٠٨‏/١٢‏/٢٠٠٦

العرب وتراثهم
النظرة إلي الماضي بين التزويق والتغريب
أحسان حمدي العطار
مع وصول الحملة الفرنسية الي مصر وما جلبته معها من مكتشفات وادوات والاهم من ذلك- أفكار ، يؤرخ الباحثون لبداية الصحوة العربية وما تلاها من احياء ونهضة وكانت هي الصدمة صدمة الحداثة- كما يطلق عليها أدونيس التي أرعبت الناس وخاصة فقاءهم وعلماءهم وبقدر الرعب الذي أصابهم كان الانبهار والتعجب لهذا الدخيل الذي أيقظهم بعد أن كانوا نياما في ظل خليفة الله في أرضه أقول: كانت هذه الصدمة أول باعث ومحرض للعلماء والفقهاء للعودة الي الاصول والتاريخ والتراث.كانت هذه العودة علي مستويين بارزين : الاول يبحث في التراث (بوعي أو بغيره) عن أسلحة ومضادات حيوية لأفكار هذا الدخيل التقني المعرفي- فلو أخذنا الامر بحسن نية لألفينا ردة الفعل جد طبيعية خاصة لو نظرنا الي تجربة أسلاف هؤلاء الفقهاء (من أبن حنبل الي الغزالي) أثناء مدة التقاء الفكر العربي بأفكار البلدان المفتوحة (يونانية وفارسية) وظهور تيارات الرفض لهذا الالتقاء داعية الي العودة الي دين محمد - دين أبائنا وأجدادنا- ثم نما هذا الرفض لتتأسس عليه عقائد وأحزاب سياسية ، أما لو نظرنا بعمق وتفحص لوجدنا أن هؤلاء نظروا للفكر الآخر بأنه المزعزع لسطانهم علي الناس لأن كل فكرة جديدة تدعو للتأمل والتدبر والتعقل ثم بعد هذا تكون داعية للعصيان والثورة . أما في المستوي الثاني : نجد الفقهاء يعودون الي التراث للبحث فيه عن وعاء يمكن أن يحوي الافكار الجديدة الدخيلة ( وهذا التيار يمكن أيضا ان نتمثله في عصر التقاء الاسلام بالثقافات اليونانية والفارسية وما نشأ عربيا من كلام وفلسفة علي أيدي الفارابي وأبن سينا وأبن رشد والشيرازي) وأزداد أهتمام الربط بين الافكار القديمة والجديدة ليصل ذروته مع "رافعة الطهطاوي " ثم " الافغاني" و "محمد عبده" الذي اعلن عدم تعارض الاسلام مع الفكر العقلاني الغربي ، ومع هؤلاء ولد اتجاه توفيقي يحاكي كما يقول "عبد الجبار الرفاعي (قضايا أسلامية معاصرة-ص7) تجربة الفارابي في التوفيق بين رأي الحكيمين وذلك عبر التصالح والتجانس بين عقلانية أرسطو وغنوصية مدرسة الاسكندرية وهذا التوفيق كان مزاجيا تقطيعيا وأنجب أفكاراً مشوهة لم تنفع قضية التقدم والاحياء العربي . ومع حركات الاستقلال والتحرر العربي في خمسينات القرن الماضي وما تمخض عنها من ثورات شرقا وغربا وفي مختلف أقطار العرب وتبني بعض هذه الثورات للافكار الاشتراكية والماركسية نما أتجاه جديد في قراءة التراث العربي اساسه الرفض لكل جديد بل محاربته واستحال الاتجاه ليصبح شيعاً سياسية متعصبة ، وأهم هذه التيارات كانت تنظيمات الأخوان المسلمين واسعة الانتشار ، بموازاة هذا الاتجاه سادت نزعة توفيقية جديدة بين الاشتراكية والاسلام وهذا الاتجاه التبريري في قراءة التراث العربي يعود أغلبه لتلبية رغبات الحاكمين وأسترضاء المحكومين فليس هذا الاتجاه ذرائعي فحسب بل أنتهازي ونلاحظ مع " صادق جلال العظم " (نقد الفكر الديني / دار الطليعة) توفيق البعض في ستينات القرن الماضي بين الاسلام والنظام اللبناني ذي الملكيات الخاصة والحكم الليبرالي ، ثم لو نظرنا الي النظام السعودي السلفي لوجدنا مئات الائمة من أكبرهم الي أصغرهم يهللون لهذا النظام ويأتون بمئات الايات والاحاديث لأثبات أن حكم الملك هو حكم الله . مع ذلك يري الباحث بعض التقدم في التعامل مع التراث فنلاحظ الدعوة للتخلص من النظرة التقديسية السطحية للتراث تلك النظرة التي تراه مثاليا ومتكاملا بجميع جوانبه وفيه ما يكفي حاضرنا ومستقبلنا من الحلول والاليات في السياسة والاقتصاد والاجتماع . هنا طه حسين يبرز كمجدد لوعي المثقف العربي للتراث خاصة في كتابه ذائع الصيت (في الشعر الجاهلي) بالرغم ما نأخذه عليه من مآخذ التعميم والتعصب ولكن طريقة البحث لديه كانت ثورة علي المنهج السلفي . ويلاحظ "نصر حامد أبو زيد " أن النظرة السكونية في التراث اختفت لتحل محلها النظرة الحركية (أشكاليات القراءة وآليات التأويل) كقراءة "أحمد عباس " للصراع بين اليمين واليسار في الاسلام وبالرغم ما يميز قراءة الكاتب من حركية تقوم علي تبيان الصراع بين العناصر الفاعلة في التراث" والفاعلة هنا تأخذ لديه أبعاداً أقتصادية أجتماعية سياسية فضلا عن الفكرية وهذا ما لم يسبقه اليه أحد من الباحثين المستشرقين أو المعاصرين "، ولكن ما يعاب علي هذه الدراسة هي مضمونها وهو العلاقة بين اليمين واليسار : فأستخدام الكاتب لهذين الصطلحين الحديثين ذو أثر سلبي من جانبين، الاول هو تطبيق أدوات أصطلاحية هجينة علي واقع تطور العرب الثقافي ، فأما أن يقزم الواقع التطوري لأدخاله في أصطلاحاته الحديثة (يمين ، يسار، أشتراكية) أو يفعل العكس أن يمحو ماهية الاصطلاحات ويؤسس عليها في ضوء التراث العربي فتبقي الهياكل وينتفي المضمون وهذا ما فعله "أحمد عباس " وهذا الاثر السلبي الآخر الذي يقول عنه عباس نفسه " لايمت للعلم بصلة " فيقول عن اليسار " هؤلاء الذين أهتموا بالجانب الاجتماعي من الاسلام " أما عن اليمين " "الاتجاه المعارض لهذا " أما الاشتراكين عنده " أصحاب الاتجاه الجماعي "، وأصحاب الاتجاه الفردي هم غير الاشتراكيين ،، فما لنا ولهذا يا أستاذنا الفاضل؟أما المرحلة الثالثة في تطور نظرة الفكر العربي الي التراث كانت أعقاب نكسة حزيران 1967 فالهزيمة السياسية العسكرية اجبرت التيار الفكري الاكبر في ذلك الوقت الفكر الماركسي- علي أعادة حساباته وأنقسم الفكر الماركسي حسب طريقة النظر الي التراث الي ثلاثة أقسام: الاول ، يقوم علي نقض الدين والتراث العربي علي أساس أن الهزيمة تعود الي عوامل التخلف الحضاري العربي نتيجة أرتباطه بالتراث لا بالراهن أو المستقبل وقد قلنا عن هذا التيار أنه ناقض وليس ناقد لما في النقد من شرح وتأويل وحرف وتفسير ثم بالتالي خلق وتحويل، أما نقض التراث كما يطرحه "صادق جلال العظم فهو أيدولوجي شكلي يهدف الي النفي والتكذيب يصدر عن منطق التهافت ذاك الذي تجاوزه النقد قبل عدة قرون ، فمن يحاول النفي والنقض لا ينفي ولا ينقض ألا نفسه " فالعظم يطرح الممنوع للاثارة والضجة بدلا من تفكيك الممتنع. أما القسم الثاني/ فيحاول تفسير التراث في ضوء المادية الجدلية كما هي محاولة " طيب تيزيني" في مشروعه "رؤية جديدة للفكر العربي منذ بداياته حتي المرحلة المعاصرة " في أثني عشر جزءا بدءا بالجزء الاول (من التراث الي الثورة : حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي) حتي الجزءين الخامس (النص القرآني أمام أشكالية البنية والقراءة) ثم السادس (من اللاهوت الي الفلسفة العربية الوسطية : بقسمين) ، وكذلك قراءات " مهدي عامل " في التراث ( هل العقل للغرب والروح للشرق ) ومراجعتة في (علمية أبن خلدون ) أو قوله بأن المنهج المادي التاريخي وحده المؤهل في كشف العلاقة بين الحاضر والماضي في دراسته (أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية) ، وكلآ من " تيزيني وعامل " يلتزمان بأتجاه ماركسي صارم وتمسك كبير بالمقولات التقليدية للماركسية . ولكننا نلاحظ تغيرا هذا في الاجزاء الاخيرة لمشروع الرؤية "لتيزيني" خاصة في أدخال (الدراسات التطبيقية البنوية (نسبة الي المذهب البنيوي لا البنية كما هو الحال لدي فوكو) (من اللاهوت الي الفلسفة دار البترا ص7) ، و الذي مثله "حسين مروة" في محاولته التلفيقية بين التراث العربي والنهج المادي الجدلي في دراسته) النزعات المادية للفلسفة العربية الاسلامية دار الفارابي 1978) حيث يقول " أذن القوي الثورية في حركة التحرر العربي لها حاضرها المستقبلي المتميز عن الحاضر الماضوي للقوي المتخلفة وأذن لها تراثها المتميز أيضا عن تراث هذه القوي الاخري - النزعات ص24" فهو يريد منا أن نأخذ من التراث ما يحلو لنا من أفكار ونصممها بحيث يستوعبها المنهج المادي ، فالباحث هنا يلبس التاريخ قميصا ضاق عنه ويفرغ التاريخ في قالب لا يسعه ، ونلاحظ لدي الجانبين سواء ذوي المنهج الصارم أم ذاك التلفيقي ، التعسف في التفسير والاعتباطية في القراءة ، فكيف لمنهج أبتدع علي يد فلاسفة "ماركس ، أنجلز" عاشوا في أوربا القرن التاسع عشر ولم يعلموا عن أحوال العرب شيئا أن يقولوا بكيفية نشوء نظام فكري علي درجة كبيرة من التعقيد كالنظام الفكري العربي !! أنظر "مروة " النزعات ص106) وهو يدافع عن أحد الكتب الروسية ( ي. أ بلييايف . العرب والاسلام والخلافة العربية- الدار المتحدة للنشر 1973) فحين يقول بلييايف ص8-9 " أن العرب مثل غيرهم من الشعوب مروا بالمراحل المادية التاريخية المعروفة " نري مروة يرد علي متهمي بلييايف بالتفسير القسري للتاريخ ( كمقدمة الكتاب التي وضعها د. محمد زايد) أن العرب ليسوا استثناء للقاعدة التاريخية التي تجري علي غيرهم من الشعوب ! وما هذه القواعد يا عزيزي القارئ؟ أنها تلك القواعد التي وضعها النبي ماركس وصديقه أنجلز !! ولو ناقشنا أفكار الماركسية بمنطقهم هم أي ذاك التاريخي لجزمنا بعدم صلاحية الماركسية في تفسير التراث العربي لأنها تكونت في ظل التطور الغربي لا خارجه كما يعتقد البعض فماركس حاول فهم حركية المجتمع الغربي ولما وجد الثورة الصناعية هي أبرز محرك للتاريخ الغربي الحديث والمعاصر له أمن بدور الاقتصاد في التطور والتقدم فألبس جميع مراحل تطور الانسان الغربي لبوس الاقتصاد وما لبث أن ألبس التاريخ الانساني اللبوس نفسه ، فأين تلك الشمولية في الفكر الماركسي التي يتحدث عنها أستاذنا مروة (النزعات ص31) ولكن يلمس الباحث مدي تطور مستوي التعامل مع التراث منذ لحظة (الصدمة- الانبهار) الاولي ثم التبرير والتلفيق حتي محاولات مركسة التاريخ العربي ، فقد أزداد الوعي لدي النخبة العربية في أهمية التراث وصعوبة بل كارثية الانقطاع وانفصال عنه . تبرز في سبعينات القرن الماضي دراسة واحدة ذات درجة كبيرة من الاهمية. أولاً لانها خارج اطار التحزب الماركسي في قراءة التراثثانياً/ انها ابتكرت ادوات وأطراً مفهومية جديدة كل الجدة في تفسير حركة التاريخ العربي وهذه الدراسة هي (( الثابت والمتحول: بحث في الاتباع والابداع عند العرب)) (لعلي احمد سعيد)الملقب بأدونيس ، وتشمل الدراسة علي اربعة اجزاء وهي ( الاصول) ، (تأصيل الاصول)، (صدمة الحداثة وسلطة الموروث الديني)، (صدمة الحداثة وسلطة الموروث الشعري) ان ادونيس وضع العلاقة بين الاصيل والدخيل اساساً لحركة الفكر العربي ويقول عن هذه العلاقة انها المنظم لثنائيات الثابت والمتحول والابداع والاتباع التي هي جوهر العقل العربي، بهذه العبارات المجردة : أدونيس يفتتح اسلوبا جديدا في معالجة معظم القضايا والاشكاليات في قراءة تطور الفكر العربي وتحرر التراث من الجمود والسكون والاطر الماركسية الضيقة: تحرره نحو عالم الصدام ، الصراع، اللقاء والديناميكية ولكن ما ان تبدأ بدراسة النص الادونيسي حتي نجد العكس حيث يقول ان في التراث (نتاجات ثقافية تتباين لدرجة التناقض لذلك لايصح البحث في التراث كأصل أو جوهر او كل انما ينبغي البحث في نتاج ثقافي محدد) ( صدمة الحداثة وسلطة الموروث الديني ص228) وما هذا النتاج الثقافي؟ انه الابداع وعكسه الاتباع ، انه التجديد وعكسه التقليد أنه التحول وعكسه الثبات، فبدل ان تفتح ثنائيات أدونيس فضاءً جديداً للتفكير نجدها تضيق بل تخنق افاق البحث في التراث الي ابيض يجمع (أمرؤ القيس وعمر بن ابي ربيعة) لماذا (لأن شعرهما يؤسس للنزهة الشهوية او الاباحية في الشعر العربي وان شعرهما بذلك يستمد أهميته الخاصة كونه يمثل الخروج علي المحرم) (الاصول ص215) ثم يبدأ الانحياز يزداد حتي يجعل كل من يشغف بهم أدونيس من الشعراء في خانة واحدة بالرغم من اختلافاتهم المنهجية في الحياة وفي النظر الي الشعر بحجة رفضهم للسلطة. وتستمر قراءة ادونيس غير المنضبطة لتشمل التيارات السياسية والفكرية في الاسلام فهو يجمع تيارات الجهمية والارجاء والشيعة الامامية و المتصوفة علي صعيد واحد لخروجهم علي الثبات فهم كلهم في خانة التحول. بالمقابل يضيع الغزالي، ابن حنبل ، ابن يتمية في المحيط الأسود للعقل العربي. لقد ستبشرنا خيرا في مشروع ادونيس لان قراءة التراث العربي بالصورة المغايرة التي وعدنا بها كان من المؤمل به ان يفتح مجاهيل التراث التي لم يستطع المستشرقون ولا الماركسيون العرب فتحها..... اذن أدونيس فشل في الاختبار ولكن يمكن لنا ان نستفيد من أطر البحث لديه أكثر وأفضل مما استفاد منها، فالقول بأن الاصيل والدخيل هما محركا العقل العربي- فهذا اكثر من صحيح ، ولكن الدخيل أثري الاصيل والتفاعل بينما أدي الي حيوية وتنوع وغني الثقافة العربية فلم ينعزل الاصيل عن الدخيل وتكونت أنساق ثقافية جامدة ، فالثبات والتحول جزء من عقلية المثقف العربي قديماً وليس الثبات لجزء من المثقفين والتحول للجزء الاخر كما يطرح وينظر أدونيس، ونجد الابداع والاتباع جزء لايتجزأ من تجربة أي فيلسوف او فقيه تراثي فالفارابي بالرغم من ابداعه فهو مقلد لارسطو وافلاطون، والغزالي برغم اتباعه فهو مجدد، للمذهب السني لادخاله المنطق الارسطي في الفكر السلفي وهكذا كل الفكر العربي قديماً لايخلو من ابداع و اتباع،افلم نستخدم افكار ادونيس خيرا منه؟ولعل اكثر المحاولات جدية في قراءة التراث نجدها لدي المفكر المغربي محمد عابد الجابري،اما ابرز دعائم طريقته فيَ مراجعة التراث هي (( عدم استخدام ادوات مستعارة من خارج مملكته الثقافية، تلك المملكة التي ترعرع في داخلها وأنبثق من خلال تفاعلاتها الذاتية فتتم دراسة التراث في سياق نشأته المعرفية)) ( نقد العقل العربي- الجزء الاول تكوين العقل العربي ص22) وهنا الجابري يتخلص من اخطاء القراءة الماركسية او تلك التلفيقية. (من المرتكزات المنهجية الاساسية عدم الفصل بين الفكر كأداة والفكر كمحتوي) (تكوين العقل العربي ص23)، (فأن معالجة العقل العربي ينبغي ان تسير في مسارب هذا التشكيل الثقافي العربي) (تكوين العقل العربي ص24) (ان وجهتنا الوحيدة هي التحليل العلمي لعقل تشكل من خلال انتاجه لثقافة معينة وبواسطة هذه الثقافة نفسها، الثقافة العربية الاسلامية) (تكوين العقل العربي ص27) ان هذا المنهج عظيم لو طبق بحذافيره ، اقول (لو) لان المتابع لنتاج الجابري يري تخلخل التطبيق، ففي اعمال الجابري المفردة كقرائته لابن الرشد ( ابن الرشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية 2001) أو (الدين والدولة وتطبيق الشريعة 1996) أو ( التراث والحداثة 1980) نلاحظ الالتزام الموضوعي بالمنهجية التي وضعها اما في مشروعه الاكبر (نقد العقل العربي) فالاستنتاجات والاوليات التي وضعها اثرت في منهجيته فسادت الانتقائية لأثبات الرأي، اما سبب هذا فيعود الي عاملين، أولاً:التزام الجابري واعتماده ثلاثية البيان والبرهان والعرفان هذا التصنيف التقليدي للنظم المعرفية، والتصنيف كما هو معروف (اعتمده الفكر العربي الاسلامي في الاندلس للتهوين من دور المشرق العربي وبخاصة بغداد في بناء حضارة العرب وتاريخهم) (محمد مبارك الجبار الجابري/ بين طروحات لالاند وجان بياجيه) فالتحيز المغاربي اثر علي وفاء الجابري لمنهجه في قراءة التراث.ثانياً: حجم المشروع الذي ينادي به الجابري فنقد العقل، مشروع يتطلب كما يقول "علي حرب فريقاً من الباحثين يشتغل عشرات السنين" (الجابري والطرابيشي ....النفي المتبادل وامبريالية المشاريع ص188) فأوهام الجابري بأنه محرر التراث والعقل العربي وأنه صاحب نظرية كلية ودراسة شاملة وأن العمل الذي يقوم به هو تجديد النهضة العربية، هذه الاوهام هي من اوقعت الجابري في مطب اللاموضوعية والتحيز فأفشل الجابري مشروعه من حيث اراد نجاحه، حتي ان الجابري كما يقول محمد مبارك n يضطرب بشكل لم يعهد لمفكر من قبل بين منظورين ليس لهما ان يقفا معاً علي صعيد واحد فالجابري تحول من منظور لالاند التاريخي في فهم العقل وتمييزه بين عقل مكوَّن واخر مكوِّن الي مفهوم عالم النفس السويسري جان بياجيه عن اللاشعور المعرفي. ولا يخفي عن القاريء ان كلا الاتجاهين خارج مملكة العرب الثقافية.وبما اننا في تأثير الاوهام النخبوية في صدق قراءة التراث فأننا نري العديد من المفكرين يسقطون في فخ المشاريع الطوباوية ولعل اهمهم "حسن حنفي" صاحب مشروع اخر في قراءة التراث وهو " التراث والتجديد- دار التنوير" يقول حنفي في الاهداء "الي كل من يساهم في صياغة مشروعنا القومي" ويقول في المقدمة "ليس التراث والتجديد مجرد مشروع فكري للمثقفين العرب ،وليس مشروع الثقافة العربية في لحظتها الراهنة فحسب، انه في الحقيقة مشروع الواقع ذاته أو قل انه مشروع تحرر انساناً وأعادة تشكيل عقله ووجد انه" ويقسم حنفي مشروعه الي ثلاثة اقسام ، القسم الاول بعنوان (موقفنا من التراث القديم ويهدف الي اعادة بناء العلوم التقليدية بالدخول في بنائها والرجوع الي اصولها لبيان نشأتها وتطورها.اما القسم الثاني بعنوان (موقفنا من التراث الغربي) ويهدف الي بيان حدود الثقافة الغربية ومحليتها بعد ان ادعت العالمية والشمول وأخراج أوربا من مركز الثقل الثقافي العالمي ومن محور التاريخ وردها الي حجمها الثقافي الطبيعي في الثقافة العالمية الشاملة، وهنا يؤسس حنفي علمه الجديد وهو علم الاستغراب (عكس الاستشراق) أي دراسة الثقافة الغربية بتحيز شرقي كما فعلوا هم معنا. أما القسم الثالث فهو وضع منهج للتفسير يكون جامعاً الكل المناهج ونهاية مشروع التراث والتجديد هو محاولة العثور علي منهاج اسلامي عام لحياة الفرد والجماعة ويكون بمثابة الايدولوجية التي يمكنها تنظير الواقع وتطويره.أن قلنا ان مشروع الجابري واقع في الاوهام فأن مشروع حنفي غارق في الاحلام....احلام التقدم، احلام التأسيس، احلام تجديد النهضة الاولي أو استئناف ما بداءه أهلها. فأين احلامك يااستاذنا العزيز ؟ أين ذاك المنهاج الذي تبشرنا به؟ أين المشروع القومي الذي تساهم انت والحالمون في صياغته؟ أين؟! يقول احد الباحثين (عبد الجبار الرفاعي- قضايا اسلامية معاصرة ص10) " ان مشروع التراث والتجديد أوسع مشروع لاعادة بناء علوم التراث وهو يذكرنا بالاعمال الموسوعية الكبري التي انجزها العلماء المسلمون في العصور الماضية" نعم انه مشروع كبير ولكن بالحجم ونعم يجوز مقارنته مع الاعمال الموسوعية "كأعمال الجاحظ والتوحيدي"خاصة انها لاتحوي علي افكار الا ربعها او اقل اما الباقي فهو ضرب الامثلة او الشواهد او بعض القصص والاشعار للتلطيف او الطرافة، افهذا مايريده حسن حنفي من مشروعه أم ماذا؟بعد ان تكلمنا عن اوهام وأحلام علاقات مثقفينا العرب مع تراثهم نجد ان من المهم مراجعة مسألة مفصلية في قراءة التراث العربي وهي مسألة الادوات الغربية في البحث تلك التي طغت علي اغلب قراءات المثقفين في اواخر الثمانينات وحتي الان ، يبرز في هذا المجال المفكر الجزائري محمد أركون، فهو يدعو الي ((كسر القراءات التقليدية للنصوص واللجوء الي قراءة بديلة توظف العلوم الالسنية الغربية في قراءة النصوص)) ( الفكر الاسلامي: قراءة علمية، مركز الانماء القومي) وأعترف انه يستمد معظم مفاهيمه في قراءته العلمية للتراث من افكار "ليفي شترا وس ، فوكو،دريدا،لاكان،كاستورياديس" (الفكر الاسلامي ص63) ولا تخلو صفحة من صفحات اركون الا ومفهوم غربي حديث يعرض عرضا دقيقا ومفصلا بل قد يتكرر التعريف بالمفهوم عشرات المرات في كتب أركون فترتدي اعماله n بأعترافه الشخصي- طابع الترويج المعرفي المضر بالمعرفة نفسها ( تاريخية الفكر العربي الاسلامي مركز الانماء القومي ص24) نلاحظ ان أركون يدعو الي كسر طوق القراءات " التقليدية فما هي تلك القراءات؟ لعل عشرات المثقفين دعوا الي كسر الاطواق قبلك يا أستاذ! فطه حسين أراد ذلك بمنهجه الشكي الديكارتي وأصبحت قراءاته تقليدية عندما أراد حسين مروة والطيب تيزيني كسرها بمنهجهم المادي الجدلي وأصبحت قراءاتهم تقليدية عندما أراد كسر طوقها "محمد عابد الجابري" بمنهجه الابستمولوجي الباشلاري ، وأخيرا جاء أستاذنا اركون يقول أنه يريد كسر أطواق القراءات التقليدية بمنهجه الاركيولوجي الفوكوي، أذن كل جديد معرفي يخلقه الغرب له من يطبل ويزمر من مثقفينا فأين الخلق والابداع أن كان كل ما نقوم به العرض والتصنيف. ويصح أن نقارن أفكار ما بعد الحداثة بأفكار الحداثة من حيث علاقتنا بكليهما فكما الفكر الماركسي جاء من خلال قراءة في تطورية التقدم الغربي بعد الثورة الصناعية وأعمل ادواته علي المنهج الديكارتي والجدل الهيغلي فأنجب لنا المادية التاريخية والمادية الجلبة فالفكر الغربي المعاصر بشقيه ( الابستمولوجي والاركيولوجي) جاءا في سياق تطورية العقل الغربي فأعمل أدواته علي أفكار الحداثة وحتي ما قبل الحداثة ( كقراءات هيدغر الافلاطونية والان باديوفي بيانه من أجل الفلسفة) .يقسم "علي حرب" (هكذا أقرأ ما بعد التفكيك- المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 145) المشتغلين في الساحة الفكرية العربية الي ثلاثة أقسام ، الاول : ويضم صادق العظم وحسن حنفي وهشام جعيط وهؤلاء لم يتعرفوا علي منجزات ما بعد الحداثة ، الثاني : ويضم العروي والجابري وهذا القسم يقع في الوسط اذ لم ينفتحوا كما ينبغي علي منجزات ما بعد الحداثة ، الثالث : ويضم آركون و صفدي وهم أكثر المفكرين أستخداما لمناهج ما بعد الحداثة ، تقسيم عجيب بلا ريب! فأين المخلوقات المعرفية التي أبتكرها آركون أو مطاع صفدي لنضعهم في قمة هرم الفكر العربي فأركون حسب حرب نفسه ( الممنوع والممتنع : نقد الذات المفكرة- المركز الثقافي العربي ص 127) لايبتكر المفاهيم بقدر ما يعرضها ويوظفها. أما صفدي فهو كشكول معرفي يعرض أسماء وعناوين وأفكار الغرب ، نعم يمكن الاستفادة منه في هذا المجال فقط . لذلك من الافضل أن نقسم العاملين في الساحة الفكرية العربية علي أساس كيفية تعاملهم مع الفكر ما بعد الحداثي لا علي أساس ولائهم له ، ونعم لا يمكن بأي حال من الاحوال أن نتجاهل أنجازات الغرب الثقافية ، ولكن الاستفادة شئ والتقليد والنقل شئ اخر فمثلا المنهج الابستمولوجي الغربي ، الجابري يقسم بألاعتماد عليه النظم الثقافية العربية بصورة فجة الي أقانيم مقدسة ، معقول وبرهان مغربي ولامعقول وعرفان مشرقي ، يقتل الجابري هنا أي مجال للابداع والتغير ولكن بالمقابل بأمكان المنهج الابستمولوجي تحليل بنية الثقافة العربية التي تحوي المعقول ولا معقول معا فأبن خلدون المغربي عقلاني ولاعقلاني ، وأبن سينا المشرقي برهاني وعرفاني ويعود هذا الي تأثير التطور الحضاري في الاسلام والعوامل التاريخانية وهنا يمكن الاستفادة من المنهج الماركسي في تحديد العوامل التي أنتجت البنية الثقافية ، أصحابنا الماركسيون يحيلون كل التشكل الثقافي العربي الي العوامل الاقتصادية ، وهذا خطأ كبير لأن الاقتصاد بشكله الحديث والمعاصر لم يكتمل بناؤه وخواصه في ذلك الوقت لذلك يجب أستخدام المنهج الماركسي من دون الاخذ بالنتائج التي توصل اليها ماركس وأنجلز في تأثير الاقتصاد في تشكل البنية الثقافية ، يقول البعض أن المنهج الاركيولوجي الحفري يقدم الادوات في تفسير التراث من دون نتائج مسبقة بيد أن الباحث حين ينقب ويحفر في تراثه وهمومه سوف ينتج أدواته ، أذن ليس الحفر هو أداة بل هو اداة انتاج الادوات. قد يسأل البعض ما فائدة قراءة التراث أذن ونحن نقراءه من داخله ألا يشف ذلك بموضوعية كاذبة ويذكر مقولة التوسير الشهيرة "لاتوجد قراءة بريئة" ، لا، نحن لا نقرأ التراث من داخل التراث من أجل التراث بل نقرأ التراث من داخل التراث لأجلنا نحن لأجل الحاضر والمستقبل، فالتراث منقطع عنا بالمعني الانطولوجي ولكنه مستمر بالمعني الابستمولوجي بل أن قراءة التراث لأجل الحاضر هو لب أسباب دراسة التراث : أفهناك سبب آخر لها؟ وأن بقاء التراث بصورته الاسطورية له الاثر الاقسي في بقاء العرب علي ما هم عليه الان ، أما انزال التراث الي ارض المحايثة (ليست محايثة الحاضر كما يتوهم البعض بل محايثة تجربته الحضارية) سيسهم في زحزحة مشاكل الانسان العربي وانزاله الي الارض التي نعيش فيها لا ارض الاوهام والاحلام والطوباويات المستحيلة وهذا العمل لا يتطلب شخصا مهما واحدا بل عشرات الالاف من الباحثين.بقي ان اذكر ان جميع الاعمال التي تناولتها بالنقد لا يستطيع اي قارئ في التراث ان يتجاوزها لما فيها من ابداع و اصالة و عدة منطقية عملاقة .وهذا شان اي عمل يستحق النقد .
Azzaman International Newspaper - Issue 2564 - Date 7/12/
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: