زجاج الوقت
قراءة في رواية هدية حسين
بقلم محمد الأحمد
عندما تغيب الحقيقة عن مكان ما.. في زمن ما.. فإنها تفرض وجودها، جدلا كحقيقة مفترضة خيالا، بديلاً لتكون الرواية المتخيلة بكل حيثياتها مفتاحا حقيقيا يكشف ما غاب عن الوجود، لأنها ستكون الأكثر حضوراً في ذاكرة مبدعها، وتستحدث ذاتها بعنفوان لأجل أن يكون الافتراض مفتاحا يفتح أبوابا استعصت، وتصحيحا لما نزل من حيف، فيما قد نزل من ظلم، لان الرواية غالبا ما تكون إعادة نظر فيما يفترضه الراوي من فرض، وغالبا ما تختفي تلك الأماكن لتبرز بدلا عنها أماكنّاً تكون بشموليتها الأكثر اتساعا من المكان الذي ابتكره الروائي المبدع، (قبل أن أتوارى عنكم يمكنني قول ما أريد وإنا أتأرجح، وأميل قليلا داخل الوقت- ص 6).. فالرواية كمدونة بين دفتي كتاب وجدت لأجل أن تخترق عيوننا زجاج ساعة الوقت لتقرا اللوح الذي غالبا ما تصل إليه عقارب الساعة. وذلك اللوح هو مضمار عالم متفاعل، متواصل يعكس الذي يحدث فنراه عبر الوقت، ونقيس به عمق الحادثة، وفي الرواية غالبا ما يكون الوقت هو الزجاج الذي نرى عبره خرائط الأمكنة المتوارية خلف حوادثنا، ففي اغلب الأحايين يخترع الرواة مساحات لإبداعهم تجري عليها الأحداث، والشخوص، وتؤثث بسرد يصف مكانا جدليا يمضي الخيال به حيثما تفتتح الرواية بلسان راو امرأة اسمها (هداية)، وقبل أن تتواصل الشخصية الثانية في الرواية (حذام) بروايتها روايتها المتداخلة، تكشف مقدرة الكاتبة ومعرفيتها بقدرة الفن الروائي على التلاعب التقني الذي يفيد بان الأجيال تتبادل الأمكنة وتتوارثها. وقصص الحب تتواصل لتربط الأزمنة بأزماتها، ويكون الإنسان مدونا لذاكرة تتحدى النسيان أبدا... (يفاجئها الوقت ذات نهار نيساني برجلٍ يقف قبالتها في شرفة منزلها.. رجلٍ يقول لها بأنه غادر هذا الزمن قبل أن يشبع منه، وبأنه كان يحبها في بداية القرن الماضي.. إذاً.. الوقت يتساقط، ويتناثر زجاجاً من حولنا.. هل هو حلم أم كابوس.. ومتى ستستيقظ؟ وبعد أن تدعوه للجلوس يخبرها بأن اسمه (يونس) وبأنه وقف ذات يوم تحت نافذة غرفتها، فرآه أخوها.. أشبعه ضرباً.. واضطر إلى مغادرة القرية بناءً على قرار شيخ العشيرة التي ينتمي إليها. بدأت تتموج معه كأنها في حلم.. تتخيل ما يتحدث به إليها.. واستطاع أن يسحبها إلى عالمٍ لا يستقر على شيء. وتدعوه للنوم في غرفة أخيها الذي مات منذ سنوات، والتي كانت تسميها.. غرفة النهاية[1])، وهكذا تتبادل الرواية المواقع بينها وبين رواتها بتقنية مدهشة تسجل كقيمة فنية حققتها (هدية حسين). فمنذ البداية تتلاعب فيها براوٍ يمهد مسرحا لحكاية ستكون متواصلة مع حكاية أخرى (يصفها لنا – مقدما – بأنها ضرب من الخيال.. ويعدنا برواية جزءٍ منها لأنه لا يملك مفاتيحها الكاملة، وسيترك لـِ(حذام) زمام الأمور بسرد الحكاية، فهي الوحيدة التي تعرف ما جرى).. لتلتحم بما ابنة أخيها (تتحدث بكل صدق عن عائلتها.. والدها، عمها، زوجة أبيها.. وأيضا عمتها مركز الحكاية، وعن معاملة والدها القاسية لها.. وعن زواجها وطلاقها ومثابرتها على الدراسة وتخرجها من كلية الآداب عام 1975.. وعن محاولات عمتها في كتابة القصة القصيرة وكيف إنها نشرت أغلبها في الصحف والمجلات وأثارت اهتمام النقاد في حينها[2])، تثير الأسئلة لتكون شخصية الكاتب هي التي تحتكم الأدوار المتبادلة بين فصول الرواية، (لم تكن هداية وحدها تروي الجزء الثالث، بل شاطرها (يونس).. عاد مرتدياً ثوب الخيال لينير أرق ليلتها المظلمة.. يروي لها بقية حكايته وكيفية خروجه من قريته- كانت تصغي له بإمعان- وكم سار ليلاً ونهاراً صحاري ووديان.. ولمدة خمسة أيام متتالية إلى أن وصل إلى بستان بعيد[3]).. لتعود (حذام) في الفصل الرابع تسرد بعين الكاتب انشغال الراوي بروايته (عمتها بمشروع روايتها التي تكتبها).. ونكتشف بأن ابنة أخيها اسمها (جنان)، و(حذام) شخصية من شخصيات الرواية، تظهر الحياة وكأنها المفترضة إلى الواقع، وكأنهما يتناوبان بديلا عن (هداية) و(يونس) في الفصل الخامس كرواة للحكاية الرئيسة، وهذا التداخل الفني قلما توافر في الرواية العربية، رغما من أن هذه، احتاجت أن تسجل فيها هويتها العراقية، ولم تسلط الضوء لما يجري في العراق من تاريخ تعمدت الرواية طمسه. فالعراقي عاش وطأة كوابيس ثقيلة، وتتواصل عليه بالأحقاد، (اكرر لكم أيها السادة، ليس خيالا ما تسمعون.. صحيح إني اسقط في لجة الأوهام، وأوهامي لا فكاك منها، إلا إني اعرف متى أضع لها حداً- الرواية ص 18)، مداواة جراح توغل فيها رواية (زجاج الوقت)، حلم يكمل حلما، توغل الذكريات والأحلام، لتنعطف على السطور، تحكي قصة الحب المفترض، الذي لم يفترض، (يبدو بأننا في البعد والغياب نكشف عواطفنا بشكل أدق- الرواية ص 129)، تكون الرواية ميداناً يتسعُ لأزمنة تمنيناها ان تكون حياتنا ونختار فيها الشخوص وفق ما نريدهم أن يكونوا به، فتكون الرواية التي نكتبها.. خيلا تركض بنا حيث الأحلام الوردية، لان الرواية المفترضة دائما ما تكون من ذهب, (وتوصف لنا (حذام) أول حب مر في حياتها.. وهذا السيل العرم من العواطف الجياشة والكلمات الشاعرية.. نبحر معها في أمواج متلاطمة من الدفء العذب يكاد يسري إلى قلوبنا من فرط حساسيته الرقيقة[4])، وأيضا يكون الوقت من زجاج، فيخرق لاستشراف المستقبل، ويكشف نهايات قصص الحب التي تمتلئ بها المرأة، لتؤرخ تاريخا تكون الرواية فيه من ذهب، (لقد ماتت أمها بحُمى النفاس، فاحتضنتها عمتها بمحبة فائضة إلى درجة أن تتوهم بأنها أنجبتها من رجلٍ مجهول.. وبأن الله عوضها بها عن كل ما مر في حياتها من خسارات. ربتها بعز ودلال.. وغمرتها بحنانها.. وكلما ازداد طولها كبرت عاطفتها نحوها ونمت أحلامها.. وكانت فعلاً الملاك الذي يحرس خطواتها[5]). اعتمدت الرواية قصة حب، وتبادلتها الشخوص المؤثثة للرواية، فأعطت صوتها العراقي الذي يستحق الإشادة والتأشير. جاءت الرواية بلغة شفيعة بحزن الحلم الروائي الذي صعب (ابتداع) ذاته بين قاموس العاشقين، ويعطي للقارئ شخصية لا يستطيع نسيانها عندما يغلق دفة الكتاب. ولم تكن الشخصيات في الرواية أن تثبت موقفا من الحياة، ولم تعطي ذاتها لعراقتها، وقد تثبت مزية لصالح الروائي في هذا العمل الجميل بان الأغلب تناوب على أداء دور الروائي العليم (العمة)، (حذام)، يونس) فضاع من الرواية عمودها الحكائي المشوق، ولكنها تبقى قصة حب وموهبة شفافة تستحق التأشير، والتحية.
الأربعاء، 21 شباط، 2007
[1] المادة المقوسة مأخوذة من قراءة نقدية كتبتها الكاتبة كٌليزار أنور..
[2] المصدر نفسه...
[3] المصدر نفسه...
[4] المصدر نفسه...
[5] المصدر نفسه...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق