١٠‏/١٢‏/٢٠٠٦

هكذا تكلم نصر حامد ابو زيد بلسان ابن عربي
نظرة في توافق الأفكار بالجدل المفتوح مابين قديمها وحديثها
محمد الأحمد

(لم أزل أبكي حتى ضحكت، ولم أزل أضحك حتى صرت لا أضحك، ولا أبكي
- أبو يزيد البسطامي)
يحتدمُ جدل الفكر العربي في كل لحظة ما بين أصول قديمه المشرق، وأصول حاضره المعتم، ويحدث أن يصل كل منهما إلى مفترق طرق، فذلك الزمن قد خطت فيه أغلب الأفكار التنويرية إلى أمام، وقد خطت أغلب أفكار اليوم إلى الوراء، وثمة جدل عقيم، سوف تخلفه المقارنة، وكأن الأمس العربي برغم محدودية عصره.. في التقنية الحضارية، قد كان أكثر حضارة ورُقياً، وأكثر انفتاحا بحضارته الفكرية على العالم الحاضر فيه، إذ كان الفكر جدليا رائقا، ومفتوحا، ولم يك يقيم الحدّ بالقطيعة مع التمرد، بل يقيم الدليل، ويجادل الفكرة بالفكرة الأبهى، محاججاً بالدليل والقرينة، حتى بقيت الإضاءة خالدة متحدية الطمس، والنكران. وغالبا ما تفرض المصالح مطالحا والمطالح مصالحاً تغير المعاني إلى الاتجاه الذي تريده، حيث دُعِمَتْ الفرق بألف قضية، ونشرت المِلَلْ، والنِحَلْ بألف سبيل، وما عادت الخطابات قائمة لذاتها، حيث يؤرقها الاختلاف بالسيف وبقية السبل، فكلما جاءت فكرة، حتى جاءت معها الفكرة الأخرى، النقيض، وصار منهما الأثر بعد العين، (يجب أولا قبول غربة عقلية لا مناص منها للوصول إلى طراز محدد كل التحديد تاريخيا من الإدراك والتمثل والتفكير، ولابد ثانيا من ألفة ينهض بها المرء للطرائق والإشكاليات التي مازلنا نشعر بخصبها- محمد أركون
[1]). ولان (محيي الدين بن عربي) نقطة التقاء بين التراث العالمي والتراث الإسلامي، وهذه فاصلة، تمكن النظر عبره لتراث عربي بوصفه تواصلاً حياً خلاقاً مع التراث العالمي الذي كان معروفاً ومتداولاً في عصره، سواء كان تراثاً دينياً، مسيحياً أو يهودياً، أو كان تراثاً فلسفياً فكرياً، وإصرار العصر على استخدام مصطلحات متنوعة للدلالة على مفهوم واحد، واستيعابه للتراث السابق، أو تأثيره في النهج الفكري التالي له، قد لا يحتاج إلى استدلال، وصار الثابت متحولا؛ من بعد أن تعددت المناهج السياسية إلى حدّ لا حساب له، بعدد تعدد المصالح وصار الجزء يطغي على الأصل، بوقف ما يراد منه، وتغيرت الملامح بألف قناعِ، وقد تصدى في الأزمان اجمعها من المتجادلين لبعضهم، فأضاعوا ما أضاعوه، وبقيت الأسباب هي الأسباب، (تلحق الأباعد بالأداني وتلحم الأسافل بالأعالي[2])، وقد كانت مهام كثيرة تتطلب القيام بها من لدن مفكرينا الجادين في البحث، لأجل استحداث القناعة التامة بان الفكر الإسلامي قد كان ولم يزل منيرا، وان رجاله الحق قد تركوا رؤية عميقة في فهم النصوص بحياد عام، وقد كتب (نصر حامد أبو زيد)، الموسوم بـ(هكذا تكلم بن عربي) محاولة جريئة غير مسبوقة لنقد مشروع نقد العقل الإسلامي، والوقوف عند ابرز شيوخ التصوف، من خلل آليات علمية اعتمدها النقد العقلاني، وتأتي أهميتها من أنها تغور بعمق الفكر وليس من خارجه، فالمؤلف وفي إطار تحليله معتمدا على عمق ثقافة إسلامية، لا يأخذها إلا الجد وتشير إلى أن أقصر الطرق الكاشفة عن معرفة عصرية، وقد تركت بجرأة عالية إشاراتها البارزة في العقل الإسلامي المعطاء للمعرفة، والرافض للتحجيم. فيشير إلى أهمية تناول شخصية (بن عربي) بالتحليل الدقيق، والإضاءة على واحد من الذين تميزوا بين علامتين؛ هما استيعاب النص الجلي الضخم للفكر النقدي من ناحية، والإلمام بتاريخ الفكر العالمي، وتشعباته، ومدارسه من ناحية أخرى، فضلا عن أنه يندرج ضمن مرحلة معينة من مراحل ومناهج الفكر العربي الإسلامي المعاصر، موضحاَ الأسس العرفانية والبيانية المكونة لوحدات هذا الفكر، فالمفكر(نصر حامد أبو زيد) يعطينا دلالات معرفية مثيرة أساسها التفسير بأسبابه، ومقتضياته وينبغي علينا أن نذكر بأنه كمفكر عربي معاصر، طاردته المحاكم بسبب خروجه على الخط المقرر من قبل فقهاء عصره، وصار مقيما في هولندا (تولد عام 1943م وحاصل على دكتوراه دراسات إسلامية من القاهرة 1972م)، وقد عرج متوقفا عند (محيي الدين بن عربي) بأكثر من كتاب، وأكثر من مقام ومقال، والرجل لم يكن متصوفا كبيرا، فحسب، وإنما كان عالما مقتدرا بين علماء عصره، وقد ترك بصمات دلالية على نهج تفكيره، فكان فيلسوفا أيضا، إذ أنتج أفكارا حاجج بها كل المفكرين الذين جايلوه، وبقيت تتلامض كالدر المكنون في أبيات الشعر الصوفية التي بقيت خالدة، إضافة إلى فتوحاته النصية الرائعة في كتابه العبقري (الفتوحات المكية)، الذي دل على أن (ابن عربي) عالما لغويا لا يمارى، ذهب إلى مقاصده بخط مستقيم، ومعانيه لم تكن تحوى على ازدواج في المعنى، إذ كان مؤمنا بعمق لما كان يتحمل وزه، (في فترات القلق والتوتر يكون التكفير هو السلاح، وفي فترات الانفتاح لا يوجد تكفير، كل الخطابات متاحة، ومتميزة بالتفاعل فيما بينها، والتيارات الظلامية هذا التعبير لا أحبذ أن استعمله، لأنه سيرد فيما بعد ليقول لي بالتيارات المنحرفة عن العقيدة، يعني هناك تبادل تهم، السلطة هي تخلقه، وكذلك السلطة تكفر، ومشكلتنا في المجتمعات العربية لا نستمع إلي الرأي الآخر ولا نتسع له، وكل فرد في الجماعة يعتبر نفسه مالكاً للحقيقة وبالتالي نحن نختلف حول المعاني ولا نختلف حول الحقيقة، لا نختلف حول وجود الله وحتى لو اختلفنا حول وجود الله فهو اختلاف بالمعنى، إن الاختلاف هو أمر طبيعي، وهو ليس جريمة، إن هذا قدرنا الإنساني أن نختلف حول المعنى[3])، فزمن طويل قد مضى على تلك الحقبة، بعد أن غيّرَ الكارهين اغلب الوثائق مضفين إليها نقاط الشقاق والنفاق، وعلامات فارقة من الحقد، متناسين بان الرجل المفكر سيكون بما ترك من نصوص وشروح سوف تبقى مرآة عصره، كذلك صورته لم تكن تتزعزع لأنه، آنذاك، قد جايل مفكرون قد حايثوه، وعايشوه، وتتطبعوا منه أو تطبع منهم، فبقوا هم من يحمل صورته التي تتحدى الطمس، وتقف بمثل ما كانت تأخذ دورها الطبيعي في جدلية التاريخ، والمنطق، فقد ولد (بن عربي) في الأندلس، (موريسيا) عام 1165م، وتلقى تعليمه في (إشبيلية) مع من كانوا يحيطون به، ثم مؤخرا استقر بمصر، ومات في دمشق. درس كل العلوم الكلاسيكية للإسلام من لغة وعروض ونحو وصرف وفقه إسلامي وأدب وتاريخ، الخ. منطلقا بعدئذ نحو كبريات المدن الأندلسية المغاربية بحثا عن العلم أو تكملة له. ترك (المغرب) عام 1201م، متجاوزا الخامسة والثلاثين، (لعل هذه المحنة كان لها تأثير في قرار ابن عربي مغادرة المغرب كله إلى المشرق[4])، ومن بعد اخذ بالمغاربة والأندلسيين ليجهر علنا توجهه الصوفي الباطني، ومهاجرا، ليجد في المشرق علوما تتوافق مع تفكيره وتوجهاته الروحية والعلمية، حطّ بـ(مصر) طويلا، ثم (سوريا)، (العراق) ف(تركيا) ولاقى الكثير من الأمراء الذين شملوه بعطاياهم وبحمايتهم لأنهم قد أعجبوا به، وبعلمه الغزير، وفهمه العميق للإسلام الحنيف، خاصة، أمراء السلاجقة، فلم يبخلوا عليه بالغالي والنفيس. وفي عام 1225م غادر من (تركيا) عائدا إلى (دمشق) لكي يستقر فيها، ويعيش حتى مات عام 1240م، أي بعد خمسة عشر عاما، وكان قد في الخامسة والسبعين أو ناهزها.. مستوعبا الفكر العربي في مرحلتيه السابقتين: العصر الذهبي والانتشار اللتين استمرتا على امتداد قرون انشغل خلالها المفكرون، آنذاك، بتحليل المجتمع في أبعاده التنظيمية وتجلياته الأدبية وبناه المختلفة بالنظر إلى المبادئ والقوانين التي ولدتها، وإزاء اتساع النصوص التي اطلع عليها وكيفية تدرج البنية المعرفية ضمن بنية أشمل هي بنية العقل الديني ساعيا لتوحيد الوعي الديني، وعهد كعالم يتعامل مع المفاهيم والمناهح غربية المنشأ والأصل متعمقا بسياقها المعرفي والحضاري، وكان يطبقها على مجال مغاير تماما لمجال انبثاقها، فالمناهج الفكرية الغربية هي مناهج منقولة غير مأصولة. بهذا المعنى يعد (ابن عربي) ممثلا للتيار الآخر من الفكر الأندلسي والعربي الإسلامي في مجمله. كان يمثل التجربة الروحية والصوفية الكبرى في تاريخ الإسلام، في حين أن (ابن رشد) كان يمثل التيار العقلاني المحض. (ولهذا السبب قال له ذات يوم، أولا: نعم، ثم أردف قائلا: لا! (بنعم) كان يقصد أنه متفق معه على أهمية العقل وضرورة استخدامه، و(بلا) كان يقصد أن العقل وحده لا يكفي للوصول إلى الحقيقة الإلهية وإنما ينبغي أن نفتحه أيضا على الخيال والإلهام والتجربة الروحانية العميقة[5]). وكانت هذه النقطة الحاسمة التي جعلت (ابن رشد) بعيدا عن المثيولوجيا لتقاربه مع فلسفة (أرسطو) الواقعية والمادية، (بوسع المرء أن يطرح منظومة إن الإنتاج والتأويل المستمرين للثقافة الغربية نفسها قد افترضا الافتراض ذاته بالضبط إلى زمن موغل في القرن العشرين، حتى حين كانت المقاومة السياسية لقوة الغرب تتصاعد في العالم الهامشي ألإطرافي، وبسبب من ذلك، وبسبب مما أدى إليه يغدو ممكنا الآن أن نعيد تأويل سجل محفوظات الثقافة الغربية كما لو كان مشروخا جغرافيا بالفالق الجغرافي المنشط، وان نقوم بمنط مختلف من القراءة والتأويل- ادوارد سعيد[6])، وكان (ابن عربي) على يقين بأن فلسفة (ابن رشد) قد وصلت إلى الجهة الأخرى المضادة.. في وقت بات الفكر العربي الإسلامي كان بحاجة إلى تأسيس تتواشج فيه الروح بالمادة، وإلا سوف يلغى ويحارب كما لغي (ابن رشد) وهذه التأسيس رائده وزعيمه (محيي الدين بن عربي)، وعلى هذا النحو اشتهرت كتبه (الفتوحات المكية)، و(النصوص والحكم)، و(ترجمان الأشواق)، وغيرها من روائعه، فعقيدة (بن عربي) تتداخل فيها: عدة أساسيات دينية، فلسفية، وصوفية، تعتمد على نظرية وحدة الوجود. (وهي نظرية تقول ان الكون كله يصدر عن الله كما تصدر الجزئيات عن الكليات)، و(المعتزلة هي فرق أسلاميه أسسها (واصل بن عطاء الغزال) وأنضم إليه (عمرو بن عبيد) في أوائل القرن الثاني الهجري ثم انتشرت وتشعبت إلى الكثير من الفرق كالنظامية، والمردارية، والخابطية، والبشرية، والهشامية، والثمامية... إلخ، ومن أهم أفكارهم: نفي صفات الخالق (عزوجل) معتقدين بأنه لا جوهر، ولا عرض، ولا طول، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا بذي حرارة، ولا برودة، كذلك نفي العلم والقدرة، ونفوا أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال عبادة، كذلك دعت ما بعد الحداثة إلي إلغاء الازدواجية وأثينية المنهج الاستدلالي، كازدواجية الذات والأعراض، والمبدأ والأثر، وعدم التفريق بين الحابل والنابل، وهذا ما رفضه (أبن عربي) مع (ابن رشد)، وكذلك يرى؛ أن كل (الأديان السابقة على الإسلام لم تكن إلا مسارا طويلا للوصول إليه، وبالتالي فقد أرهصت به ومهدت له الطريق. ينتج عن ذلك أن الإسلام هو الدين الكوني الذي يشتمل على جميع الأديان، وأن محمداً (ص) هو خاتم الأنبياء والمرسلين)، وقد تنادى بأسس التسامح في الدين الإسلامي لأنه اعتبر أن (جميع الأديان تؤكد على حقيقة واحدة هي الحقيقة التي جاء بها الإسلام. وبالتالي فلماذا نكرهها أو نحتقر أتباعها؟ لماذا لا يتسع قلبنا لجميع مخلوقات الله؟) ويؤكد المؤلف (للأسف فإن المتعصبين لم يفهموه ولم يدركوا أبعاد هذا التفكير الكوني الواسع الذي دشنه، ولذلك فقد انتقدوه بشدة، بل وكفّروه، وهنا تكمن مشكلة الفلاسفة والمفكرين الأحرار في الإسلام، فالعامة لا تستطيع فهمهم والفقهاء الصغار يكرهونهم نظرا لاتساع أفقهم العلمي والعقلي الذي يتجاوز مداركهم، وبالتالي فإنهم يتعرضون للمحاربة العنيفة باستمرار)، قائلا بما معناه؛ (ينبغي العلم بأن الفلسفة العربية الإسلامية لم تمت مع ابن رشد، وإنما استمرت في الوجود من خلال (بن عربي)، و(السهرمدي) في المشرق، والحيوية الفكرية في الأندلس ماتت بسبب الفهم المنغلق، والحرفي الأعمى للعقيدة بسبب نسيان جوهر الدين، والتركيز على القوالب الخارجية القسرية والطقوس الشكلانية الجافة، ولهذا السبب ماتت الفلسفة بعد أن ازدهرت لعدة قرون في الأندلس والمغرب الكبير)، (وقد تحدث ابن عربي عن اللقاء الوحيد الذي جمعه بابن رشد الذي كان قد بلغ أوج مجده في نهاية عمره، هذا في حين أن ابن عربي كان لا يزال في أول شبابه. وقال بما معناه: لقد زرت أبا الوليد ابن رشد في بيته بقرطبة بناءً على رغبته في رؤيتي والاستماع إليّ)، (وما إن دخلت البيت حتى نهض ابن رشد من مجلسه وأقبل عليّ بكل ترحاب وعززني وكرمني بل وقبّلني. ثم أجلسني إلى جانبه لكي يتحدث معي ويرى ما أملكه من علم، ثم قال لي: نعم، (أي نحن متفقان)، فقلت له: نعم... وعندئذ شعر بالارتياح وبدا الانشراح على وجهه واعتقد أني من تلامذته وأتفق معه في كل شيء)، (حكي الشيخ الأكبر أبن عربي فقال: دخلت يوماً بقرطبةَ على قاضيها أبى الوليد بن رشد ، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به علىَّ في خلوتي، فكان يُظهر التعجُّبَ مما سمع. فبعثني والدي إليه في حاجةٍ، قصداً منه حتى يجتمع بي، فإنَّه كان من أصدقائه، وأنا (آنذاك) صبىٌّ ما بقل وجهي ولا طرَّ شاربي. فعندما دخلت عليه، قام من مكانه إلىَّ محبَّةً وإعظاماً، فعانقني وقال لي: نعم، قلت له: نعم، فزاد فرحه بي لفهمي عنه، ثم استشعرتُ بما أفرحه، فقلت: لا، فانقبض، وتغير لونه وشك فيما عنده. وقال لي: كيف وجدتم الأمرَ في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت: نعم ولا، وبين نعم ولا تطيرُ الأرواحُ من موادِّها والأعناق من أجسادها، فاصفرَّ لونُه، وقد قال الشيخ الأكبر؛ الخلاف حق حيث كان)، وفي رواية أخرى (وكان قد سمع بالإلهام الذي حباني الله به في عزلتي الروحية. وقد أبدى دهشته مما سمعه عني، ولهذا السبب فإن والدي الذي كان صديقه الحميم أرسلني إليه في أحد الأيام لكي يراني ويعرف من أنا بالضبط. ولذلك استدركت قائلا: لا، فاغتمّ وبان الحزن على وجهه وتغير، وبدا وكأنه يشك في تفكيره، والعقيدة الفلسفية التي توصل إليها، وعندئذ سألني: ما هو الحل الذي توصلت إليه عن طريق الإشراق والإلهام الرباني؟ وهل هو متوافق مع ما نتوصل إليه نحن عن طريق الفلسفة أو الفكر البرهاني؟ فأجبته: نعم، ولا، وذلك لأنه بين النعم والـ لا، فإن الروح تنطلق حرة خارج مشروطية المادة والأعناق تنفصل عن أجسادها، وعندئذ اصفرّ وجه (ابن رشد) ورأيته يرتجف وهو يتمتم قائلا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والواقع أنه فهم مقصدي العميق وما أشير إليه وعرف أنه يتجاوز فلسفته العقلانية المنطقية أو يفترق عنها بعد أن يهضمها ويستوعبها)، ومقارنة ما بين تاريخ ميلاد (بن عربي وبن رشد) نستنتج بأنه يصغر (ابن رشد) بأربعين سنة أي قد كان أحد تلامذته الذين استفادوا من علمه وعقلانيته البرهانية، وفلسفته ومن الذين خرجوا عليه تجاوزا إلى الفكر الصوفي، كون منهج الإسلاميات التطبيقية هو الوجه الآخر المشرق، (ثم رجعت إلى صاحبي وهو ينظرني بباب المسجد، فتحدثت معه ساعة، وقلت له: من هذا الرجل الذي صلى في الهواء؟ وما ذكرت له ما اتفق لي معه قبل ذلك، فقال لي: هذا الخضر[7])، ومن ناحية ثانية يشير (نصر حامد أبو زيد) إلى خطورة المنهجية التعددية التي اعتمدها وأنها قد تكون محفوفة بالمزالق اذ قد تنتهي بالباحث إلى التناقض لأنه يجمع بين فلسفات مختلفة اختلافا بنيويا وأصوليا، ومن ذلك ما يشير إليه من وقوع (المؤلف) في هذا النوع من الخطأ عندما جمع بين افكار (فوكو وهابرماس)، بعقلانية منفتحة ومتعددة وفهم متقدم للإنسان، مؤلفاته الأخرى: (النص السلطة والحقيقة)، (مفهوم النص)، (فلسفة التأويل)، (نقد الخطاب الديني)، لم نجده إلا عند المتأخرين من رواد ما بعد الحداثة مثل (فوكو)،(دريدا)، (محمد أركون)، ومن الجدير بذكره؛ في عام 1995 قضت محكمة استئناف القاهرة باعتبار (نصر حامد أبو زيد) مرتدا عن الإسلام والتفريق بينه وبين زوجته السيدة (ابتهال يونس) وذلك لأنه لا يجوز لها كمسلمة الزواج من كافر حيث اعتبرت هيئة المحكمة كتابات المذكور أهانه للعقيدة الإسلامية. (إن اله العولمة قادر على إعادة إنتاج نفسه في أشكال وصيغ وملامح لا تخلو من جاذبية- أبو زيد[8])، و(هاجت الأرض من شرقها إلى غربها وانتفضت كل الهيئات والمنظمات العالمية والعربية والمصرية المعنية والغير معنية وكل القيادات العلمانية الليبرالية، والاشتراكية مع كل القوى التقدمية التعبوية الراديكالية ذات الرؤى المشتركة نحو هدف نهوضي توحدي ثابت ضد كل قوى الشر التي تريد أن تعود بهذا الوطن إلى عصور الجاهلية وأطروحاتها المظلمة)، وفي آب لعام 1996 أيدت محكمة النقض بالقاهرة الحكم السابق الصادر من محكمة الاستئناف، وأصبح الحكم لا رجعة فيه، (الرجل ينكر الوجود العيني للملائكة والجن والشياطين والسحر والحسد ويعتبرها مجرد ألفاظ مرتبطة بواقع ثقافي معين (خرافات وأساطير)، واعتبروه كـ(ابن رشد) يدعو إلى اعتبار القرآن الكريم نصاً تاريخيا وينبغي فهم نصوصه في إطارها التاريخي والاجتماعي واتهموه بأنه يدعو الدولة إلى إصدار قوانين تمنع تعدد الزوجات، ويطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة في الطلاق وفي الميراث، (يطالب باعتبار شهادة الرجل تساوي شهادة المرأة)، فالرجل يقرأ فلسفة (ابن عربي) في جوانبها الوجودية والمعرفية، وفق مفاهيم جدلية بماهية النص الديني، ودوره المعرفي، وله تمكن العارف في مفهوم اللغة بمستوياتها المتعددة كوسيط يتجلى عبره النص، كذلك (بن رشد)، (بن عربي) قد كانا من المناصرين للمرأة، وقالا ما قاله (أبو زيد) بين ظاهر الوجود وباطنه، (ويرى ضرورة النفاد من الظاهر الحسي المتعين إلى الباطن الروحي العميق في رحلة تأويلية لا يقوم بها إلا الإنسان لأنه الكون الجامع الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود وحقائق الألوهة في الوقت نفسه)، فالعلاقة علاقة توافق، وتواصل الأفكار بالجدل المفتوح مابين قديمها وحديثها، تستوجب القراءة المتأنية وإعادتها على مدى أيامنا القادمة.


‏‏الأحد‏، 10‏ كانون الأول‏، 2006

[1] الفكر العربي ص 23
[2] فصوص الحكم.. التصدير
[3] نصر حامد أبو زيد- لقاء نشرته جريدة الزمان
[4] ص 163
[5] الكتاب
[6] لثقافة والامبريالية ص 118
الكتاب ص55
[8] ص 23
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: