نشأةٌ في مكان ما
سميرة المانع
عندما كان التأريخ يُسجل، عندنا، بمدينة البصرة عن طريق سكنى أهلي في البيوت المؤجرة هنا وهناك، لنثبت ولادة أخي أو أختي أو سنة حصول كارثة طبيعية أو إفلاس تاجر نعرفه في تلك الأيام، أسمع نساء البيت يقلن : " حصل هذا عندما كنا في بيت ( جول ) أو ( الزامل ) " أو غير ذلك من أسماء الذين يملكون بيوتاً استأجرناها
منهم في تلك الأثناء. بهذه الدقة المتناهية في الحساب، دربنا على المهارة في معرفة التواريخ وما يتبع ذلك من أمور. في نفس الوقت كنا نسمع والدتنا المحرومة من التعليم لانعدام المدارس للبنات وتقاليد عدم الخروج من البيت للفتاة، تتحسر مراراً كلما رأت كتاباً أو أرادت فتح رسالة أو قراءة قائمة حساب. تلوم والدها المتوفى من زمان، على حالتها. أمّا هو فكان المجتهد على الدوام، كما يبدو، كي يرضي فلاناً أو علاناً من معارفه، مراعيا شعورهم، خوفا من انتقاده في حالة ابتعاده عن تقاليد يحسب لها ألف حساب.أجيء من المدرسة، مسرعةً، حاملة حقيبتي، أفض كتاب القراءة للصف الثاني الابتدائي، أعثر على الدرس الأخير الذي وصلنا إليه، وتعلمناه ذلك اليوم، أقرأه لأمي كي اؤنسها. أقرأ قصة : ( الخروف العنيد). كنتُ أريد مشاطرتها في الدراسة والمعلومات. يطربني الحبور الذي يكتسي وجهها به. الفرح المتنامي في الإصغاء، لا تعادله من بعد،ُ نشوة أي إطراء يصلني من ناقد. أثناءها كنت في ناحية الزبير بمدينة البصرة وأصوات مدافع الحرب العالمية الثانية ترن أصداؤها على شكل قحط في بعض المواد الغذائية كالسكر الأسمر في نظام التموين أو هل سنستعمل دبس التمر في الشاي. يدور نقاش حار أحيانا على خلو الأسواق من بعض المواد الغذائية، متذكرين خصوصاً افتقاد السكر الأبيض الناصع وكأنه قضية مهمة من قضايا الساعة، مهملين أسباب قيام الحرب، كي نأخذ العبرة والدرس منها للاحتياط. لم نعرف ببطرنا، أن الحرب ستتقدم نحونا كعقرب، ساعية لعقابنا على الإهمال، إلا حين وصلنا الربع الأخير من القرن العشرين. أوقدها طاغية منا، جاء على غفلة من بيننا، بتصرفاته الحمقاء. جاءت من دون علمنا كشعب، وشاهدنا نتائجها على شكل عناقيد قنابل وكمثرى صواريخ وبودرة مواد كيماوية حارقة. لم يكن يخطر التنبؤ بوقوعها ببالنا أو كانت بالحسبان. كل شيء معلق ومتروك للحظ والنصيب قبل ذلك، بقول معروف يتردد كل صباح على لسان مربيتي (فطومة) حين تزيح فوطتها من على صدرها مخاطبة السماء بـ" يا فتاح يا رزاق يا مقسم الأرزاق " مكتفية بذلك. الآن، وأنا أكتب هذه السطور، أتساءل كيف سيتحقق الأمر لها وتُرزق بإنصاف. ليس للمسكينة أية وسيلة معيشية أخرى للوصول إلى ذلك سوى تربيتنا، ولا أعتقد أن هناك أملاً كبيرا عدا ملء بطنها بالطعام مع كسوة واحدة لها في الصيف وأخرى في الشتاء. العادة المتبعة آنئذ، في ألا تكون الأجور نقداً للعامل أو العاملة في البيوت. يقبلون بها من فرط الجوع وانعدام فرص الرزق في المعاش. يتصورانني نائمة تحت اللحاف، كحال أختي وأخي الصغير النائمين قربي. كنتُ اسمع صوت غنائهما معاً، حول موقد الفحم في الشتاء . والدتي ومربيتي فطومة، جالستان تتعللان والليل البهيم المظلم في الخارج حالك، بينما في تلك الغرفة، ينبعث من اللمبة النفطية نور أشقر . أحياناً، تروي لنا إحداهما، أثناء الحديث في مجرى ذكرياتها عن الماضي، كيف امتعض وغضب بعض أفرادٍ من ناحية الزبـير، بعد الحرب العالمية الأولى ، بسبب إنارة شوارعهم بالمصابيح المضاءة ليلاً. كسر صبيانهم المصابيح المعلقة، فوراً، بالحصى والنباطات و المصائد. قضوا على الفكرة وهي في مهدها، كي لا يغير المستعمر البريطاني من طريقة وأسلوب نظام حياتهم المعتادين عليه، مفضلين العتمة. والدتي ومربيتي فطومة، معي الآن، قريبتان مني وبعيدتان عن الرجال جميعاً ، بضمنهم والدي الذي كان موظفا في دائرة الكمارك بالبصرة . يتطلب عمله التنقل بأمكنة كثيرة على الحدود. الأغنيات التي تصلني منهما، وهما جالستان حول النار، أسمعها برقة صوتيهما معا، تبعاً لانتشارها الشفاهي بين أبناء العراق عموما، إذ لا مذياع ولا وسيلة أخرى قادرة على نقلها سوى أصوات البشر العاديين. تصل إليهما، بقدرة قادر، وكأنها رسول مستعجل يسافر في الريح من دون بساط سحري:" جا ( كون) مالي واليبويه اسم الله متعذبة بدنيايجا مالي والي بطة وصطدتنيبويه اسم الله بين الجرف والمايبطة وصطدتني يالـ ما ردتنيبويه اسم الله تكسر جناحيليش يالـ ما ردتنيهذا الشجن بالظلم، لم أكن أفهمه، يصلني عن طريق الأغنية بشكل لطيف. أنا سعيدة، راضية، مطمئنة، عيناي تُغمضان بهدوء تدريجي في مكاني الدافئ.كانت مفاجأة أن أرى مع أخوتي بالزبـير، التي تبعد عن البصرة 14 ميلاً، اسماءنا مسجلة مع تواريخ أعياد ميلادنا باليوم والشهر والسنة على حائط بيتنا بخط والدنا الغائب. أصبح الحائط، بالنسبة لنا منذ ذلك اليوم، لوحة أثرية طينية من ألواح مكتبة بانيبال . هذا الحائط الصامت أفادنا كثيراً ،كفانا وقتها الإلحاح في السؤال والتحري من الوالدة في أي بيت ولد كل واحد منا. طيلة دراستي الابتدائية في تلك الناحية استجمعتْ الحياة تناقضاتها وتنوعها، فبمجرد قطع مسافة قصيرة وفي ظرف ربع ساعة فقط، نصل مبتعدين من فضاء عري الصحراء وجفافها، ، إلى غابة نخيل باسقة تزنر مدينة البصرة حيث مسقط رأسي. سرعان ما يبدأ المناخ بالنعومة والاسترخاء بمجرد الدخول في حيزها، منتقليـن إلى عالم أخضر لا علاقة له بدنيانا السابقة. دلتا مياه فياضة، سهولة زراعة في تربة غرينية من دون جهد أو عناء. تصبح آية " لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها " تمارس فعلاً بارتياح تام . التنوع السكاني، في تلك الأيام، بمدينة البصرة نعمة وثراء، حيث اختلاف الأهالي بالملابس والسحنات والتقاليد الدينية حدث ولا حرج. الجميع مقبول ومعقول ومحترم. نادرا ما سمعتُ، طيلة وجودي فيها، نزاعاً حاداً بصوت عالٍ في الشارع، ناهيك عن حوادث الجرائم الكبرى.أنا لا أزال بالابتدائية حين صرتُ أدور كالفرجال جغرافيا بالأنحاء عن طريق كتب ومجلات ملونة. يجلبها والدي معه من عمله عند رجوعه إلينا. هي إحدى وسائل تسليته، على ما يبدو، عندما يكون بعيداً عنا، وحيداً. يتركها في البيت كي نسارع _ نحن أبناءه_ ممن تعلم القراءة الآن، لاختطافها. نلتهمها كحلويات لذيذة نادرة الطعم. معظمها مجلات مصرية تتحدث عما يحدث في معظم بقاع الأرض عندما كانت مصر الرئة الوحيدة للتنفس في المنطقة العربية كلها. الفن المصري، غناء وموسيقى وأفلام، يُسهر من أجله في الليالي و يُسافر نحوه بالطائرات. بينما يكتب توفيق الحكيم (عودة الروح ) بأنامله، دون ضوضاء أو شعوذة، نموذجاً في الصدق الابداعي الروائي.ناحية (الزبـير) هامة البصرة الصحراوية كصلعة في الرأس. بيوتها، في الغالب، بناؤها واطئ وحيطانها من اللَبن . يتحرش الشتاء العراقي بها ، مغازلاً ومداعبا أولاً، ببضع نسيمات لينات كل عام. تصده بدلال غانية تخـفي عظامها اليابسة خجلاً، قبل أن يأتيها غازياً بعد انتهاء الخريف، فتتلقفه بشوق العشيقات. موسم الشتاء هناك، مع سطوع الشمس المبّهر، يتيح للسكان غفران سموم الريح اللاهبة أثناء غضب صيف الصحراء. يبقى الشتاء ذهباً خالصاً للاستمتاع به لفترة وجيزة، حوالي ثلاثة شهور. علاوة على ذلك، يسقط مطر قليل، يبتسم الزبـير الأملح له، محييا،ً بأسنان بيض متألقة في وجهه الأسمر الطيب . تمتلئ مساحات البراري بعد ذلك، بسجاجيد ملايين الزهر المنمنم المنقوش بألوان بنفسجية وصفراء وبيضاء على مدى البصر. أشجار الثيل المتربة في الصيف والعاقول الشوكي العدائي،يتغيران. وهما النوعان، من النبات، المسموح لهما بالنمو في تلك الطبيعة الخشنة. يمتلئان ثقة بالنفس نتيجة الصحة والعافية، متلونين بالأخضر الغامق . تفد عليهما زرافات زرافات من أبناء مركز مدينة البصرة الرطبة كالتمرة الناضجة الحلوة، تائقين لرؤية التغيير المدهش الذي حصل في البقعة المالحة. سيارات قادمة إلى ناحية الزبـير مبتهجة، محمّلة بما لذ وطاب للمشتى الخام العفوي، الخالي من الرتوش أو الصناعة، بعيداً عن التجارة والاستغلال بمفاتنه من أجل جلب الزبائن إليه. أشجار الثيل المهجورة سابقاً تصبح ملاذاً لقوارير وأباريق، سجاجيد ورائحة قهوة ومتاعاً للزوار. نرى السيارات خاطفة أمام بيتنا، أحيانا، فنعرف أنهم على موعد مع اللهو والأكل والغناء أو ما يُطلق عليه هناك بنـزهة ( الكشته) . آثارها تبقى لفترة طويلة على شكل أثافي ورماد اسود لمواقد أقيمت على عجل من قبل أصحابها ، منتشرة مبعثرة في الأنحاء قبل أن يتركوها كبدوٍ رحّل. كثرة انتشار فرق الغناء العديدة بالبصرة، من البيض والزنج، غالبية المغنين فيها من النساء تدل على الذوق والمزاج في حب الطرب والأنس لدرجة بات يستعمل الغناء كوظيفة تأتي بالرزق والشهرة. هناك نزهة أخرى بالبصرة شبيهة بالأولى تسمى بـ( الكسلة)، كلتاهما تقام سنوياً، لكن الأخيرة ميدانها الماء بدل الرمل، تقام في منتصف شط العرب، في قوارب للرقص على صوت (الدنابك) العالية النبرة، السريعة الإيقاع، منتهزين عيد النوروز المحتفى به ربيعياً عند الأكراد و بإيران. لا يفوت البصرة اقتناصه بدل إهماله. إن تنوعها السكاني ضم في أطيافه حبّاً للفن على أنواعه، وكأنها تعرف بالفطرة أن الفن وحده قادر كي يوحد قلوب شعوب الأرض جميعا. لا عجب أن برز فيها، بعد الحرب العالمية الثانية، أهم رواد الشعر الحديث بالبلاد العربية. بدلاً من أن يبرز من بين ابنائها وزراء أو رؤساء سياسيين من دعاة سلطة . الصراع على الكراسي والحكم قليل فيها. إذ يتعارض مع طبيعتها المرنة السمحاء الزاهدة في كثير من الأمور. نادراً ما كانت تهمها السياسة من أجل التنافس على المناصب، كما ظهر ذلك جلياً للعيان في مجرى تأريخ السياسة العراقية المعاصرة مؤخراً وفي قائمة أسماء الوزراء والحكام الطويلة العريضة . الشيء اللافت للنظر أيضاً أنها خلاف معظم مدن العراق، لم يكن بها نظام إقطاعيّ قاسٍ صارم يظلم الفلاح. كما هو موجود في أغلب المدن هناك. كان مالك الأرض والفلاح فيها متفاهمين عموما. يتقاسمان رزق محصول البساتين المثمرة بطريقة فيها شيء من العدالة والمودة والإخاء. نداء (خويه) أي أخي (مصغراً) يتردد أثناء الحوار بينهما. لإكمال دراستي الثانوية وصلنا إلى ما وصلنا إليه أخيراً. عدنا للبصرة مرة أخرى. صار كبيرنا يتحدث بأشياء تثيرنا وتخيفنا. الأخ الثاني قبضت عليه الشرطة وهو يكتب على الحائط عبارات تحرمها السلطة. نسمع ونقرأ نثرا وشعراً حول أمور تُصلح، تهدد، تحلم. عاقبتها صارت وخيمة بعد فوات الآوان. ما بين حكومة لا زالت طريّة العود في بداية الحكم الوطني، بطيئة في الإصلاح الذي يريده البعض جذرياً، وبين شباب فاقد الصبر للوصول إلى مبتغاه بسرعة. ساسة لا زال يعشش برأسها اسلوب معاملة حكم ( العصملي) أي العثماني، حيث الظلم شئ بسيط يمارسه الحاكم حسب رغبته وكيفما يشاء ، وعهد محاسبة ورغبة عند الشعب، من الصميم، كي يعيش العصر الحديث. تُطوى تلك الصفحة والابتداء بالإصلاحات بخطوات واسعة مضمونة مدروسة. شدّ وجّر، غباء وحماقات، سجون وأحكام، فصل من الوظيفة للبعض وشعور بالإحباط. لماذا هذا التلكؤ في السير، متى نصل للهدف رأساً؟ حتام الانتظار؟! انظروا ما وصلت إليه بعض البلدان، نريد شيئا مثلها وبسرعة خاطفة، رغم ما لدينا من عوائق وقلة إبصار.من جميع المعلومات التي وصلت إلينا عن طريق المذياع، الذي اقتنيناه الآن، إلى الصحف والمجلات التي نقرأها باستمرار، بالإضافة إلى الكتب والمجلدات، عجزنا عن مجادلة والدتي يوما. والدة محرومة من التعليم حُكم عليها بالبقاء في الظلمة كسجن مؤبد، أخرست نقاشاتنا يوما. قصة والدها نعرفها من قبل، سبق أن ذكرتها لنا. ذاك الذي خرج مع أعيان البصرة، كما روتْ لنا سابقاً، محتجين على دخول بريطانيا للعراق سنة 1914. أجمعوا كلهم على كلمة واحدة لإيصال الاحتجاج الشديد بأنفسهم، ذاهبين إلى منطقة الفاو حيث الخليج وهو يبعد أربع ساعات بالسيارة. هناك، كما عرفوا، ستنـزل السفن الحربية البريطانية حمولتها لتستولي على العراق كله. كانوا غاضبين، ملتهبين بالحماس ، نفوسهم كالحديد الذي يُصلى بالأفران. يجب إيقاف السفن من أجل الدفاع عن الدولة العثمانية.إنها دولة إسلامية وهم معها كيفما كانوا أو كانت وبأي مكان. بعد أربعة أيام عادوا لبيوتهم وكانوا حفاة الأقدام . ماذا جرى ؟ إنهم لم يتمكنوا من صدّ عدوهم، يا للخيبة. كان عمرها في الحادية عشرة. رأت دخول البريطانيين للعراق بشكل ملموس. تحسستْ ما دار في القلوب والأفواه. الآن تريد أن تدير الحديث معنا، نحن أبناءها، لقد صمتت بما فيه الكفاية، نفد صبرها . كانت تتصور أننا متعلمون وقد ختمنا الدرس . شبه مستغربة من الضجة التي نقيمها ولا نعرف كيف نقعدها. نحن لأول مرة نشعر بسوء التفاهم معها، قالتْ : " أنا لا أفهمكم، ألم تُفتحْ أول مدرسة لتعليم البنات بالبصرة بعد دخول بريطانيا للعراق؟! حُرمتُ من الانضمام إليها، كما أخبرتكم، كوني قد بلغت الثالثة عشرة من عمري فحكم والدي عليّ أن أتهيأ للزواج. استفادت أختاي الأصغر مني سناً ،لحسن الحظ. ما رأيكم بذلك ؟ أكثر من هذا، صار أبي ينام ليله هانئاً بعد أن خاف منه الرجال المجرمون وكفواّ عن طرق بابنا بما يسمى( دكاكة )، اولئك الذين يدقون أبواب بيوت الناس النائمة، بعددهم الذي يقارب الأربعين، مسلحين كزبانية لكبار المتنفذين الأشرار بالبصرة، من أجل أن يأخذوا عنوةً النقود، من معظم الملاكين الصغار كوالدي، بعد موسم قطاف الثمرة وعادة ما يكون في الخريف. يزوروننا ليلاً مهددين أبي ، ليأخذوا حلاله بعد أن يكون الفلاح سلمه حصته من بيع ثمرة البستان. يحدسون متأكدين أن مبلغ النقود المستوفاة صارت عنده بالدار." لا جدوى من نقاشاتنا وجدلنا معها.أوراقنا لا تكفي ولا تقنعها. تمسك الحياة بقبضتها الحارة من تجربتها الشخصية وحدها، تقلبها وتثنيها بيدها المعروقة. لم تتعلم مثلنا أن تتحدث عن شئ لم يحصل ولم تره. كما لا تستطيع ، وقد استمعت كثيرا لنا حتى بلغت من الكبر عتياً، أن لا تقول كلاماً صريحاً من دون لف أو دوران. تطرح أفكارها أمامنا ببساطة فلاح. تبحث عن النتائج والجودة في المحصول، لا يهمها ما تقوله الأفواه. أردفتْ عندما وجدت صمتنا زاد عن سابق عهده قائلة : " وما رأيكم بالجسور من جذوع النخيل هناك، هل أنساها أيضاً تُرى. ما أكثر ما سقطنا من عليها إلى قاع الأنهار. ذهب الكثير منا غرقاً في قريتي السراجي ومهيجران وغيرهما من القرى المنتشرة في قضاء (ابو الخصيب) المملوء بالجداول والترع، كما تعرفون. تنفس الآباء والأمهات الصعداء عندما وجد الأهالي أن أفرادا من الجيش البريطاني شرع في بناء الجسور الحديدية القوية الصلدة بدلاً من جذوع النخيل المستخدمة في السابق من أجل عبور الأنهار.لم يعد خوفهم على أولادهم من الغرق، أثناء غيابهم، الشغل الشاغل لهم سواء في الليل أو أثناء النهار ."كلام خطير من الوالدة، ما هي التهم التي ستُقذف بها. عميلة على ما أتصور! احتج البعض منا وكان نفَسُه طويلا، ولو لم تكن المتكلمة أمه لخلته يحد أسنانه : " ولكن هذه لمصلحتهم هم، لمصلحة الاستعمار، من أجل فائدة الجيش البريطاني نفسه، هل نسيتِ هذا ؟!". " طيب، ليكن، ولكن هل أخذوا الجسور معهم إلى بريطانيا، لقد بقيتْ في مكانها، إذا استفادوا منها فنحن لا نقل عنهم استفادة . ابتداء من التعليم إلى الجسور المتينة، إلى أشياء وأشياء. نتعامل بالمقاضاة"صفن الجميع أثناء كلامها. كم ستكسد من تجارة، تفشل أحزاب، تهبط شهرة أشخاص، لو اكتفى البعض بما ذكرته الأم فقط. كانت تقول ضمناً إن أهم ما يحتاج إليه المرء في هذه الحياة هو الأمان، الماء والطعام والحرية. مسألة فيها نظر على ما أظن . ستبقى السيوف والخناجر على الخواصر، القنابل والدبابات في المخازن والمعامل، يحتفظ بها من يتحجج أنها وسائله للدفاع عن نفسه، إذا اقتضت الحاجة، من أجل القومية ، الدين ، الجنس وحتى الطائفة واللون. لا يذكر الحاجات الأخرى، بل يتناساها. لكنها لم تشر إلى أن هذه المسألة مستمرة منذ أن دوّن تأريخ الأمم إلى الوقت الحاضر. كم من مآسٍ جرتْ باسمها في تأريخ البشرية القاسي المؤلم الحافل بالآلام والدماء. لم يسأل أحدٌ نفسه، إلا نادراً، هل إذا جاء فرد يتشابه معه بالقومية بالدين او اللون ، سيوفر له النقص في الحاجات الأساسية أو يعامله بالمثل التي يريدها لنفسه فعلاً، أم أن الأمر لا يعدو سوى أكذوبة وخديعة كبرى ؟ هل القومية كافية ؟ هل الدين أكثر دفاعا عنه، أم الجنس، أم الطائفة أم اللون على سبيل المثال. المسألة كلها فيها نظر باعتقادي مرة أخرى وبالخصوص الآن . التجربة التي مرت بنا مؤخرا وتحسسناها بأنفسنا قبل مدة قصيرة تغنينا عن البيان. نكتفي في رؤية المقابر الجماعية و سجون صدام حسين وحرقه للشعب بالقنابل الكيمياوية، بجانب قصوره المرفهة الباذخه لنفسه عندما حكم العراق .ظلت العيون متعلقة بالوالدة متحدثة على هواها، مكتشفين ذرات الغباء المتطاير من ألفاظنا السابقة هنا وهناك، لا نريد أن نعترف بفشلنا في أدويتنا التي أُعطيت لنا، على الرغم من علمنا أن لا جدوى منها للشفاء. قالت أخيراً بعطف، واعية لإصغائنا وصمتنا التام :" لم ينجُ ( يعيكيب) - تصغير لاسم يعقوب والمدينة مغرمة بتصغير أسماء الأشخاص فيها تدليلاً وتحبباً- لقد غرق بعد أن زلتْ قدمه من على جذع النخلة المحسوبة جسراً.لم يستطع أحد إنقاذه. راحَ ، راحَ، ذهبَ مع المدّة (ظاهرة المد والجزر بالبصرة).تعني ذهب مع مياه النهر حيث كان فيه ارتفاع مدّ عالٍ قبل أن يعود إليه الجزر فينخفض مستواه، كما هي الحالة المعروف حصولها، كظاهرة طبيعية، يومياً في أنهار وجداولمدينة البصرة.
سميرة المانع
عندما كان التأريخ يُسجل، عندنا، بمدينة البصرة عن طريق سكنى أهلي في البيوت المؤجرة هنا وهناك، لنثبت ولادة أخي أو أختي أو سنة حصول كارثة طبيعية أو إفلاس تاجر نعرفه في تلك الأيام، أسمع نساء البيت يقلن : " حصل هذا عندما كنا في بيت ( جول ) أو ( الزامل ) " أو غير ذلك من أسماء الذين يملكون بيوتاً استأجرناها
منهم في تلك الأثناء. بهذه الدقة المتناهية في الحساب، دربنا على المهارة في معرفة التواريخ وما يتبع ذلك من أمور. في نفس الوقت كنا نسمع والدتنا المحرومة من التعليم لانعدام المدارس للبنات وتقاليد عدم الخروج من البيت للفتاة، تتحسر مراراً كلما رأت كتاباً أو أرادت فتح رسالة أو قراءة قائمة حساب. تلوم والدها المتوفى من زمان، على حالتها. أمّا هو فكان المجتهد على الدوام، كما يبدو، كي يرضي فلاناً أو علاناً من معارفه، مراعيا شعورهم، خوفا من انتقاده في حالة ابتعاده عن تقاليد يحسب لها ألف حساب.أجيء من المدرسة، مسرعةً، حاملة حقيبتي، أفض كتاب القراءة للصف الثاني الابتدائي، أعثر على الدرس الأخير الذي وصلنا إليه، وتعلمناه ذلك اليوم، أقرأه لأمي كي اؤنسها. أقرأ قصة : ( الخروف العنيد). كنتُ أريد مشاطرتها في الدراسة والمعلومات. يطربني الحبور الذي يكتسي وجهها به. الفرح المتنامي في الإصغاء، لا تعادله من بعد،ُ نشوة أي إطراء يصلني من ناقد. أثناءها كنت في ناحية الزبير بمدينة البصرة وأصوات مدافع الحرب العالمية الثانية ترن أصداؤها على شكل قحط في بعض المواد الغذائية كالسكر الأسمر في نظام التموين أو هل سنستعمل دبس التمر في الشاي. يدور نقاش حار أحيانا على خلو الأسواق من بعض المواد الغذائية، متذكرين خصوصاً افتقاد السكر الأبيض الناصع وكأنه قضية مهمة من قضايا الساعة، مهملين أسباب قيام الحرب، كي نأخذ العبرة والدرس منها للاحتياط. لم نعرف ببطرنا، أن الحرب ستتقدم نحونا كعقرب، ساعية لعقابنا على الإهمال، إلا حين وصلنا الربع الأخير من القرن العشرين. أوقدها طاغية منا، جاء على غفلة من بيننا، بتصرفاته الحمقاء. جاءت من دون علمنا كشعب، وشاهدنا نتائجها على شكل عناقيد قنابل وكمثرى صواريخ وبودرة مواد كيماوية حارقة. لم يكن يخطر التنبؤ بوقوعها ببالنا أو كانت بالحسبان. كل شيء معلق ومتروك للحظ والنصيب قبل ذلك، بقول معروف يتردد كل صباح على لسان مربيتي (فطومة) حين تزيح فوطتها من على صدرها مخاطبة السماء بـ" يا فتاح يا رزاق يا مقسم الأرزاق " مكتفية بذلك. الآن، وأنا أكتب هذه السطور، أتساءل كيف سيتحقق الأمر لها وتُرزق بإنصاف. ليس للمسكينة أية وسيلة معيشية أخرى للوصول إلى ذلك سوى تربيتنا، ولا أعتقد أن هناك أملاً كبيرا عدا ملء بطنها بالطعام مع كسوة واحدة لها في الصيف وأخرى في الشتاء. العادة المتبعة آنئذ، في ألا تكون الأجور نقداً للعامل أو العاملة في البيوت. يقبلون بها من فرط الجوع وانعدام فرص الرزق في المعاش. يتصورانني نائمة تحت اللحاف، كحال أختي وأخي الصغير النائمين قربي. كنتُ اسمع صوت غنائهما معاً، حول موقد الفحم في الشتاء . والدتي ومربيتي فطومة، جالستان تتعللان والليل البهيم المظلم في الخارج حالك، بينما في تلك الغرفة، ينبعث من اللمبة النفطية نور أشقر . أحياناً، تروي لنا إحداهما، أثناء الحديث في مجرى ذكرياتها عن الماضي، كيف امتعض وغضب بعض أفرادٍ من ناحية الزبـير، بعد الحرب العالمية الأولى ، بسبب إنارة شوارعهم بالمصابيح المضاءة ليلاً. كسر صبيانهم المصابيح المعلقة، فوراً، بالحصى والنباطات و المصائد. قضوا على الفكرة وهي في مهدها، كي لا يغير المستعمر البريطاني من طريقة وأسلوب نظام حياتهم المعتادين عليه، مفضلين العتمة. والدتي ومربيتي فطومة، معي الآن، قريبتان مني وبعيدتان عن الرجال جميعاً ، بضمنهم والدي الذي كان موظفا في دائرة الكمارك بالبصرة . يتطلب عمله التنقل بأمكنة كثيرة على الحدود. الأغنيات التي تصلني منهما، وهما جالستان حول النار، أسمعها برقة صوتيهما معا، تبعاً لانتشارها الشفاهي بين أبناء العراق عموما، إذ لا مذياع ولا وسيلة أخرى قادرة على نقلها سوى أصوات البشر العاديين. تصل إليهما، بقدرة قادر، وكأنها رسول مستعجل يسافر في الريح من دون بساط سحري:" جا ( كون) مالي واليبويه اسم الله متعذبة بدنيايجا مالي والي بطة وصطدتنيبويه اسم الله بين الجرف والمايبطة وصطدتني يالـ ما ردتنيبويه اسم الله تكسر جناحيليش يالـ ما ردتنيهذا الشجن بالظلم، لم أكن أفهمه، يصلني عن طريق الأغنية بشكل لطيف. أنا سعيدة، راضية، مطمئنة، عيناي تُغمضان بهدوء تدريجي في مكاني الدافئ.كانت مفاجأة أن أرى مع أخوتي بالزبـير، التي تبعد عن البصرة 14 ميلاً، اسماءنا مسجلة مع تواريخ أعياد ميلادنا باليوم والشهر والسنة على حائط بيتنا بخط والدنا الغائب. أصبح الحائط، بالنسبة لنا منذ ذلك اليوم، لوحة أثرية طينية من ألواح مكتبة بانيبال . هذا الحائط الصامت أفادنا كثيراً ،كفانا وقتها الإلحاح في السؤال والتحري من الوالدة في أي بيت ولد كل واحد منا. طيلة دراستي الابتدائية في تلك الناحية استجمعتْ الحياة تناقضاتها وتنوعها، فبمجرد قطع مسافة قصيرة وفي ظرف ربع ساعة فقط، نصل مبتعدين من فضاء عري الصحراء وجفافها، ، إلى غابة نخيل باسقة تزنر مدينة البصرة حيث مسقط رأسي. سرعان ما يبدأ المناخ بالنعومة والاسترخاء بمجرد الدخول في حيزها، منتقليـن إلى عالم أخضر لا علاقة له بدنيانا السابقة. دلتا مياه فياضة، سهولة زراعة في تربة غرينية من دون جهد أو عناء. تصبح آية " لا يكلّف الله نفسا إلا وسعها " تمارس فعلاً بارتياح تام . التنوع السكاني، في تلك الأيام، بمدينة البصرة نعمة وثراء، حيث اختلاف الأهالي بالملابس والسحنات والتقاليد الدينية حدث ولا حرج. الجميع مقبول ومعقول ومحترم. نادرا ما سمعتُ، طيلة وجودي فيها، نزاعاً حاداً بصوت عالٍ في الشارع، ناهيك عن حوادث الجرائم الكبرى.أنا لا أزال بالابتدائية حين صرتُ أدور كالفرجال جغرافيا بالأنحاء عن طريق كتب ومجلات ملونة. يجلبها والدي معه من عمله عند رجوعه إلينا. هي إحدى وسائل تسليته، على ما يبدو، عندما يكون بعيداً عنا، وحيداً. يتركها في البيت كي نسارع _ نحن أبناءه_ ممن تعلم القراءة الآن، لاختطافها. نلتهمها كحلويات لذيذة نادرة الطعم. معظمها مجلات مصرية تتحدث عما يحدث في معظم بقاع الأرض عندما كانت مصر الرئة الوحيدة للتنفس في المنطقة العربية كلها. الفن المصري، غناء وموسيقى وأفلام، يُسهر من أجله في الليالي و يُسافر نحوه بالطائرات. بينما يكتب توفيق الحكيم (عودة الروح ) بأنامله، دون ضوضاء أو شعوذة، نموذجاً في الصدق الابداعي الروائي.ناحية (الزبـير) هامة البصرة الصحراوية كصلعة في الرأس. بيوتها، في الغالب، بناؤها واطئ وحيطانها من اللَبن . يتحرش الشتاء العراقي بها ، مغازلاً ومداعبا أولاً، ببضع نسيمات لينات كل عام. تصده بدلال غانية تخـفي عظامها اليابسة خجلاً، قبل أن يأتيها غازياً بعد انتهاء الخريف، فتتلقفه بشوق العشيقات. موسم الشتاء هناك، مع سطوع الشمس المبّهر، يتيح للسكان غفران سموم الريح اللاهبة أثناء غضب صيف الصحراء. يبقى الشتاء ذهباً خالصاً للاستمتاع به لفترة وجيزة، حوالي ثلاثة شهور. علاوة على ذلك، يسقط مطر قليل، يبتسم الزبـير الأملح له، محييا،ً بأسنان بيض متألقة في وجهه الأسمر الطيب . تمتلئ مساحات البراري بعد ذلك، بسجاجيد ملايين الزهر المنمنم المنقوش بألوان بنفسجية وصفراء وبيضاء على مدى البصر. أشجار الثيل المتربة في الصيف والعاقول الشوكي العدائي،يتغيران. وهما النوعان، من النبات، المسموح لهما بالنمو في تلك الطبيعة الخشنة. يمتلئان ثقة بالنفس نتيجة الصحة والعافية، متلونين بالأخضر الغامق . تفد عليهما زرافات زرافات من أبناء مركز مدينة البصرة الرطبة كالتمرة الناضجة الحلوة، تائقين لرؤية التغيير المدهش الذي حصل في البقعة المالحة. سيارات قادمة إلى ناحية الزبـير مبتهجة، محمّلة بما لذ وطاب للمشتى الخام العفوي، الخالي من الرتوش أو الصناعة، بعيداً عن التجارة والاستغلال بمفاتنه من أجل جلب الزبائن إليه. أشجار الثيل المهجورة سابقاً تصبح ملاذاً لقوارير وأباريق، سجاجيد ورائحة قهوة ومتاعاً للزوار. نرى السيارات خاطفة أمام بيتنا، أحيانا، فنعرف أنهم على موعد مع اللهو والأكل والغناء أو ما يُطلق عليه هناك بنـزهة ( الكشته) . آثارها تبقى لفترة طويلة على شكل أثافي ورماد اسود لمواقد أقيمت على عجل من قبل أصحابها ، منتشرة مبعثرة في الأنحاء قبل أن يتركوها كبدوٍ رحّل. كثرة انتشار فرق الغناء العديدة بالبصرة، من البيض والزنج، غالبية المغنين فيها من النساء تدل على الذوق والمزاج في حب الطرب والأنس لدرجة بات يستعمل الغناء كوظيفة تأتي بالرزق والشهرة. هناك نزهة أخرى بالبصرة شبيهة بالأولى تسمى بـ( الكسلة)، كلتاهما تقام سنوياً، لكن الأخيرة ميدانها الماء بدل الرمل، تقام في منتصف شط العرب، في قوارب للرقص على صوت (الدنابك) العالية النبرة، السريعة الإيقاع، منتهزين عيد النوروز المحتفى به ربيعياً عند الأكراد و بإيران. لا يفوت البصرة اقتناصه بدل إهماله. إن تنوعها السكاني ضم في أطيافه حبّاً للفن على أنواعه، وكأنها تعرف بالفطرة أن الفن وحده قادر كي يوحد قلوب شعوب الأرض جميعا. لا عجب أن برز فيها، بعد الحرب العالمية الثانية، أهم رواد الشعر الحديث بالبلاد العربية. بدلاً من أن يبرز من بين ابنائها وزراء أو رؤساء سياسيين من دعاة سلطة . الصراع على الكراسي والحكم قليل فيها. إذ يتعارض مع طبيعتها المرنة السمحاء الزاهدة في كثير من الأمور. نادراً ما كانت تهمها السياسة من أجل التنافس على المناصب، كما ظهر ذلك جلياً للعيان في مجرى تأريخ السياسة العراقية المعاصرة مؤخراً وفي قائمة أسماء الوزراء والحكام الطويلة العريضة . الشيء اللافت للنظر أيضاً أنها خلاف معظم مدن العراق، لم يكن بها نظام إقطاعيّ قاسٍ صارم يظلم الفلاح. كما هو موجود في أغلب المدن هناك. كان مالك الأرض والفلاح فيها متفاهمين عموما. يتقاسمان رزق محصول البساتين المثمرة بطريقة فيها شيء من العدالة والمودة والإخاء. نداء (خويه) أي أخي (مصغراً) يتردد أثناء الحوار بينهما. لإكمال دراستي الثانوية وصلنا إلى ما وصلنا إليه أخيراً. عدنا للبصرة مرة أخرى. صار كبيرنا يتحدث بأشياء تثيرنا وتخيفنا. الأخ الثاني قبضت عليه الشرطة وهو يكتب على الحائط عبارات تحرمها السلطة. نسمع ونقرأ نثرا وشعراً حول أمور تُصلح، تهدد، تحلم. عاقبتها صارت وخيمة بعد فوات الآوان. ما بين حكومة لا زالت طريّة العود في بداية الحكم الوطني، بطيئة في الإصلاح الذي يريده البعض جذرياً، وبين شباب فاقد الصبر للوصول إلى مبتغاه بسرعة. ساسة لا زال يعشش برأسها اسلوب معاملة حكم ( العصملي) أي العثماني، حيث الظلم شئ بسيط يمارسه الحاكم حسب رغبته وكيفما يشاء ، وعهد محاسبة ورغبة عند الشعب، من الصميم، كي يعيش العصر الحديث. تُطوى تلك الصفحة والابتداء بالإصلاحات بخطوات واسعة مضمونة مدروسة. شدّ وجّر، غباء وحماقات، سجون وأحكام، فصل من الوظيفة للبعض وشعور بالإحباط. لماذا هذا التلكؤ في السير، متى نصل للهدف رأساً؟ حتام الانتظار؟! انظروا ما وصلت إليه بعض البلدان، نريد شيئا مثلها وبسرعة خاطفة، رغم ما لدينا من عوائق وقلة إبصار.من جميع المعلومات التي وصلت إلينا عن طريق المذياع، الذي اقتنيناه الآن، إلى الصحف والمجلات التي نقرأها باستمرار، بالإضافة إلى الكتب والمجلدات، عجزنا عن مجادلة والدتي يوما. والدة محرومة من التعليم حُكم عليها بالبقاء في الظلمة كسجن مؤبد، أخرست نقاشاتنا يوما. قصة والدها نعرفها من قبل، سبق أن ذكرتها لنا. ذاك الذي خرج مع أعيان البصرة، كما روتْ لنا سابقاً، محتجين على دخول بريطانيا للعراق سنة 1914. أجمعوا كلهم على كلمة واحدة لإيصال الاحتجاج الشديد بأنفسهم، ذاهبين إلى منطقة الفاو حيث الخليج وهو يبعد أربع ساعات بالسيارة. هناك، كما عرفوا، ستنـزل السفن الحربية البريطانية حمولتها لتستولي على العراق كله. كانوا غاضبين، ملتهبين بالحماس ، نفوسهم كالحديد الذي يُصلى بالأفران. يجب إيقاف السفن من أجل الدفاع عن الدولة العثمانية.إنها دولة إسلامية وهم معها كيفما كانوا أو كانت وبأي مكان. بعد أربعة أيام عادوا لبيوتهم وكانوا حفاة الأقدام . ماذا جرى ؟ إنهم لم يتمكنوا من صدّ عدوهم، يا للخيبة. كان عمرها في الحادية عشرة. رأت دخول البريطانيين للعراق بشكل ملموس. تحسستْ ما دار في القلوب والأفواه. الآن تريد أن تدير الحديث معنا، نحن أبناءها، لقد صمتت بما فيه الكفاية، نفد صبرها . كانت تتصور أننا متعلمون وقد ختمنا الدرس . شبه مستغربة من الضجة التي نقيمها ولا نعرف كيف نقعدها. نحن لأول مرة نشعر بسوء التفاهم معها، قالتْ : " أنا لا أفهمكم، ألم تُفتحْ أول مدرسة لتعليم البنات بالبصرة بعد دخول بريطانيا للعراق؟! حُرمتُ من الانضمام إليها، كما أخبرتكم، كوني قد بلغت الثالثة عشرة من عمري فحكم والدي عليّ أن أتهيأ للزواج. استفادت أختاي الأصغر مني سناً ،لحسن الحظ. ما رأيكم بذلك ؟ أكثر من هذا، صار أبي ينام ليله هانئاً بعد أن خاف منه الرجال المجرمون وكفواّ عن طرق بابنا بما يسمى( دكاكة )، اولئك الذين يدقون أبواب بيوت الناس النائمة، بعددهم الذي يقارب الأربعين، مسلحين كزبانية لكبار المتنفذين الأشرار بالبصرة، من أجل أن يأخذوا عنوةً النقود، من معظم الملاكين الصغار كوالدي، بعد موسم قطاف الثمرة وعادة ما يكون في الخريف. يزوروننا ليلاً مهددين أبي ، ليأخذوا حلاله بعد أن يكون الفلاح سلمه حصته من بيع ثمرة البستان. يحدسون متأكدين أن مبلغ النقود المستوفاة صارت عنده بالدار." لا جدوى من نقاشاتنا وجدلنا معها.أوراقنا لا تكفي ولا تقنعها. تمسك الحياة بقبضتها الحارة من تجربتها الشخصية وحدها، تقلبها وتثنيها بيدها المعروقة. لم تتعلم مثلنا أن تتحدث عن شئ لم يحصل ولم تره. كما لا تستطيع ، وقد استمعت كثيرا لنا حتى بلغت من الكبر عتياً، أن لا تقول كلاماً صريحاً من دون لف أو دوران. تطرح أفكارها أمامنا ببساطة فلاح. تبحث عن النتائج والجودة في المحصول، لا يهمها ما تقوله الأفواه. أردفتْ عندما وجدت صمتنا زاد عن سابق عهده قائلة : " وما رأيكم بالجسور من جذوع النخيل هناك، هل أنساها أيضاً تُرى. ما أكثر ما سقطنا من عليها إلى قاع الأنهار. ذهب الكثير منا غرقاً في قريتي السراجي ومهيجران وغيرهما من القرى المنتشرة في قضاء (ابو الخصيب) المملوء بالجداول والترع، كما تعرفون. تنفس الآباء والأمهات الصعداء عندما وجد الأهالي أن أفرادا من الجيش البريطاني شرع في بناء الجسور الحديدية القوية الصلدة بدلاً من جذوع النخيل المستخدمة في السابق من أجل عبور الأنهار.لم يعد خوفهم على أولادهم من الغرق، أثناء غيابهم، الشغل الشاغل لهم سواء في الليل أو أثناء النهار ."كلام خطير من الوالدة، ما هي التهم التي ستُقذف بها. عميلة على ما أتصور! احتج البعض منا وكان نفَسُه طويلا، ولو لم تكن المتكلمة أمه لخلته يحد أسنانه : " ولكن هذه لمصلحتهم هم، لمصلحة الاستعمار، من أجل فائدة الجيش البريطاني نفسه، هل نسيتِ هذا ؟!". " طيب، ليكن، ولكن هل أخذوا الجسور معهم إلى بريطانيا، لقد بقيتْ في مكانها، إذا استفادوا منها فنحن لا نقل عنهم استفادة . ابتداء من التعليم إلى الجسور المتينة، إلى أشياء وأشياء. نتعامل بالمقاضاة"صفن الجميع أثناء كلامها. كم ستكسد من تجارة، تفشل أحزاب، تهبط شهرة أشخاص، لو اكتفى البعض بما ذكرته الأم فقط. كانت تقول ضمناً إن أهم ما يحتاج إليه المرء في هذه الحياة هو الأمان، الماء والطعام والحرية. مسألة فيها نظر على ما أظن . ستبقى السيوف والخناجر على الخواصر، القنابل والدبابات في المخازن والمعامل، يحتفظ بها من يتحجج أنها وسائله للدفاع عن نفسه، إذا اقتضت الحاجة، من أجل القومية ، الدين ، الجنس وحتى الطائفة واللون. لا يذكر الحاجات الأخرى، بل يتناساها. لكنها لم تشر إلى أن هذه المسألة مستمرة منذ أن دوّن تأريخ الأمم إلى الوقت الحاضر. كم من مآسٍ جرتْ باسمها في تأريخ البشرية القاسي المؤلم الحافل بالآلام والدماء. لم يسأل أحدٌ نفسه، إلا نادراً، هل إذا جاء فرد يتشابه معه بالقومية بالدين او اللون ، سيوفر له النقص في الحاجات الأساسية أو يعامله بالمثل التي يريدها لنفسه فعلاً، أم أن الأمر لا يعدو سوى أكذوبة وخديعة كبرى ؟ هل القومية كافية ؟ هل الدين أكثر دفاعا عنه، أم الجنس، أم الطائفة أم اللون على سبيل المثال. المسألة كلها فيها نظر باعتقادي مرة أخرى وبالخصوص الآن . التجربة التي مرت بنا مؤخرا وتحسسناها بأنفسنا قبل مدة قصيرة تغنينا عن البيان. نكتفي في رؤية المقابر الجماعية و سجون صدام حسين وحرقه للشعب بالقنابل الكيمياوية، بجانب قصوره المرفهة الباذخه لنفسه عندما حكم العراق .ظلت العيون متعلقة بالوالدة متحدثة على هواها، مكتشفين ذرات الغباء المتطاير من ألفاظنا السابقة هنا وهناك، لا نريد أن نعترف بفشلنا في أدويتنا التي أُعطيت لنا، على الرغم من علمنا أن لا جدوى منها للشفاء. قالت أخيراً بعطف، واعية لإصغائنا وصمتنا التام :" لم ينجُ ( يعيكيب) - تصغير لاسم يعقوب والمدينة مغرمة بتصغير أسماء الأشخاص فيها تدليلاً وتحبباً- لقد غرق بعد أن زلتْ قدمه من على جذع النخلة المحسوبة جسراً.لم يستطع أحد إنقاذه. راحَ ، راحَ، ذهبَ مع المدّة (ظاهرة المد والجزر بالبصرة).تعني ذهب مع مياه النهر حيث كان فيه ارتفاع مدّ عالٍ قبل أن يعود إليه الجزر فينخفض مستواه، كما هي الحالة المعروف حصولها، كظاهرة طبيعية، يومياً في أنهار وجداولمدينة البصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق