٣٠‏/٠٥‏/٢٠٠٦

الذكرى الثالثة والأربعين لرحيل شاعر تركيا
ناظم حكمت بشَّر بالحياة ودافع عن الحرية
غزاي درع الطائي
العيش جميل يا صاحبي
(إذا لم أحترق أنا
ولم تحترق أنت
ولم نحترق نحن
فمن ينير الدرب أمام الآخرين
) ..
كلماتك هذه، يا ناظم حكمت، شقَّت طريقها إلى قلوب الملايين من البشر في مختلف بقاع العالم كما يشقُّ البرق السحاب، ولا غرابة في ذلك، فالشعر العظيم له من الجاذبية ما يجعله قادرا على لمِّ شمل البشرية حول أهداف الحرية والحب والسلام، والكلمة الطيبة والصادقة والفاعلة قادرة على جمع الخيِّرين حولها، في كل زمان وفي كل مكان .
كان عليك أن تختار ما بين أن تكون كنارا يردِّد الكلمات التي يريد منه الآخرون ترديدها، أو أن تكون بلبلا، واخترت أن تكون بلبلا لكن دون قفص، ولذلك كان عليك أن تعاني الملاحقة والتهمة والاعتقال والسجن والنفي والغربة، وأكبر نفي لك كان نفي قبرك، الذي ما زال هناك في مقبرة فوفوديفيتشيه في موسكو، بعد أن رفضت السلطات التركية أن تُدفن في أرض بلدك بالرغم من أن وصيتك كانت تنص على ذلك، فمتى تعرف الأرض التركية أن لها قبرا في موسكو عليها استرجاعه واحتضانه ؟ .
كنت يا ناظم حكمت غريب الدار، وما زلت غريب القبر، وفي الدنيا من الغرائب ما يستغربها الأموات لكن لا يستغربها الأحياء، وهذه غرابة في الغرابة .
لم تطعن أصدقاءك من الخلف، هذا ما قلته، وكنت تنال خبزك بعرق جبينك، وهذا ما أكَّدته، وكنت صادقا في ما قلته، وهذا ما استنتجناه، وفي الوقت الذي كانت فيه السلطات التركية تلاحقك وتضيِّق عليك مجال القول والنشر، كانت دواوينك الشعرية تجد طريقها السري إلى المنازل التركية منزلا بعد منزل لتتداولها الأيدي والقلوب بحب وتقدير، وأنت قلت عن نفسك بطريقة سريالية أخّــاذة (كتبت من الأشعار ما يوازي سنة كاملة من الأمطار)، وقلت والمرارة تملأ فمك (طُبعت كتبي بأربع وثلاثين لغة، ولكنني ممنوع في تركيا .. محرَّم في اللغة الأم) ، وقال عنك الشاعر التركي المعروف (اورهان لي) معلِّقا على غزارة إنتاجك الأدبي على الرغم من الاضطراب الذي كان يحيط بك والرياح التي كانت تعصف بك من كل اتجاه (ناظم حكمت : آلة طابعة !)، وقيل عنــك (ناظم حكمت ثالث اثنين : دانتي وشكسبير) ومن قال عنك هذا القول كان منصفا حقا، ولعله قلَّل بقوله هذا من الظلم الذي لحق بك دون وجه حق .
أحببت الحياة، وكنت تردِّد : (العيش جميل يا صاحبي)، وبعد ذلك ليس من الغريب أن يكون أحد عناوين رواياتك (ما أحلى العيش)، أما الموت فلم يشغلك ولم يأت على خاطرك، وأنت تعلم أنَّ ..
(الموتى لا يشغلون أكثر من سنة
ناسَ القرن العشرين)،
كنت تنظر باستنكار إلى ما يحصل للإنسان على يد أخيه الإنسان، فتصيح :
(الأرض نحاس
السماء نحاس
هيا اصدحوا بأغنية شاربي الشمس
هيا فلنصدح معا ..لنصدح)،
وحين سئلت عن جذورك، قلت : (إن جذوري تضرب عميقا في تراب وطني)، وحين سئلت عن أجمل ما سمعته من أصوات، قلت : (إن أجمل ما سمعته من أصوات / صوت طفل يسأل عن النجوم / وهو ينام على ركبتي / في ليلة صيف)، وقلت عن قوَّتك : (قوَّتي في هذه الدنيا الواسعة / ناجمة عن كوني لست وحيدا / فقلبي يخفق مع أبعد نجم في السماء) .
أما الوطن، فهو شيب في الشَّعر وخطوط من الهموم تعلو الجبين :
(يا وطني يا وطني
اهترأت قبعتي التي اشتريتها من دكاكينك
وتقطَّع حذائي الذي حمل تراب شوارعك،
آخر قميص اشتريته من تركيا
صار مقطَّع الأوصال منذ زمن،
يا وطني لم يبق لديَّ منك
سوى سوط الشيب في شَعري،
وما عندي منك غير خطوط من الهموم
تعلو جبهتي
يا وطني يا وطني) .
الميلاد والموت
وُلد الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت في 7 شباط 1902م، في ضاحية من ضواحي اسطنبول اسمها (سلانيك)، ولم يعد إلى مسقط رأسه أبدا (لأنه لا يحب العودات) كما يقول عن نفسه، كان من عائلة ارستقراطية ثرية ومثقفة، فجـدُّه (ناظم باشا) كان يكتب القصائد الصوفية والدينية باللغة التركية العثمانية، التي كانت الكلمات العربية والفارسية فيها تصل إلى 75% منها، وكان أبوه (حكمت باشا) مديرا عاما للمطبوعات، كما كان قنصلا في هامبورغ بألمانيا، ومديرا في الخارجية التركية، وواحدا من أبرز قياديي حزب الاتحاد والترقي، أما أمه فكانت رسامة، وكانت شغوفة بالشعر والأدب، كما كانت تجيد الفرنسية بطلاقة وذات اطلاع واسع بالثقافة الفرنسية وتحب قراءة أشعار لامارتين، وقد تعلَّم ناظم حكمت الفرنسية من أمه .
كتب ناظم حكمت قصيدته الأولى عندما كان عمره (13) عاما، وكان عنوانـها (حريق)، وقد كتبها بعدما رأى بأم عينيه حريقا شبَّ في المنزل المقابل لمنزل عائلته وحوَّله من منزل جميل وعامر إلى رماد متطاير، فتملَّكه الفزع، وكانت تلك القصيدة، وفي الرابعة عشرة من عمره كتب قصيدته الثانية إثر موت خاله في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى .
ومع احتلال الحلفاء مدينة اسطنبول، توالت قصائد ناظم حكمت ضد الاحتلال، وأخذ ينشر قصائده في كبريات الصحف التركية، وفي عام 1920م عَبَر إلى الأناضول واشترك في القتال الدائر هناك، معلنا انتماءه إلــى (جبهة النضال القومي في الأناضول) التي كان يقودها (أتاتورك)، ويُروى أن (أتاتورك) استمع في تلك الفترة إلى قصيدة كتبها ناظم حكمت وسجَّلها بصوته على اسطوانة، وعبَّر عن إعجابه بمضمون تلك القصيدة التي كانت تحمل عنوان (الصفصاف الباكي) وبيَّن أن من شانها إثارة الحماسة في نفوس المقاتلين .
بعدها سافر ناظم حكمت إلى موسكو لغرض الدراسة الجامعية، وهناك درس الاجتماع والاقتصاد خلال السنوات الممتدة ما بين 1921م و1924م، وحين عاد من موسكو، عمل في الصحافة، وشارك في تحرير العديد من الصحف والمجلات مثل (المصور، المطرقة والمنجل، الضياء، والوجود)، وأخذ ينشر قصائده الجديدة في مجلة (التنوير)، وأصدر العديد من الدواوين الشعرية والمسرحيات، وقد كانت لقصائده التي نشرها خلال الأعوام التي تلت عودته من موسكو أصداء واسعة في جميع الأوساط، وإضافة إلى عمله في الصحافة عمل في المطابع، وفي الاستوديوهات .. في مجال ترجمة الأفلام السينمائية، وحين كان يقوم بترجمة فيلم عن احتلال الحبشة، أضاف من عنده على الترجمة (الفاشية تسير في شوارع اسطنبول)، وقام بتغيير بعض مضامين العبارات التي ترجمها، منها ما جاء على لسان القـــائد (هانيبال) وهو يخطب في جنوده ليذكِّرهم بفضل الحضارة الرومانية على الحضارة الإفريقية، فجعله يقول (أيها الجنود الرومان، إنكم في إفريقيا لتمتصوا دماء المغلوبين والضعفاء، فامضوا إلى القتل والسلب وانتهاك الأعراض)، وفي عام 1928م تم اعتقاله ولم يُطلق سراحه إلا في عام 1935م، وفي عام 1938م مُنح جائزة السلم العالمي، وفي ذات العام حُكم عليه مرة أخرى بالسجن لمدة (28) عاما، قضى منها ما يقرب من (13) عاما في سجون تركيا المختلة، وكانت التهمة الموجهة إليه هي تحريض جنود البحرية التركية على التمرد عن طريق قصائده التي وجدوها معهم، وخاصة ملحمـــة (الشيخ بدرالدين) التي نُشرت عام 1936م، وهي عن فلاح تركي ثائر على الحكم العثماني في القرن التاسع عشر، إضافة إلى عدم رضا السلطات التركية عن قيامه بفضح الفاشية التي كان خطرها يتصاعد، الأمر الذي أحقد الرجعية التركية عليه، ولم يخرج من السجن إلا في عام 1950م، وما كان ذلك الخروج ليتم لولا الحملة الدفاعية الكبرى التي قام بها أدباء ومفكرون ومثقفون أتراك وعالميون، عبر العالم، من أجل إطلاق سراحه، ومن الذين شاركوا في تلك الحملة : برترند راسل، جان بول سارتر، بابلو بيكاسو، بابلو نيرودا، لويس أراغون، وغيرهم، وكانت الحملة مشفوعة بإضراب ناظم حكمت عن الطعام وهو تحت ظروف صحية صعبة، ونشير هنا إلى أن الصحافة التركية ومعها الصحافة العالمية راحتا تضغطان بإلحاح من أجل تحقيق إطلاق سراحه، واستمر الضغط إلى أن أُجبرت الحكومة التركية على إصدار العفو العام عن المحكومين السياسيين ومنهم ناظم حكمت .
وبعد إطلاق سراحه، لم يمكث ناظم حكمت طويلا في بلاده، بسبب المضايقات التي راح يتعرض إليها على يد السلطات، ففر عام 1951م على متن قارب مع صديق له إلى رومانيا فموسكو، وأدى ذلك إلى صدور أمر بنزع المواطنة التركية عنه بالاستناد إلى تهمة الخيانة التي وُجِّهت إليه إثر فراره، وأمضى حكمت في موسكو وفي عدد من دول أوربا الشرقية بقية حياته .
ولقد ظل ناظم حكمت خلال السنوات الممتدة ما بين خروجه من السجن عام 1950م ووفاته في 3 حزيران 1963م، حاملا قضية وطنه وهموم الإنسانية في قلبه وضميره، ومواصلا مسيرة عطائه الشعري والمسرحي على ذات الطريق الذي عرفه العالم كله به .
ومن الجدير بالذكر أن ناظم حكمت زار القاهرة عام 1962م بدعوة من اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا في مؤتمره الثاني، وطلب في تلك الزيارة مشاهدة مدينة بورسعيد التي صمدت إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م وردَّت المعتدين على أعقابهم، وكتب هناك قصيدة عن بورسعيد باعتبارها رمزا لمقاومة الغزاة، كان بطلها عامل مصري نحيل وصغير اسمه (منصور) .
الإبداع الأدبي لناظم حكمت
يُعدُّ ناظم حكمت من أعظم الشعراء الأتراك، ومن أبرز شعراء العالم في القرن العشرين، واسمه يُذكر إلى جانب الشعراء العمالقة من أمثال : بابلو نيرودا وغارسيا لوركا ولويس أراغون ومايكوفسكي وغيرهم، وهو إضافة إلى كونه شاعرا : كان كاتبا مسرحيا وروائيا وقاصا وكاتب مقالات ومترجما ورساما، وكان يستحق جائزة نوبل للآداب بكل جدارة لكنه رحل دون أن ينالها .
له أكثر من (15) ديوانا شعريا، وقد صدرت أعماله الشعرية الكاملة في بلغاريا في (8) مجلدات، وله ملاحم شعرية عديدة منها ( الشيخ بدرالدين) و(تارنتا بابو)، وله (15) مسرحية منها : الجمجمة، يوسف وأخوته، الشهرة، أمام الموقد، المحطة، سيف ديمقليس، جوهر القضية، رجل غريب الأطوار، أنا إنسان، وله أيضا ثلاث روايات منها (ما أحلى العيش)، و(4) كتب تضمنت مقالات ودراسات في الأدب والفن والفكر والسياسة، ومجموعة قصص قصيرة للأطفال والفتيان .وقام ناظم حكمت بترجمة العديد من الأفلام السينمائية عن اللغتين الفرنسية والروسية، كما ترجم الجزء الأول من رواية (الحرب والسلام) لتولستوي، وكتب السيناريو للعديد من الأفلام السينمائية .
وقد احتفلت اليونسكو في عام 2002م في الذكرى المئوية لميلاده، وأقيمت ندوات كثيرة في بلدان عديدة عن ناظم حكمت في تلك المناسبة .
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: