذلك بموضوعية كاذبة ويذكر مقولة التوسير الشهيرة "لاتوجد قراءة بريئة" ، لا، نحن لا نقرأ التراث من داخل التراث من أجل التراث بل نقرأ التراث من داخل التراث لأجلنا نحن لأجل الحاضر والمستقبل، فالتراث منقطع عنا بالمعني الانطولوجي ولكنه مستمر بالمعني الابستمولوجي بل أن قراءة التراث لأجل الحاضر هو لب أسباب دراسة التراث : أفهناك سبب آخر لها؟ وأن بقاء التراث بصورته الاسطورية له الاثر الاقسي في بقاء العرب علي ما هم عليه الان ، أما انزال التراث الي ارض المحايثة (ليست محايثة الحاضر كما يتوهم البعض بل محايثة تجربته الحضارية) سيسهم في زحزحة مشاكل الانسان العربي وانزاله الي الارض التي نعيش فيها لا ارض الاوهام والاحلام والطوباويات المستحيلة وهذا العمل لا يتطلب شخصا مهما واحدا بل عشرات الالاف من الباحثين.بقي ان اذكر ان جميع الاعمال التي تناولتها بالنقد لا يستطيع اي قارئ في التراث ان يتجاوزها لما فيها من ابداع و اصالة و عدة منطقية عملاقة .وهذا شان اي عمل يستحق النقد .
Azzaman International Newspaper - Issue 2564 - Date 7/12/
 Posted by Picasa

١٧‏/١٠‏/٢٠٠٦

اورهان باموك ونوبل 2006
محمد الأحمد

يُعد الروائي التركي (اورهان باموك) المولود في اسطنبول عام 1952 الفائز بجائزة نوبل للآداب لعام 2006. من أكثر الروائيين الذين اثأروا جدلا في بلدانهم، كونه خرج عن سلطة رقيبها، وبقي متعرضاً إلى ضغوطات ومحاكم قضائية في بلده، بسبب مناصرته لما يراه حقائق وقعت، ولا يمكن التغاضي عنها؛ وهو من كافح كثيرا حتى أعطى نموذجاً حقيقيا واعيا في كشف حركة التاريخ، ولم ينزل عند رغبة المنتصر الذي لا يرى بداً إلا أن يُكتب التاريخ وفق هواه، فالكتابة الإبداعية تكسر الأكاذيب المغلفة بالزهو، ولا تعترف بالحدود والخطوط المرسومة سلفاً، ودائما تقف لوحدها مواجهة للسلطة، بثبات، ترفض الطمس. وقد لخص تقرير الأكاديمية السويدية أسباب فوزه: (قد اكتشف رموز جديدة لتصادم وترابط الحضارات خلال بحثه عن روح بلدته (اسطنبول)، ومضى التقرير إلى القول (إنه انتقل بمرور الزمن من الجو العائلي العثماني التقليدي إلى نمط حياة متأثراً بالغرب)، كانت نـشأته في مدينة اسطنبول، من عائلة برجوازية اغلب رموزها تتلمذت في فرنسا، وتابع دراساته في الهندسة قبل أن ينتقل من الرسم المعماري إلى الصحافة، ومنها إلى التخصص في كتابة الرواية، وقد حاز على جوائز أدبية عديدة في تركيا وخارجها. وقد ترجمت أعماله إلى ما يزيد عن 30 لغة، من بينها العربية: في العام 1979 كتب روايته (العتمة والنور)، ونال بها على جائزة صحيفة (ميللييت) للرواية. في العام 1982 كتب روايته الشهيرة (جودت بك وأبناؤه) التي تروي قصة ثلاثة أجيال من عائلة اسطنبولية غنية وتعيش في نشان طاش. بعدها رواية (المنزل الصامت) ونال عليها بعد أن ترجمتها إلى الفرنسية جائزة (الاكتشاف الأوروبي) الفرنسية عام 1991، ومن أعماله رواية (أسمي أحمر)، ورواية (الكتاب الأسود)، ورواية (القلعة البيضاء)، واعتبرت رواية (ثلج) كأفضل مطبوع غير أمريكي في عام 2004. وسبق له أن حصل على جائزة السلام الألمانية بسب (موقف (اورهان باموك) الشجاع من الماضي التركي وصفحاته المظلمة)، كحال الفيلسوف (يورغن هابرماس) والروائي (مارتين فالزر) والكاتبة الجزائرية (آسيا جبار) والأمريكية (سوزان سونتاج) والروائي البيروني (ماريو بارغاس يوسا). كما انه حاصل أيضا على جائزة (ميديكس) للأدب الأجنبي في فرنسا، الجائزة الرفيعة التي تعطى لمن يتناولون في أدبهم قضايا التلاقح الثقافي. في العام 1994 نشر واحدا من أكثر الكتب قراءة في الأدب التركي الحديث: (الحياة الجديدة) عن حياة الشبان الجامعيين. وجائزة (grinzane Cavour) الإيطالية عام 2002 وأخرى ايرلندية عام 2003. لقد كتب (اورهان باموك) العديد من المقالات التي ناصرت حقوق الإنسان، وشغفت بالحضارة والعقل الغربي، وبناء وأسلوب الرواية الغربية يوازي شغفه بالتراث الشرقي، وهو بمثابة الابن البار لانصهار واندماج وتمام الحضارات والثقافات حيث سطوع القيم الرفيعة، لتتربع على قمة المبادئ الحضارية، التسامح، والرقي بالإنسانية، والاستنارة بالرأي الآخر. وقد ناصر (اورهان باموك) عدم إباحة دم الكاتب الهندي الأصل (سلمان رشدي) بعد صدور روايته الذائعة الشهرة (آيات شيطانية)، والى جانب مواطنه الكاتب الأشهر (يشار كمال) عندما رفعت ضده دعوى قضائية عام 1995م (كشف الوجه غير المقبول لرمز تركيا كمال أتاتورك)، وبقي يقول بأن الأدب وحده هو الذي يستطيع أن يقدم صورة صادقة عن المجتمع، ودائما تمتلك الأمم خزين فني بقدر تحضرها، وتواصل حضاراتها؛ كما الفرق بين الشرق والغرب عبر مسيرة الفن التشكيلي، ففي (رواية اسمي احمر) نجد فناني المنمنمات العثمانية التقليديين يرفضون رسم وجوه الرموز الدينية، كما كان هناك رسامو مدرسة البندقية الإيطالية الذين وقفوا إلى الجانب الآخر من هذه الفكرة. وقد حظي بشهرة عالمية كبيرة، وباتت أعماله الروائية تحصد نسبة مبيعات هائلة في تركيا، وتتجاوز ربع مليون نسخة، وعلى الرغم من انه لم يكن بشهرة مواطنيه العظام (ناظم حكمت) أو شيخ الرواية التركية (يشار كمال) ولا (عزيز نسين)، ولا (فاضل داغلرجه)، عميد الشعر التركي المعاصر، ولكن تطرفه بالرأي رفعه إلى واجهة الصدارة؛ حدّ انه أعلن ذات يوم من منبر شهير: -(بان العلاقات التركية الأرمينية ترجع في جذورها إلى مطلع القرن السادس عشر، عندما نجح الأتراك العثمانيون في ضم بلاد ما بين النهرين، و أرمينيا ومعظم المناطق العربية في آسيا، وأفريقيا إلى إمبراطوريتهم. ورغم طول الفترة التي عاشها الأرمن تحت سيادة الدولة العثمانية، إلا أن الحديث عن أزمة الأرمن مع النظام الحاكم بدأت مع أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهى الفترة التي شهدت تنامي الحركات القومية في أوروبا و تسابق الدول الاستعمارية على تركه، رجل أوروبا المريض - تركيا- وعندما تفجرت شرارة الحرب العالمية الأولى في العام 1914م اختارت تركيا الانضمام للمعسكر الألماني، فيما انضمت روسيا للمعسكر الأنجلو فرنسي، الأمر الذي جعل تركيا وجهاً لوجه مع روسيا. ونظراً لأن منطقة الأناضول التي تسكنها أعداد كبيرة من الأرمن، كانت إحدى الجبهات التي كانت مسرحاً للحرب بين الدولتين، فأمنت تركيا بتهجير أعداد كبيرة من الأرمن إلى سوريا، ولبنان، والموصل، خشية انضمام الأرمن إلى الروس في الحرب. إلا أن عمليات التهجير هذه صاحبها مقتل أعداد كبيرة من الأرمن، بعضهم على يد الأهالي والآخر على يد الجيوش العثمانية، وبعضهم الآخر بسبب الجوع والعطش. ولا يتركز خلاف الأتراك مع الأرمن حول حدوث عمليات القتل، ولكنه يتعدى ذلك إلى تحديد عدد الأرمن الذين لقوا حتفهم، هل هم مليون ونصف كما يقول الأرمن، أو أقل من ذلك بكثير كما يقول الأتراك، وهل هو عملية تطهير عرقي، أو ضحايا صراع طائفي، ونفت تركيا هذه المزاعم وحدوث مذبحة، لذا فإن تركيا ترى أن الاعتراف بحدوث مذبحة للأرمن- كما يطالب الإتحاد الأوروبي كشرط من شروط انضمام تركيا للإتحاد - من شأنه أن تترتب عليه تبعات مادية كبيرة، حيث يعزر مطالب أرمينيا لصرف تعويضات مالية، وإرجاع أقاليم منحت لأرمينيا العام 1919م، وأعيد الاستيلاء عليها عندما وقعت أرمينيا في أيدي القوات السوفيتية). وانه أضاف في مقابلة مع صحيفة (تاغيس أنتسايغر) السويسرية قال (أنه تم قتل 30 ألف كردي في تركيا، ومليون من الأرمن. ولكن ليس لدى أحد الجرأة على ذكر ذلك)، وقد كلفته شجاعة القول بسبب هذه التصريحات حيث أقامت الدنيا، ولم تقعدها في تركيا، وأثارت حفيظة (القومويين) الذين مارسوا ضغطاً كبيراً على الرأي العام، فاستجابت له النيابة العامة ورفعت قضية ضد الكاتب بتهمة (تحقير الأمة التركية) و(الإساءة إلى هويتها)، وهي تهمة تصل عقوبتها إلى السجن مدة ثلاثة أعوام. ولم يثن الضغط عزمه، بل بقي يحاجج بـ(أن مفهوم صراع الحضارات ترسيخ لصدام الجهالات)، وان المثقف غير الصاغر لقوالب الرقابة يمثل نموذجا حيا لما تعانيه الثقافة في العالم من اضطهاد، وعدم إيمان من قبل حكوماتهم بحرية الرأي والكلمة، وأدتْ تصريحاته إلى حالة من الغضب العارم اجتاحت الأصوليين الأتراك والعسكريين والعلمانيين بسبب ما ورد في أحدث رواياته (ثلج)، و(اورهان باموك) مولع بإعادة كتابة التاريخ، ونبش الماضي مهما كانت درجة كثافته، فمن مذابح الأرمن المروعة إلى كشف عورات المسكوت عنه في بلاده، فبقي يوغل في تعرية المجتمع الذي نهشه الفقر، والبؤس والازدواجية:-(وطن يعيش مأساة التناقض السافر بين الرغبة في اللحاق بالحضارة الأوروبية والانضمام إليها وبين الخوف من فقدان الهوية الشرقية). لقد كتب بواقعية كل ما طالتهُ يديه، وقد قالوا عنه كبار النقاد بان (اورهان باموك)، الكاتب الجديد الذي جاء ليعلمنا فن كتابة الرواية الحقيقية.



‏12‏ تشرين الأول‏، 2006
 Posted by Picasa

٠١‏/١٠‏/٢٠٠٦


من رسائل نجيب محفوظ
عيد عبد الحليم



إذا كانت الأمم تقاس بأيامها المجيدة فإن كل لحظة من عمر
نجيب محفوظ تساوى طاقة نور للوطن، وكل لحظة تقع عين القارئ فيها على عالمه الروائى تعد تكريما لنا قبل ان تكون تكريما له. واذا كان حصوله على جائزة نوبل فى الآداب عام 8891 يعد الحدث الاكبر فى الثقافة المصرية المعاصرة، فان ذلك يدعونا للتساؤل عن كيفية الاحتفال بهذه القامة التى طالت سماء التأليف. هل نفعل معه مثلما فعلت فرنسا مع فيكتور هوجو عند بلوغه الثمانين حيث احتفلت بعيد ميلاده كأنه عيد من اعيادها القومية فاقيمت اقواس النصر فى شارع "إيليو" بباريس ــ وهو نفس الشارع الذى عاش فيه هوجو، والغيت الدراسة ــ يومها ــ فى المدارس والجامعات. وفى اليوم التالى دخل هوجو المجلس التشريعى الفرنسي، فوقف اعضاؤه تقديرا واحتراما له، واكد رئىس المجلس ــ حينذاك ــ ليوتس القيمة الابداعية لهوجو قائلا: " لنقف جميعا فالعبقرى هوى بيننا.. وهذا يكفي< ثم اعلنت الحكومة الفرنسية تغيير اسم الشارع الذى يسكن فيه هوجو من شارع "إيليو" الى شارع "هوجو". هكذا تحتفل الامم بمبدعيها الذين يمثلون ضميرها الحى ومخيلتها الوثابة ويشاركون ــ بفعالية ــ فى حراكها الاجتماعى والعقلى فى إنتاج نصوص تواكب التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث تتحول الكتابة الى فعل وجودى يتسم بخلق عوالم جديدة قدر وقوفها الراصد للمتغيرات الواقعية.وقد كان محفوظ من هذا النوع الذى أهلته الظروف لأن يقف فى منطقة ابداعية يمكن ان اسميها بـ "فلسفة الوجود ودراما الشخصية" حيث تتحول الذات المبدعة الى مرآة عاكسة لبنية المجتمع تغوص فى تفاصيله المكانية والزمانية لتعيد صياغة أبعاده الدرامية عبر لغة تمتح من الأبعاد الشعبية لهذا المجتمع، فتصبح لغة السرد فعلاً موازيا للغة الشارع، ومن هنا ينفتح فضاء الدلالة، ومن هنا تجىء رحابة المعنى.محفوظ ليس مجرد روائى أضاف الى بنية السرد العربى ونقل هذا الفن الحكائى من مرحلة الرواية التاريخية التى كتبها امثال جورجى زيدان، ومحمد المويلحى وغيرهما من الرواية الواقعية فقط، بل هو ابن حقيقى لتراث الشعب المصرى وحضارته العريقة، استطاع فى ابداعاته أن يعبر عن كل القيم الأصيلة والجوهرية فى الشخصية المصرية. هو "رجل الساعة" على حد تعبير صديقه الراحل محمد عفيفى الذى واجه الزمن بتقلباته العاصفة بـ "نظام زمانى ومكانى صارم" حسب لكل لحظة قيمتها، وعرف متى يكتب ومتى يتوقف، ومتى يتأمل، يقول عفيفي: "كان على الدوام يثير غيظي، وكان فى بعض الأحيان يثير رثائي، ولكن لم يعد فى النهاية يثير شيئا سوى حسدي! إذ رأيت مؤلفات الرجل ترتفع وترتفع حتى توشك ان تنطح السقف، فادركت قيمة النظام والمثابرة بالنسبة للرجل الذى يريد ان يكون كاتبا كبيرا". صفتان أساسيتان واعتقد ان نجيب محفوظ تميز بصفتين اساسيتين تمكنتا من شخصيته وهما الاولى انه صادق فيما يكتب، لانه لا يكتب إلا عما يعرف فجاءت كتابته عن الحارة المصرية مستوعبة لعناصرها التاريخية والاجتماعية، تماما مثلما فعل ماركيز مع حوارى وشارع امريكا الجنوبية. اما الصفة الثانية فهى ذات بعد انسانى تتعلق بذاته وهى كونه اديبا بلا خصومات، ربما جاءت الخصومة من البعض لكنه لم يحمل ضغينة لأحد، بل كرس كل همه وجهده للكتابة والابداع فقط فلم نره يشغل نفسه بالكتابة ضد هذا او عن هذا.. وتلك طبيعة الكبار. وهذا ما يقول عنه الناقد الكبير رجاء النقاش: "لقد كان التعامل مع نجيب محفوظ يكشف لى دائما عن فضائله الكثيرة ومنها الأمانة والصدق مع النفس ومع الآخرين، والتواضع والتسامح وسعة الصدر وعدم اللهفة على اى مكسب من أى نوع، والرفض الكامل لأن يربط بين ما يكتبه وبين عملية النشر.. اى انه منذ بدايته لا يكتب بناء على طلب من الخارج بل يكتب ما يحس به وما يعبر عن تجربته فان لم يجد توقف عن الكتابة". وأرى ان هذه الصفات التى تلازمت وتوافقت جعلت من شخصية محفوظ شخصية ناجحة اجتماعيا وثقافيا، جعلت منه "هرما" على حد تعبير يحيى حقي. وهذا ما يؤكده نجيب محفوظ فى احد حواراته مع عبد العال الحمامصى عام 1982حيث يقول: "أفضل ما يستفيد منه الكاتب بالطبع هى التجارب التى عايشها بنفسه.. لأنها تتيح له ميزة الصدق مع نفسه ومع تجربته الفنية.. ولكن الكاتب لا يمكن ان يقتصر عالمه الفنى على مجرد ما عاشه هو.. اذ لا بد ان يثرى رؤيته بتجارب الآخرين ومعايشتها.. وبالخيال.. ولكنه الخيال الذى يعتمد على شيء من الحقيقة.. والا من الافضل ان يتجنب الكاتب الخوض فى موضوع يجهله.. لهذا أفضل الا اكتب عن الحرب مثلاً.. عن ان اكتب عنها من مجرد الخيال.. وما قلته هنا يمكن ان ينطبق على اعمالى الروائية". وفى رسائل نجيب محفوظ التى وجهت اليه او وجهها هو إلى الآخرين من الكتاب والساسة ما يدل على تلك المعانى والصفات والقيم المهمة. هى جزء أصيل من ابداعه ــ وان لم يلتفت اليها الكثيرون وقديما كان هناك فن ادبى ابتكره العرب القدامى يسمى بـ "الاخوانية" وهو فن اندثر مع تلاطم امواج الحياة وتقلبات الازمنة، هنا نستعيد ــ بعض ما كتبه "عميد الرواية العربية" الى أصدقائه وبعض ما كُتب اليه، فى محاولة لتوثيق هذا الجانب الخفى فى ابداعه، بما تثيره تلك الرسائل التى حاولت جمعها من هنا وهناك ومن بعض المصادر الخاصة حتى تكتمل الرؤية. وهى رسائل بعضها ذو طابع برقى سريع، وبعضها أشبه بالحوار الادبى والثقافي، لكنها ــ بكل تأكيد ــ تحمل فى طياتها أسئلة جوهرية حول التجربة الإبداعية والإنسانية وموقف المثقف من القضايا العامة والحريات. حكاية "نوبل" لم تكن علاقة نجيب محفوظ بجائزة "نوبل" هى فوزه بها عام 1988 بل سبقتها إرهاصات مصرية رشحت الرجل للحصول على الجائزة وان جاءت فى شكل مقالات نقدية وتنبؤات فنية كما حدث مع عميد الادب العربى د. طه حسين حين قرأ له رواية "بين القصرين" فأكد ان محفوظ اقدر الادباء العرب للحصول على الجائزة، وبعد نبوءة طه حسين بما يقرب من ثلاثين عاما وتحديدا فى عام 1891 ترددت الشائعات عن ترشيح أديبنا للجائزة، وحوارات محفوظ فى هذه السنة تدل على ذلك، رغم انه نفى علمه بهذا الامر، فنراه يقول فى احد حواراته لمجلة اكتوبر فى يوليو 1982:"ان الخبر لا اساس له من الصحة، لقد اخبرنى استاذنا توفيق الحكيم أمام عدم علمى بأى شىء يتعلق بهذا الترشيح، بأنه عندما يرشح اديب لجائزة نوبل، فإنهم يطلبون من سفارة بلده فى عاصمة السويد ان تخطره بذلك وان تطلب منه ان يقدم بعض المعلومات عن شخصه وإنتاجه، وانا لم يتصل بى احد فى هذا الشأن لا من سفارتنا ولا من اى جهة اخرى.. وليس من المعقول ان يرشح اديب لجائزة مثل هذه بغير علمه وبهذا يمكن القول مرة اخرى بأن الخبر الذى قرأناه كان غير صحيح". وأرجع محفوظ فى هذا الحوار مع الكاتب عبد العال الحمامصى السبب فى تأخر حصول احد من الادباء العرب على مثل هذه الجائزة العالمية الى ضعف حركة الترجمة فى الوطن العربي، رغم وجود مؤسسات كبرى للنشر الا انها ــ للاسف الشديد ــ لم تقم بدورها المنوط بها امثال هيئة الكتاب، رغم وجود قامات ابداعية كبرى كتوفيق الحكيم ويحيى حقى ويوسف ادريس. وظل محفوظ على قوائم الترشيح او قريبا منها لسنوات طويلة هو والحكيم، ويوسف ادريس الذى كان الاقرب للحصول عليها عام 5891 لولا ان اللجنة اختارت الروائى الفرنسى كلود سيمون بحجة ان الجائزة لم يحصل عليها فرنسى منذ عشرين عاما بعد رفض جون بول سارتر لها عام 1964 وجاء هذا فى لعبة سياسية واضحة المعالم، رغم ان كل المؤشرات ــ فى ذلك الوقت ــ كانت تؤكد ان إدريس هو الاقدر على الحصول عليها، لكن اثبتت التجربة ان القيمة الادبية ليست هى الفيصل فى نمط الاختيار. وهنا لنا ان نتساءل كيف تم ترشيح نجيب محفوظ للجائزة فى عام 1988؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد ان نشير الى ان بعض المستشرقين الاجانب، كان منهم بعض المنصفين الذين اهتموا بترجمة النذر اليسير من الأدب العربي، فترجمت بعض اعمال يحيى حقى ويوسف ادريس اما توفيق الحكيم فقد اهتم بترجمة كتبه بنفسه، وعرفت مؤلفاته طريقها للقارئ الغربى منذ العشرينيات من القرن الماضى بالاضافة الى ترجمة بعض اعماله على يد هؤلاء المستشرقين الذين ترجموها بغرض الدرس الاكاديمى فى الجامعات الاوروبية، ومن هؤلاء الذين اهتموا بالرواية العربية وبأدب نجيب محفوظ ــ تحديدا ــ المستشرق شيفتيل ــ رئىس قسم الدراسات العربية بجامعة ليدز البريطانية ــ والذى كان ضلع اساسى فى ترشيحه للجائزة على اعتبار انه اول أديب عربى من الممكن ان يحصل عليها، وبالفعل كتب شيفتيل خطابا الى الاكاديمية السويدية فى 10 فبراير 1988 يرشح فيها محفوظ، وبعدها باسبوع ارسل شيفتيل خطابا لمحفوظ فى يوم 17 فبراير 1988 يخبره فيه بنبأ الترشيح.. وهذا نصه: الاستاذ نجيب محفوظ المحترم، تحية طيبة وبعد، أتشرف بارسال هذه السطور القليلة مقدما نفسى لسيادتكم وإخباركم بأن الاكاديمية السويدية لجائزة نوبل ارسلت الى اخيراً خطابا طلبت فيه ان اوافيهم باسم أديب يرشح للجائزة المذكورة اعلاه للسنة الجارية. فقد سررت جداً بهذه الفرصة الذهبية لإلفات نظرالاكاديمية الى أعمالكم الادبية التى يشار اليها بالبنان لأننى لم آلف أحداً أجدر وأحق من سيادتكم بهذه الجائزة. فلهذا هرعت الى ارسال توصيتى المتواضعة مؤكدا ان منح سيادتكم جائزة نوبل يعنى إعطاء القوس باريها نظراً لما وضعتموه من مؤلفات تعتبر من أرسخ دعائم وركائز الادب العربى المعاصر. فلا تؤاخذنى على عدم الاستشارة بسيادتكم قبل إرسال التوصية وذلكم لقصر الوقت، فأتمنى لسيادتكم ان تفوزوا بهذه الجائزة الرفيعة كى تحظى ثروتكم الادبية بالاعتراف الدولى الذى تستحقه. واخيراً فاقبلوا تمنياتنا القلبية مبتهلين من الله تعالى ان يعطيكم الحول والقوة والعافية للمضى فى إجزال العطاء الادبى لكل الناطقين بالضاد. المخلص أ. د. شيفتيل رئيس قسم الدراسات العربية الحديثة جامعة ليدز ـ بريطانيا وبتاريخ 22 فبراير 1988 نجد خطاباً يرد فيه محفوظ على رسالة شيفتيل هذا نصه: الأستاذ الدكتور شيفتيل تحية طيبة وبعد فقد تلقيت رسالتك الكريمة التى تنبئنى فيها بتفضلكم بتزكيتى لدى لجنة نوبل بالسعادة والشكر والتقدير، ومهما تكن النتيجة النهائية لمسعاكم الحميد فحسبى أننى فزت بتقدير أستاذ كبير فاضل مثلكم وهذا تقدير من ناحيته الادبية لا يقل عن الجائزة بحال. أكرر الشكر يا سيدى ولك منى أطيب تحية المخلص نجيب محفوظ
 Posted by Picasa