٣٠‏/٠٣‏/٢٠٠٧

كنتُ شيوعياً


كتاب صدر حديثاً في دار الجمل للشاعر الراحل بدر شاكر السيّاب. الكتاب عبارة عن سلسلة مقالات كان نشرها الشاعر الرائد في جريدة الحرية البغدادية عام 1959. هذه المقالات التي جاءت علي شكل اعترافات كانت نُشرت تحت العنوان نفسه باستثناء الحلقات الإحدى عشرة الأخيرة التي حملت كل حلقة منها عنواناً خاصاً بها من أصل أربعين حلقة. أما معدُّ هذه الحلقات للنشر في كتاب فهو وليد خالد أحمد حسن الذي ورد اسمه داخل الكتاب وليس علي غلافه.
تبدو مقالات السيّاب في هذا الكتاب وثيقة مهمة من جوانب عديدة. هي وثيقة سياسية في الدرجة الأولي لمرحلة في تاريخ العراق الحديث تمتد من حكم نوري السعيد إلي حكم عبد الكريم قاسم. ثم هي وثيقة شخصية لتجربة الشاعر في الحزب الشيوعي العراقي من جهة ووثيقة علي شخصية السيّاب الصادقة من ناحية و المتطرفة من ناحية أخري في إطلاق الأحكام وتعميمها. وربما كانت هذه الملاحظة الأخيرة التي سيكتشفها القارئ متأتية من كينونة السيّاب الشعرية، تلك الكينونة التي لا تقبل الحلول الوسط ولا ترتضي بالسكوت عن المظالم أو تمرير الأخطاء. ولهذا لا يتواني الرجل في اتهام الشيوعيين أينما وُجدوا بالجبن والقسوة والإجرام والسرقة وخداع الجماهير، مثلما يتهم أخاه الصغير بالنقص بسبب موت والدته وبسبب رأسه الطويلة التي كان الجيران يعيّرونه بها. (السيّاب نفسه لم يكن جميلاً). في كل حال، هذه استنتاجات سيكولوجية قد لا تعني إلا المهتمين بها وإن كانت تكشف جانباً من البنية النفسية لرائد قصيدة التفعيلة وأحد أبرز الشعراء العرب في العصر الحديث.
من الحلقة الأولي يكشف السيّاب أن سبب معركته مع الشيوعيين الذين انتمي إليهم ثماني سنوات شخصية. لقد بدأت خلافاته معهم علي ذرائع بسيطة وفردية قبل أن تتحول إلي معركة تطال جانباً من المنظومة الفكرية للشيوعية والكذب السياسي والقومية العربية وموقف الأحزاب الشيوعية من قيام دولة إسرائيل عام 1948، ولا سيما الحزب الشيوعي العراقي، ثم موقف الشيوعيين العراقيين من القوميين العرب والوطنيين العراقيين. هنا بدا الرجل كمن يكّفر عن ذنبه تجاه فترة انتمائه إلي الحزب الشيوعي وتجاه قوميته العربية التي بدت متأصلة فيه وتجاه الإسلام الذي عدّه من أفضل الأديان مثلما اعتبر محمد أفضل الأنبياء، وإن كان الشاعر كتب شعراً في المسيح كما في قصيدته الشهيرة المسيح بعد الصلب (بالطبع يرد ذكر المسيح والمسيحية في الكتاب). أياً يكن، يكشف السيّاب في هذه الاعترافات عن شخصية قومية ودينية ظهرت من خلال شعره كما في المومس العمياء وكما في تأثراته بشعراء علي صلة بالدين أمثال إليوت وإيديث ستويل وعزرا باوند (إذا أخذنا في الحسبان أبعاد هذا الأخير الكونفوشيوسية إضافة الي القومية ـ الفاشية في شعره). وهذه المواقف مبثوثة علي مدار الكتاب ولا تحتاج الي جهد لاكتشافها ولا سيما في تصريح الشاعر بذلك: إننا ندافع عن قوميتنا وديننا وتقاليدنا وتراثنا . لهذا تراه ينتقد الأديان القديمة في سياق نقده للشيوعية مثل ديانة البابليين الذين لم يعرفوا الخلود بعكس النبيين المسيح ومحمد (وهنا لا بدَّ من مساءلة الشاعر عن الفراعنة الذين آمنوا بالحياة بعد الموت وعن جلجامش السومري وبحثه الملحمي عن ماء الخلود وعشرات الديانات القديمة من مرحلة ما قبل الميلاد). وعليه، لا يتواني في وصف كارل ماركس بـ اليهودي التائه أو اليهودي القذر قاسي القلب الذي ألّف ـ يدفعه حقده وحسده وتعصبه اليهودي وما قرأه في التوراة ـ كتاباً سمّاه رأس المال ، هذا رغم زعم السيّاب أن ماركس ادعي اعتناق المسيحية، ورغم كتابات ماركس العديدة في نقد الدين، ورغم أهمية رأس المال ككتاب اقتصادي يثير إعجاب الرأسماليين أنفسهم. كما يهاجم لينين اليهودي الذي ثار علي الثورة التي قام بها البرجوازيون فأنشأ حكماً، الإنسان فيه كالآلة لا يفكر ولا يحس إلا وفق نظام يُفرض عليه . وبسببٍ من قوميته العربية يشبّه السيّاب الشيوعيين بالقرامطة والشعوبيين، أي الفرس الذين كان لهم نصيب كبير من الشتائم سواء كانوا فرساً قوميين أم شيوعيين من أتباع حزب تودا الذي تآمر بحسب الشاعر علي الشعب عام 1952 حين حذرت جريدة شهباز الشيوعية الحكومة الإيرانية آنذاك من مؤامرة أميركية قذرة لقلب الحكم... فذكرت أسماء المتآمرين وفصّلت خططهم ، مما أدّي إلي إعدام العديد من المواطنين ومن بينهم 732 ضابطاً شيوعياً. والأكثر مدعاة للجدل أن السيّاب رغم كل هذا الهجوم علي الشيوعيين يمدح الرئيس عبد الكريم قاسم من جهة، مثلما يمدح مكارثي في حملته علي الشيوعيين الأميركيين التي أدّت إلي سجن المئات منهم في الخمسينات من القرن الماضي، وهي فترة سوداء في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأميركية في موضوع الحريات، بالقول: إن مكارثي أشرف بألف مرة من كثير من الذين يعتبرهم الشيوعيون قادة كباراً ومفكرين عظماء .
والحال، لم يتوقف هجوم الشاعر علي الأحزاب الشيوعية أينما حلّت وعلي القادة الشيوعيين أينما كانوا، بل يتعدي ذلك إلي الشعراء والأدباء الشيوعيين. هكذا يصبح ناظم حكمت شاعراً تافهاً وكذلك كونستانتين سيمونوف وبابلو نيرودا وصولاً إلي مواطنه عبد الوهاب البياتي الذي يخصص له حلقة ساخرة شأن غيره من هؤلاء الشعراء: لقد قرأت شعراً لكثيرين من الشعراء الشيوعيين من ناظم حكمت وبابلو نيرودا وأراغون وماو تسي تونغ والشاعر السوفياتي سيمونوف، فوجدته سخيفاً. ولكنني كشيوعي وكعنصر في الحزب كنت ملزماً بالدفاع عن هؤلاء الشعراء والادعاء بأنهم أعظم شعراء العالم، وان شاعراً سخيفاً كناظم حكمت هو أعظم من الشاعر الإنكليزي العبقري اليوت أو إيديث ستويل... . كما يخصص ست مقالات عن رواية جورج أورويل 1984 قارئاً هذا العمل الفني المفتوح علي تأويلات عدة علي أنه نقد للدول الشيوعية بما يشبه الجزم. لكنَّ السيّاب الذي توفي باكراً (عام 1963 علي ما أعتقد) لم يتسنَ له العيش إلي يومنا ليري أن رواية أورويل لا تنطبق فقط علي الأنظمة الشيوعية وإنما علي الأنظمة الليبرالية وإن كانت الآليات والأدوات مختلفة (من الجيد التذكير هنا بكتاب هربرت ماركوز الإنسان ذو البعد الواحد الذي نقد فيه المجتمعات الغربية، وهو كتاب نُشر في الستينات علي أي حال)، مثلما أيضاً لم يتسنَ للسيّاب العيش إلي فترة حكم الأنظمة القومية ليعرف أن السياسة في العالم العربي علي وجه الخصوص تتجاوز شكل النظام وبنيته أحياناً لتصبح نتاجاً للبنية الاجتماعية أو للمجتمع الأبوي، وإن كان الكلام هنا لا يبرر إطلاقاً مساوئ الأنظمة العربية وما أحدثته من تشوّهات في المجتمعات العربية. هكذا يريد السيّاب في معركته تلك أن يجرّد الشيوعيين من كل إنجازاتهم: في السياسة والأخلاق، في الأدب والفن، في الاقتصاد والاجتماع. وهذا تطرف لا يمكن الركون إليه وإن صدر من شاعر في مستوي السيّاب. ولهذه الغاية اتهم الشيوعيين العراقيين بالسرقة والقتل (مجازر كركوك) والانحلال الأخلاقي (ولا سيما النساء) والاغتصاب (كما فعل أحد القياديين الكبار مع الرفيقة اليهودية مادلين مير) والخداع والكذب. ويعترف السيّاب قبل أن يعمل الشيوعيون علي طرده من وظيفته في التدريس بمؤامرة علي حدِّ زعمه، بأنه مارس مع عمه وأخيه وعدد من أقاربه مثل هذا الكذب والخداع حين راحوا يعدون الفلاحين بتملّك الأراضي والرفاهية بعد الانضمام الي الحزب الشيوعي العراقي والانقلاب علي حكم نوري السعيد. كما كتب عدداً من القصائد الحمراء التي كان يرسلها إلي الرفيق المحامي حمزة سلمان ليقرأها في حفلات الصهيونية نيابة عنه. وكانت تلك القصائد باعتراف الشاعر تافهة يرثي لنفسه الآن لأنه كتبها، رغم أنها كانت تحظي بالإعجاب الشديد والتصفيق المدوّي . كما يعترف السيّاب أنه أثناء ترجمته المقالات من الصحف السوفياتية كان يحرّف مقالات ترجمها عن الصحف الأميركية والإنكليزية حتي تصبح وكأنها منقولة من صحيفة شيوعية . هذا وساهم مع أقاربه في توزيع منشورات صهيونية آنذاك وذلك تحت الشعار الذي رفعه الشيوعيون العراقيون أثناء نكبة فلسطين نحن اخوان اليهود ، مهاجمين حرب العرب في فلسطين والتي وصفوها بـ الحرب القذرة لمجرد تأييد المعسكر الشرقي لقيام دولة إسرائيل . وهنا لا بدَّ من الإشارة إلي مهاجمة السيّاب لقيادات الحزب الشيوعي العراقي التي كانت في غالبيتها من الدين اليهودي أمثال يهودا صدّيق، ساسون دلال، إبراهيم يوسف زلخة، ناجي شميل وعدس، واصفاً هؤلاء بـ الخونة .
في كل حال، غلبت علي مقالات السيّاب هذه لغة فضائحية حيناً وكيدية حيناً آخر. ليس في الكتاب سجالات سياسية بالمعني العميق للكلمة ولا نقاشات فكرية كتلك التي كانت رائجة في زمانه. وهذان مأخذان علي شاعر حداثي وفرد انخرط في العمل الحزبي مدة ثماني سنوات. لقد كان السيّاب كما أسلفت يثأر لطرده من وظيفته ولموقف الشيوعيين من قصيدته الشهيرة المومس العمياء ، مثلما كان يقوم بفعل تطهري إزاء قوميته ودينه في آن. وإلي هذا المأخذ غالباً ما بني الشاعر آراءه ومواقفه وانطباعاته واستنتاجاته علي نظرة ذاتية أو علي حادث فردي أو علي رواية شفهية، مطلقاً تعميماً من جرّاء ذلك علي الشيوعيين ليس في العراق فحسب وإنما في العالم أجمع.
يبقي أن نشر هذه المقالات كما وردت في جريدة الحرية عام 1959، يُسقط عليها راهنية الماضي. ويمكننا أن نصوغ هذه الفكرة بسؤال يحتاج فعلاً إلي جواب: هل كان السيّاب سينشر هذه المقالات في كتاب كما هي الآن بين أيدينا بعد مرور نحو نصف قرن علي كتابتها من دون الأخذ في الاعتبار ما تراكم من أحداث وحقائق طوال هذه الفترة؟
 Posted by Picasa

مــن أجلسَــتْ علــى ركبتهــا القــدر
جوزف عيساوي
عوده الكحلي أجتز من الليل عوده الكحلي، صارخا نداءات العدم الاول قبل أن يهزم اللهُ الأرض واجتز قفصه الصدري تاركا القمر ينزّ الحياة الدهرية لله ليلا أعتصره حبا متواضعا كإله وثني يكتفي بتمر قليل وقشّ لخروف واحد. يرفضون في غابة المساء تهد العتمة خوفي. مسكون بلحظة الحياة والموت والأفق المطمور بنظرات موتى يرفضون أن يموتوا. ثغاء القطيع يناديني الليل لكن صمتي مشنقة الأفق وتتدلى عينان بارقتان فليسامحهما ملاك الموت. ألمي يرطب صلاتي القاسية كمطلع سفينة. صوتي الخافت يتسلق عشب الفجر يذوب مع ثغاء القطيع. سهرُه عليهم الحياة مكثفة في النسغ في الأمر السماوي لتغير ورق الشجر وسريان الرائحة. رجال غادروا قبل دهور صاروا أفقاً، فهوداً، لا موتى. نصال قلوبهم تؤكد ذلك، أيضا هذا الرعد ـ صوت الإله الجريح من سهره عليهم. داليدا (?) من أجلست على ركبتها القدَرَ وذبحتْ، أرى في سهول المساء دمها ألمَ ماردٍ يخترع قارات وصاغراً يعود الى القمقم، آلمتني. نوتةٌ جرحت الرحم منها؛ لم تلد سوى جي جي الذي سيظل يلهو أطول من سلالات، من أجله تشرق الشمسُ عميلة سرية للعذاب. أمسية المآتم في أمسية تمد بيوتُها الأيدي لتحسس العابرين، يجول الشعراء بحثا عن آباء ذابوا في الحجارة وشظايا القنابل، تاركين هزالاً في مثانات الصغار، حزناً ينمو مع أصص النبات وعيون الأولاد بزاقاً على نعوش مقواة بصلبان. إنها أمسية ثكلى بالبرود؛ كاهن يتجرّع النبيذ مع طقس بخور والنسوةُ مكللات بالهزء يصبغن المناديل بالبراز الأصفر من كثافة الأمل بعودة الميت. زهر الشوك الانتحار عصفور لا شجرة للقفز، نهرٌ نُزرع فيه سمكاً، هبة غير الطامعين بنِعم وصوتُ الماوراء في قلوب أرهف من زهر الشوك على رأس مصلوب. الانتحار تعجُّلٌ عصابيّ للرحيل أقل استعراضاً من مأتم. تيه الصباح (إلى جوزف نخله) إنه تيه الياسمين رائحة شجار الصباح ونبيذُ سهر يُبصق من نوافذ مغلقة. بعدما ناب عن القمر يتجــرع المــارة صــوت فيـروز. في ركن المقهى علقتُ مصل القهوة، كيما بطيئاً أتجرع جريمة النهار. سياراتٌ تعبر تلمع كحجارة معبد قديم. حسناء أكثر من برعم تكسر نزوة عفيفة كنحلة. ??? إذا استثنينا النهد والشيطان، الكلب كوجو، يا إلهي، أنجح المخلوقات. تفصيل من ليل بيروت على إسفلت الشارع ترمى قطع الثلج صلدة من برادات المطاعم، تعـــبر فوقـــها الســـــيارات، تتقـــاذفــها عاهــرات الفــجر بأقدام أنهكها الارتفاع دعاء لإله الجنس. فجأة يضاء الثلج ببول جرذ نجا للتو من فخ، تنكشف الطريق عن براز كأنه بزاق العدم او لسانُه الممدود لجمال اللحظات الأخيرة من ليل المدينة. من مجموعة ستصدر بعنوان «القديس» (?) المغنية الفرنسية ـ المصرية التي اختارت الرحيل الإرادي
 Posted by Picasa

٠٥‏/٠٣‏/٢٠٠٧

قصص من بلاد النرجس
محمد الأحمد

عندما صرت اقرأ باقة القصص الطيبة (قصص من بلاد النرجس) التي نقلها إلى العربية، وقدم لها (حسن سليفاني).. تبادر لذهني سؤال ولابد من رفعه الآن؛ (لمَ لا تهتم جامعاتنا العربية في أن تقدم دراسة متخصصة وافية، عن القصة الكردية؟)، لما وجدت من استحقاق وأهمية للكتاب الذي فيه جهدا استثنائيا في الترجمة والاختيار، والنية.. ولما للقصة الكردية عليها من حق تخصصي في الدراسة والتقييم.. من هذا الفن الجميل، وأيضا لما في هذا الكتاب من أهمية جغرافية، لأنه انتخب باقة عريقة من كتاب القصة الكردية المعاصرة... (ثمانية وعشرون كاتبا، في سبع وثلاثين قصة)، وجدتها كباقة مهمة تعطي الوجه والسمات لنماذج مهمة لها حضورها، والقها الثقافي الانثروبولوجي، حيث صارت بهم سفيرا إلى العالم عبر اللغة العربية، فالقصة عموما تتجاوز الخرائط الإقليمية ولا يستطع أي متعمد، مهما كانت أدوات طمسه، وقمعه، لأنها سرد واقعي أو خيالي لأفعال ثبتت نفسها في التاريخ والمدونات الإنسانية لتحكي صورة وجذر الإنسان في هذا المكان الذي من الجائز أن تستفيد منه الأرض كافة، (والناتج الأدبي عمل حرّ كريم يتوجه به الكاتب إلى القارئ الحرّ الكريم، ليشارك القارئ في خلق ما يريده المؤلف، خلقا صادرا عن الحرية في معناها الإنساني- جان بول سارتر
[1])، وقد يكون نثرًا، أو شعرًا يقصد به إثارة الاهتمام والإمتاع منتخبا الأحداث والمواقف التي تنمي تلك الشخصية، لتقول قولها في التاريخ بشكل عملي، ويدل على تجربة إنسانية يجعل الفعل منها رسالة إلى الإنسانية، والقصة ليس سرد قصصي قصير نسبيًا (ينحصر بين عشرة آلاف كلمة)، وحسب بل يهدف إلى إحداث صورة غير قابلة النسيان، متحركة مليئة بالدم والموقف.. وغالبا ما تكون بشخصية واحدة يتمحور حولها الحدث في موقف واحد.. في لحظة واحدة، فيكون ذلك مسيرة حياة كاملة لا تتوقف بعدها إذ تتجلى خلال الفعل الذهني أو الفيزيائي، والقصة عطاء متواصل ثبتت كجنس فني منذ القدم، واعتمدتها الأديان في نشر رسالتها، وهذه القصة تناولت جوانب عديدة من الحياة، وحضرت بثقل فني، شهدت عصرها، لأنها بقيت كاشفة كل تاريخ مسكوت عنه، وبقيت الوثيقة التي لم يستطع أي منتصر في أن يغيرها كتاريخ وفق هواه، وفيها مؤهلات ناضجة بعد أن كتبها (إدجار ألن بو) من رواد القصة القصيرة الحديثة في الغرب، قصصا ذات هوية موضوعية مثل (موباسان) و(زولا) و(تورجنيف) و(تشيخوف) و(هاردي) وأيضا في العالم العربي بلغت القصة القصيرة درجة عالية من النضج في نصوص كتبها (نجيب محفوظ)، (يوسف إدريس)، و(زكريا تامر)، و(محمد خضير)، و(حسين عارف)، و(محي الدين زنكنه).. وقد تجاوزت المحلية عندما نقلت إلى الانكليزية، وتجاوزت حاجز اللغة.. وكذلك وجدت في قصص بلاد النرجس، موقفاً حقيقيا يستحق التثبيت، بان اغلب القصص تشكل صرخة عراقية، تذوب فيها تفاصيل الأمكنة، وتفوح منها نتاجات الاضطهاد.. تتسع فيها العين على الإنسان الذي يحلم بالتخلص من موبقات الاستغلال، والعنجهية.. كونها قصصاً حقيقية، قد خطتها أقلامٌ متحدية، لها رؤيتها المنطقية لتسلسل التمرد، واغلبها فاضحة لما نزل من حيف على المثقف، (ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة إلى الفرض[2])، وأثبتت القصص بأنها تحمل صوتاً متميزاً لها سمة الإبداع الأدبي أكثر من سمة الفضح السياسي، و توجهات الساسة.. (إن النقطة التي ينبغي الاهتمام بها في القصة هي البداية التي تمثل الوحدة التي تنخفض فيها كمية المعلومات إلى أدنى حد ممكن، ثم الدخول في الصلب من غير استطراد يبعد الحدث عن مركز الاهتمام مما يتطلب التركيز، والتكثيف في اللغة لحمل القارئ على الاستجابة لا تحجر مخيلته بالمعلومات التفصيلية[3])، والقصة القصيرة تسرد تفصيلات حدث واقعي أو متخيل، وهو ينطبق عادة حوادث وقعت على ارض الواقع، وهي ذات حبكة متينة الترابط إلى حدِّ ما، وهي سليلة الملاحم منذ أن شهد القرن السابع عشر قبل الميلاد لحضارة الآشوريين عصرا ذهبيا للأدب، ويدين معظم الأكاديميين في العصور الحديثة لذلك العهد الذهبي (الأدب البابلي) الذي دون على الألواح الحجرية والطينية تاريخ حضارتهم وأدبهم كالملحمة الأكادية (أتراهاسيس) التي يقول الباحثون بأنها كتبت عام 1700 قبل الميلاد في عهد حفيد (حمورابي)، الذي حكم خلال الفترة من 1646 إلى 1626 ق م، وقد وجدت في مكتبة (آشور بنيبل)، وأيضا (القصة القصيرة) هي سليلة الحكايات المتوارثة شفاها بعضها كالخرافة في الموروث الشعبي لها جذورها ومأثوراتها التقليدية.. من التراث ألشفاهي، فعبرت اللغة المحلية عبر أدوات كتاب لتكون دعما لتراث الإنسان بشكل عام، بعد أن توفرت فيها من فكرة ومغزى، يحاول الكاتب عرضه في القصة، عبر التركيز على العلاقة بين الأشخاص والأحداث والأفكار المطروحة بتواصل الحدث وتكشف عن صراعها فتقدم لنا معلومات كلية أو جزئية، وبيئة كالوسط الطبيعي الذي تجري ضمنه الأحداث، وتتحرك فيه الشخوص ضمن بيئة مكانية وزمنية تمارس وجودها، وأحيانا تخرج تلك الشخوص من القصص المكتوبة إلى الواقع لتصبح مثالا حياً مليئا بالحيوية، ويعيش بيننا، وكذلك يحتل باسمه مصطلحا يتدارس به النقاد، الذي يستند عليه العالم، والمصنف، (فالقارئ المفترض هو الذي يعيد إنتاج النص من جديد، وهذا القارئ ما هو إلا الناقد الذي يؤمن إن ما من نص برئ، وما من نص لا يحمل أوجها، وما من نص يقال لمجرد انه قول يكتب على ورق، وحتى، وان وجد هكذا نص مقذوف إلينا برغبة خاصة، فثمة نوايا وراء إنتاجه بالضرورة- ياسين النصير[4])، وغالبا ما تكون تلك الشخصية المفترضة، هي شريحة اجتماعية تمكن الأديب من رسمها الدقيق كونها فاعلة في الحياة، وممتدة فيها (بان الأقدمين من النوابغ الأسلاف لم يموتوا، أن يكون مطلعاً على الآداب الأوربية منذ هوميروس- بما فيه بلد الكاتب- تؤلف وحدة حية لأجزائها وجود وبمثابة الامتداد للماضي، ويقاس كل نتاج بنسبه للتراث- ت.س.اليوت[5]). كقصة (خبز محلى بالسُكر لحسن سليفاني)، وقصة (اللوحة القاتمة لـتيلي صالح موسى)، صورت الأولى طفولة محرومة، والثانية أعطت هوية مكان بشكل فني، لفتتني كثيرا، كقارئ اللون الشفاف الذي حوي (انصهار ومجموعة قصص لسكفان خليل هدايت)، كنصوص قصيرة بديعة امتازت بالتكثيف والمهارة وحسن الانتقاء، وكذلك قصة (زقاق الطيور الآثمة لـيونس أحمد)، قصة (قصة اسم لـ حمه كريم عارف)، وقصة (على أمل ليلة هانئة لـ نجيبة احمد حكيم)، وقصة (الأحلام الطائرة لـ عصمت محمد بدل).. القصة كفن في هذا الكتاب (قصص من بلاد النرجس) استحقت التأشير، فيه مجهود كبير في الترجمة والاختيار، تشارك فيها أدباء مبرزون، صاروا هوية قومية، تنادي بإنسانها الذي له الحق الكامل في الحياة الحرة، والعيش الرغيد.
‏الجمعة‏، 02‏ آذار‏، 2007
[1] ما الأدب ص 17-27.
[2] عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز ص 204.
[3] محمود عبد الوهاب رواية رغوة السحاب ص 12.
[4] مجلة الرافد – العدد 23 فبراير 1999.
[5] * Tradition and the individual talent in Sacred Wood. P.47-48, 49-53.
 Posted by Picasa

٠١‏/٠٣‏/٢٠٠٧


زجاج الوقت
قراءة في رواية هدية حسين
بقلم محمد الأحمد

عندما تغيب الحقيقة عن مكان ما.. في زمن ما.. فإنها تفرض وجودها، جدلا كحقيقة مفترضة خيالا، بديلاً لتكون الرواية المتخيلة بكل حيثياتها مفتاحا حقيقيا يكشف ما غاب عن الوجود، لأنها ستكون الأكثر حضوراً في ذاكرة مبدعها، وتستحدث ذاتها بعنفوان لأجل أن يكون الافتراض مفتاحا يفتح أبوابا استعصت، وتصحيحا لما نزل من حيف، فيما قد نزل من ظلم، لان الرواية غالبا ما تكون إعادة نظر فيما يفترضه الراوي من فرض، وغالبا ما تختفي تلك الأماكن لتبرز بدلا عنها أماكنّاً تكون بشموليتها الأكثر اتساعا من المكان الذي ابتكره الروائي المبدع، (قبل أن أتوارى عنكم يمكنني قول ما أريد وإنا أتأرجح، وأميل قليلا داخل الوقت- ص 6).. فالرواية كمدونة بين دفتي كتاب وجدت لأجل أن تخترق عيوننا زجاج ساعة الوقت لتقرا اللوح الذي غالبا ما تصل إليه عقارب الساعة. وذلك اللوح هو مضمار عالم متفاعل، متواصل يعكس الذي يحدث فنراه عبر الوقت، ونقيس به عمق الحادثة، وفي الرواية غالبا ما يكون الوقت هو الزجاج الذي نرى عبره خرائط الأمكنة المتوارية خلف حوادثنا، ففي اغلب الأحايين يخترع الرواة مساحات لإبداعهم تجري عليها الأحداث، والشخوص، وتؤثث بسرد يصف مكانا جدليا يمضي الخيال به حيثما تفتتح الرواية بلسان راو امرأة اسمها (هداية)، وقبل أن تتواصل الشخصية الثانية في الرواية (حذام) بروايتها روايتها المتداخلة، تكشف مقدرة الكاتبة ومعرفيتها بقدرة الفن الروائي على التلاعب التقني الذي يفيد بان الأجيال تتبادل الأمكنة وتتوارثها. وقصص الحب تتواصل لتربط الأزمنة بأزماتها، ويكون الإنسان مدونا لذاكرة تتحدى النسيان أبدا... (يفاجئها الوقت ذات نهار نيساني برجلٍ يقف قبالتها في شرفة منزلها.. رجلٍ يقول لها بأنه غادر هذا الزمن قبل أن يشبع منه، وبأنه كان يحبها في بداية القرن الماضي.. إذاً.. الوقت يتساقط، ويتناثر زجاجاً من حولنا.. هل هو حلم أم كابوس.. ومتى ستستيقظ؟ وبعد أن تدعوه للجلوس يخبرها بأن اسمه (يونس) وبأنه وقف ذات يوم تحت نافذة غرفتها، فرآه أخوها.. أشبعه ضرباً.. واضطر إلى مغادرة القرية بناءً على قرار شيخ العشيرة التي ينتمي إليها. بدأت تتموج معه كأنها في حلم.. تتخيل ما يتحدث به إليها.. واستطاع أن يسحبها إلى عالمٍ لا يستقر على شيء. وتدعوه للنوم في غرفة أخيها الذي مات منذ سنوات، والتي كانت تسميها.. غرفة النهاية
[1])، وهكذا تتبادل الرواية المواقع بينها وبين رواتها بتقنية مدهشة تسجل كقيمة فنية حققتها (هدية حسين). فمنذ البداية تتلاعب فيها براوٍ يمهد مسرحا لحكاية ستكون متواصلة مع حكاية أخرى (يصفها لنا – مقدما – بأنها ضرب من الخيال.. ويعدنا برواية جزءٍ منها لأنه لا يملك مفاتيحها الكاملة، وسيترك لـِ(حذام) زمام الأمور بسرد الحكاية، فهي الوحيدة التي تعرف ما جرى).. لتلتحم بما ابنة أخيها (تتحدث بكل صدق عن عائلتها.. والدها، عمها، زوجة أبيها.. وأيضا عمتها مركز الحكاية، وعن معاملة والدها القاسية لها.. وعن زواجها وطلاقها ومثابرتها على الدراسة وتخرجها من كلية الآداب عام 1975.. وعن محاولات عمتها في كتابة القصة القصيرة وكيف إنها نشرت أغلبها في الصحف والمجلات وأثارت اهتمام النقاد في حينها[2])، تثير الأسئلة لتكون شخصية الكاتب هي التي تحتكم الأدوار المتبادلة بين فصول الرواية، (لم تكن هداية وحدها تروي الجزء الثالث، بل شاطرها (يونس).. عاد مرتدياً ثوب الخيال لينير أرق ليلتها المظلمة.. يروي لها بقية حكايته وكيفية خروجه من قريته- كانت تصغي له بإمعان- وكم سار ليلاً ونهاراً صحاري ووديان.. ولمدة خمسة أيام متتالية إلى أن وصل إلى بستان بعيد[3]).. لتعود (حذام) في الفصل الرابع تسرد بعين الكاتب انشغال الراوي بروايته (عمتها بمشروع روايتها التي تكتبها).. ونكتشف بأن ابنة أخيها اسمها (جنان)، و(حذام) شخصية من شخصيات الرواية، تظهر الحياة وكأنها المفترضة إلى الواقع، وكأنهما يتناوبان بديلا عن (هداية) و(يونس) في الفصل الخامس كرواة للحكاية الرئيسة، وهذا التداخل الفني قلما توافر في الرواية العربية، رغما من أن هذه، احتاجت أن تسجل فيها هويتها العراقية، ولم تسلط الضوء لما يجري في العراق من تاريخ تعمدت الرواية طمسه. فالعراقي عاش وطأة كوابيس ثقيلة، وتتواصل عليه بالأحقاد، (اكرر لكم أيها السادة، ليس خيالا ما تسمعون.. صحيح إني اسقط في لجة الأوهام، وأوهامي لا فكاك منها، إلا إني اعرف متى أضع لها حداً- الرواية ص 18)، مداواة جراح توغل فيها رواية (زجاج الوقت)، حلم يكمل حلما، توغل الذكريات والأحلام، لتنعطف على السطور، تحكي قصة الحب المفترض، الذي لم يفترض، (يبدو بأننا في البعد والغياب نكشف عواطفنا بشكل أدق- الرواية ص 129)، تكون الرواية ميداناً يتسعُ لأزمنة تمنيناها ان تكون حياتنا ونختار فيها الشخوص وفق ما نريدهم أن يكونوا به، فتكون الرواية التي نكتبها.. خيلا تركض بنا حيث الأحلام الوردية، لان الرواية المفترضة دائما ما تكون من ذهب, (وتوصف لنا (حذام) أول حب مر في حياتها.. وهذا السيل العرم من العواطف الجياشة والكلمات الشاعرية.. نبحر معها في أمواج متلاطمة من الدفء العذب يكاد يسري إلى قلوبنا من فرط حساسيته الرقيقة[4])، وأيضا يكون الوقت من زجاج، فيخرق لاستشراف المستقبل، ويكشف نهايات قصص الحب التي تمتلئ بها المرأة، لتؤرخ تاريخا تكون الرواية فيه من ذهب، (لقد ماتت أمها بحُمى النفاس، فاحتضنتها عمتها بمحبة فائضة إلى درجة أن تتوهم بأنها أنجبتها من رجلٍ مجهول.. وبأن الله عوضها بها عن كل ما مر في حياتها من خسارات. ربتها بعز ودلال.. وغمرتها بحنانها.. وكلما ازداد طولها كبرت عاطفتها نحوها ونمت أحلامها.. وكانت فعلاً الملاك الذي يحرس خطواتها[5]). اعتمدت الرواية قصة حب، وتبادلتها الشخوص المؤثثة للرواية، فأعطت صوتها العراقي الذي يستحق الإشادة والتأشير. جاءت الرواية بلغة شفيعة بحزن الحلم الروائي الذي صعب (ابتداع) ذاته بين قاموس العاشقين، ويعطي للقارئ شخصية لا يستطيع نسيانها عندما يغلق دفة الكتاب. ولم تكن الشخصيات في الرواية أن تثبت موقفا من الحياة، ولم تعطي ذاتها لعراقتها، وقد تثبت مزية لصالح الروائي في هذا العمل الجميل بان الأغلب تناوب على أداء دور الروائي العليم (العمة)، (حذام)، يونس) فضاع من الرواية عمودها الحكائي المشوق، ولكنها تبقى قصة حب وموهبة شفافة تستحق التأشير، والتحية.

‏الأربعاء‏، 21‏ شباط‏، 2007
[1] المادة المقوسة مأخوذة من قراءة نقدية كتبتها الكاتبة كٌليزار أنور..
[2] المصدر نفسه...
[3] المصدر نفسه...
[4] المصدر نفسه...
[5] المصدر نفسه...
 Posted by Picasa