٣٠‏/٠٥‏/٢٠٠٦

قراءة في قصة أحماض الخوف لجليل القيسي
توظيف الخيال للتعبير عن الواقع
تحسين كرمياني


بات النص الأدبي يشكل هوية سرّية للكاتب،كونه يتوارى في تضاعيفه أو يتخذ من الشخصيات أقنعة لتمرير أو لتحرير ما يؤرقه من هموم أو طروحات فكريه،وليس من السهولة بمكان الوصول إلى الغايات والمداليل ما لم يتم احتواء النص عبر الحفر فيه من عدة جوانب،والكل يدرك أن النص مهما كانت إجناسيته ـ شعراً أم نثراً ـ هو نزيف ذاكرة اكتوت بنيران معرفة صادمة تتقاطع مع ما يجري على أرض الواقع والنص ـ هو افراز لجراحات تولدها التوترات الحياتية والأزمات النفسية،هذه الجوانب لم تهملها التحليلات النقدية النفسية،كون الظروف المحيطة بالكاتب هي الحاضنة لإفرازات العقل، لابد للكاتب من أرضية تحمل بذور أفكاره وتخصبها قبل دفعها إلى سطح الواقع ومهما حاول للنأي من واقعيته تراه يغور فيها ويضيف إليها ،أن دليل الولوج إلى أي نص إبداعي يقترح استحضار جملة أمور،بيئة الكاتب..زمن كتابة النص ..توجهاته الفكرية..أسوق هذه السطور قبل قراءة قصة(أحماض الخوف)للكاتب القصصي والمسرحي البارع(جليل القيسي )لما طوت من نهج مشفّر خلاف ما عودنا عليه في قصصه المنتجة خلال السنوات الأخيرة، كان يسرج عربة خياله ويمخر عباب المتاهات بحثاً عن أسماء سكنت ذات يوم في ذاكرته من خلال موسوعية قراءاته،جرّاء حرصه وانتمائه النبيل لهذين الجنسين الأثيرين وخبرته الثرّة وثقافته الموسوعية وأسفاره ومغامراته وعدم التنازل عن منهجيته التناظرية واللجوء إلى الخيال للتعبير عن الواقع،فهو يستدرج تلك الأسماء التي دفعت بذاكرته إلى إقامة جحيم أسئلة ما يزال يبحث عن أجوبتها عبر محاولاته التجريبية،ليقيم معها علاقات جدلية لا تخلو من مبارزة معرفية لدفع الجنسين على مياه هادئة صوب ما يراه محطة إبداع.
في هذه القصة نجد القاص يمرر نداءً مشفراً ورغم فنيّتها المتعالية عن الكثير من قصصه،جاءت كرسالة محسوسة تنزف بمعاني وتجليات ذاتية تبتغي لفت انتباه الزملاء،زملاءه .

مشارف الحياة
تبدأ القصة(قبل أن يهبط الظلام بدقائق )وهي إشارة تعني الكثير فالوقوف على مشارف الظلام يقابله وقوف الكاتب على مشارف الحياة ،خصوصاً وهو يتذمر من عزلته ومتاعبه الصحية ونسيانه من قبل رفاقه كما يصرح في كل محفل (هيفاء تنتظر الحبيب،سماء ترسل وابل المطر،مشاجرة ما بين رجل مهلهل الثياب وشاب،قطتان تتغزلان،الرجل يقتل الشاب،تستجيب هيفاء لطرقات الباب بلهفة،الرجل يداهمها،يقتلها،ترعد السماء،تموء القطط،طرقات تتواصل على الباب)يتبادل القاص الدور مع شخصية(هيفاء)كون المرأة أكثر فاعلية وحساسية بسبب تكوينها الفيزيولوجي،وهي أكثر ديناميكية لتوظيف الجسد لصالح التعبير،أختار(هيفاء)لتكون لسان حاله وحمّلها همومه وأفكاره وأرادها وسيلة اتصال مع من يعنيهم،ثمة إشارة تحمل دلالة(ألقت نظرة هادئة حزينة إلى السماء)هي نظرات الوداع لمن يحتضر وهي نظرات ألم لزمن يغادر،زمن تجلت فيه حياة حافلة بالمجد والرفقة، تقول(هيفاء):(بمجرد أن أسمع صوته أغفر له هجرانه )يمنح الكاتب فرصة المغفرة رغم دنو الظلام،وهي كناية عن الموت ، في وقت(أصبحت المدينة في قبضة الظلام)وتردد(هيفاء)للاستعانة بالهاتف هو تردد الكاتب وتمسكه الأخلاقي وعدم اللجوء إلى بث ما يسكنه من جراء التهميش والنسيان علناً.

اختيار النص
يختار النص الأدبي لتمرير رغبته،طالما القاص لديه جواز مرور لنزف حياته من خلال شخصيات مؤهلة أن تكون البديلة ومستعدة أن تذهب إلى الجحيم من أجل الكاتب،فهو يرغب أو يحدوه الأمل في عودة الأدباء لمعاودة الاتصال به وتسليط الضوء على ما أنجزه(قبل أن يهبط..)ملك الموت،ومثلما يتوارى القاص خلف(هيفاء)نجده يصرّح بذلك(غير أنها بكبرياء أنثى مجروحة المشاعر تصورت أن مبادرتها هذه تعني ضرباً من الاستسلام )وهي إشارة لما ذهبنا إليه بخصوص رفضه المكاشفة العلنية بما يسكنه من رغبة ملحة،ولكن من المعلوم أن المرأة أسرع نفاداً للصبر،وهل يعني أن القاص الذي تماسك وحافظ على هاجسه..؟؟بدأ صبره يتهشم..!!أن تردد(هيفاء) هو تردد القاص ويمكننا الاستدلال بما تقوله (كيف أفهم أعماق هذا الأديب الغامضة)يمنح القاص الشخصية المحتملة فرصا استقلالية للتعبير عن نفسها إذا أرادت،من خلال الجملة أعلاه،تعلمنا من خلال قصص الكاتب أنه ينشطر إلى شخصيتين،شخصية يستحضرها من الماضي ويتلبسها أمام شخصيته الواقعية،أحياناً ينشطر إلى شخصيتين سواء متناقضتين أم متناغمتين شخصية أنثوية وأخرى ذكورية،كذلك يفعل في(أحماض الخوف )حين يكون هو الحبيب القادم وهو(هيفاء)المكتوية بنيران الانتظار، والحبيب الذي يعنيه،صفوة زملائه في التخصص المهني،يبحث عنهم (جليل القيسي)ويراهم كما تصرح به(هيفاء)بغموض أعماقهم كون زمنه السابق تجلى بصور حياتية ووشائج باتت مفقودة في زمن صار في قبضة الشجارات العلنية والموت السهل وبمساندة مطر لا يستحي من محو اثر الجريمة،في القصة تتفاعل الدراما وفق إيقاع موسيقي وتنسجم مع التوتر المتنامي لـ(هيفاء)وهي رغبات ما قبل الموت،كون حلاوة الحياة لا تكتشف إلاّ أوان الضيق والأزمات الحادة،نكتشف جملة شهوات تتعاضد لرسم الفضاء القصصي الملغوم ـ شهوة امرأة تريد الاتصال بالحبيب،شهوة رجل يبغي القتل،شهوة سماء تريد تفريغ (مائها) لإخصاب الأرض،شهوة قطط تريد دحر البرد المتدفق في عروقها،شهوة ليل يزحف لقهر النهار.

نزعة الاتصال
ووراء هذه الشهوات لابد من شهوة مقصودة ،هي شهوة الكاتب والتي دفنها داخل النص لاعتبارات فنية،وترد جملة(لم يقبل الحب كل هذا الذل)ما الذي يعنيه الكاتب بـ(الذل)وهل الإهمال والإغفال في اعتباراته المهنية ككاتب له زملاء يساوي( الذل )فمحكومية العزلة آيلة للاحتضار واحتدام الرغبات دفعت إلى رغبة الاتصال عبر الهاتف قبل الأحجام عن ردة الفعل السريعة،وما مراقبة (هيفاء)للشجار و إلتماعات نصل المدية إلاّ مراقبة القاص لما يجري من تدهور في العلاقات وتهميش لمن نذر نفسه ووهب عصارة حياته لصناعة الفرح للآخرين،وغالباً ما يلتجأ القاص للمفارقات كي يحافظ على التوتر الفني ولهفة قارئه،وهذه المفارقات هي جماليات قصص الكاتب عبر مسيرته الحافلة بالإبداع ،ابتداءً بـ(صهيل المارة حول العالم )مروراً بـ(زليخا البعد يقترب)و(في زورق واحد)وليس آخرها(مملكة الانعكاسات الضوئية)وفحوى معظم حوارياته ومسرحياته( هيفاء) تهرع استجابة لنقرات على الباب وكلها لهفة أن الحبيب قد وصل اخيرا،والقاص يدرك استحالة تحقيق رغبته وهو يائس من احتمال عودته إلى ذاكرة الزملاء،لذلك يستعين بالمفارقة ويجعل(هيفاء)تصطدم بـ(الرجل) المهلهل الثياب القاتل،وهو انسجام إيقاعي ما بين الظلام الذي أرخى سدوله والموت الذي اغتصب جسد الشاب وانتهاء وقود شهوة (هيفاء)المتمثلة كما أشرنا(محكومية العزلة) للقاص وانتهاء السماء من شهوتها ،هذه التراجيديات صنعت ما يبرر النص وتحويله إلى نص إخباري يشبه إلى حدٍ ما مدوّنة قصدية تنذر بكارثية المستقبل والأسباب كما أشار إليها حسياً لا صراحة في(أحماض الخوف)ومن المعلوم أن ملك الموت يستلم الأمانة برفق وتأن لاعتبارات غيبية،نجد القاص يرسم المشهد التمهيدي للموت أيضاً(هيفاء)تسبح في واديٍ والرجل يبغي استكمال مشروعه التدميري،ويبقى الســـــؤال هل هذا الفاصل يتكافأ مع حوار الموت مع الجسد،تسـقط (هيفاء)في فلك الموت وبنفس آلة القتل التي فتكت بالشاب الذي يساوي براعم الحياة الجديدة والزمن الجديد الذي يبغي إزاحة أغلال الماضي ونجد انتصار الماضي يتواصل على كل ما هو قادم طالما هناك فتور وإهمال وتغافل من لدن الناس تجاه بعضهم بعضا وكان القاص ممن مسه الحيف رغم استعداده المتواصل لإعطاء المغفرة لمن يأتي إليه ولو بعد حين،وموت(هيفاء)موت الرغبة،والتخلص من(هيفاء)من قبل القاتل،هو التخلص من شاهد عيان والذي يساوي القتل المتعمد لإبداع المبدعين وهي طريقة متفشية تتناصر ـ ربما بوعي أو بلا وعي ـ أقلام لإهمال نتاج كاتب ما كي يطويه النسيان،نجد الفواصل المتلاحقة عند المشهد الختامي للقصة هي قيامة جنائزية ـ البرق والرعد ـ مواء القطط ـ رنين الجرس ـ هيفاء..هيفاء.. ـ أليست هذه تشبه حفلات التأبين وراء المبدعين بعد نسيــــــانهم في الحياة ..؟ وهل بــــات التأبين أشبه برمي جمرات السخرية على الجسد ، لقد ظل المبدع(جليل القيسي)أميناً أبياً لمحبوبته(القصة القصيرة)لا مكترثاً بالمجاملات وظل يشق متون الورق كي يوصل(صهيله.. )إلى العالم في زمن بات الإبـــداع سلعة يتلاعب بها كل من هــــب ودب،وما(أحماض الخوف)إلاّ واحدة من القصص التي تؤكد حضور القاص في قلب المشهد الحياتي رغم ما يجري من تهميش وإلغاء للمبدعين،هكذا قرأت القصة وهكذا شعرت بالشفرات السرية استنادا لما رصدته من معاناة الكاتب وعساني لم أحد عن رؤية الآخرين..!!

**)أحماض الخوف ) قصة ـ جليل القيسي ـ الأديب / العدد (2 ) كانون الأول ـ 2003 .
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: