٠٥‏/٠٣‏/٢٠٠٧

قصص من بلاد النرجس
محمد الأحمد

عندما صرت اقرأ باقة القصص الطيبة (قصص من بلاد النرجس) التي نقلها إلى العربية، وقدم لها (حسن سليفاني).. تبادر لذهني سؤال ولابد من رفعه الآن؛ (لمَ لا تهتم جامعاتنا العربية في أن تقدم دراسة متخصصة وافية، عن القصة الكردية؟)، لما وجدت من استحقاق وأهمية للكتاب الذي فيه جهدا استثنائيا في الترجمة والاختيار، والنية.. ولما للقصة الكردية عليها من حق تخصصي في الدراسة والتقييم.. من هذا الفن الجميل، وأيضا لما في هذا الكتاب من أهمية جغرافية، لأنه انتخب باقة عريقة من كتاب القصة الكردية المعاصرة... (ثمانية وعشرون كاتبا، في سبع وثلاثين قصة)، وجدتها كباقة مهمة تعطي الوجه والسمات لنماذج مهمة لها حضورها، والقها الثقافي الانثروبولوجي، حيث صارت بهم سفيرا إلى العالم عبر اللغة العربية، فالقصة عموما تتجاوز الخرائط الإقليمية ولا يستطع أي متعمد، مهما كانت أدوات طمسه، وقمعه، لأنها سرد واقعي أو خيالي لأفعال ثبتت نفسها في التاريخ والمدونات الإنسانية لتحكي صورة وجذر الإنسان في هذا المكان الذي من الجائز أن تستفيد منه الأرض كافة، (والناتج الأدبي عمل حرّ كريم يتوجه به الكاتب إلى القارئ الحرّ الكريم، ليشارك القارئ في خلق ما يريده المؤلف، خلقا صادرا عن الحرية في معناها الإنساني- جان بول سارتر
[1])، وقد يكون نثرًا، أو شعرًا يقصد به إثارة الاهتمام والإمتاع منتخبا الأحداث والمواقف التي تنمي تلك الشخصية، لتقول قولها في التاريخ بشكل عملي، ويدل على تجربة إنسانية يجعل الفعل منها رسالة إلى الإنسانية، والقصة ليس سرد قصصي قصير نسبيًا (ينحصر بين عشرة آلاف كلمة)، وحسب بل يهدف إلى إحداث صورة غير قابلة النسيان، متحركة مليئة بالدم والموقف.. وغالبا ما تكون بشخصية واحدة يتمحور حولها الحدث في موقف واحد.. في لحظة واحدة، فيكون ذلك مسيرة حياة كاملة لا تتوقف بعدها إذ تتجلى خلال الفعل الذهني أو الفيزيائي، والقصة عطاء متواصل ثبتت كجنس فني منذ القدم، واعتمدتها الأديان في نشر رسالتها، وهذه القصة تناولت جوانب عديدة من الحياة، وحضرت بثقل فني، شهدت عصرها، لأنها بقيت كاشفة كل تاريخ مسكوت عنه، وبقيت الوثيقة التي لم يستطع أي منتصر في أن يغيرها كتاريخ وفق هواه، وفيها مؤهلات ناضجة بعد أن كتبها (إدجار ألن بو) من رواد القصة القصيرة الحديثة في الغرب، قصصا ذات هوية موضوعية مثل (موباسان) و(زولا) و(تورجنيف) و(تشيخوف) و(هاردي) وأيضا في العالم العربي بلغت القصة القصيرة درجة عالية من النضج في نصوص كتبها (نجيب محفوظ)، (يوسف إدريس)، و(زكريا تامر)، و(محمد خضير)، و(حسين عارف)، و(محي الدين زنكنه).. وقد تجاوزت المحلية عندما نقلت إلى الانكليزية، وتجاوزت حاجز اللغة.. وكذلك وجدت في قصص بلاد النرجس، موقفاً حقيقيا يستحق التثبيت، بان اغلب القصص تشكل صرخة عراقية، تذوب فيها تفاصيل الأمكنة، وتفوح منها نتاجات الاضطهاد.. تتسع فيها العين على الإنسان الذي يحلم بالتخلص من موبقات الاستغلال، والعنجهية.. كونها قصصاً حقيقية، قد خطتها أقلامٌ متحدية، لها رؤيتها المنطقية لتسلسل التمرد، واغلبها فاضحة لما نزل من حيف على المثقف، (ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة إلى الفرض[2])، وأثبتت القصص بأنها تحمل صوتاً متميزاً لها سمة الإبداع الأدبي أكثر من سمة الفضح السياسي، و توجهات الساسة.. (إن النقطة التي ينبغي الاهتمام بها في القصة هي البداية التي تمثل الوحدة التي تنخفض فيها كمية المعلومات إلى أدنى حد ممكن، ثم الدخول في الصلب من غير استطراد يبعد الحدث عن مركز الاهتمام مما يتطلب التركيز، والتكثيف في اللغة لحمل القارئ على الاستجابة لا تحجر مخيلته بالمعلومات التفصيلية[3])، والقصة القصيرة تسرد تفصيلات حدث واقعي أو متخيل، وهو ينطبق عادة حوادث وقعت على ارض الواقع، وهي ذات حبكة متينة الترابط إلى حدِّ ما، وهي سليلة الملاحم منذ أن شهد القرن السابع عشر قبل الميلاد لحضارة الآشوريين عصرا ذهبيا للأدب، ويدين معظم الأكاديميين في العصور الحديثة لذلك العهد الذهبي (الأدب البابلي) الذي دون على الألواح الحجرية والطينية تاريخ حضارتهم وأدبهم كالملحمة الأكادية (أتراهاسيس) التي يقول الباحثون بأنها كتبت عام 1700 قبل الميلاد في عهد حفيد (حمورابي)، الذي حكم خلال الفترة من 1646 إلى 1626 ق م، وقد وجدت في مكتبة (آشور بنيبل)، وأيضا (القصة القصيرة) هي سليلة الحكايات المتوارثة شفاها بعضها كالخرافة في الموروث الشعبي لها جذورها ومأثوراتها التقليدية.. من التراث ألشفاهي، فعبرت اللغة المحلية عبر أدوات كتاب لتكون دعما لتراث الإنسان بشكل عام، بعد أن توفرت فيها من فكرة ومغزى، يحاول الكاتب عرضه في القصة، عبر التركيز على العلاقة بين الأشخاص والأحداث والأفكار المطروحة بتواصل الحدث وتكشف عن صراعها فتقدم لنا معلومات كلية أو جزئية، وبيئة كالوسط الطبيعي الذي تجري ضمنه الأحداث، وتتحرك فيه الشخوص ضمن بيئة مكانية وزمنية تمارس وجودها، وأحيانا تخرج تلك الشخوص من القصص المكتوبة إلى الواقع لتصبح مثالا حياً مليئا بالحيوية، ويعيش بيننا، وكذلك يحتل باسمه مصطلحا يتدارس به النقاد، الذي يستند عليه العالم، والمصنف، (فالقارئ المفترض هو الذي يعيد إنتاج النص من جديد، وهذا القارئ ما هو إلا الناقد الذي يؤمن إن ما من نص برئ، وما من نص لا يحمل أوجها، وما من نص يقال لمجرد انه قول يكتب على ورق، وحتى، وان وجد هكذا نص مقذوف إلينا برغبة خاصة، فثمة نوايا وراء إنتاجه بالضرورة- ياسين النصير[4])، وغالبا ما تكون تلك الشخصية المفترضة، هي شريحة اجتماعية تمكن الأديب من رسمها الدقيق كونها فاعلة في الحياة، وممتدة فيها (بان الأقدمين من النوابغ الأسلاف لم يموتوا، أن يكون مطلعاً على الآداب الأوربية منذ هوميروس- بما فيه بلد الكاتب- تؤلف وحدة حية لأجزائها وجود وبمثابة الامتداد للماضي، ويقاس كل نتاج بنسبه للتراث- ت.س.اليوت[5]). كقصة (خبز محلى بالسُكر لحسن سليفاني)، وقصة (اللوحة القاتمة لـتيلي صالح موسى)، صورت الأولى طفولة محرومة، والثانية أعطت هوية مكان بشكل فني، لفتتني كثيرا، كقارئ اللون الشفاف الذي حوي (انصهار ومجموعة قصص لسكفان خليل هدايت)، كنصوص قصيرة بديعة امتازت بالتكثيف والمهارة وحسن الانتقاء، وكذلك قصة (زقاق الطيور الآثمة لـيونس أحمد)، قصة (قصة اسم لـ حمه كريم عارف)، وقصة (على أمل ليلة هانئة لـ نجيبة احمد حكيم)، وقصة (الأحلام الطائرة لـ عصمت محمد بدل).. القصة كفن في هذا الكتاب (قصص من بلاد النرجس) استحقت التأشير، فيه مجهود كبير في الترجمة والاختيار، تشارك فيها أدباء مبرزون، صاروا هوية قومية، تنادي بإنسانها الذي له الحق الكامل في الحياة الحرة، والعيش الرغيد.
‏الجمعة‏، 02‏ آذار‏، 2007
[1] ما الأدب ص 17-27.
[2] عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز ص 204.
[3] محمود عبد الوهاب رواية رغوة السحاب ص 12.
[4] مجلة الرافد – العدد 23 فبراير 1999.
[5] * Tradition and the individual talent in Sacred Wood. P.47-48, 49-53.
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: