نجـــــــــــــمــــــــــــــــــة
محمد علوان جبر
في الزقاق المقفر ، سار الثلاثة يتقدمهم الرجل البدين المتكور في رداء رصاصي احكمه علي جسده ليتقي برد الصباح ، كانت المرأة تمسك بيد ابنها ، والرجل يراقب حركة ابنته وحفيده الذي كان يتعثر كثيرا في سيره ..." - حالما نهضْت اتجهتْ نحو فراشي .. صاحت حينما تعثرت في قائمة السرير الخشبي الذي كنت انام فيه وكدت اسقط .. تسميني ياولدي ..واحيانا تسميني حبيبي . لمْ اكنْ اعرف ماذا تعني بهاتين الكلمتين او حتي الكلمات التي اسمعها من جدي وهو يصرخ بها انه لايعرف كيف يتكلم .. هناك الكثير من الفرق بينه وبين امي .. ولااعرف لماذا هما متعلقان ببعضهما بهذا الشكل اذ لايفترقان..كنت كلما انهض احس بالبرد الشديد فتقترب مني وحينما اشير الي فمي تصيح .. ايها الشره وهي تدس قرص الخبز في يدي..و تسحبني بخطوات سريعة في محاولة للحاق بجدي الذي يسبقنا دائما في الخروج .. "2يسمونني نجمة ، لم أكن نجمة أبداً ، قبل وفاة امي ايقنت ان ثمة امورا كثيرة تحدث حولي .. تجري بايقاعات لم اكن اعرف مداها ابدا .. بدأت بالحرب وانتهت بالحرب ايضا ، كان زواجي يشبه الصدمة اوصدفة اسرع من نيزك ، اخترق ايامي برهة واختفي ، اذ ودعته وانا مذهولة من الغارات التي كانت تشنها الطائرات علي المدينة ، حمل حقيبته وهو يرتدي الخاكي ، ولم اعد اتذكر من شكله سوي وداعه لي امام الباب الذي اوصدته عنوة بعد ان ابتلعه صمت الشارع فجرا .3لااعلم لماذا تتبعني كظلي هي وابنها الذي يتعثر كثيرا .. تتبعني .. تتبعني .. انها دائما خلفي ، لاتترك لي ايما فرصة حتي لكي اتكلم .. انها تقدم الطعام لي وتبعد كل الاشياء الحادة التي تسبب لي الرعشة في اصابعي وفي اعلي بطني .. انها تمنعني من الكلام او الصراخ .. لكني انقاد اليها n لااعلم لماذا - اتذكر انها ابنتي نجمة .. ولااعلم اين ذهب زوجها حميد .. - العريف حميد -.. اين ذهب وتركها تلاحقني .. هي وابنها المتعثر في سيره والذي يخرج لي لسانه .. انه يضحك مني ..حتي وانا اشد ازرار حذائي .. وكلما تطلعت في وجهه ، كان يغمض عينا ويفتح اخري وهو يشير بأصبعه القذر نحو وجهي .. لااعلم ربما يريد ان يقول ، ان لي عينا واحدة ، انه يسخر مني ، دائما احسه يسخر مني ، سواء بتعمده السير البطيء لكي اضطر الي انتظارهما هو وامه..او بتعمده التحديق المباشر في وجهي ..- أين حميـــــد .... ؟اسأل نجمة لمرات ، واضطر ازاء صمتها ولامبالاتها الي ان اصرخ .. واعيد السؤال لمرات واراها تكتفي بالبكاء .. انها تبكي .. واحسها تسخر مني مثل ابنها الهمجي ..- عودي الي البيت اذن .. الان !لكنها تتجاهل دعواتي .. وصراخي ، وتحث خطاها تتبعني هي وابنها اينما اذهب .. اراقبها وعيني السليمة تذرف ماء .. وان شيئا ما يعتصر صدري الذي يعلو ويهبط .. وتبدأ نجمة نواحها اذ تقترب مني وتمسح وجهي بمنديل ازرق وتمرراصابعها في شعري وصدرها يعلو ويهبط .. انها تفعل مثلي .. تربت علي كتفي كما تربت علي كتف ابنها - المنغولي - هكذا يسميه كل من يشاهده ولااعرف مامعني هذه الكلمة .. كان حينما يري نجمة تقترب مني يتنحي جانبا ويشيرباصبعه الضخم الي اتجاهات في الافق لااعرف لماذا يفعل ذلك . ونمضي انا ونجمه وهي تجر الولد نحو طرقات تؤدي الي طرق اخري .. ندور في دوامات المدينة ، ونعود ليلا الي البيت .. حيث اهمد في فراشي ويبدأ الولد اللعين بالشخير وفمه مفتوح .4هل نواصل العواء ياابي في شوارع نعرفها وتعرفنا ، طرق نمر بها كل يوم .. ونبدأ بالدوران فيها .. نطرق اسفلتها .. وانت تشق الافق بعين واحدة ، وعين اخري اطفأتها الحرب .. تسير بسرعة ولاتترك لنا فرصة التقاط انفاسنا انا والصبي .. تتقطع انفاسنا ونحن نجري خلفك .. وتبدأ بالدوران في تلك الدوائر المغلقة علي فهمي وفهمك .. اذ تصب اللعنات منهمكا تماما في الهذيان المتواصل .. وتلقي في اوج دورانك المعهود اسئلتك الغريبة .. تسألني من اكون .. اذ تنساني وتسأل عن حميد .. اه كم اتمني ان يعود حميد .. لااعلم هل يحق لي ان اتساءل عن عودة حميد الذي قيل لي انه مات في الجبهة .. هكذا بهذا المعني المغلق .. مات حميد في الجبهة ولم يتسني لنا ان نوصل جثته اليكم .. هكذا بهذه البساطة .. اتمني .. وهذا شيء لايعني احدا سواي والصبي الذي ولد بعد رحيل حميد بشهرين .. اتمني ان يجيبك احد ما علي اسئلتك ياابي فانا لااملك اجابات .. علك تقتنع بشيء ..اجابات لاسئلة عني وعن عينك التي فقدتها في الحرب الاولي .. او الوسطي او الاخيرة .. لم اعد اعرف لكنك تسأل دائما لماذا انا بعين واحدة .. واتجاهل صراخك الذي يعلو ويجذب المارة حولنا .. من يعرفك يكتفي بالالتفات الي مصدر الصراخ ويمضي دون اهتمام . اما من لايعرفك فيبقي متسمرا في مكان قريب .. وربما تتشكل حلقة منهم حولنا وانت تواصل الصراخ دون ان تلتفت الي توسلاتي او امتعاضي .. تواصل القاء الكلمات التي يضحك لها الجميع الا انا .. تقول انك لم تنهل من المدينة شيئا ما وانك لم تزل كما انت منذ دخولك اليها اول مرة تمتصك كالاسفنجة تمتص وتمتص دون ان تعرف موقع خطاك ، وحينما لاتجد من يصغي اليك تعود الي طوافك وانت تصرخ .. كان للبارود روائح اقسي من صباحات المدن التي لاتتوقف عن الانهماك باشيائها .. وكان لسع النار يشبه موجة تتصاعد علي كتف موجة .. كان هذا منذ زمن طويل .. لااعلم لماذا انسي ، وقد تتساقط الصور كالمطر الذي اسمعه ينقر سقف المنزل حينما ندخله انا وانت والصبي .. الصبي يفزع من صوت المطر وانا احاول ان اميز بين مايحدث الان ونحن وسط الغرفة المعتمة متقابلين لايكلم احدنا الاخر ، والريح تصفر وهي تضرب السقف الذي يئن .. وكذلك الصبي يئن .. وانت تئن .. حتي نهمد بالتدريج .5لم يبق لي الا نجمة و ( سلام ) ابنها المنغولي .. لااعلم من اسماه .. ربما حميد الذي اختفي منذ زمن طويل .. كان يلبي كل حاجاتها اما اليوم فلا احد سواي - لقد كبر سلام ولم يزل كما ولد .. لايتكلم .. بل يطلق اصواتا يعلن فيها عن حاجاته .. ونجمة المسكينة التي لاتستطيع التخلي عنه وعني .. انها تتبعني اينما اذهب في رحلتي الشاقة بحثا عن شيء ما ضاعت ملامحه في ثنايا تلك الاشياء التي سقطت مع السقوط الاول للضمادات والاجسام الغريبة من رأسي - هأ .. هأ .. .. اجسام غريبة تغزو رأسي وتحاصر مخيلتي وذاكرتي التي تشظت وبات حضورها باهتا احيانا .. بل دائما .. تقول لي نجمة اني في لحظة انسي اسمها واسألها عمن يكون هذا الطفل الكبير الذي لايفارقها .. وتقول اني حالما يغادرني الوهن الذي سببته الاجسام الغريبة اخرج كالمجنون ابحث عن شخص ما لااعرف اسمه .. واسير صامتا وعيناي تجوبان في الزوايا ، والشوارع التي اظنها تؤدي اليه .. اصرخ ( لاتفزع .. لاتهرب .. سأجدك اذا ماامتدت تلك الومضات في رأسي الذي تسكنه - اجسام غريبة - اقصد اذا ماتركت تلك الاجسام فسحة أي فسحة مهما كان حجمها او شكلها علي سطح جرح بحجم الكف في اعلي رأسي .. سأجدك حتي وانا علي هذه الحال .. اقصد .. بعيني الواحدة ) اعلم انها خلفي اينما اذهب تراقب هشاشة وجودي .6-هوبي عبد الرزاق .. معوق حرب من الدرجة الاولي - جثة - تسير .. قدم واحدة وعكازة واحدة .. عين واحدة وزجاجة تشبه العين محشورة في تجويف والام مبرحة من فتحة بحجم الكف في قرن رأسه الايمن .. بمعني رأس بلا فروة .. شعر مزروع علي عجينة تنخسف وتعتدل مع تنفسه .. صعودا او هبوطا .. سيره متعرج .. يعلن حضوره اليومي في الشوارع من خلال عكازة - هذا ماكتبه شخص ما في بطاقة تعريف تخص ابي، بعد خروجه من المستشفي الذي رقد فيه قرابة العام. وفي ورقة اخري عثرت عليها في جيبه . -اصابة في الرأس نتيجة جرح غائر في الجمجمة مما ادي الي دخول اجسام غريبة في رأسه ولااحد يستطيع ان يتكهن بما حدث في عقله من تلف او موت . ربما يصاب بنوبات تؤدي به الي الجنون المطبق .. اوالانفصال التام عما حوله لكنه سرعان مايعاود حالته الطبيعية حالما يصاب بالارهاق الكامل- . وفي احيان كثيرة كنت اتذكر اهتمام حميد به بعد ان اصيب كنت وامي اكثر الاخرين قلقا عليه لاننا نعلم انه في مكان تحول الي مرجل .. وكانت الانباء تؤكد سخونة المكان اعلمنا حميد ان ابي بعيد عن الخطر .. لكن الاشارات كانت تصلنا قوية يؤكدها المذياع وهو يبث المارشات العسكرية وكذلك مرور التوابيت وطوابيرالسيارات التي تشق الافق محملة بالجنود وهم يلوحون للمارة المتحلقين حول مداخل ومخارج المدينة .. ولم يكن وجود حميد الا منقذا لنا وحينما طال غياب ابي كنت ابثه قلقي لكنه كان يربت علي كتفي " - نامي صغيرتي سيصل ابوك .. سيظهر .. " وكان ظهوره اكثر صدماتنا سخونة حينما وصلنا الخبر انه يرقد في مستشفي .7انظر الي هؤلاء الناس المتحلقين حولنا .. انهم ينظرون الينا بجمود يشبه وجه جدي حينما يصمت .. احيانا تسميه امي - بابا - واحيانا تصرخ في وجهه - اسكت هوبي - حينما يسمع كلمة - هوبي - يصمت ، ويبقي جامدا كوجوه من يتحلقون حولنا ، ولكنه يدير وجهه كلما التقت عيناه بعيني ، ويبقي يردد كلمات اسمعها بوضوح مثل " معتوه ابن معتوه" انه لايبالي باحد ، ويأخذ اقراص الخبز من يد امي ويلتهمها .. حينما يتحرك فكه وهو يزدرد الطعام تتحرك كل اجزاء رأسه بدءاً من الحفرة في فروة شعره وصولا الي العين الزجاجية التي تبقي جامدة تحدق في مكان واحد .. بحركة رتيبة صعودا وهبوطا .. وتجلس امي في ركن قرب الجدار الذي يفصل المقهي حيث يبقي هو يحوم حولها ..وهي تراقبه ويقول انه لم يعد يفهم لماذا تمنعه من الجلوس في المقهي او تتركه علي الاقل يتسكع امام واجهات المتاجر الكبيرة التي تبيع كل شيء . يحدق في الزجاج يبحث عن انعكاس صورته فيها ..واقترب منه وافعل مثله .. اطالع صورتي واراقبه اراه يمسد شعره باصابعه ويبتسم وافعل مثله وامد يدي لاتأكد من وجود الزجاج امامي واخرج لساني له ولامي ولبقية من ضوء اراه يطل من بعيد . لكني كلما اتطلع في وجه جدي وهو يطالع اشياء كثيرة .. ربما هو الوحيد الذي يراها .. اراه منهمكا بالحديث معها لم اكن اعرف هل كان يحدثني ام يحدث امي او يحدث الضوء الذي نراه يلوح من بعيد لكن في اعماق السطح اللامرئي للزجاج، وكلما حاولت ان اعرف اعجز عن ذلك فانهمك في محاولة لمعرفة السبب الذي يجعله يهتز بعنف .. اهتزازات تشبه الارتعاشات التي تنتابني حينما اتطلع في اعماق الليل نحو السقف وهو يئن من السقوط القوي للمطر ، اذ ابقي ارتعش طوال الليل كما يفعل هو كلما يقف امام الزجاج حيث اري مياه كثيره تنحدر من عينه الوحيدة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق