٠٨‏/٠٩‏/٢٠٠٦

هل أنت مثقف ومن أي المثقفين؟
محمد الدعمي




للمرء أن يباشر عدداً من المفاهيم المهمة وهو يتأمل مسقط، عاصمة للثقافة العربية لعام 2006. من هذه المفاهيم يبرز مفهوم "المثقف"، وهو لفظ فضفاض، ينطوي على غيمية كثيفة يصعب معها تعريف المثقف وتعريف دوره الإجتماعي والسياسي المعاصر، ناهيك عن إن هذه الغيمية هي التي تقف وراء التوظيف المكثف والإعتباطي، وأحياناً اللامسؤول، لهذا اللفظ الملفوف بعشرات الطبقات من الأغلفة والأوراق الخضر واليابسة. إنه لمن الطريف أن يلاحظ المرء هذا الإستعمال المتذبذب والخالي من الأساس التعريفي الدقيق عبر شبكات الإعلام والكتابات الشائعة دون التيقن المجمع عليه حول: من هو المثقف ؟ ومن هو المثقف العربي، على نحو التخصيص ؟
لهذه الأسباب بقي هذا "اللقب الفخري" يطلق إعتباطياً بلا تمييز وبدون أساس للتيقن خاصة عبر عقود القرن الماضي، إمتداداً إلى هذا اليوم الملبد بالغيوم. بيد أن للمرء أن يلاحظ عدداً لابأس به من الأخطاء الشائعة التي تستحق الرصد والمناقشة، خاصة عندما يعجز، شخصياً، عن تقديم تعريف مطلق ومتفق عليه حيال من يستحق هذا اللقب أو هذا الوصف الرفيع.
أثار هذا الموضوع إهتمامي على نحو خاص عندما نوقش قبل مدة موضوع تخصيص "مكافآت" شهرية للمثقفين كنوع من أنواع التعويض عما فاتهم وعما قاسوه عبر العقود الماضية من حيف وعوز.
تبلورت المعضلة، عبر السياق آنف الذكر، عندما لوحظ تقدم عشرات الآلاف من الأفراد بطلبات عدهم "مثقفين"، إذ لم تتحدد قائمة المثقفين بكبار المفكرين وأصحاب الأقلام السيالة والمؤرخين والكتّاب من الشعراء والناثرين الخياليين والواقعيين المهمين، ذلك أن العوز والطموح جعل الجميع يدعي بأنه ينتمي إلى هذه "الطبقة" السرانية. لذا كان القرار الإبتدائي بـ"تكريم" المثقفين قد إصطدم بما لم يكن صانع القرار يتخيله من رقم كمخصصات مالية لهذا المشروع. وكان المعنى النهائي له، بطريقة أو بأخرى، هو أن يستلم كل مواطن شيئاً من كرم الدولة على المثقفين: فإذا لم تكن أنت شاعراً، يمكن أن تقدم نفسك نجاراً أو حداداً، كمثقف؛ وإذا لم تكن أنت روائياً أو كاتباً مفكراً، يمكنك التشبث بأذيال الثقافة عضواً في كورس أو مسؤول إضاءة أو تقديم الشاي للعاملين في المسرح ؟ وهكذا تحول المشروع إلى حالة من العجز الذي بقي كالشفرة الملتصقة في مريء أصحاب الفكرة، برغم حسن نواياهم: هم ليسوا بقادرين على إبتلاعها ولا على قذفها إلى الخارج !
الملاحظ في المجتمعات العربية هو الميل إلى وصف كل من تخرج من الجامعة بأنه "مثقف"، بغض النظر عما إذا كان تخصصه هو في علم الحشرات أو علم الصخور أو التحليلات المرضية. وفي هذا تجاوز واضح لمفهوم المثقف بالرغم من هلاميته وسيولته. وقد ذهب آخرون إلى إنك إذا شئت إستثناء أمثال هؤلاء من صنف المثقفين، فإنك لا يمكن أن تستثني أصحاب الشهادات العليا من هذا "الشرف" الرفيع. بيد أننا لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنرى عبر شاشات الفضائيات أعداداً لا بأس بها من حملة الشهادات العليا وهم يدلون بأقوال وآراء لا تمت باية صلة إلى معنى وجوهر الثقافة؛ بل إنك ربما تبتئس على هذه الشهادات التي لم تؤهل أصحابها للحديث حتى بلغة سليمة تنطوي على إتساق وتناسق فكري منطقي، الأمر الذي يسوغ ما يذهب إليه البعض الآخر من المتابعين إلى أن هناك أعداداً كبيرة من أنصاف المتعلمين، وحتى من الأميين، الذين يقدمون أنفسهم وأفكارهم بطرائق أكثر قبولاً ومنطقية من آخرين دائماً ما يلهجون بألفاظ الثقافة والمثقف، التثاقف والحوار الثقافي. وهكذا يجد النشء والشبيبة أنفسهم أمام صورة مربكة أكثر غموضاً لمعنى الثقافة في عصر الصدامات الثقافية والصراعات الثقافية والحوارات الثقافية: كلها "ثقافية" ولكنها تفتقد المعنى الواضح الملموس !
إن تحديد معيار دقيق للـ"ثقافة" هو من أصعب الأسئلة أو القضايا التي تتطلب الجهد، خاصة وإننا قد شهدنا وتابعنا آراءً كثيرة لدعاة وأدعياء الثقافة من النوع الذي قادنا أو كان سيقودنا إلى كوارث إجتماعية أو سياسية أو حتى بيئية. فهل يستحق هؤلاء أن نطلق عليهم هذا الوصف: هل أن المثقف هو عنصر بانٍ أم هدام ؟
بل إن الأدهى من هذا وذاك يتمثل في إعتقاد البعض أن الثقافة هي صفة عائلية يكتسبها الفرد لمجرد إنتمائه إلى عائلة إشتهرت بالثقافة أو بالعلم، وبذلك نقع في خطأ فادح يصب في عد صفة المثقف "مكافأة" وراثية نطلقها على من نشاء عبر الفضائيات والمقابلات الصحفية على نحو إعتباطي. وقد دهشت قبل أيام من ملاحظة هذا النوع من السلوك عبر شاشة إحدى الفضائيات، إذ تعمدت مقدمة إحدى البرامج إلى توصيف "قارئة فنجان" بالمثقفة الثاقبة، ولست أدري ما مدى درجة تعمق قارئة الفنجان أو قارئة الكف بتاريخ الثقافة والأفكار. قد يقودنا هذا إلى خطأ مفهومي آخر يقول أن الثقافة هي "معلومات" أو كم كبير من المعلومات التي يختزنها الفرد في ذاكرته. هناك شيء من الصحة في هذا الرأي لأن المرء لا يمكن أن يطور جدلاً ثقافياً دون التمكن من كم كاف من المعارف والمعلومات التي تؤهله لأنشطة تبادل الراي وللأنشطة الفكرية المجردة الأخرى، كالمقارنات والمقاربات. بيد أن هذا بمجمله لا يعني أن المعلومات والمعارف تكفي تأهيلاً للمثقف، خاصة مع وجود ذلك الصنف من البشر المفتون بجمع المعلومات وبحفظها ومذاكرتها من الكتب كي يتأهل للمشاركة في "مسابقات" المعلومات من نوع "بنك المعلومات": كثيرون هم هؤلاء الذين فازوا بمثل هذه المسابقات بسبب ما إختزنته ذاكرتهم من معلومات، بيد أنهم لم يشتهروا بتأليف كتاب واحد أو بإسهامة ثقافية كبيرة واحدة. لذا لا يمكن أن يكون الكم المعلوماتي هو شرط المثقف، بالرغم من أنه واحد فقط من الشروط المسبقة لهذه الصفة. لذا يصف الغربيون هذا النوع من المدمنين على القراءة بأنهم bookish ، بإعتبار قراءاتهم الواسعة والمكثفة وعدم قدرتهم على الإسهام في إغناء الحياة.
لقد جرب المفكرون الكبار حظوظهم في تعريف المثقف وتوصيفه بالطريقة التي تقربه من المعنى الدقيق للثقافة. وقد كان أفضل من كتب في هذا الموضوع هو المفكر الإنكليزي "ماثيو آرنولد" Arnold الذي عد المثقفين "نخبة أقلية" في بريطانيا عصره، ملاحظاً أنهم زبدة المجتمع The Cream أو The Elite من الأقلية المتبقية من تتالي العصور The remnant few الذين إستجمعوا تراث الماضي وتفاعلوا مع معطيات الحاضر ليتمكنوا من "اللعب الحر" بالأفكار وبانتاجها والترويج لها. لقد عد آرنولد هؤلاء "أمل الحضارة" أو الإنسانية، المنقذين الذين يتسامون فوق الولاءات الطبقية والفئوية وفوق الرغبات والنزوات الإنسانية البدائية المحدودة، لقيادة المجتمع نحو الخلاص مما يحيق به من مخاطر الفوضى. لذا كان حريا بنا ونحن نناقش الثقافة العربية أن نقرأ كتاب آرنولد الفذ (الثقافة والفوضى) Culture and Anarchy الذي ينبغي أن يزيل الكثير من الغيوم عن أعيننا ونحن نعاين ثقافتنا العربية الإسلامية اليوم بشيء من الأمل.
 Posted by Picasa

ليست هناك تعليقات: