٢٢‏/٠٩‏/٢٠٠٦


حول الدين والعلمانية
محمد عبد العزيز


إذا كانت العلمانية هى استبعاد الدين من المجال العام، فهى تشمل جانباً آخر، لا يشكل جزءاً من طبيعتها، لكنه يترتب عليها بالضرورة، فالواقع أنه لا يجرى نفى الدين تماماً، وبوسعه أن يكون موجوداً خارج الدولة أى فى المجتمع المدني، حيث يمكنه أن يمارس وأن ينظم نفسه بحرية. والعلمانية كما يؤكد مؤلفو هذا الكتاب، ليست نفياً للدين إلا فى داخل الدولة، وهو ما يسمح بتأكيده خارج الدولة، ويسمح من ثم بوجود الحرية الدينية، وبهذا الشكل بالتحديد يمكن للحرية الدينية أن ترتبط بالعلمانية، دون أن تشكل جزءاً من جوهرها بمعناه الأصيل. ويؤكد ميكائيل لووى أن معظم مؤيدى الماركسية وخصومها ينظرون إلى عبارة "الدين أفيون الشعوب" على أنها خلاصة المفهوم الماركسى من الظاهرة الدينية، على أننا يجب أن نتذكر أن هذا التعبير ليس ماركسياً بشكل خاص، فالعبارة نفسها يمكن العثور عليه فى سياقات مختلفة، فى كتابات كانط، وهيردر، وفويرباخ، وعلاوة على ذلك، فإن من شأن قراءة متأنية لمجمل فقرة ماركس التى يظهر فيها هذا التعبير نتبين أن كاتبها أكثر إدراكاً لدرجات الألوان، مما هو شائع عنه، فهو يأخذ فى اعتباره الطابع المزدوج للدين: "إن الهم الدينى هو نفسه تعبير عن هم واقعي، واحتجاج على هم واقعي، إن الدين هو آهة الخليقة المضطهدة، هو قلب عالم لا قلب له، مثلما هو روح وضيع بلا روح، إنه أفيون الشعوب". التمثيلات الدينية والصراع الطبقى وقد أبدى فريدريك إنجلز اهتماماً بالظاهرة الدينية، ويدورها التاريخى، يفوق اهتمام ماركس بهما كثيراً، وتتمثل مساهمة إنجلز الرئيسية، التى قدمها إلى الدراسة الماركسية للأديان فى تحليله لعلاقة التمثيلات الدينية بالصراع الطبقي، وفيما وراء المناظرة الفلسفية والمادة ضد المثالية، حاول فهم وتفسير التجليات الاجتماعية الملموسة للأديان، فالمسيحية لم تعد تبدو فى نظره - مثلما كانت تبدو فى نظر فيورباخ - بوصفها "جوهراً" منفصلاً عن الزمن، بل هى تبدو بوصفها شكلاً ثقافياً يتعرض لتحولات فى العصور التاريخية المختلفة: فهى تبدو فى البداية بوصفها ديانة للعبيد، ثم بوصفها أيديولوجية فى الإمبراطورية الرومانية، ثم بوصفها أيديولوجية ملائمة للهيراركية الإقطاعية، وأخيراً بوصفها أيديولوجية تتميز بالتكيف مع المجتمع البورجوازي، وهى تظهر من ثم بوصفها فضاء رمزياً تتنازع عليه قوى اجتماعية متناحرة: اللاهوت الإقطاعى، والبروتستانية البورجوازية، والهرطقات الشعبية، وفى بعض الأحيان، كان تحليله يزل ف1 اتجاه تفسير نفعى ذرائعي1، بشكل ضيق للحركات الدينية: "إن كل طبقة من الطبقات المختلفة تستخدم الدين الملائم لها، ولا أهمية تذكر لما إذا كان هؤلاء السادة يؤمنون بالأديان التى يتبناها كل منهم أم لا". ويبدو أن إنجلز لا يرى فى سورة الإيمان المختلفة غير "الستار الديني" للمصالح الطبقية، لكن إنجلز يفضل منهجه الذى يؤكد الصراع الطبقي، قد أدرك - خلافاً لفلاسفة التنوير - أن النزاع بين المادية والدين يتطابق دائماً مع الصراع بين الثورة والمرجعية، فنجد على سبيل المثال، فى إنجلترا فى القرن الثامن عشر، أن المادية ممثلة فى شخص هوبز قد دافعت عن الملكية المطلقة، فى حين أن الشيع البروتستانتية قد استخدمت الدين كراية لها فى النضال الثورى ضد "آل ستيورات"، وبالشكل نفسه، بدلاً من اعتبار الكنيسة كلاً متجانساً من الناحية الاجتماعية، قدم تحليلاً رائعاً يبين كيف أن الكنيسة قد انقسمت فى بعض المنعطفات التاريخية بحسب تركيبها الطبقي. ومع كون إنجلر مادياً، ملحداً، عدواً لدوداً للدين، فإنه قد أدرك شأنه ذلك شأن ماركس الطابع المزدوج للظاهرة الدينية: دورها فى إضفاء الشرعية على النظام القائم، ولكن أيضاً تبعاً للظروف الاجتماعية، ودورها الانتقادى والاحتجاجى، بل والثوري. أزمة العلمانية يؤكد المؤلف الشريك فى هذه الدراسة أوليفييه روا أن العالم الإسلامى ليس وحده، الذى تأثر بتحولات العلاقة فيما بين الدين والسياسة، ولعلنا نشهد اليوم تعبيراً جديداً عن العلاقات فيما بين الدين والدولة والمجتمع، وفق النموذج الأقرب إلى أشكال العلمنة ذات الطراز الأنجلو - ساكسونى، مما أدى إلى النموذج العلمانى ذى الطراز الفرنسي، والواقع أن ما هو دينى إنما يغزو مجتمعاً تقل باضطراد سيطرة الدولة عليه، ويعرف الغرب اليوم موازنة بالغة الوضوح بين مطالبة بدولة وصية، تحمى جماعة قومية، وتطور فلسفة مجتمع مدني، لا تكون الدولة فيه غير حكم بعيد الحضور إلى حد ما، وهى موازنة، لأنه ما نغنيه ليس الحديث عن تعارض بين صنفين متناوبين "كأمريكا الجمهورية من ناحية والدولة اليعقوبية الفرنسية من ناحية أخرى"، بل عن تطبيق مرجعين يجرى استحضارهما كل بدوره، والحال أنه فى هذه الساحة الخاصة بالعلاقات المعقدة فيما بين ضعف الدولة وتجاوز القوميات، والمجتمعات المدنية، ودمقرطة الأنظمة السلطوية، إنما يزدهر الإحياء الديني، وفيما أن الحقل السياسى قد أصبح أكثر تعقيداً، فإن الإشكالية القطبية القديمة للعلمانية "الدولة والدين" إنما يصعب عليها احتواء الأشكال الجديدة للتدين فى قوامها، بيد أن هذا الاحتواء هو الرهان. وبحسب أوليفييه روا أصبحت العلاقة بين الدين والسياسة علاقة غير تناظرية: فالأصولية الدينية لا تهتم بالسلطة السياسية حتى فى الولايات المتحدة، بل تهتم بالمجتمع وهذا صحيح أيضاً بالنسبة للأصوليين الجدد المسلمين، وتقرير واقع أن طارق رمضان وريث مؤسس الإخوان المسلمين لافتراض أن لديه استراتيچية تعتبر سياسة فى نهاية الأمر "إقامة دولة إسلامية فى فرنسا" إنما يعنى عدم فهم شيء على الإطلاق فيما يتعلق بعدم استثمار الدولة، الذى يميز جميع الحركات الأصولية المعاصرة، فالدولة بالنسبة لهذه الحركات ليست أداة لتحويل المجتمع، ذلك أن عودة الأفراد إلى الإيمان هى التى سوف تسمح بإعادة تأسيس المجتمع فى الدين، وبذا فإن هذه الحركات إنما تركب موضة وموجة القردنة والمجتمع المدني، وبذا فإن استخدام الأدوات التقليدية للعلمانية، والذى يهدف إلى التعريف الحقوقى للآصرة الاجتماعية، لا يعود فاعلاً. العلمانية الفرنسية وأخيراً يتعرض ثالث مؤلفى هذه الدراسة موريس باربييه على تعريف العلمانية الفرنسية، حيث يؤكد أنه ليس من السهل تقديم تعريف مُرض للعلمانية، حتى وإن كانت هناك بالفعل عدة مفاهيم عنها، ومن المؤكد أن يمكننا القول إن العلمانية تتمثل إما فى الفصل بين الدولة والدين، أو فى حياد الدولة فى الشأن الديني، أو هى استبعاد الدين من المجال العام، فهى تشمل جانباً، آخر، لا يشكل جزءاً من طبيعتها، لكنه يترتب عليها بالضرورة، فالواقع أنه لا يجرى نفى الدين تماماً، وبوسعه أن يكون موجوداً خارج الدولة، أى المجتمع المدني، حيث يمكنه أن يمارس وأن ينظم نفسه بحرية، والعلمانية ليست نفياً للدين إلا فى داخل الدولة، فهى لا تنفى الدين فى أعماق الناس، ولئن كانت العلمانية الفرنسية غير معرضة للتهديد، فإنها تجد نفسها الآن فى موضع مناقشة حادة، لا سيما فى السنوات الأخيرة بعد حظرها الحجاب الإسلامى فى مدارسها.
ــــــــــــــــــــــــ
* هذا عرض لكتاب "حـول الدين والعلمانية" لميكائيل لووى وآخرين، ترجمة بشـير السـباعي، ونشر "دار ميريت"، القاهرة، الطبعة الأولى، 2006.
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: