صلاح الدين وابن خلدون ومحمد عبده وهشام شرابي الاهتداء واستعادة التوازن
علي زيعور
إلى ذكرى هشام شرابي تبسيطة تلخيصية لتحليلات كانت نوعاً من المعاينة النفسية العيادية توضع للتمرين في قسم الدراسات العليا. والمراد هو أن تلك المعاينات كانت تشخص ظاهرة لا واعية، ولربما تكون أحياناً مصطنعة أو فعل وعي وإرادة مريدة، عند المفكر الواحد، أو الشخصية الواحدة، وضمن غضون العاطفة أو الموقف إزاء الشيء (الفكرة الشأنية) عينه. وتلك الظاهرة النفسية الاجتماعية التي هي الانتقال من النقيض الى النقيض ليست غير سوية... ليست مرضية، ولا تحدث قطيعة نهائية حاسمة داخل الفكر الواحد للشخصية الواحدة عينها. اخترنا، أدناه، عينة من الشخصيات التي مرت بأزمة الاهتداء (Conversion) الذي يحصل بعد الوقوع في مرض نفسي (غصاب/ Neurosis) وتفكيرات مديدة اختمارية أو غير واعية. فيما يلي الاهتداء والعصاب، ثم استعادة التوازن النفسي، عند: صلاح الدين ثم ابن خلدون؛ ثم عند: محمد عبده (من التنويرانية الأولى أو النهضة)، و... هشام شرابي (من التنويرانية الثانية، أو الراهنة) الذي هو البطل المقصود. 1 كانت فعالة ونافعة القراءة العيادية للخطاب الفلسفي، أو القراءة التحليلنفسية للشخصيات، للوعي والسلوك عند <أهل البرهان> داخل الفكر العربي الإسلامي، ثم العربي العثماني، ثم العربي الفارسي فالمعاصر: كانت فعالة بتقديمها أنواراً سطّعت المعرفة، ووسعت النظر الى المدى، والغوص في الغوريات والتضاريس والتلافيف... كما كانت نافعة هذه القراءة النفسانية حتى وإن بدت ملطخة حيناً، أو جارحة حيناً آخر؛ وذلك لأن الإدراك أو المنهج <السلبي> (!) ليس هو وحده المراد؛ ولا هو أساسي، أو مسيء، أو غير لائق، بقدر ما أنه إدراك للجانب الآخر، المعتم والظلي، المنسي واللامفصوح، وكشف للثاوي والغائر، للبور والمطمور أو المطرود والمتضمن... تنهض قراءة <موسعة التحليل النفسي الإناسي الألسني للذات العربية> (15 جزءاً) تفحصية من جهة؛ ومن جهة أخرى، هي إشفائية تعالج بالطرائق والرؤية النفسانية: تشخص تحليلاتها السوي واللاسوي معاً، المعافى والمرضي، الجارح والمنجرح... وتعالج تلك القراءة التجربة المطروحة أمام المتفحص المحلل سواء أكانت تجربة عيادية أو نصاً، خطاباً أو مجتمعاً، فكراً أو سلوكاً، حلماً أو مجرد <عقدة> نفسية، عصاباً أو شبه اضطراب لغوي، وجنوحاً أو قسريات أو قطاعاً إناسياً... أما طرائق العلاج، للحضارة أو للمعنى، وللإنسان أو المجتمع أو الفكر، فقد تتنوع بتنوع الحالة أو الشخصية المحللة: الاستشراق، الأصولانية، الحرفانية في التفسير والفهم، السلوكات والمعتقدات والأفكار المنمطة ناقصة وسيئة التكيف الحضاري، الظواهر والمواقف السلبية عند العربي وعند <الغربي> من الذات والنحناوية والتراث، أو من المعاصرة والحداثة والتنويرانية الراهنة... 2 من السوي، بل ومن المندوب والواجب، أن نقدم كشاهد، أو كعينة من تلك التشخيصات والعلاجات التي هي عبارة عن إعادة إدراك أو تعلم أو تعضية، التحليل النفسي الذي أعاد صياغة شخصية وأفكار ابن سينا أو ابن رشد، ديكارت أو فرويد نفسه، أو لاكان أشهر الفرويديين ثم أشهر المتراجعين عن الفرويدية الى البلاغيات والتصوف بل والى يونغ المنشق عن فرويد باكرا. يلي تلك المعرفة نقد وتقبّل ومحاكمة. فعمل المحلل النفسي على تشخيص أمراض الاجتهاد أو الخطاب، وعلى أمراض الاستشراق أو انجراحات المركزانية الغربية، الأصولانية، أو العدمانية والقتل الرمزي للآخر الداخلي كما الخارجي، لم يقل قط إن الأصولانية هذه أو الاستشراق هذا حالة يائسة أو بلا معنى، أو يقطع معها وتلغى، تهدم وتعدم... ولا غرو، فالعمل المعرفي هو إدراك، ثم تشخيص، فطرح نظر في العلاج مبتغاه إعادة الضبط أو التسمية وإعادة التأهيل والتثمير. صلاح الدين نكتشف في السيرة التعاملية لصلاح الدين، السابقة على تحوله الى بطل في المسامحة والصفحية حيال المقاتلين الفرنجة، قسوة مفرطة تجاه من حاربهم في الداخل. هذه الثنائية المتكافئة في الشخصية عند صلاح الدين توضحت وتعمقت بفعل أوالية الانزياح، أوالية التراجع الى ما كان مطموراً مختمراً ولا واعياً خرج الى العلني والوضوح بعد الشفاء من مرض كاد أن يكون قاتلاً. (راجع: إشارة التحول، الاهتداء أو التراجع بحسب علم البطولة والخلاص). إن انتقال صلاح الدين الى <حياة> جديدة، الى معنى جديد وقيم صوفية، يفسر بمثابة إعادة ضبط لشخصية، وإعادة الفهم للوجود والإيمان والتواصلية. ذلك الفهم المستجد، وهو مرن ومنفتح واقتبالية، لم يتوقد في التأرخة والمحاكمة المعاصرتين عند من انتقد أو قاضى ذلك البطل الشعبي. فالمؤيدون والمتشككون لم يستطيعوا، ودائماً بحسب القراءة التحليلنفسية، <التحرر> من المسبق والجاهز، من الرؤية المستبدة الأحادية والقراءة المتعصبة، من سببية اللاواعي والغوري والظلي. حالة ابن خلدون: الدفاعي والقسريات كان سديداً ونافعاً ذا مردودية <اكتشاف> الأواليات اللاواعية التي حكمت شخصية ابن خلدون وفكره، أي سلوكه ووعيه أو علائقيته وقسرياته... فأوالية الانسحاب، أو الفرار من الواقع، عند ابن خلدون قد طوته على نفسه كي يعيد ضبطها ومراقبتها إن مع ذاتها أم في فضائها، ولا سيما مع انجراحاتها وتمأزقاتها التي شرخت توازنيته، أو استقراره النفسي وصحته العصابية بعد غرق ولديه وزوجته. لقد كان انعزال ابن خلدون دليلاً على إصابته باضطراب في الشخصية، أو على اكتتاب يسمى <فقدان العزيز> يدوم، بحسب التحليلات المتابعة المراقبة، ستة أشهر. وتلك هي تماماً المدة التي أغرقت ابن خلدون في الانعزال والانقطاع المرضي. تفسر الخلوة، ذلك الهروب من الناس أو الانكفاء والانطواء، بأنها تجربة قحط في الشخصية، أو حالة جدب ومحل وجفاف، أو تعبير عن انجراح أو مأزومية نفسية اجتماعية في الفرد أو المجتمع، وفي الوجدان والمعنى والانفعال... وتقول بذلك التفسير الحكايا والحلميات وسائر قطاعات الإناسة...، وتكون تلك المرحلة، ودائما بحسب التحليل النفسي والأنثروبولوجيا (الإناسة) والتصوف والشعر، تمهيداً للتحول، للانتقال الى معنى جديد، الى حياة مختلفة، وفهم آخر للوجود والقيمة والسؤال. وظف ابن خلدون اختلاءه الى نفسه، في قطعة منقطة منعزلة، توظيفاً آتى فعالاً وإسهامياً، منتجاً ومدخراً... وكان ذلك الانقطاع، من حيث معناه المطمور اللامفكر فيه أو الغوري واللاواعي، منتوج عمل الحداد. فهنا تتفسر الخلوة، وبالتالي ثمرتها أي المقدمة أو ما الى ذلك، بأنها عمل التعزية الذاتية: لقد كانت تغطية لحزن، ورداً على فجيعة خلخلت سوائية الشخصية... كان خوفه العصابي من الوحدة، من خسارة العزيز، خوفاً من الفناء رد عليه ابن خلدون بالهرب الى التدين والغرق في التصوف والتألم النفسي الصامت على المفقود... لقد كانت تجري كنشاط لا واعد وعمل اختماري، عمليات إعادة بناء الشخصية والحقل والتكيف. ولم تكن أوالية التناسي وغسل العذاب ومحوه لتدوم أكثر مما دامت. لكنها لا تزال شاهداً على أن تلك الشخصية المبدعة النرجسية لم تكن قط انطوائية النمط، ولا كانت كثيرة الاتساق بين ما ينقال وما لا ينقال، بين الواقع والسلوك، بين الأنا الصميمية والأنا المتكلمة الاجتماعية، بين الأنالممارسة والأنا التي تسرد (الساردة). حالة محمد عبده التحولات في شخصية م. عبده كثيرة بل لافتة تجذب إليها التفكير كما المحلل. ولا غرو، فقد حكمت خطابه أواليات التكوين العكسي، وشطرنة الموضوع وشطرنة الأنا، والاهتداء الى المعرفة والتصوف، والتراجع الى الضد، وتكرار الانسحاب، ونكران الواقع... كما يبدو أن تلك الشخصية الطلقة المتقبلة، المتأرجحة بين قطبي الإدراك الواحد أو الموقف الواحد والعاطفة الواحدة، لم تكن بغير توجيه عميق للفكر، والمحاكمة، وإدراك المشكلات، وطرح الحلول والفتاوى الاستجدادية. يدرك ويفسر المحلل اضطرابات المواقف وصراع المتناقضين أو صراع المتكافئات، داخل الشخصية؛ وقد يقال إن عكس ذلك صحيح، أي إن اضطرابات داخل الفكر تعني اضطرابات داخل الشخصية... الأنا، في تلك الشخصية، شديدة الاعتماد على سلسلة من الدفاعات. إن تعقب انجراحات الوعي والسلوك في شخصية محمد عبده يوقف المتحري ملياً عند أوالية التراجع، أي في المحطة الإحجامية المهادنة: هذا <التحول> النفسي الاجتماعي يتكافأ مع تحول نفسي هو أزمة، أو قحط وصقيع في الشخصية، أو هو خوف عصابي من الاقتحام والتحمل، من الاصطبار والمجابهة والمباشرية العقلانية. ب كان ذلك التراجع وسيلة دفاعية وحصنا، وأسلوبا في الاحتماء والاطمئنان، وطريقة في استعادة التوكيد الذاتي وبلسمة <مرضه النفسي>. لقد أعاد عبده ضبط شخصيته وصياغتها أو تعضيتها وتنظيمها مرات عديدة. وينكشف، أمام الفاحص لتلك الأوالية العطوبة الناقصة، أشهر وأبرز الأواليات التي اعتمدها عبده في مرحلة ما قبل الرشد والنجاح في سبيل حل مشكلاته، ومن أجل السيطرة على الواقع وعلى الذات، ومن أجل مشاعره بالذنب حيال علائقيته مع أبيه وأخيه الأكبر، و... حتى مع أمه (را: عقدة قتل الأب). ما معنى ذلك التراجع المتكرر القسري أمام العقبات؟ أمام مطالب الأب، أو إرادة الأخ الأكبر، أو رغبة الأهل بأن ينفذ ما يرغبونه له أن يكون ويفعل...؟ كان يتغطى، ويتظاهر أنه ينفذ ما يشاء منه الوالد؛ كان يفعل ما لا يقول، ولا يقول ما يفعل. كان، مرارا، يكشف طاعة وانضباطا وإقداما ويخفي مرامه ومقصوده وإحجاماته (را: التسميات التقنية النفسية والعصابية، وحتى العوامية الشعبية، لتلك <الحالة). ت التحليل النفسي لخطاب الإمام عبده، ولمطموراته وغورياته، يلتقط بتحرياته وتعقباته تحوله بعد إشارة غيبية من حياة ماجنة أو لذيذة الى حياة روحية، الى الصوف (را: زيعور، الخطاب الفلسفي والتربوي عند محمد عبده...، ص ص 53 58). صورة في كتاب شرابي ورد هشام شرابي في <ذكريات الوعي الجامعي...> (بيروت، الدار العالمية، 2001) مرات عديدة؛ ومنها أيضا ما ورد في جزء لاحق من <ذكريات العقل الجامعي العربي في خمسين عاماً>. احتفظت له بامتنان نجم عن إيراده لصورة شمسية يظهر فيها شرابي نفسه ومخطوبان زادت الأيام شهرتهما، ولربما ابتعادهما عن البطل المؤسس وعن الدافع لالتقاط الصورة المذكورة. المخطوبان الآنذاكيان هما أدونيس الذي نفهمه اليوم على نحو لم يكن فيه في ذلك الإبان: كان يبتسم، وينظر الى خطيبته برضى واعتزاز أو بنوايا ومشاعر أخرى مماثلة وغير مماثلة، بادية ومحجوبة متضمنة. وكنا أكثر من عشرة زملاء من كلية الآداب (الفرع الأول) وبرفقتنا العميد؛ وكان هذا يتبطلن ويتنرجس حتى حينما لا يكون لذلك <سبب وجيه>، في زيارة للسيدة خالدة سعيد. سألتها عن الصورة، ومشيرا الى أن القراءة النفسانية تشخص استكبارها على خطيبها، أو عدم إقبال، أو حذر، أو ندم... وكان جوابها مقنعا؛ فقد كان والدها غير كثير الرضى، غير استعجالي حتى لا يقال إنه لم يكن يتوقع لخطيب ابنته فلاحاً أو قليل نجاح. .. وسألتها أيضاً، على نحو استفزازي يهدف الى كشف المحجوب، عند من قلت أعلاه انه متنرجس: هل كان هشام شرابي يكتب خطب ومقالات أنطون سعادة؟ بقيت هادئة، وأجابت بالنفي الاستخفافي؛ كأنها تتهم السؤال وصاحبه باللياقة الغائبة، وبالجهل الحاضر السافر. ونفر من صوابه ذلك الشخص الذي كان ينكر انتماءه للحزب السعادوي، ولبطل الحزب، فصاح منفعلاً بعفوية ولربما بقسرية (را: الشخصية الاستهوالية). وكانت المرة الأولى، لكنها الحاسمة والتي أكدت أن التراجع عن البطل المعبود قد يكون تغطية ومعنى صريحاً بادياً، وليس معنى كامناً وحقيقياً أو متلبساً مقنعاً. وكان من اللابدي أن تنفس العدائية التي برزت، وأن نغسل ونمحو انجراح نرجسية المعنيين أو المهتمين... وانبحسست في عندياتي فكرة وأداة علاج أو تطهير للفضاء، فقلت: إن هشام شرابي يقدم لنا، في كتابه هذا، صورة عن مقال مكتوب بخط أنطون سعادة. ولربما أستطيع تأكيد أن صاحب ذلك الخط شخصيته واضحة، مستقيمة، غير معقدة، مجتهدة... فهو كتب صفحة تخلو من الشحبطات والخرطشات؛ لكأنه قد نرجس نفسه بحماية وحمية برزتا بعد رمزنة لها مفروضة أو مرغوبة، واعية مصطنعة أو لا واعية. كان شرابي، بحسب تحليلاتي ومهنتي، ولداً مدللاً، أو كالولد المدلل. وبات أكبر من بطله، لكنه ارتضى نعيم البقاء عند أوالية التماهي مع ذلك البطل، ورأى ذاته في ذلك التماهي أو في تلك الذات المشتركة نفسياً وبلا وعي بينه وبين سعادة. وفناؤه في هذا الأخير، بحسب تحليلاتي، كان يعني رفع كل مسافة أو اختلاف بينهما. لقد كان أ. سعادة، في تلك الحالة الاندماجية، يحارب عن كل محازب أو مقرب عن الأيديولوجيا والنحناوية. هذا، في حين أن المحازبين والمقربين كانوا يستعيدون الاطمئنان والتكيف والتوازنية من خلال منع التراجع عن البطل، وعبر قتل كل اختلاف معه أو ابتعاد، وعبر طمس الفروق والتشظي والفوضى. لقد كرّست <المدرسة الفلسفية عند العرب ه. شرابي ممثلاً لتيار فكري أو فلسفة في النحناوية؛ ذاك هو تيار المتلاقين المتعاونين مع التيار الصراطي الأكثري. وذاك التلاقي التكاملي التضافري تحول أو انزياح لا يضيره أنه حصل على شكل تراجع ما، أو على شكل اهتداء، وعن سابق وعي وإرادة حرة، أو بأوالية لا واعية هنا وقسرية انتحائية هناك. كما هو سديد ونافع أيضاً، اعتبار ذلك التحول قابلاً لأن يتفسر بالسببية النفسية بقدر ما هو أيضا يتفسر بالقراءة الاجتماعية السياسية أو بالعوامل المتزاملة... فالأهم، أخيرا، هو أن اهتمام مدرستنا بذلك التيار العلماني التقدمي يدفع بها الى أن تهتم بالشخصي أو صاحب النص وبالسيرة الذاتية، بل وبعد أيضا باللاسوي والمرضي والسوي واللاواعي في الشخصية وعياً وسلوكاً. لماذا وأين النفع؟ ذاك كله لأننا نريد نقل الحوار الفلسفي الى الداخل، وبغير انقفال على التجربتين في الفلسفة: التجربة الهندسية؛ والتجربة الأوروميركية؛ ومن ثم بغير مفاضلة أو تمرتب شاقولي بينهما.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق