٠٨‏/٠٩‏/٢٠٠٦

شيفرة دافنشي
الرواية والتاريخ المضاد

ساطع راجي



منذ بدايات الفن الروائي كانت الكتابة فيه قريبة من كتابة التأريخ، فهيمنة الفعل السردي على الحقلين عقدت اواصر العلاقة بينهما، الا ان الفن الروائي انشغل بأستمرار بذلك الجزء الغامض والعفوي والحميمي من الحياة الأنسانية، الجزء الذي لاتقوى منهجيات التدوين التأريخي على التقاطه، او الذي ترفضه الحواضن الرسمية لفعل التدوين التأريخي بما لديها من سلطة(اجتماعية، سياسية، دينية) لتتعاضد مع الفعل الثقافي(التدوين) لتكوين ذلك المزاح عن كتب التأريخ الموسوم بـ( المسكوت عنه) ضمن فعل فني هو الرواية، وعنوان رواية شيفرة دافنشي بحد ذاته يشير عبر كلمة (شيفرة) الى محاولة للتملص من السلطة المتحكمة بالفعل التدويني، لتغدو كلمة شيفرة ذات دلالة مزدوجة تعبر اولا عن مصلحة فئة او جماعة في تمرير معرفة ما الى الأجيال اللاحقة من جهة، ومن جهة أخرى تعبر عن وجود جماعة او فئة مضادة لعملية التمرير المعرفي هذا، هذا الصراع الثقافي_ الأجتماعي ينتج ادوات تواصل بديلة عن الادوات المألوفة، وفي الوقت الذي يراد للمعرفة السرية ان تتجه الى المستقبل فأنها تتخذ من اداة اتصالية قديمة(الرسم) منفذا لها، ولكن عبر الأنبثاث الرمزي في لوحات احد اهم الفنانين المولعين بالبحث العلمي والأبتكارات التكنولوجية ( ليوناردو دافنشي )، لتشتبك حقول الدين والسياسة والعلم واللغة والفن في تشييد المبنى الحكائي للرواية.


الفن والتأريخ المضاد:

تبدو سيطرة مفهوم الجمال كقيمة متعالية تحكم العمل الفني وكأنها تتوارى في رواية (شيفرة دافنشي)، وتعبر شخصيات الرواية اكثر من مرة عن استغرابها من الأهتمام المبالغ به الذي تحظى به بعض الأعمال المشهورة، واولئك الذين يجدون القدرة على فهم هذه الأعمال وتبرير اهميتها، انما يلجأون الى البحث عن تأريخ يكاد ان يكون سريا، لتخرج تلك الاعمال الفنية عن كونها مجرد تحف الى كونها ادوات اتصال محملة بالرسائل التي تريد التمرد على سلطات التدوين ولتخرج عن حيز المسكوت عنه، ان علم الجمال هنا يتوارى لصالح الأتصال، هذا الأتصال الذي هو انهمام ما بعد حداثوي يعيد تأويل مفردات التراث الفني وفقا لمناهجه ونظرياته، فتمنحنا الرواية طريقة جديدة للتعامل مع العمل الفني، حيث تبرز المعادلات التكوينية للعمل الفني بما يعيده الى سياقه الثقافي والطبيعي على حد سواء.

المؤسسة الدينية وأنتاج التأريخ :

تنشغل رواية شيفرة دافنشي بمقاومة التاريخ الرسمي الذي سيطرت الكنيسة على انتاجه، الى الحد الذي مكنها كسلطة اجتماعية وسياسية من اعادة صياغة المسيحية كدين يناسب المؤسسة الدينية التي تمثلها، فقد اطاحت بالرموز والآثار التي تركتها الديانات الآخرى وخاصة ما يتعلق منها بالأنثى المقدسة، وما لحق ذلك من اضطهاد للمرأة حول المسيحية الى دين ذكوري، وفرض سيطرة الرجال على المؤسسة الكنسية، بل تؤشر حوارات الرواية الى ان موقف الكنيسة المسيحية من المرأة انتقل الى المؤسسة الدينية للديانات الأخرى القريبة من المسيحية.
وتمنحنا الرواية فرصة التجول في الأديرة والأسقفيات المميزة في التأريخ المسيحي مثلما تمنحنا فرصة التعرف على موجودات اهم المتاحف، بل وتتيح للقارئ الأطلاع على تلك العلاقة الشائكة بين الدين والفن، وذلك الصراع المسكوت عليه بين العقائد المؤسسية العامة والقناعات والأراء الشخصية للفنان، وبالتالي السرديات المتصارعة التي تعبر عن مواقف ومصالح الفئات والجماعات.
ان مفهوم الدين كما يتجلى في الرواية ليس مجرد الأفكار والعقائد، وانما الأرتباطات والمصالح مما يمهد لتحويل الروابط الروحية الى ارتباطات اجتماعية واقتصادية، تخوض التنافسات والصراعات بهدف السيطرة وفرض الأرادة على العالم وتأريخه.


الأنثى المقدسة:

توضح الرواية ان فكرة الثالوث المقدس هي فكرة ذكورية انتجتها المسيحية لأقصاء العنصر الأنثوي من البنية الفكرية والروحية للعالم، رغم ان العنصر الأنثوي كان أساسيا في الديانات العالمية التي سبقت المسيحية، بل ان الفكر الفلسفي اليوناني كان يرى العالم رباعي التكوين( الماء، الهواء،النار،التراب)، وعندما جاءت المسيحية فرضت فكرة التثليث(الأب، الأبن، الروح القدس) وهي جميعا تكوينات ذكورية ، وعملية الأقصاء لم تكتف بأخـــــفاء او أغفال العنصر الأنثوي بل عمدت الى الحاق الدنس به، في توصـــــيف مضاد للقداسة التي كانت تتمتع بها الأنثى في الديانات القديمة، وعند قراءة النصوص المقدسة فأن اقرب شخصية رابعة يمكن ان تضاف الى الثالوث المسيحي بوصفها مشاركة في سرديات التكوين الديني، فأن هذه الشخــــصية ستكون (الشيطان)، الشيطان الذي نفذ الى العلاقة بين الله والأنسان(الذكر) عبر المرأة، كما في السرديات الدينية المقدسة.
ورواية شيفرة دافنشي هي بحث محموم عن هذا العنصر (الأنثى) في الديانة المسيحية من خلال اللوحات الفنية، وبالتالي تدوين تأريخ قمعها المقدس، وما ألحقته الكنيسة الكاثوليكية من تشويه بالرموز الأنثوية، وما رسخته من فكر جنسوي عنصري سمح بالأطاحة بالدور الثقافي للمرأة، وهو ما يكشف عن سلطة سرديات التأريخ الديني، وقدرته على التحكم بالمجتمعات لزمن طويل، وما يمكن ان يحدثه هذا السرد من تغييرات.


البناء الفني للرواية:

ما يميز رواية شيفرة دافنشي هو نجاح مؤلفها (دان براون) في الجمع بين المضمون النخبوي والمتخصص احيانا وتقنيات السرد التشويقي، ما يشكل انتاجا لسرديات ما بعد الحداثة التي تحرص على استثمار التشويق في اكثر المناطق تعقيدا، فالرواية تقوم على حكاية بوليسية تقليدية تتضمن جريمة قتل واتهامات خاطئة ومن ثم البحث عن الجناة والدوافع، وتحتفظ الحكاية بتوترها السردي من خلال الأختزال الزمني حيث تدور الأحداث في ليلة واحدة، لتسيطر تقنية السرد المشهدي، حيث تكون اللغة في اقصى درجات التقنين، وهيمنة الزمن الراهن هو ما يتيح للأنهمام بالتأريخ ان يكون هاجس الرواية، فالأحداث والشخصيات لا تكون مفهومة الا بأستذكار تأريخها، لذلك تحدث وقفات سردية في الزمن لتتاح الفرصة للسرد الأستذكاري، وهكذا يكون القارئ امام عملية ترميم مستمر للأحداث. ولعل هيمنة الزمن الراهن على الرواية يراد بها الكشف عن خضوع الحاضر والمستقبل لسيطرة الماضي، الذي يدفع بصراعاته ورموزه قدما الى الامام، فخلال ما يقارب الخمسمائة صفحة التي يتم فيها سرد احداث يوم واحد تتدفق الازمنة السحيقة عبر تقنية الاستذكار، فلكل شخص ومكان وشيء تأريخ يحكمه، وحتى في اللحظة التي يشعر فيها القارئ ان السرد تحرر من الماضي يجد ان مايحدث ليس سوى استكمال لوجه آخر من وجوه الماضي.
الأهمية الأساسية لهذه الرواية تكمن في تعبيرها عما يمكن وصفه بـ(روح) مرحلتنا الحضارية الراهنة حيث تشترك الحداثة التقنية والاصولية الفكرية في صناعة الحياة في مختلف انحاء العــــالم، بما يشجع النزعة التأويلية التي تريد اعادة النــــــظر في فهم الحضارات القديمة ونصوصها ورموزها
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: